الشّهيد مسلم بن عقيل عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

في بيت المختار الثقفي

لم تكن زعامة الكوفة ولا التلفع بالمكارم العظيمة ولا الإعتصمام بالقبيلة قصرا على المختار بن أبي عبيد الثقفي يومئذ ، فإن في « حاضرة الكوفة » رجالات يكافئون « أبا اسحاق » في العظمة والنفوذ إن لم نقل بأنهم ينيفون عليه ، وإنما وقع اختيار مسلم عليه‌السلام على المختار حيث عرفه منذ نعومة أظفاره من خاصه البيت العلوي وممن أخلص للعلويين بالمفادات.

وذلك يوم جاء به أبوه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأجلسه على فخذه وهو صبي وقال له وهو يمسح على رأسه : « يا كيّس يا كيّس » (١) ، فكانت هذه الكلمة من سيد الوصيين العالم بما كان ويكون درسا بليغا للواقف عليها تفيده فقها بما يظهر على يد المختار من مظاهر السداد ، وأفعال ذوي الحجى من الأخذ بحقهم ، وطلب تراتهم مشفوعا ذلك بالجزم والكيس ، وان هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنين عليه‌السلام من مختبئات المستقبل نعرف من تدوين العلماء لها وتحمل روايتها الاهتمام بها ، وأنها اشربت رمز المستقبل وألمعت الى الحوادث التي يقوم بها ، وكشفت حاشية من الستر المرخى على ذلك الستر المصون.

وكان المختار يحسب لهذه البشارة حسابا ويحدث بها نفسه ، والأحاديث التي أوردها الشيخ الجليل ابن نما الحلي من أعيان القرن السادس في رسالته « أخذ الثار »

__________________

١) رجال الكشي ص٨٤.

٨١

تدلّنا بكل وضوح على اعتقاد المختار بمغزى تلك الكلمة الغالية التي فاه بها باب مدينة علم الرسول.

ومن تلك الأحاديث :

(أ) ان المختار لقي معبد الجدلي فقال له : يا معبد أن أهل الكتب ذكروا أنهم يجدون رجلا من ثقيف يقتل الجبارين وينصر المظلومين ويأخذ بثأر المستضعفين ، ووصفوا صفته فلم يذكروا صفة إلا وهي فيّ غير خصلتين أنه شاب وقد جاوز الستين ، وأنه رديّ البصر وأنا أبصر من عقاب ، فقال له معبد : أما السن فإن الستين والسبعين عند أهل ذلك الزمان شاب وأما بصرك فما تدري ما يحدث الله فيه ولعله يكل.

فقال المختار : عسى أن يكون ذلك إن شاء الله.

(ب) إن ابن زياد حبس المختار وميثم التمار وعبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب الملقب « ببه » فطلب عبدالله حديدة يزيل بها بدنه وقال : لا آمن من ابن زياد القتل ، فأكون قد ألقيت ما على بدني من الشعر. فقال المختار : لا يقتلك ، ولا يقتلني ، ولا يأتي عليك إلا القليل. فتلى البصرة وميثم التمار يسمعها فقال للمختار ؛ وأنت تخرج ثائرا بدم الحسين عليه‌السلام فتقتل هذا الذي يريد قتلنا وتطأ بقدميك على وجنتيه ، فكان الأمر كما قالا ؛ ولّي عبدالله البصرة وخرج المختار طالبا بثأر الحسين (٢).

(ج) سائر المختار المغيرة بن شعبة أيام ولايته الكوفة من قبل معاوية فمر بالسوق فالتفت المغيرة الى المختار يقول : يا لها من غارة ويا له جمعا إني لأعلم كلمة لو نعق لها ناعق لاتبعوه ولا سيما الأعاجم الذين اذا ألقي اليهم الشيء قبلوه ، فقال له المختار : وما هي يا عم؟ قال المغيرة : يستأدون بآل محمد ، فأغضى عليها المختار (٣).

لم تزل هذه الكلمة تتردد في نفس المختار حتى أصاب لها موقعا فانه بعد ان قتل سيد الشهداء عليه‌السلام أخذ ينشر فضل آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتوجع لما أصابهم ، وكان على يقين من تحقق تلك البشائر معتقدا أن المولى سبحانه وتعالى سيولّيه تلك المكرمة مؤيدا بالنصر عندما يرفرف على رأسه طائر الظفر ويخفق أمامه علم الفتح.

__________________

٢) رسالة أخذ الثأر ، وشرح النهج الحديدي ج١ ص١١٠.

٣) أنساب الأشراف ج٥ ص٢٢٣ طبع ليدن.

٨٢

هذا هو السبب الوحيد في اختيار مسلم النزول في دار المختار (٤) عند ما ورد الكوفة لخمس خلون من شوال (٥) وقيل : نزل على مسلم بن عوسجة الأسدي (٦) وكان دار المختار تدعى دار سلام بن المسيب (٧).

ولم يكن انتقاله الى دار هاني بن عروة لموجدة وجدها عليه ، وإنما كان ذلك بعد خطبة ابن زياد بعد دخوله الكوفة ، ووقوع الهرج في المصر خشية من بادرة ابن مرجانة ، فارتأى مسلم أن يستبدل بمحله لعله أمنع فان هانيا كان شيخ مراد ومذحج ، وزعيمها المقدم لا يفتات رأيه ، ولا يعصى أمره ، على أنه كان من الرجال المخلصين لآل الرسول عليهم‌السلام باشر الحروب معهم وحنكته التجارب ، ولكن قاتل الله الخذلان وأبعد الله الكوفيين عن الخير

__________________

٤) إعلام الورى للطبرسي ص١٣٢.

٥) مروج الذهب ج٢ ص٨٦ ، وشرح الشريشي على مقامات الحريري ج١ ص١٩٢.

٦) البداية لابن كثير ج٨ ص١٥٢.

٧) روضة الواعظين للفتال ص١٤٨.

٨٣
٨٤

البيعة

لما حل مسلم عليه‌السلام ضيفا على المختار الثقفي انثال عليه أهل الكوفة ، ولاث به حماة المصر ، وازدلف اليه كماته زرافات ووحدانا يهتفون بالترحيب بداعية حجة الزمن ، فقرأ عليهم كتاب الحسين عليه‌السلام وعرفهم أنه مجيبهم الى ما يريدون إن لزموا العهد وتدرّعوا بالصبر على مكافحة أعدائهم. وهل كان هذا الهتاف بالترحيب ، والفرح بالامنية عن طمأنينة ، وعقد الضمائر على التفاني في النصرة حتى يغلب الله على أمره أو أنه كان مصحوبا بنفاق تكنّية الصدور بين الأضالع غدر كمينقد عرف به القوم في تطوراتهم وميولهم الى جهات متعاكسة؟

وأن موقف عابس بن شبيب الشاكري وصحبه المخلصين بالولاء للعترة الطاهرة يكشف عن نفسية هؤلاء الجمع المتراكم ، ويفسر لنا هذه المشكلة والحيرة ، ويعطينا درسا ضافيا عن نوايا القوم وعاداتهم ، وأن هؤلاء الشيعة كانوا على شك من عزائمهم ان لم نقل بأنهم على يقين من غدرهم ومتابعتهم الأهواء غير أنهم لم يرقهم المكاشفة لئلا يعود ذلك فتا في عضد البيعة ومثيرا للاحن ، ومحتدما للبغضاء فأجملوا القول ، وهم ينتظرون نواجم العاقبة.

فيقول عابس لمسلم :

« إني لا أخسرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم ، والله إني أحدثك عما أنا موطن عليه نفسي ، والله لأجيبنكم إذا دعوتم ، ولأقاتلن معكم عدوكم ، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلا ما عند الله ».

٨٥

وقال حبيب بن مظاهر :

« رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه ».

وقال سعيد الحنفي مثل قولهما (١).

وقد ثبت هؤلاء الأطهار في الدفاع عن آل نبيهم حفظا للعهد وأداء لأجر الرسالة فأعلنوا بما انطوت عليه جوانحهم من صدق المفادات والإخلاص في النهضة ، وما غيّروا وما بدّلوا ، ومما يؤكد ما أشار إليه عابس وصحبه حديث علي بن الحجاج قال : سألت محمد بن بشير الهمداني هل كان منك قول أنت؟ فقال له : إني كنت أحب أن يعز أصحابي بالظفر وما كنت لأحب أن أقتل وكرهت أن أكذب (٢).

فإن قوله : « وكرهت أن أكذب » شهادة صدق على خداع القوم وكذبهم في ذلك الهتاف بالترحيب ومد الأكف للبيعة.

أما البيعة التي أخذها مسلم من الكوفيين فهي على حد البيعة التي أخذها رسول الله من الأوس والخزرج في العقبة الثانية (٣) وفي يوم الفتح وأخذها من المسلمين يوم الغدير وأخذها أمير المؤمنين يوم بويع وأخذها الحسن من أهل الكوفة بعد شهادة أبيه الوصي فإنها في كل ذلك عبارة عن الدعوة الى كتاب الله وسنة رسوله وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين ، وقسمة الفيء بين المسلمين بالسويّة ، ورد المظالم الى أهلها ، ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العداوة والبغضاء وجهل حقهم والمسالمة لمن سالموا والحرب لمن حاربوا من دون رد لقولهم ، ولا تخطئة لفعلهم ولا تفنيد لرأيهم.

وإن المؤرخين وان أغفلوا نص البيعة التي أخذها مسلم عليه‌السلام من الكوفيين كما أغفلوا الكثير من آثار أهل البيت التي تستفيد الأمة منها تعاليم راقية في

__________________

١) الطبري ج٦ ص١٩٩.

٢) المصدر.

٣) السيرة الحلبية ج٢ ص١٧ وذكر أنهم خمس وسبعون رجلا فقال لهم رسول الله : أخرجوا لي اثني عشر نقيبا كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا يكونوا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مرم وأنا كفيل على من معي من المهاجرين فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهنا كلام للعباس بن عبدالمطلب في المحافظة على رسول الله ينم عن عقيدته الراسخة بالتوحيد والإيمان منذ البعثة فلا يعبأ بما ذكره المؤرخون من إسلامه بعد بدر.

٨٦

التهذيب والإصلاح لكنا نقطع بأن داعية « إمام الحق » لم يتخط طريقة النبي وخلفائه المعصومين المقيضين لإرشاد البشر بما يجب عليهم من أمر الدين والدنيا ، وأنهم كانوا في أخذ البيعة على هذا النهج.

وبعد أن فرغ من التعريف بأمر البيعة الذي يراد منهم ، تداك الناس يمسحون أيديهم على يده يهتفون بالرضا والتسليم كما فعل الأنصار مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة ، وقريش يوم الفتح ، والمسلمون يوم الغدير ، وأهل المدينة يوم بويع أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأهل الكوفة مع السبط الزكي ـ عليه‌السلام ، فإن هذا هو المعروف فيمن يبايع يمسحون أيديهم على يده. نعم في بيعة النساء يوم الفتح جيء باناء فيه ماء وغمس النبي يده في الماء ، وكل امرأة تأتي للبيعة تغمس يدها في ذلك الماء.

فبلغ عدد من بايع مسلما عليه‌السلام ثمانية عشر ألفا أو خمسة وعشرين ألفا (٤) وفي حديث الشعبي أنهم أربعون ألفا (٥) ، وسرعان ما انقلبوا على أعقابهم فخسروا شرف الدنيا كما عداهم الفوز في الدين وخلدوها صحيفة سوداء يتلوها الملوان ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

كتاب مسلم الى الحسين عليه‌السلام

لما أحصى ديوان مسلم ذلك العدد الكثير من المبايعين كتب الى الحسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري وقيس بن مسهر الصيداوي يخبرة باجتماعهم على رأيه وطاعته وانتظارهم لقدومه وفيه يقول :

« الرائد لايكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي ».

وكان هذا قبل مقتل مسلم بسبع وعشرين يوما (٦) وانضم اليه كتاب أهل الكوفة فيه : عجل القدوم يا ابن رسول الله فإن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر (٧).

__________________

٤) مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٠.

٥) مثير الأحزان لابن نما ص١١.

٦) الطبري ج٦ ص٢٢٤.

٧) البحار ج١٠ ص١٨٥.

٨٧
٨٨

خطبة النعمان

لما بلغ النعمان بن بشير الأنصاري وهو والي الكوفة من قبل يزيد اجتماع الكوفيين على مسلم عليه‌السلام وبيعتهم له ، رقى المنبر وقال : اتقوا الله عباد الله ، ولا تسارعوا الى الفتنة والفرقة ، فإن فيها يهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ، وإني لم أقاتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب عليّ ، ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم ، ولا آخذ بالقرف ، ولا الظنة ، ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولولم يكن لي منكم ناصرا ما اني أرجو أن يكون من يعرف الحق أكثر ممن يريده الباطل.

فأنكر عليه جماعة ممن له رأي مع بني أمية حتى قال له عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي وكان مخالفا لبني أمية : ان هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين ، ولا يصلح ما ترى إلا الغشم.

فرد عليه النعمان : بأني أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله (١).

ان هذا الوالي لم يرد بكلمته « خالفتم إمامكم ونكثتم بيعتكم » إلا التمويه على العامة بصورة خلابة يذكر فيها البيعة ليزيد ، وإنه إمام لا تجوز مخالفته ، وإلا فهو جد عليم بأن ما رماه من القول لاصلة له بالحقيقة لولا تأليفه البسطاء واغرائه الضعفاء المتحرين

__________________

١) الطبري ج٦ ص١٩٩.

٨٩

عيشة راضية مع أي مسيطر ، أليس هو القائل : أن ابن بنت رسول الله أحب الينا من ابن بجدل (٢).

ثم هب انا غاضيناه في نزعته الاموي ، ورأيه العثماني المباين لكل علوي في المبدأ ، فلسنا نسأله على كلمته هذه المنهالة من شتى نواحيها أيحسب أنه يدلي بحجة قوية ويذكر بيعة صحيحة لامام عدل لا تجوز مخالفته.

ألا مسائل هذا الرجل ، متى انعقدت هذه البيعة أيرضا من أهل الحل والعقد أم بكراهية من الناس ، حين أحاط بهم الإرهاب من ناحية والطمع من ناحية أخرى والسيف المزهق لنفوسهم على رؤوسهم ، وآخرون انثالوا عليه وحقائبهم مملوة من وفره وأطراف المفاوز تقل كل فار بدينه وهناك صدور واغرة ، وفي زوايا الأندية ألسنة تلهج باستعظام الواقعة ووخامة العاقبة.

وكان عبدالرحمن بن ابي بكر يجاهر بأنها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل مكانه (٣) والأحنف يذكر معاوية بالشروط التي أعطاها الحسن وكان فيها أن لا يقدم على الحسنين أحدا مع مالهما من الفضل وأهل الكوفة لم يبغضوهما منذ أحبوهما والقلوب التي أبغضوه بها بين جوانحهم (٤).

لكن معاوية لم يعبأ بكل نصيحة أسديت إليه من عماله والكبراء الملتفين حوله وأخذ يبذل الاموال لتمهيد البيعة لولده يزيد حتى تمكن مما أراد بالوعد والوعيد.

ثم نقول لهذا الوالي : متى رضيت العامة والخاصة بالبيعة « لابن هند »؟ حتى ترضخ لمن بعده لولا سماسرة الأهواء ومتبعي الشهوات ، ومن ذا الذي يقصده الوالي المستغشم للملأ حوله من هذا الإمام الذي لا تجوز مخالفته ، ولا تحل نكث بيعته؟ أهو بن ميسون المعروف ببوائقه ومخاريقه المستهتر الماجن؟ وهي يعرّف مجهولا أو ينوّه بمن لا تعرفه الأمة لئن نسي النعمان بوائق يزيد فلم تنسه المواخير والقيان ولم تغفل عنه المعازف والدنان ولم تله عنه المعرة والفجووز والعود والقرود.

ليس بغريب من النعمان اذا جاهر ببيعة يزيد بعد أن كان متأثرا بنفسية أبيه « بشير » الذي لم تشرق عليه أنوار الولاية فأخذ يتردد الجمل في الطاحونة ، وصم

__________________

٢) الامامة والسياسة ج٢ ص٣.

٣) ابن الأثير ج٣ ص١٩٩.

٤) الإمامة والسياسة ج١ ص١٤١.

٩٠

سمعه عن النداء الإلهي يوم الغدير وغيره بنصب الوصي عليه‌السلام علما يُهتدى به الى الطريق اللاحب فكان السابق الى بيعة ابي بكر يوم السقيفة ولم يبارح تلك الأندية الى أن قتل في وقعة « عين التمر » مع خالد بن الوليد.

فمشى ولده النعمان على ذلك الأثر وجرته المطامع الى مهوى سحيق وكان أبغض شيء عليه أهل الكوفة لرأيهم في أمير المؤمنين عليه‌السلام وميلهم الى آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن هنا لم يمتثل أمر معاوية في زيادة اعطيات الكوفيين عشرة دنانير وكلما راجعوه في ذلك أبى (٥).

ولرأيه العثماني ونزعته الأموية أرسلته نائلة بقميص عثمان الى معاوية بالشام ليؤلب الناس على ابن عم النبي ووصية المقدم (٦) وشهد مع معاوية صفين ولم يكن من الأنصار وغيره (٧) وولاه معاوية على الكوفة (٨) وأقره يزيد عليها وبعد ولاية ابن زياد عليها ولاه حمص ، ولما ثار أهل المدينة على عامله بعد وقعة الحسين عليه‌السلام أرسله يزيد الى المدينة ليهده أهلها (٩).

ومع هذا كله فإنه يعلم أن معاوية وابنه لم يستحقا من الخلافة موطأ قدم لخلوهما من كل فضيلة تؤهلهما لإمره المسلمين ولم يخف عليه فضل « أبي الريحانتين ». كيف وهتاف النبي وإصحاره بما له من الخصال الحميدة ملأ مسامعه لولا حكم الهوى وحب الدنيا والتقلب في الولايات.

__________________

٥) الأغاني ج١٤ ص١١٥.

٦) المحبر لابن حبيب النسابة ص٢٩٢ طبع حيدرآباد الدكن.

٧) صفين لنصر بن مزاحم ص٥٠٦ وص٥١٠ مصر.

٨) كامل ابن الأثير ج٣ ص٢٠٤ حوادث سنة ٥٩.

٩) تاريخ الطبري ج٧ ص٤.

٩١
٩٢

ولاية ابن زياد

لما حل مسلم بن عقيل في الكوفة وبايعه الناس ساء ذلك من كان له هوى في بني أمية فكتب عبدالله بن مسلم الحضرمي وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقاص الى يزيد :

أما بعد فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضيف أو يتضعّف.

ولما اجتمعت عند يزيد كتبهم استشار « سرجون » مولى أبيه فيمن يوليه فاشار عليه بعبيد الله بن زياد ، فكتب اليه يزيد : « أما بعد فإن شيعتي بالكوفة كتبوا إليّ بأن مسلم بن عقيل يجمّع الجموع لشقّ عصا المسلمين فَسِر حين تقرأ كتابي الى الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام. »

فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالكتاب الى عبيدالله بالبصرة ، ولما قرأه تجهّز للمسير الى الكوفة من الغد.

ثم خطب أهل البصرة قائلا :

ان أميرالمؤمنين يزيد ولاني الكوفة وأنا غاد اليها الغداة فوالله إني ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنئان وإني لنكل لمن عاداني وسم لمن حاربني انصف القارة من راماها ، يا أهل البصرة قد استخلف عليكم عثمان ابن زياد بن أبي سفيان وإياكم والخلاف والإرجاف فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لاقتلته وعريفه ووليّه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا

٩٣

مشاق ، أنا ابن زياد اشبهته من بين وطأ الحصى ولم يتنزعني شبه خال ولا ابن عم.

وسافر من البصرة الى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته (١) والمنذر بن الجارود العبدي وعبدالله بن الحارث بن نوفل في خمسمائة انتخبهم من أهل البصرة فجدّ في السير وكان لا يلوي على أحد يسقط في الطريق مخافة أن يسبقه الحسين الى الكوفة حتى أن شريك بن الأعور سقط وسقط عبدالله بن الحارث ومعه أناس رجاء أن يلوي عليهم ابن زياد فلم يلتفت اليهم.

ولما ورد القادسية سقط مولاه مهران فقال له زياد : ان أمسكت على هذا الحال فتنظر القصر فلك مائة ألف. قال : لا والله لا استطيع ، فنزل عبيدالله وأخرج ثيابا من مقطعات اليمن ولبس عمامة سوداء وتلثم موهما أنه الحسين وانحدر وحده ودخل الكوفة مما يلي النجف (٢).

وكلما مر بالمحارس ورأوا تلك البزة ظنوا أنه ابن رسول الله فيهتفون بصوت عال : مرحبا بابن رسول الله وهو لا يكلمهم ، وخرج إليه أناس من بيوتهم متباشرين ظنا أنه الحسين فرأى من تباشرهم بالحسين ماساءه ، وانتهى الى باب القصر وقد أغلقه النعمان بن بشير فأشرف من أعلا القصر يقول : ما أنا بمؤد اليك أمانتي يا ابن رسول الله ، ومالي في قتالك من أرب. فغضب ابن زياد منه وقال له : افتح لاتحت فقد طال ليلك ، وسمعه من كان خلفه فرجع الى الناس يقول : أنه ابن مرجانة ورب الكعبة (٣) فتقهقر الناس الى منازلهم خوفا من سطوة ابن زياد وأخذ الرجل يحدّث جليسه بالشر المقبل من جرّاء هذا الطاغي.

خطبة ابن زياد :

وعند الصباح جمع الناس عنده فقال في خطبته :

ان أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بانصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والإحسان الى سامعكم ومطيعكم ، وسوطي على من ترك

__________________

١) الطبري ج٦ ص٢٠٠.

٢) مثير الأحزان لابن نما ص١٤.

٣) تاريخ الطبري ج٦ ص٢٠١.

٩٤

أمري وخالف عهدي ، وليتق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ لا الوعيد (٤) فأبلغوا هذا الرجى الهاشمي مقالتي وليتق غضبي (٥).

ثم أمر العرفاء بكتابة أسماء من وافق ابن عقيل ، ومن لم يفعل ولا يضمن خروج أحد تحت عرافته فهو حلال الدم ويصلب على باب داره وتلغى عرافته من العطاء (٦) أو يسيّر الى الزارة وضع في عمان (٧) وإليها نفى ابن زياد المرقع بن ثمامة الأسدي فإنه يوم الطف كان مع الحسين ولما فنيت نباله أخذ يقاتل بسيفه فناداه بعض عشيرته : أنت آمن أخرج إلينا ، فخرج اليهم فلما قدم عمر بن سعد بالأسارى الى الكوفة وأخبر ابن زياد خبره سيّره الى الزارة (٨).

__________________

٤) إرشاد المفيد.

٥) نفس المهموم ص٤٩.

٦) الإرشاد.

٧) ابن الأثير ج٤ ص١٠.

٨) الطبري ج٦ ص٢٦١.

٩٥
٩٦

موقف الكوفيين

مهما عزب عن الباحث شيء من نفسيات الأمم لغموض فيها أو لحواجز لم تكشف بعد ، فإنه غير خاف عليه غرائز الكوفيين ، وإنهم في ظعنهم وإقامتهم ونصرتهم ، وخذلانهم ، ونهضتهم ، وقعودهم ، كالريشة في مهبّ الريح تتلاعب بهم أهواء متضاربة ونزعات وقتية. والذي ينتجه التفكير الصحيح في أمرهم أن القوم لا تحركهم غاية مرموقة ولا مبدأ ثابت شأن الرعاع من الناس الذين يحدوهم الجشع طورا والشهوة أخرى فرضيخة موهومة من هذا تسوقهم ، ولماظة عيش من آخر تأخذ باكظامهم ، وبالرغم من ذلك الهلع المردي أنهم ينكفؤن عنهما « بخفي حنين » فلا دين يحمد ولا دنيا يتهنّأ بها.

على هذا جروا في عاداتهم وضرائبهم منذ مصّرت هذه الحاضرة وأخص من أيامها العهد العلوي وأيام الإمام المجتبى الحسن ، ودور سيد الشهداء ، واعطف النظرة بعد هذا إلى نهضة التوابين وأيام المختار وأيام العلويين كزيد الشهيد ونظرائه الذين غرّوهم فأغرّوهم بالقيام ثم انثالوا عنهم.

هذه شناشن القوم لم يفتأوا يسيرون عليها منذ الأول إلى أن دمّرت وعاد أمر الكوفة كحديث أمس الدابر ، وعجيب ممن يذهب إلى أن الكوفة علوية إذا فمن ذا الذي استأصل شأفة العلويين ، وقتل كل ترابي في النسب أو في المذهب ، وهل كان في جيش ابن سعد في مشهد يوم الطف غير كوفي يعرف؟ وقد بلغوا ثلاثين الفا أو يزيدون. ألم يكاتبوا الحسين يستقدمونه اليهم حتى إذا حل بين أظهرهم انتكثوا عليه تحت راية ابن مرجانة الى هنات كثيرة سوّدوا بها صحائفهم؟

٩٧

أتت كتبهم في طيّهـن كتـائـب

ومـا رقمـت إلا بسم الأراقم

أن اقدم إلينا يا ابن أكرم من مشى

على قدم من عربها والأعاجم

هكذا عرفت مقادير القوم من الثبات ومبالغهم من السداد وكميّاتهم من الاستقامة ، هب أن القوم لايهمهم دين ، ولا تردعهم تقوى ، ولا يتأثرون بجاذب الحق ، وإنما هم سماسرة الأطماع يتحرّون المعيشة تحت أي راية لمحق أو مبطل ، فيخدمون كل ناعق شأن النفوس الضعيفة والطبائع المسفة مع الضعة ، فهلا كان الشرف الإنساني يقودهم إلى اتباع أشرف الفريقين نسباً وأرفعهم شأنا وأعزهم حمى وأنداهم يدا وأرجحهم حجى وأكرمهم جدودا وأزكاهم نفوسا وأطهرهم ذيولا وارساهم قدما عند مستّن النزال واشتباك الرماح فيستبدلون الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل؟

ولو كان في الكوفة يومئذ رجل شريف غير أسرة قليلة ضمّتهم أعماق السجون وضربت على أيدي آخرين القسوة الأموية لما بغوا عن آل الله بدلا ، ولما وجدوا عنهم حولا لكنهم أبوا كما هو لازم جبلتهم إلا أن يتسيطر عليهم ابن آكلة الأكباد « يزيد الفجور » ، ويتولى أمرهم مثل « ابن مرجانة » ولم يرقهم سبط نبي الهدى ، وابن سيد الأوصياء وفلذة كبد البتول الزهراء سيد شباب أهل الجنة.

واي زنة تجمع بين سليل الهدى وبين عصارة المخازي والمنكرات وأي مقياس يؤلف بينهما؟

وهل تقام للقوم حجة يعذرون بها عندما يوقفون للمحاكمة؟ وقد دخل ابن مرجانة عليهم وحده بلا عدة ولا عدد ، ولم يملك من الكوفة إلا موطأ قدمه وليس معه ثان يسدد خطاه ، ولذ تزّيا بزيّ سيد الشهداء وتلثّم كي لا يعرف فيقتل ، ولك من رآه حسبه « أبي الضيم » فيسلمون على ابن الرسول ، ولو علموا أنه ابن مرجانة لنالوا منه ، ولتهم علموا ، وليتها كانت القاضية ، فكان من أوسع الأمور البطش به أو اعتقاله لكنهم لم يفعلوا.

ولما دخل القصر لاث به أناس يعدون بالأنامل وكان الفتك بهم لاخماد الفتنة أهون شيء للكوفيين فإنه ومن معه في القصر مقطوعون عن المدد والذين بايعوا مسلما يزيدون على خمس وعشرين الفا.

أيعذر هذا الجمع المتراكم في تفكّكهم وتفرّقهم ونكثهم البيعة التي أعطوها برغبة واختيار لمجرد تهديد الدعي ابن الدعي بجيوش الشام ، وهل كان في الشام جيش

٩٨

عتيد يساق إلى العراق والحالة الأموية قلقلة ، وصفوهم متعكر بهلاك « ابن هند » وعدم الجدارة في ولي عهده فكان جو المملكة الأموية قائما ، ومراجل الأحقاد تغلي على بني عبد شمس ، فمن متخافت برفض يزيد الى مهامس بلغنه ، الى متجاهر بمناوأته ومظاهر عداء الناس تنجم وتخبو.

وفي كل من المدن والرساتيق مؤامرة حول الخلافة المنبوذة ، فهل كان ابن ميسون والحالة هذه يقدر أن يؤلّب جيشا الكفاءة لتدمير العراق؟

هب أنه كان يتسنّى له شيء من ذلك ، فهل يتصور وصول الجيش إلى العراق قبل أن يُمزّق ابن زياد في قصره تمزيقا لو كانت النفوس متحقّزة للحق ناهضة للدفاع عن الدين القويم؟

ثم أي وقت يصل ذلك الجيش الموهوم الى العراق وفي وسع العراقيين عندئذ استلام الأمر للحسين عليه‌السلام قبله ، ولديهم مقانب وكتائب ممن بايع مسلم بن عقيل عليه‌السلام؟ ولو أنهم فعلوا ذلك ، ووثبوا في وجه ابن زياد لازدلف إليهم من كان ينتظر العواقب ، ويتحفّز للفتح والظفر ، وهناك من رواد المطامع أكثر فعندها يسوقون إلى عدوهم الألدّ جيشا لهاما فينتكث عليه الأمر وتنقلب الدائرة ويتم الأمر لداعية الحسين عليه‌السلام.

فهل في القوم من يعرف شيئا من هذا أو أنهم طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون ، كيف فاتتهم هذه القضايا الطبيعية وراعتهم الأوهام وكلهم قد مارسوا الحرب وتعاورت عليهم السياسات عادلة وجائرة؟

وهب أنه لم يكن معهم من قوة النفس وثبات الإيمان ما يكبح ذلك الجماح أو يدحر تلكم الشهوات فينصروا الإمام العادل عليه‌السلام أفلا كان في وسعهم التواني والتخاذل عن قتله ، والتألّب كما كانوا يفعلونه مع أمير المؤمنين بعد منصرفه من صفين وقد عزم على النهضة الهامرة لملك ابن هند فكانوا يتفرقون عنه من هنا وهنا حتى وقف عليه‌السلام فيهم وقال :

« فيا عجباً والله يميت القلب ، ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتقرّفكم عن حقكم ، وددت إني لم أعرفكم معرفة جرت ندما ، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدري غيظا ، أفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش : إن ابن أبي طالب

٩٩

رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ، لله أبوهم وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني ، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أناذا ذرّفت على الستين (١) ».

ولعمر الحق لو لم تجد بنو أمية أنصارا منهم لما تسنى لهم إبادة العترة الطاهرة. فتألبوا على آل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ووثبوا عليهم وثبة الأعداء الألدّاء ، وفي مطاوي نياتهم أن لا يدعوا لهم نافخ ضرمة كأنهم قوم من الترك أو الديلم ، وكأن لم يكن لهم من الدين موطأ قدم فاستباحوا قتل الأطفال ، ولو نالوا من اشهامة نصيبا لما استباحوا سبي النساء من بلد الى آخر وهن عقائل الوحي وحرائر النبوة ، ولو كانوا يملكون شيئا من النخوة العربية لما استسهلوا تلكم المخازي التي تندى منها جبهة الإنسانية وتبرّأ منها العاطفة البشرية ، لكنهم نبذوا الإسلام بما ارتكبوا ، نبذوا دين العطف والغيرة ، نبذتهم العروبة ، نبذتهم العادات والتقاليد ، فأهون بهم منبوذين لا يردّهم شيء الى المجد العربي ولا الشرف القومي ولا الفخر الديني ، ولا أبعد الله غيرهم يوم كاتبوا الحسين واستنهضوه كاتبوا عدوّه فاغروه به ، ألا لعنة الله على القوم الضالمين

__________________

١) نهج البلاغة ج١ ص٧٧.

١٠٠