الشّهيد مسلم بن عقيل عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

علي أبي طالب (٤٠).

وإلا فلم يعهد في زمان الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعد النبي فإن غاية ما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها تهدم الخطايا ».

والخدشة في هذا الحديث واضحة فإنالاعتراف بالرسالة كالإعتراف بالتوحيد متلازمان ، وتلقين الأموات إنما هو لأجل أن يكون العبد الراحل عن هذه الدنيا باقيا على ما هو عليه فيهاحتى في آخر المنازل ، فالإقرار بأحدى الشاهداتين لا ينفك عن الأخرى ، فهذا الحديث الناص على الإقرار بكلمة التوحيد مع السكوت عن الشهادة بالرسالة لنبي الإسلام لا نعرف سنده ليكون شاهدا ودليلا.

وعلى كل فتخصيص زوج أبي طالب بذلك التلقين كالتكبير عليها أربعين خصائصها لأن التكبير على الأموات خمس.

وبالرغم من هاتيك السفاسف التي أرادوا بها الحط من مقام والدة أمير المؤمنين عليه‌السلام أظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الأمة ما أعرب عن مكانتها من الدين وأنها بعين فاطر السماء سبحانه حين كفنها بقميصه الذي لا يبلى لتكون مستورة يوم يعرى الخلق ، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة لرغبتها فيه عندما حدثها عن أحوال القبر وما يكون فيه من ضغط ابن آدم.

ولولا التنازل لرغبتها لما كان لاضطجاعه صلى‌الله‌عليه‌وآله معنى فإن المؤمن المعترف بولاية أمير المؤمنين لا تصيبه الضغطة كما في صحيح الأثر فكيف بالوعاء الحامل لمن تكون من النور الأقدس.

فتحصل أن هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب بيت توحيد وايمان ولهدى ورشاد ، وأ، من حواه البيت رجالا ونساء كلهم على دين واحد منذ هتف داعية الهدى ، وصدع بأمر الرسالة غير أنهم بين من جاهر باتباع الدعوة وبين من كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

وقد لبت هذا الهتاف أم هاني بنت أبي طالب فكانت من السابقات إلى الايمان كما عليه صحيح الأثر وفي بيتها نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المعراج وهو في السنة الثالثة من البعثة وحدّثها بأمره قبل أن يخرج الى الناس ، وكانت مصدقة له غير أنها خشيت تكذيب قريش إياه ، وعليه فلا يعبؤ بما زعم من تخر إسلامها الى عام

__________________

٤٠) الإصابة لاب حجر ج٢ ص٤٧٨ بترجمة عروة بن مسعود.

٢١

الفتح سنة ثمان من الهجرة.

وكانت وفاتها أما في أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في مناقب شهر آشوب ج١ ص١١٠ ، وأما في خلافة معاوية كما في تقريب التهذيب لابن حجر ص٦٢٠ ، وحينئذ فليست هي المعينة بما في كامل الزيارة لابن قولويه ص٩٦ : وأقبلت إليه بعض عماته تقول : إشهد يا حسين لقد سمعت قائلا يقول :

وإن قتيل الطف من آل هاشم

أذل رقابا من قريش فذلت

٢٢

عقيل

لقد كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيبة وممن رضي عنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أول الدعوة وكان هذا مجلبة للحب النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء ، من رسوخ الإيمان في جوانحه ، وعمل الخيرات بجوارحه ، ولزوم الطاعة في أعماله ، واقتفاء الصدق في أقواله ، فقول النبي : « إني أحب عقيلا حبين ، حبا له وحبا لحب أبي طالب له (١) » إنما هو لأجل هاتيك المآثر وليس من المعقول كون حبه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.

إذا فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام بلسان حديد خلده عارا عليهم مدى الحقب والأعوام.

على أن حب أبي طالب له لم يكن لمحض النبوة فإنه لم يكن ولده البكر ولا كان أشجع ولده ولا أوفاهم ذمة ولا ولده الوحيد ، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار وطالب وهو أكبرهم سنا ، وإنما كان شيخ الأبطح يظهر مرتبة من الحب له مع وجود ولده « الامام » وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل موروثة ومكتسبة.

__________________

١) نص على هذه الجملة فقط في مستدرك الحاكم ج٣ ص٥٧٦ ، وتذكرة الخواص ص٧ ، والسير الحلبية ج١ ص٣٠٤ ، ونكت الهميان ص٢٠٠ ، ولها زيادة في حق ولده مسلم نص عليها الصدوق في الأمالي ص٧٨ مجلس ٢٧ سنذكرها في فضل البكاء عليه.

٢٣

وبعد أن فرضنا أبا طالب حجة وقته ، وأنه وصي من الاوصياء لم يكن يحابي أحدا بالمحبة وان كان أعز ولده ، إلا أن يجده ذلك الانسان الكامل الذي يجب في شريعة الحق ولاءه.

ولا شك أن عقيلا لم يكن حائدا عن الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الايمان والوحدانية لله تعالى وكيف يشذ عن خاصته وأهله وهو وإياهم في بيت واحد وأبو طالب هو المتكفل تربيته وإعاشته ، فلا هو بطارده عن حوزته ولا بمبيده عن حومته ولا بمتضجر منه على الاقل وكيف يتظاهر بحبه ويدينه منه كما يعلمنا النص النبوي السابق لو لم يتوثق من إيمانه وتيقن من إسلامه غير أنه كان مبطنا له كما كان أبوه وأخوه طالب وإن كنا لا نشك في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيار وأمير المؤمنين ، وحينئذ لم يكن عقيل بدعا من هذا البيت الطاهر الذي بني الاسلام على علاليه فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ

إلى الشّام :

لقد كانت الروايا في سفر عقيل الى الشام في أنه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج٣ ص٨٢ أنه بعد شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام وجزم به العلامة الجليل السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب ، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل فلاهم بملومين بشيء من ذلك ولا يحط من كرامتهم عند الملأ الديني ؛ فإن للتقية أحكاما لا تنقض ولا يلايم المضطر على أمر اضطر إليه.

على أن عقيلا لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة ، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والإحصار بمطاعنه مشفوعة بالإشارة بفضل أخيه سيد الوصيين.

فمن ذلك أن معاوية قال له : يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك ، فقال عقيل :

« لقد مررت بعسكر أخي فاذا ليل كليل رسول الله ونهار كنهاره إلاّ أنّ رسول الله ليس فيهم ، وما رأيت فيهم إلا مصليا ولا سمعت إلاّ

٢٤

قارئا ، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله ليلة العقبة » (٢).

وقال له معاوية : إن عليا قطع قرابتك ولم يصلك ، فقال عقيل :

« والله لقد أجزل أخي العطية وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنه بالله إذ ساء به مثلك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم فاكفف لا أبالك فإنه عما تقول بمعزل ».(٣)

ثم صاح :

يا أهل الشام لقد وجدت أخي قد جعل دينه دون دنياه ، وخشي الله على نفسه ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، ووجدت معاوية قد جعل دنياه دون دينه ، وركب الضلالة واتبع الهوى ، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه ، ولم تكدح فيه يمينه ، رزقا أجراه الله على يديه ، وهو المحاسب عليه دوني لا محمودا ولا مشكورا.

ثم التفت الى معاوية وقال :

أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.

فأطرق معاوية ثم قال : ما الذي يعذرني من بني هاشم ، وأنشأ :

أزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا

فيأبوا لدى الإكرام أن يكرموا

وذا عطفتني رقتان عليهم

نأوا حسدا عني فكانوا هُم همُ

وأعطيتهم صفو الأخا فكأنني

معـا وعطاياي المباحة علقم

واُغضي عن الذنب الذي يقيلـه

من القوم إلا الهز بريّ المعمَم

حبا واصطبارا وانعطافا ورقـة

وأكظم غيض القلب إذ ليس يكظم

أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال عجل معاوية لخرق ونكل عن جوابك لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حويّ الحنظل.

فأجابه عقيل :

__________________

٢) الدرجات الرفيعة بترجمته.

٣) العقد الفريد ج٢ ص١٣٤ في باب الأجوبة المسكتة.

٢٥

غديرك منهـم من يلـوم عليهم

ومن هـو منهـم في المقالة أظلم

لعمرك ما أعطيتهم منـك رأفـة

ولكـن لأسبـاب وحولك علقـم

أبى لهم أن ينزل الـذل عنـوة

إذا ما طغـا الجبار كانوا هُم همُ

فدونك ما أسديت فاشدد يدا بـه

وخيركم المبسوط والشر فالزموا

ثمّ رمى عقيل عليه بالمائة ألف درهم وقام من مجلسه فكتب اليه معاوية : أما بعد يا بني عبدالمطلب أنتم والله فرع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم ، ولكم الصفح الجميل فإن أحلامكم لراسخة ، وعقولكم لكاسية ، وحفظكم الأوامر ، وحبكم العشائر ، ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة وقد والله ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن اغيّب الثرى ، فكتب اليه عقيل :

صدقت وقلت حقا غير أنـي

أرى ألا أراك ولا تـراني

ولست أقول سوء في صديقي

ولكني أصد إذا جفـانـي

فكتب اليه معاوية يستعطفه ويناشده الصفح وألح عليه في ذلك فرجع اليه (٤). فقال معاوية : لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول :

وإني امرؤ مني التكرم شيمة

إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا

ثم قال :

يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها ، وأظلتك بسرادقاتها ، مدت عليك أطناب سلطانها ماذاك بالذي يزيدك مني رغبة وتخشعا لرهبته.

فقال معاوية : لقد نعتها أبو يزيد نعتا هش له قلبي ، ثم قال له : لقد أصبحت يا أبا يزيد علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة (٥).

هذا حال عقيل مع معاوية وحينئذ فأي نقص يلمّ به والحالة هذه وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنه لاصحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين فإنه مما لم يتأكد اسناده ولا عرف متنه ويضاده جميع ما ذكرناه.

كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحاك على الحيرة وما

__________________

٤) ربيع الأبرار للزمخشري في باب المعاتبات.

٥) العقد الفريد ج١ ص١٣٥.

٢٦

والاها وذلك بعد حادثة صفين.

كتاب عقيل

فإنه كتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله أمير المؤمنين من عقيل بن أبي طالب : سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله حارسك من كل سوء وعاصمك من كل مكروه وعلى كل حال فإني خرجت من مكة معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح مقبلا من « قديد »في نحومن أربعين شابا من أبناء الطلقاء فعرفت في وجوههم المنكر فقلت : إلى أين يا أبناء الشائنين ، أبمعاوية لاحقون عداوة لله منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور الله وتبديل أمره؟ فأسمعني القوم واسمعتهم.

فلما قدمت مكة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثم انكفأ راجعا سالما ، وان الحياة في دهر جرّأ عليك الضحاك لذميمة وما الضحاك الأفقع بقرقر وقد توهمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك فاكتب إلي يا ابن أبي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة وأقسم بالأعز الأجل أن عيشا نعيشه بعدك لاهنيء ولامريء ولا نجيع ، والسلام.

كتاب أمير المؤمنين :

وكتب اليه أمير المؤمنين عليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبدالله أمير المؤمنين الى عقيل بن أبي طالب : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد كلأنا الله وإياك كلاءة من يغشاه ، وقد وصل إلي كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي ، تذكر فيه أنك لقيت عبدالله بن أبي سرح مقبلا من « قديد » في نحو أربعين فارسا من أبناء الطلقاء متوجهين الى جهة المغرب ، وأن ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه ، وصد عن سبيله وبغاها عوجا ، فدع عنك ابن أبي ـ

٢٧

سرح ودع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق.

ألا وإن العرب أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النبي قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقه ، وجحدوا فضله ، وبادروه بالعداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه الجهد ، وجروا اليه جيش الأحزاب ، اللهم فأجز قريشا عني الجوازي ؛ فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابة من الرسول ، وسابقتني في الإسلام ، إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن الله يعرفه ، والحمدلله على كل حال.

وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على أهل الحيرة فهو أقل وأقل أن يسلب بها وأن يدنو منها ، ولكنه قد أقبل في جردة خيل فأخذ على السماوة حتى قربوا من واقصة وشراف ، والقطقطانة وما والى ذلك الصقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فرّها ربا ، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلا فلم يبصر غلا بوقع المشرفية وولى هاربا ، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا ، ونجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق فلأيا بلأي ما نجا.

وأما ما سألتني أن أكتب اليك برأي فيما أنا فيه ، فان رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق ، والله مع المحق ، ووالله ما أكره الموت على الحق ، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.

وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشدا محمودا فوالله ما أحب أن تهلكوا معي أن هلكت ، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشعا متضرعا « ولا مقرا للضيم واهنا ، ولا سلس الزمام للقائد ، ولا وطىء الظهر للراكب المقتعد » (٦) ولكنه كما قال أخو بني سليم :

فان تسألينـي كيف أنت فإنني

صبور علي ريب الزمان صليب

يعز عليّ أن ترى بـي كئابـة

فيشمت باغ أو يسـاه حبيب

وهذا الكتاب من عقيل المروي بطرق متعددة (٧) يدلنا على أنه كان مع أخيه

__________________

٦) الجملة بين قوسين في النهج ج٢ ص٦٤.

٧) روى الكتابين أبو الفرج في الأغاني ج١٥ ص٤٤ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج١ ص١٥٥ ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج١ ص٤٥ ، والسيد علي خان في الدرجات الرفيعة بترجمة عقيل ، وفي جمهرة رسائل العرب ج١ ص٥٩٦.

٢٨

أمير المؤمنين عليه‌السلام في حياته غير مفارق له ، فإن الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحاك على أطراف الحيرة ، وذلك قرب شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

إذا فالقول بأن وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعين كما اختاره السيد المحقق السيد علي خان في الدرجات الرفيعة ، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده ، وقد ظهر من ذلك أنه لم يكن مع معاوية بصفين.

حديث الحديدة :

أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنين عليه‌السلام فليس فيه ما يدل على اقترافه إثما أو خروجا عن طاعة ، وإنما أراد أمير المؤمنين بذلك تهذيبه بأكثر مما تتهذب به العامة ، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه ، فعرفة سيد الأوصياء أن إنسانا بلغ من الضعف إلى أن يئن من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون تمسه كيف يتحمل نار الآخرة في لظى ، نزاعة للشوى ، وهو مضطرم بين اوارها.

فمن واجب الإنسان الكامل التبعد عنها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمات القاسية ، فهي مجلبة لمرضات الرب ومكسبة لغفرانه وان كان غيره من أفراد الرعية يتبعد عنها بترك المحرمات فحقيق بمثل عقيل ـ وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة ـ التجنب حتى عن المكروهات وما لا يلائم مقاماه من المباحات ويروض نفسه بترك ذلك كله حتى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه فلا يبعضهم الفقر الملمّ والكرب المدلهم ، فرب مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإن « حسنات الأبرار سيئات المقربين » وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه عقيلا على هذا الخطر الممنع الذي حواه وقد ذهل عنه في ساعته وإلا فعقيل لم يقترف مأثما حتى يكون ذلك عقوبة له.

افتراء على عقيل :

قال الصفدي : لقد بغض عقيلا إلى الناس ذكره مثالب قريش ، وما أوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب ، وكانت تبسط له طنفسة في مسجد رسول الله

٢٩

يصلّي عليها ، ويجتمع إليه الناس لمعرفة أنساب العرب وأياهم وأخبارهم فقال أعداؤه فيه ونسبوه الى الحمق (٨).

واختلقوا عليه أحاديث كان بعيدا عنها حتى وضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحط من كرامته زعما منهم أن في ذلك تشويها لسمعة هذا البيت الطاهر بيت أبي طالب باخراج أهله عن مستوى الإنسانية فضلا عن الدين ، بعد ان أعوزتهم الوقيعة في سيد الأوصياء عليه‌السلام بشيء من تلك المفتريات. فطفقوا يشوهون مقام أبيه وحامته ، ولكن لا تنطلي تلكم الزخارف على الجيل المنقب حتى كشف عن نواياهم السيئة وعرف الملأ افتعال الحديث وبُعده عن الصواب.

قالوا في الرواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : مازلت مظلوما منذ كنت صغيرا ، أن عقيلا ليرمد فيقول : لا تذروني حتى تذروا عليا ، فأضطجع وأذرى وما بي رمد.

لم أقرأ هذا الحديث إلا ويأخذني العجب. كيف رضى المفتعل بهذه القرية البينة ، فإن أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة ، وهل يعتقد أحد أو يظن إنسانا له من العمر ذلك المقدار إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء يمتنع منه إلا إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين ، كلا لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسة والضعف ، فكيف بمثل عقيل المتربى بحجر أبي طالب والمرتضع در المعرفة خصوصا مع ما يشاهده من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.

إن الضّغائن والأحقاد تحبذ لمن تخلّق بها التردد في العمى والخبط في الضلال من دون روية وتفكير ؛ « استَحَوَذَ عَلَيهِم الشَّيطانُ فَأَنساهُم ذِكرَ اللهِ اُولئِكَ حِزبُ الشَّيطانِ أَلا اِنَّ حِزبَ الشَّيطانِ هُمُ الخاسِرُونَ ».

نعم كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول غير مرة : « ما زلت مظلوما (٩)» من دون تلك الزيادة ، يعني بذلك دفعه عن حقه الواجب على الأمة القيام به والميل عنه وتعطيل أحكام الله بالأخذ من غيره وتقديم من ليس له قدم ثابت في كل مكرمة ، ولا نص من صاحب الشريعة ، ولا فقه ناجع ، ولا إقدام في الحروب ، وحيث أن في هذه الكلمة حظا بمن ناوأه زحزحوها عنهم ، وألصقوها بالسيد الكريم ، وما أسرع أن عاد

__________________

٨) نكت الهميان ص٢٠٠.

٩) الشافي للسيد المرتضى ص٢٠٣.

٣٠

السّهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.

الخلف عن عقيل :

الخلف الصالح يخلد ذكر سلفه فلا يزال ذكره حيا بعمره الثاني من ذكره جميل وثناء جزيل وترحم متواصل واستغفار له منه وممن تعرّف به وفي الحديث : « ان ابن آدم اذا مات انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث » وعد منها الولد الصالح ، ومن أجلى الواضحات أن هذا التذكير يختلف حسب تدرج الأولاد في المآثر ، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد ، وكذلك الأسلاف فكلما كانوا في الشرف والسودد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.

إذا فما ظنك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجل ، وقد خلّفه في المآثر « شهيد الكوفة » وولده الأطائب شهداء الطف الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.

ومن هنا كان السجاد عليه‌السلام يعطف على ولد آل عقيل أكثر من ولد آل جعفر ، فقيل له في ذلك ، قال :

« إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام فأرق لهم (١٠) ».

فلولم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.

وكم أب قد علا بابن ذرى شرف

كما علا برسـول الله عدنان

فكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كله.

ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين فإنهم بين علماء أعاظم وفقهاء مبرّزين وشعراء ومحدثين واُمراء صالحين ونسّابين ، وقد انتشروا في مصر واليمن وحلب وبيروت ونصيبين والمدينة والكوفة والحلة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم واصفهان.

وكان القاسم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب فاضلا تقيا وأخوه عقيل جليل ثقة ، صاحب حديث وعمهما عقيل بن عبدالله نسابة مشجرا ، وحفيد

__________________

١٠) كامل الزيارة لابن قولويه ص١٠٧.

٣١

عقيل هذا جعفر بن عبدالله الاصفهاني عالم نسابة شيخ شبل ابن تكين مات سنة ٣٣٤ هـ.

ومحمد بن مسلم بن عقيل بن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب يعرف بابن المزينة كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.

وابنه أبو القاسم أحمد بن محمد المذكور ، له أدب وفضل مات سنة ٣٣٠ ، والعباس بن عيسى الأوقص ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان وقد أولد بكرمان (١١).

وعبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي الفح بن محمد بن عقيل العقيلي الطالبي ولد سنة ٦٩٨ ، وتوفي سنة ٧٦٩ ، ولي القضاء وقرأ القرءات السبع على الصائغ ، وله تفسير القرآن في مجلدين والجامع النفيس (١٢).

ومن أحفاد عقيل بن أبي طالب السيد إسماعيل بن السيد أحمد المازندراني الطبرسي النوري ، فقيه من فقهاء الامامية ، متبحّر في العلم ، واسع الاطلاع ، قيق النظر ، وكان من اساتذة سيد الأمة ومجدد المذهب السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وميرزا حبيب الله الرشتي ، سكن النجف ، وكانت له الإمامة في الجماعة دخل المشهد المطهر ، وله تآليف رائقة في العقائد والأخلاق ، منها كفاية الموحدين في أصول الدين ، طبعت بالفارسية في ثلاث مجلدات ، وله في شرح نجاة العباد لشيخ الطائفة صاحب الجواهر قدس‌سره ، طبع منه مجلدان في الطهارة والصلاة ، وله كتاب في أصول الفقه رآه شيخنا الجليل المدقق الشيخ آغا بزرگ صاحب الذريعة عند صهره الشيخ علي المدرس الطهراني توفي غرة شعبان سنة ١٣٢١ هـ في الكاظمية ودفن في الصحن الشريف (١٣).

وفي كربلاء من أحفاد عقيل بن أبي طالب بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيليين لهم أوقاف كثيرة

__________________

١١) عمدة الطالب.

١٢) طبقات القراء ج١ ص٤٢٨.

١٣) أعيان الشيعة ج١١ ص٢٥٣.

٣٢

حياة مسلم بن عقيل عليه‌السلام

ولادة مسلم عليه‌السلام :

لقد أشرق الكون بهذا الميلاد المبارك ، وتأرج فيه بنجره الشّذيّ يوم برز الى عالم الشهود بعد تقلب متطاول ، بين أصلاب طاهرة ، وأرحام زاكية ، غير مدنسة بدرن الكفر ، ولا موصومة بأدناس الجاهلية الأولى في نسب متصل بنسب صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسب موروث من « شيخ الأبطح » الآنف ذكر شرفه وشرف بيته الرفيع وبينهما حلقة الوصل مثل عقيل الذي تقدم وصفه وذكر منزلته من العظمة والإيمان والشرف.

ولقد تلقى عقيل دروسا ضافية من صاحب الدعوة الالهية وأخيه الخليفة على الأمة عند انقضاء أمد الوحي المبين ، وفيها ما يجب على الرجال من اختيار المحل الصالح لحمل تلكم النطف الزاكية وفي جملتها التحذير من منابت السوء المفسر على لسان المشرع الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمرأة الدنيئة الأصل (١) لكون الوراثة حاكمة بطبعها الأوليّ على الفضائل المطلوبة من الولد اللهم إلا مع مزاحمة الكسبيات لها وظهورها عليها كما هو المشاهد من الرجال الذي اتصلوا بالذوات المقدسة فحصل لهم بواسطتها اسمى الخصال الطيبة وفازوا بالرضوان الأكبر.

ومن المقطوع به أن عقيلا مع حيطته بأنساب العرب ومواقع المآثر والمحازي وايمانه بتلكم الدروس الراقية لم يختر لنطفته إلا محلا لائقا تتعداه كل غميزة وتقترب منه الفضيلة ولم يستهسل أن ينبز عقبه بما لا يلائم نسبه الوضاح وبيتهم المنيع كما كان

____________

١) المقنعة للشيخ المفيد ص٧٩ ، والمجازات النبوية للشريف الرضي ص٦١ طبع مصر.

٣٣

يقال في كثيرين من أهل عصره وذرياتهم.

ويشهد له وقفة أولاده بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزّبت عصب الشرك على سيد شباب أهل الجنة وقطعوا عنه خطوط المدد وحالوا دون الوسائل الحيوية حتى الماء المباح لعامة الحيوانات ، يريدون بذلك استئصال شأفة النبوة فكتبوا بدمائهم الزاكية اسطرا نورية على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة ، ويتعرفون منها مناهج موتة العز وأن الحياة مع الظالمين ذميمة.

فظهر مسلم عليه‌السلام بين هذه وتلك ألقا وضاءا للحق وشخصية بارزة للدين والهدى متأهلا لحمل أعباء النيابة الخاصة عن حجة الوقت ولذلك اختاره لها سيد الشهداء عليه‌السلام من بين ذويه وحشده الأطايب.

ومن هذا الإستنباط يعلم طهارة « أمه » عن كل ما تغمز به النساء وأنها متحلية بالمفاخر وإن لم يعطها التأريخ حقها كما لم يعط حق ولدها المعظم الثابت له.

نعم للتأريخ والمؤرخين شغل شاغل بذكر أخبار القيان والمغنين وسرد روايات أهل الخلاعة والمعازف عن إثبات أحاديث سروات المجد وقادة الإصلاح من بني هاشم.

وهل النقمة ههنا على الكتاب أو ظروف التدوين أو السياسات القاسية أنا لا أدري ، ولهذا كله خفى علينا يوم ولادتها وشهرها وسنتها ، وكان من الصعب جدا تحديدها وكلما يقال فهو تقريب واستحسان ولا يغني من الحق شيئا.

وستقف في البحث المتعلق بأم مسلم على شيء ربما يستكشف المتأمل منه مبدأ الولادة.

أمّه عليه‌السلام :

إن غموض التعريف عن أم مسلم بأجلى المظاهر ، أوقع الباحث في حيرة السؤال عن اقتران عقيل منها ، هل كان بالعقد أم بملك اليمين ، وأنها حرة أم جارية؟ ، والعتب في ذلك على المؤرخين الذين أهملوا الحقائق مع تحفظهم على أمور تافهة لايقام لها وزن ، وان من الجدارة التعريف بنواحي هذا الرجل العظيم الذي دخل الكوفة وحده بلا عدة ولا عدد ، فدوّى أرجاءها بصرخته الحسينية في وجه المنكر ، وأقلق فكر الممثل للزعامة الأموية في الشام ولعل من هذا الإغفال يستطيع الباعث الجزم بأن ما يلم « بابن عقيل » كان على أبعد حد من الفضائل والفواضل سواء من ناحية أمه وأبيه أو من بيته

٣٤

الرّفيع فانه لو كان هناك طريق للغمز فيه ولو من جهة تأريخ امه لتذرع به المنحرفون عنه وعن سلفه الطاهر كما هو ديدنهم فيمن ضمهم هذا البيت أو انضوى إلى رأيتهم ومشى على ضوء تعاليمهم.

وليس للمؤرخين إلا نصان أحدهما بعيد عن الواقع كما ستعرف ، والآخر على ما فيه من غموض وإجمال يمكن للمتأمل فيه ، وفيما كتب عن أصل النّبط الإذعان بأن « أم مسلم » عربية حرة ، ولعل ترك ابن زياد التعرض لها في ما جرى بينه وبين مسلم من المحاورات يشهد له ، فإنه كان بصدد اسقاط مسلم عن أعين الناس فنسب له أشياء يقطع بأنه لم يأت بها أصلا فلو كانت أمه جارية لنبزه بها كما فعل هشام بن عبد الملك مع زيد الشهيد ـ رضوان الله عليه ـ إذ قال له : زعمت أنك تطلب الخلافة ولست هناك وأنت ابن أمة ، فقال له زيد : إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أم إسماعيل أمة فلم يمنعه أن كان نبيا وأبا لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا النص الأخير يرويه ابن قتيبة فيقول : كانت أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا (٢) ويقول بعض المؤرخين : أن النبط كانوا في جبل شمر (٣) في أواسط بلاد العرب ثم نزحوا الى العراق لما فيه من الخصب والرخاء (٤) فأقاموا في سواد العراق (٥) أو في خصوص البطائح بين العراقين (٦) البصرة والكوفة.

ولم ينكر أحد ممن كتب عنهم أن لغة النبط عربية كأسماء ملوكهم البالغين ثمانية عشر ، وفيهم امرأتان في القرن السابع قبل الميلاد (٧) ، نعم يرتئي المسعودي أنهم من الكلدانيين المجاورين مع الفرس سكان فارس والأهواز وعاصمتهم « كلواذي » (٨) وبعد تغلب الفرس عليهم تفرقوا (٩) ويوافقه على ذلك بعض المستشرقين الواقفين على النقوش من

__________________

٢) المعارف ص٨٨.

٣) يعرف بجبل أجا وسلمى منزل لطي وقع ذكره في كلام الطرماح لسيد الشهداء أنظر ما كتبناه في مقتل الحسين ، وفي أواخر القرن الثالث عشر والرابع عشر كان منزلا لآل رشيد حتى تغلب عليهم عبد العزيز آل سعود.

٤) جرجي زيدان في العرب قبل الاسلام ج١ ص٧٨.

٥) تاج العروس للزبيدي ج٥ ص٢٢٩.

٦) القاموس للفيروزآبادي بمادة نبط.

٧) العرب قبل الاسلام ص٧٨.

٨) في القاموس بلدة في أسفل بغداد وفي معجم البلدان ج٧ ص٢٧٦ تبعد عن بغداد فرسخا للمنحدر.

٩) التنبيه والاشراف للمسعودي ص٦٨.

٣٥

آثارهم ويفيد بأن لهم في ذلك التأريخ دولة في العراق متسعة الأطراف حتى شملت معظم جزيرة العرب واستوزروا الوزراء وضربوا النقود بأسماء ملوكهم ولهم قوانين (١٠).

وعلى هذا فليس مبتعدا عن الواقع من يرتئي أن عقيلا خطب لنفسه من بعض عشائر النبطيين الذين يجمعهم واياه الوقوف بتلك المشاعر المعظمة التي حث الله تعالى العباد إليها ذللا ، أو الواردين للتجارة في مكة ، أو الزائرين مرقد الرسول الأمين الذي استضاء العالم بنوره المتألق.

أما النص الأول فقول أبي الفرج اسم أمه « علية » اشتراها عقيل من الشام (١١) ولذلك حديث لاتخفى تفكك أطرافه على من أعطاه حق النظر يقول ابن أبي الحديد في الرواية المرسلة عن المدائني : ان معاوية قال لعقيل : هل لك من حاجة فأقضيها لك؟ قال : نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين الفا ، فأحب معاوية أن يمازحه فقال : ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى؟ تجتزي بجارية قيمتها خمسون درهما ، قال : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما اذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف ، فضحك معاوية وقال : مازحناك يا أبا يزيد ، وأمر فابتعيت له الجارية التي أولد منها مسلما.

فلما أتت على مسلم ثمان عشرة سنة وقدمات عقيل أبوه قال لمعاوية : يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة ، وإني أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن ، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه.

فبلغ ذلك الحسين عليه‌السلام فكتب الى معاوية : أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد إلينا أرضنا.

فبعث معاوية على مسلم فأخبره بذلك وأقرأه كتاب الحسين وقال : اردد علينا مالنا وخذ أرضك فإنك بعت مالا ما لاتملك فقال مسلم : أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا ، فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه وقال : يا بني هذا والله كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك.

ثم كتب الى الحسين عليه‌السلام اني قد رددت عليكم الأرض وسوّغت

__________________

١٠) العرب قبل الاسلام ص٧٩.

١١) مقاتل الطالبيين.

٣٦

مسلماً ما أخذ ، فقال الحسين عليه‌السلام : أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما (١٢).

من الصعب جدا الإستناد إلى هذه الرواية لأسباب عديدة نأتي على المهم منها :

الأوّل : أنها منقطعة الاسناد وطرح رجال الحديث مما يحظ من قيمته لما فيه من الجهالة بمعرفة أحوال أولئك المتروكين والتدليس الشائن.

الثّاني : أن المدائني لا يوثق بأحاديثه مهما تكثرت في الجوامع بعد ما ضعفه ابن عدي في الكامل (١٣) ويؤيده أنه أموي النزعة من جهة ولائه لآل عبد شمس والولاء كالتربية حاكم على النفوس والعقائد فهو ممن يحب للبيت الأموي التحلي بالصفات الكريمة لتهوى لهم الأفئدة وتخضع لهم الأعناق ويكونوا في صف من طهرهم الذكر المجيد بقوله « إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » كما أثبت سبحانه لهم اشرف الخصال المحبوبة له إذ يقول : « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ».

والسّند في ولائه لهذا البيت نص ياقوت فإنه قال : كان علي بن عبدالله ابن أبي سيف البصري المدائني البغدادي مولى سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف (١٤). ويقول ابن حجر أنه مولى عبد الرحمن بن سمرة (١٥) وعدم موافقة ولادة المدائني التي هي في سنة ١٣٥ هـ لوفاة عبدالرحمن بن سمرة الواقعة في سنة ٥٠ هـ لا يبعد هذا الولاء بعد ما ينص ابن كثير على أن لعبد الرحمن أولادا كثيرين (١٦) ويسمى ابن حجر بعضهم عبيدالله وأنه تغلب على البصرة في فتنة ابن الأشعث (١٧) فاطلاق الولاء لأبيهم عبدالرحمن أو لجدهم سمرة بملاحظة أولاده لاضير فيه.

وإذا أفهمتنا الجوامع أن عبدالرحمن من « الشجرة » التي أنتجت معاوية وكان

__________________

١٢) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٨٢ مصر.

١٣) لسان الميزان لابن حجر ج٤ ص٢٥٣.

١٤) معجم الادباء ج١٤ ص١٢٤.

١٥) لسان الميزان ج٤ ص٢٥٣.

١٦) البداية والنهاية ج٨ ص٤٧ حوادث سنة ٥٠.

١٧) الإصابة ج٢ ص٤٠١ بترجمة عبدالرحمن.

٣٧

من عمّاله على سجستان وغزالة خراسان (١٨) وبلخ وكابل (١٩) وفتح الرخج وبست (٢٠) وضح لنا أنه يسير على أثره وأنه حائد عن كل من ناوأ معاوية وهذه قضايا قياساتها معها.

ولاريب أن الموالي يرثون هذه النزعة كالأنساب ، اللهم إلا أن يكبح هذا الجماح الخضوع لقانون الاسلام فيقف عند حدوده ، ولكن أين هذا من « المدائني » المكثر من خلق الأحاديث الرافعة للبيت الأموي ، الواضعة من قدر رجالات بيت الوحي والنبوة ، وانها لشنشنة مضى عليها الأولون نعرفها من منافسة عبد شمس أخاه هاشما مطعم الطير والوحوش ومنافسة حرب بن أمية عبدالمطلب الذي كفأ عليه إناءه واستعبده عشر سنين (٢١) ومنافسة أبي سفيان للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من عليه يوم الفتح وأطلق له ، جاهد ونافس ابن آكلة الأكباد أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي اصطفاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم المؤاخاة بالأخوة ومنحه الخلافة الإلهية إذ قال له : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي. »

الثالث : أن المتأمل في هذه المحاورة الواقعة بين عقيل ومعاوية في أمر الجارية يظهر له مغزى المدائني فانه أراد أن يسجل صحيفة من حلم معاوية واناته وكرمه مع المس في الذوات القدسية من آل الرسول الأطهر وقد فاته أن المستقبل يكشف عن واياه.

قال في تلك المحاورة :

« ولما أتت على مسلم بن عقيل ثمان عشرة سنة وقد مات أبوه عقيل قال لمعاوية : ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة الف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي الثمن ، فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن اليه ».

وفي هذه الجملة خلل واضح فإنه أثبت بيع مسلم الأرض وعمره ثمان عشرة سنة وأبوه ميت ، وعلى ما يقوله ابن حجر أن عقيلا مات سنة ستين وقيل بعدها (٢٢) يكون

__________________

١٨) لسان الميزان ج٤ ص١٩٠.

١٩) تاريخ اليعقوبي ج٢ ص١٩٣ طبع النجف.

٢٠) ابن الأثير ج٣ ص١٧٤.

٢١) شرح النهج الحديدي ج٣ ص٤٦٦.

٢٢) تقريب التهذيب ص٣٦٦٦ لكنهؤ ، والإصابة ج٢ ص٤٩٤.

٣٨

عمر مسلم عليه‌السلام ثمان عشرة سنة عند شهادته في سنة ستين ، وهذا لا يتفق مع ما أثبته المؤرخون من تزويجه بثلاث نساء أو أكثر وأن له أولادا خمسة وبنتا ، فإنه وإن لم يكن من المحال في هذه المدة القصيرة التي هي عبارة عن ثلاث سنين بعد بلوغه أن يتزوج من ثلاث نساء ويستولد هذا العدد لكن العادة المطردة تأباه.

ثم هناك شيء آخر وهو أن كلا من عقيل ومسلم ومعاوية ماتوا في ستين : استشهد مسلم عليه‌السلام في ذي الحجة ، وهلك معاوية في رجب ، وموت عقيل لم يتعين قبل رجب أو فيه أو بعده فعلى الأخيرين لاتتم دعوى سفر مسلم الى الشام وبيعه الأرض ، وعلى الأول أعني موته قبل رجب المتردد بين أن يكون في المحرم أو ما بينه وبين رجب ، فالعقل وإن لم يمنع صدور البيع في هذا الزمن إلا أن من البعيد جدا أن يشد مسلم عليه‌السلام الرحال من المدينة إلى الشّام ويتحمل وعثاء السفر لبيع الأرض من معاوية بالمقدار الذي دفعه اليه الرجل المدني كما يفيده قول لمعاوية : « ان لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة ألف وأحببت أن أبيعك إياها ».

فان كل أحد يعد اتخاذ هذه الطريقة سفها وحاشا « داعية السبط » أن يرتكب خطة لا يصادق عليها العقل ويكون مرمى لسهام اللوم إلا أن يكون قد تزلف الى معاوية ببيعه الأرض ، والشمم الهاشمي الذي انحنت عليه أضالعه يأباه له كيف ، وهو يشاهد دماءهم الطاهرة ، ودماء من شايعهم تقطر من سيفه وأنديتهم تلهج بانحرافه عن خطة سلفه الطيب ، وغدره بالإمام الحسن عليه‌السلام تدرسه ناشئة هذا البيت كل يوم.

والتحيل لاستخلاص أموالهم من يد معاوية كما يراه البعض لا يتوقف على هذه الطريقة المشوهة لبيتهم المنيع ، ومقامهم الرفيع مع أنهم بعيدون عن أمثالهم لأن نفوسهم الزاكية تكبر بهم عما فيه الضعة والخسة ولو عند العامة. هذا اذا كان موت عقيل في سنة ستين وأما اذا كان بعدها كما هو القول المحكى في نص ابن حجر كما عرفت ، فالكذب في هذا البيع واضح ، والمسافة للتصحيح بعيدة لأنه عليه يكون بيع مسلم الأرض بعد موت أبيه كما في الرواية ، ومعاوية بين أطباق الثرى وقد فاز مسلم بالشهادة يومئذ.

ولو ذهبنا الى رأي الصفدي وابن كثير من تعيين وفاة عقيل في سنة خمسين (٢٣)

__________________

٢٣) نكت الهميان للصفدي ص٢٠١ ، والبداية لابن كثير ج٨ ص٤٧.

٣٩

يكون لمسلم عليه‌السلام عند شهادته في سنة ستين ثمان وعشرون سنة ، وتكون ولادته سنة اثنين وثلاثين قبل واقعة صفين الكائنة في سنة ٣٧ بخمس سنين ، وهذا وإن التأم مع ذلك العدد من أولاده لكن لا يلتئم مع ما ذكره ابن شهر آشوب الحافظ الثبت الثقة بنص الفريقين من الشيعة والسنة (٢٤).

فإنه يقول : جعل أمير المؤمنين عليه‌السلام على ميمنته في صفين الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر ومسلم بن عقيل ، وعلى الميسرة محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال (٢٥).

ومن المعلوم أن من يجعله أميرالمؤمنين في صف أولاد عمّيه البالغين نحوا من خمس وثلاثني سنة لابد وأن يقاربهم في السن كما قرن بين ابن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهما متقاربان في السن فان محمد بن الحنفية ولد سنة ١٦ (٢٦) وله يوم صفي احدى وعشرون سنة ومحمد بن أبي بكر ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة حين توجه رسول الله للحج وقتل سنة ٣٨ وله يوم صفين ٢٧ سنة (٢٧).

وحينئذ لا أقل أن يقدر عمر مسلم بن عقيل بالثلاثين أو الثمان وعشرين وتكون ولادته أما سنة سبع أو تسع وله يوم شهادته أكثر من خمسين سنة وعلى هذا التقدير في ولادته أين ولاية معاوية في الشام وأين مسير عقيل اليه ، بل أين إسلام معاوية فإنه أسلم بعد سنة تسع قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأشهر.

وإذا أخذنا بنص الواقدي كانت المسافة أبعد ، قال : لما دخل المسلمون مدينة « البهنسا » بعد حصار طويل دخل مسلم بن عقيل في جملة الهاشميين وهو يقول :

__________________

٢٤) انظر ترجمته في بغية الوعاة للسيوطي ص٧٧ ، ولسان الميزان لابن حجر ج٥ ص٣١٠ ، وطبقات المفسرين لشمس الدين محمد بن علي المالكي ، والبلغة للفيروز آبادي ، والوافي بالوفيات للصفدي ، ومن علماء الشيعة أثنى عليه العلامة الحلي في الخلاصة ، وميرزا محمد في منهج المقال ، أبوعلي الحائري في منتهى المقال ، والتفريشي في نقد الرجال ، والأغا البهباني في التعليقة ، والحر العاملي في أمل الآمل ، والسيد في روضات الجنات.

٢٥) المناقب ج٢ ص٢٦٠.

٢٦) أنظر كتاب قمر بني هاشم ص١٠٣.

٢٧) ما يؤكد حضوره في صفين ما رواه نصر في كتاب صفّين ص٣٣٠ : إن منادي أهل الشام نادى : إن معنا الطيب بن الطيب عبدالله بن عمر. فقال عمار بن ياسر : بل هو الخبيت ، ثم نادى منادي أهل العراق : ألا ان معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر ، فنادى أهل الشام : بل هو الخبيث بن الطيب.

٤٠