الشّهيد مسلم بن عقيل عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

مرتثّ بالجراح وفي آخر رمق من الحياه الله من شهم سيط الإيمان بلحمه ودمه ، وعاد مزيج نفسه الكريمة.

وفي نص سبط ابن الجوزي : أن ابن الأشعث سلب مسلم بن عقيل درعه وسيفه فقال بعض الشعراء يؤنّبه على فعلته هذه وتركه نصرة هاني (٢١) :

وتركت عمك لم تقاتل دونه

فشلا ولـوا أنت كان منيعا

وقتلت وافد آل حزب محمد

وسلبت أسيافـا له ودروعا

ولمّا جيء به الى القصر تساند الى الحائط وقد أخذ الضعف لنزف الدم وشدة الظماء فرأى قلة مبردة فطلب منها ما يبلّ غلّته ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم!

فكبرت هذه الكملة على ابن عقيل أن تصدر من رجل يدّعي الإسلام ويتشهّد الشهادتين ثم لا تسمح نفسه يبذل الماء الذي هو مباح لعامة الحيوانات ولا يمنع منه حتى الكافر ، والشريعة تنادي بأعلا صوتها :

« الناس شرع سواء في الماء والنار والكلاء »

ثم أي رجل يحمل أقل شيء من العاطفة يشاهد إنسانا بتلك الحالة المشجية ثم يضن عليه بشربة من ماء ، أنه لخارج عن الحدود البشرية ومستوى الانسانية.

ومن هنا تعجب مسلم عليه‌السلام واستفهم عن حسبه فقال له : من أنت؟ قال : أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي!

فقال ابن عقيل :

« لامك الثكل ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظه أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم. »

وعلى هذا الحوار بعث عمرو بن حريث غلاما له يدعي سليما فأتاه بالماء (٢٢) وفي نص آخر أرسل عمارة بن عقبة بن أبي معيط غلامه قيسا وأتاه بالماء (٢٣) وهل شرب ابن عقيل من الماء فيخفف من الغلوب ويطفئ أوار الظمأ؟ لا! فإنه كلما أدنا القدح منه

__________________

٢١) تذكرة الخواص ص١٣٩.

٢٢) الإرشاد للشيخ المفيد.

٢٣) الطبري ج٦ ص٢١١.

١٤١

امتلأ دما للضربة التي على شفتيه ، وفي الثالثة امتلأ دما وسقطت في القدح ثناياه فتركه وقال :

« لو كان من الرزق المقسوم لشربته (٢٤) »

وهذا من أشد تمكن القداسة في ذاته الملكوتية التي هي قطعة ذلك الجامع المنبسط على رجالات بيت الوحي ، وهو روح الطهارة والعصمة عن الرذائل. فتلك ذات لم تمازجها دنيّة ولا ألمّت بها ضعة ولا وصمت برذيلة فراق داعية السبط الشهيد عليه‌السلام أن لا يعلق به شيء لا يتفق مع عنصره الزاكي وذاته المطهرة ولم يقاربه طيلة عمره ، ألا وهو شرب الماء المشوب بالدم وان كان يجوز له ذلك.

لأن الله تعالى اختار لهذه النفوس القدسية المتفانية في نيل مرضاته الداعية الى كلمته وبرهانه حتى قاست ما لا يدركه العقل من كوارث ومحن في سبيل طاعته أشر الموت وهو القتل ممنوعين من الورود لتكون الحجة ألزم على اولئك المتمرّدين على قدس المولى سبحانه الخارجين على حدود سننه وتعاليمه.

__________________

٢٤) المصدر ص٢١٢.

١٤٢

في قصر الإمارة

لقد جرى من الكفـور الملحـد

نغـل زيـاد الظلـوم المعتدي

ما قد جرى من فاحش الخطاب

ومن قبيح ألـرد والجواب

وغير ضائـر عـواء الكلـب

إذا عـوى على النجوم الشهب

وكيف يرجـى من عدو الله في

وليه شـيء من التعسـف

اُدخل ابن عقيل عليه‌السلام على ابن زياد وهو على سرير الطغيان والجور ومسلم أسير مكتوف لايجد أحدا ينجده ولا من يقف دونه ، فلم يتظاهر بالخضوع لابن مرجانة ولا استلان له واستعطفه بالسلام عليه ، ولما اعترضه الشرطي بقوله : ألا تسلم على الأمير؟ قال : « إنه ليس لي بأمير (٢) » ويقال : انه قال :

« السلام على من اتبع الهدى ، وخشي عواقب الرّدى ، وأطاع الملك الأعلى (٣) ».

أراد بهذه الكلمة تعريف الحضور بأنه مقاوم للسلطة الغاشمة ومناوى لهذا الجائر حتى عند تضائل قواه وانفلات الأمر من يده وعند منصرم العمر ، ولعل بذلك يتجدّد المقت من الأمة على ابن مرجانة ، وتحتدم القلوب عليه ، وعلى من ولاه أمر البلاد ، فيستطيع حينئذ أن يقول القائل : ان داعية الصلاح رافض لحكومة الضلال

____________

١) المقبولة الحسينية ص١٤ لشيخنا الحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.

٢) اللهوف لابن طاووس٣٠.

٣) المنتخب للطريحي.

١٤٣

حتّى في أحرج المواقف ، ولا يهون عليه شيء من أمرها ، فلا يفوت أهل الكوفة العلم بمشروعية هذه الولاية ، وأن الأخوة التي شرّفه بها سيد الشهداء أخوة شرف وإيمان والثقة التي فاز بها كما في صك الولاية لايدرك مداها.

ولم يقتنع مسلم عليه‌السلام بكل ذلك حتى أخذ يعرّف الناس في ذلك المجلس نفسية عبيدالله وأبيه ومن أجلسه هذا المجلس لتتمّ الحجة فلا يعتذر أحد بالغفلة والجهل ، وأن لقوة الجور مفعولا آخر.

فإنه لما قال له ابن زياد : إيهاً يا ابن عقيل أتيت الناس ، وأمرهم واحد فشتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ،وحملت بعضهم على بعض! قال :

« كلا لست أتيت لذلك ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمل كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو الى حكم الكتاب. »

قال ابن زياد : ما أنت وذاك يا فاسق أو لم نكن نعمل فيهم بذلك وأنت بالمدينة تشرب الخمر.

قال مسلم :

« أأنا أشرب الخمر؟ ان الله ليعلم أنك غير صادق ، وأنك تقول بغير علم ، وإني لست كما ذكرت ، وأنت أحق بشرب الخمر منّي ، من ولغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا. »

فقال ابن زياد : إن نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله.

فقال مسلم : فمن أهله؟

فقال ابن زياد : أميرالمؤمنين يزيد.

قال مسلم : الحمدلله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.

فقال ابن زياد : كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا.

فقال مسلم : والله ما هو الظن ولكنه اليقين.

فقال ابن زياد : قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام!

فقال مسلم :

١٤٤

أما أنك أحق من أن تحدث في الإسلام ما لم يكن ، وأنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحق بها منك.

فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليا وعقيلا!

لقد نضحت آنية ابن مرجانة بما فيها من فحش وخنا ، وأسمع مسلما ما لاتحمله الجبال الرواسي ، فما إستهان ، ولا استلان ولا تكعكع عن ابداء الحقيقة للناس ، وايقافهم على مخازيه ، ومخاريق أبيه ، وبوائق من استعملهما حتى أحرج الموقف وسدّ المذاهب عليه فلم ير الدعي وسيلة لمقابلة ابن عقيل إلا بسب أميرالمؤمنين ذلك الذي يقول فيه رسول الله :

« يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت وما عرفك إلا الله وأنا (٤). يا علي من سبّك فقد سبّني ومن سبني فقد سب الله (٥) ».

ههنا لم يطلق مسلم صبرا وان صبر قبل ذلك على مثل حز المدى فقال لابن مرجانة : « فاقض ما أنت قاض يا عدو الله. »

كتم السّرّ :

كم السر من لوازم المروءة ، فإن في إفشائه اما فضيحة على من أذيع عنه ان كان ذلك المذاع من الرذائل غير متجاهر بها ،والله سبحانه يحب الستر على المؤمنين ابقاء لحيثيّاتهم في الجامعة ، وكلاءة لعضويّتهم فيها ، فإن الحط من الكرامة يوجب سقوط محله بين الناس ، ويعود منبوذا بينهم فلا يصغى لقوله ، ولا يحترم مقامه ، فيختل التكاتف ، والتعاون على حفظ النظام ، ويكون ذلك مبدأت لتجري الغير كما هو مقتضى الجبلة البشرية ، ومثالا لنفرة أناس ممن يترفّعون عن أمثالها ، فتسود المنابذة ، وتحتدم البغضاء ، واذا كان المولى سبحانه وهو القابض على ازمّة الخلق القادر على كشف ما انطوت عليه ضمائرهم يستر عليهم ويفيض ألطافه مع التناهي ، وينادي كنابه العزيز : « ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ».

__________________

٤) دار السلام للنوري ج٢ ص٣٣٨.

٥) تقدم في الأبحاث السابقة رد سعد على معاوية لما أراد منه أن يسب عليا.

١٤٥

ولمّا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربه جل شأنه أن لا يحاسب أمته بحضرة الملائكة والأنبياء فيطلعوا على عيوبهم قال تعالى :

« يا حبيبي أنا ارأف بعبادي منك وإذا كرهت كشف عيوبهم عند غيرك ، فأنا أكره أن أكشفها عند فأحاسبهم وحدي بحيث لا يطلع على عثراتهم غيري (٦) ».

فافشاء السر وإذا عته ممنوع منه سواء كان فيه العيب والنقص على الشخص بخروجه عن قانون الشريعة أو لم يكن فيه العيب ؛ لأن في غذاعة السر إيذاء له وهتكا لحرمته وخيانة لما استودع له ، فإن الحديث بين الناس أمانة. (٧) غذا فهو محرم بجميع أقسامه سواء كان بالغيبة أو النميمة أو بالإفضاء لمن لا يرضى صاحب السر عليه غيره لكونه إيذا له ، فلا يوصف به مؤمن فاضل ، ولا انسان كامل إلا من ضربت الخسة في عنصره ، ومدت الدناءة فيه عروقها.

ومن هذا تعرف كيف بلغ اللؤمن ورداءة المنبت بعمر بن سعد حين أفضى بالسر الذي أودعه عنده مسلم بن عقيل ، وذلك أن ابن عقيل طلب من ابن زياد أن يوصي الى بعض قومه ، فأذن له ، فنظر الى الجلساء فرأى فيهم ابن سعد فقال له : « أن بيني وبينك قرابة ، ولي اليك حاجة ، ويجب عليك نجح حاجتي وهي سر » فأبى أن يمكّنه من ذكرها ، فقال ابن زياد : لا تمتنع من النظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه بحيث يراهما ابن زياد فأوصاه مسلم عليه‌السلام أن يقضي من ثمن سيفه ودرعه ، دينا استدانه منذ دخل الكوفة يبلغ ستمائة درهم (٨) ، وأن يستوهب جثّته من ابن زياد ، ويدفنها ، وأن يكتب الى الحسين بخبره.

فأفشى ابن سعد جميع ذلك الى ابن زياد فقال ابن زياد : لا يخونك الأمي ولكن قد يؤتمن الخائن (٩).

لم يفت مسلما ما عليه ابن سعد من لؤم العنصر ، وأنه سيفشي بسره بين الملأ ،

__________________

٦) جامع السعادات ص٣٣٩ طبع إيران.

٧) المصدر ص٣٤٠.

٨) في الأخبار الطوال ص٢٤١ يبلغ ألف درهم ، وفي تاريخ الطبري ج٦ ص٢١٢ يبلغ سبعمائة درهم.

٩) الإرشاد.

١٤٦

لكنه اراد تعريف الكوفيين بأن هذا الذي يعدون من كبرائهم ويتبجح بأن أباه فاتح البلاد هذا حده من المروءة ، وموقفه من الحفاظ فلا يغتر به أحد إذا تحيّز الى فئة أو جنح الى جانب ، فأنه لا يهوى إلا مثله.

وهناك دقيقة اخرى لاحظها مسلم في هذه الوصية ، وهي الإرشاد الى أنه ومن يعقبه منالرهط الهاشمي لم يقصد هذا المصر لاستنزاف أموالهم ، وإنما جاؤا منقذين وملبّين لدعوتهم ، ونشر الإصلاح فيهم ، وأول شاهد على ذلك أنه أيام إقامته بالكوفة لم يمدّ يده الى بيت المال على أنه جاء واليا يتصرف كيف شاء وتحت يده ما يجمع من المال إلا أنه قضى أيامه البالغة أربع وستين يوما بالإستدانة ، وهكذا ينبغي أن يسير أولياء الأمور فلا يتخذون مال الفقراء مغنما ، وأين من يفقه هذه الأسرار؟

الشهادة :

لمّا أكثر مسلم عليه‌السلام من الطعن على ابن زياد في حسبه ونسبه أمر رجلا شاميا (١٠) أن يصعده الى أعلا القصر ، ويشرف به على موضع الجزّارين (١١) ، ويضرب عنقه ، ويرمي بجسده ورأسه الى الأرض. فأصعده الشامي ، ومسلم يسبّح الله ويكبّره ويستغفره ويقول :

« اللهم أحكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا (١٢) »

ثم صلى ركعتين (١٣) وتوجه نحو المدينة وسلم على الحسين (١٤) فضرب الرجل عنقه ورمى بجسده الى الأرض كما أمره ابن زياد (١٥) ونزل مذعورا فسأله ابن زياد عما دهاه قال : رأيت ساعة قتله رجلا أسود سيّء الوجه حذائي عاضّا على اصبعه ، فقال له : لعلك دهشت! (١٦) قصدا لتعمية الأمر على الجالسين حوله لئلا يفشوا الخبر فتزداد عقيدة الناس

__________________

١٠) مقتل الخوارزمي. ومنه يعرف الإضطراب في نقل ابن جرير فإنه نص على أن بكير الأحمري هو الذي أصعده الى أعلا القصر ، وقبل هذا ذكر أن مسلما ضربه على عاتقه حتى كاذت أن تطلع الى جوفه ، ومثل هذا الجريح هل يستطيع القيام بقتله.

١١) في ارشاد الشيخ المفيد موضع الحذائين.

١٢) الطبري ج٦ ص٢١٣.

١٣) رياض المصائب ص٦٨.

١٤) أسرار الشهادة ص٢٥٨.

١٥) ابن الأثير ج٤ ص١٥.

١٦) اللهوف لابن طاووس ص٣١.

١٤٧

بداعية الحسين عليه‌السلام ، ولعل الأمر ينتكث عليه لأن النفوس متكهربة بولائهم ولهم العقيدة الراسخة بفضلهم الكثار.

وهنا نقل آخر في قتله أنه دفعه الى الأرض على أمّ رأسه فتكسّر وكانت فيها شهادته ، (١٧) ولأنفراد ناقله ونص المورخين على الأول مما يبعّده.

ثم أمر ابن زياد بهاني بن عروة فأخرج مكتوفا الى مكان من السوق يباع فيه الغنم فنادى :

« وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، وامذحجاه ولامذحج لي اليوم. »

فلما رأى أن أحدا لا ينصره انتزع يده من الكتاف ونادى :

« ألا عصا أو سكّين أو عظم أو حجر يذبّ به رجل عن نفسه. »

فوثبوا عليه وأوثقوه كتافا فقيل له : مدّ عنقك قال :

« ما أنا بسخيّ بها ولا معينكم على نفسي! »

فضربه رشيد مولى لابن زياد تركي فلم تعمل فيه فقال هاني :

« الى الله المعاد ، اللهم الى رحمتك ورضوانك. »

ثم ضربه أخرى فقتله.

وهذا العبد رآه عبدالرحمن بن حصين المرادي مع ابن زياد في وقعة « الخازر » فثأر بهاني وحمل عليه بالرمح فقتله (١٨).

__________________

١٧) تظلّم الزهراء ص٢٦٨.

١٨) الطبري ج٦ ص٢١٤.

١٤٨

بعد الشهادة

غير خاف أن الغاية العقلية من الحرب والقتل ، محصورة بكف ضرر المودّى به ، واتّقاء شرّه ، والتقصير من مدى تأهبّه لايذاء المقاتل ، ونصب العراقيل دون مسعاه ، فمتى غلب عليه بازهاق نفسه أمن القاتل من بلواه ، واطمأن مما كان يحذر منه ، وحينئذ تكون الزيادة على القتل بالهتك والمثلة ، خروج عن ناموس المروءة والعاطفة البشرية ، ولا يأتي به إلا من كان دنيّ الأصل لئيم العنصر ؛ لأن الضرورات تقدّر بقدرها ولا شيء أوفى لقمع الخطر والضرر من القتل ، إذا فالزيادة مذمومة عند العقلاء ، مبغوضة عند الشارع حتى في الحيوانات ، ففي حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور »

بل جاء النثي عن ضرب وجه الدابة لكون الزجر يحصل بما دونه.

ولذلك لم يذكر أحد من المؤرخين أن النبي في مغزيه مثّل بالمشركين ولما تمكّن أميرالمؤمنين عليه‌السلام من عمرو بن عبدود لم يمثّل به كما لم يسلبه مع ما عليه من الكفر والإلحاد ، وفي وصيته للحسن عليه‌السلام لما ضربه ابن ملجم :

« ولئن قتلت فضربة مكان ضربة ، ولئن عفوت فأنت ولي الدم ، ولا تمثّلنّ بالرجل ؛ فإني سمعت رسول الله يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور! »

هذه وصايا الشريعة المطهرة باحترام الميت ولكن هل من مسلم يفقه هذه الدرر

__________________

١) كتاب سليم الهلاليّ.

١٤٩

الثمينة. والعجب ممن يتسنّم منبر الدعوة الإلهية ثم يمشي مترددا في حنادس الظلم ما شاء له الهوى ، ولا عجب من الامويين وعمالهم إذا خالفوا قوانين الإسلام ، فإنهم متى أسلموا ليهتدوا ، وإنما استسلموا فرقا من البوار أو تحكما في الأموال والنفوس.

وليس بالغريب إذا أمر ابن زياد بسحب مسلم وهاني من أرجلهما في الأسواق (٢) ، ثم صلبهما في الكناسة منكوسين (٣) ، وأنفذ الرأسين الى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حية الوداعي والزبير بن الأروح التميمي وكتب معهما :

أما بعد فالحمدلله الذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقه ، وكفاه مؤنة عدوه وأخبر أميرالمؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ الى دار هاني بن عروة المرادي ، وإني جعلت عليهم العيون ودسست اليهما الرجال ، وكدتهما حتى استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما وضربت عنقيهما ، وبعثت اليك برأسيهما مع هاني بن أبي حية الوداعي ، والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، فليسألهما أميرالمؤمنين عما أحب من أمر فإن عندهما علما وصدقا وفهما وورعا ، والسلام.

فكتب اليه يزيد :

أما بعد فإنك لم تعد أن كنت كما أحب عملت عمل الحازم ، وصُلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك ورأيي فيك ، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما ، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيرا ، وانه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح واحترس على الظن وخُذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك ، واكتب إليّ في كل ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك (٤).

ثم أمر يزيد بالرأسين فنصبهما في درب من دروب دمشق (٥).

__________________

٢) المنتخب للطريحي.

٣) ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٢.

٤) الطبري ج٦ ص٢١٤.

٥) مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٢.

١٥٠

تاريخ الشهادة

الأقوال في يوم شهادة مسلم عليه‌السلام على ثلاثة :

( الأول ) يوم الثالث من ذي الحجة سنة ستين ؛ نص عليه أبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ص٢٤٢ ، ويظهر من ابن طاووس الموافقة له فإنه قال في اللهوف ص٣٣ طبعة صيدا : توجه الحسين من مكة يوم الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجة ، وقال بعد ذلك : كان خروجه من مكة في اليوم الذي قتل فيه مسلم.

( الثاني ) يوم الثامن من ذي الحجة ؛ قال بن الوطواط في غرر الخصائص ص٢١٠ وهو الظاهر من تذكرة الخواص ص١٣٩ وتاريخ أبي الفدا ج١ ص١٩٠ قالا : قتل مسلم لثمان مضين من ذي الحجة ، وتذكير العدد يراد منه الليلة لنص أهل العربية أن العدد يذكّر مع المؤنث ويؤنّث مع المذكّر.

( الثالث ) يوم عرفة ؛ نص عليه المفيد في الإرشاد ، والكفعمي في المصباح ، والمجلسي في مزار البحار ص٩٩ وهو الظاهر من ابن نما في مثير الأحزان ، وتاريخ الطبري ج٦ ص٢١٥ ، ومروج الذهب ج٢ ص٩٠. قالوا : وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثامن من ذي الحجة والمفروض أنه قُتل في ثاني يوم خروجه.

وحكى المسعودي قولا في مروج الذهب أنه خرج يوم التاسع من ذي الحجة واذا كان قتله في ثاني يوم خروجه تكون شهادته يوم الأضحى.

وعلى كل فمدة بقائه بالكوفة أربع وستين يوما تقريبا ، لأنه كما مر عليك دخل الكوفة في الخامس من شهر الشوال.

١٥١
١٥٢

المرقد الأخير

لقد عرف الناس مسلم بن عقيل عليه‌السلام في بيته وحسبه ومروءته وفضائله منذ عهد الصبا الى أن بلغ مبالغ الرجال المحنّكين ، وقد وعوا كلمة الحسين عليه‌السلام في صكّ ولايته لكن ابن مرجانة من جراء ما تردى به من لؤم العنصر ، وخبث المنبت ، ودعارة الطبع حسب أنه سوف يحط شيئا من كرامته الصوريّة عساه يتوصل به الى تحطيم مبدئه ، وإخماد ذكره ، فأمر بمسلم وهاني بعد القتل أن يُسحبا من أرجلهما في الأسواق والجواد قضية لؤم الغلبة ودناءة المحتد ، وبعد أن بلغ الغاية فيما حسب ، أمر بدفنهما بالقرب من « دار الإمارة » لتستمر رقابة الشرطة عليهما فلا يقصدهما أحد بالزيارة ، ولا يحضر هناك مؤبّن لهما ولا تلم بهما النوادب لأنه يعلم أن الكوفة بطبعها الأولي علويّة الرأي على العكس من البصرة والشام فإن الاولى عثمانية والثانية أموية.

والكوفة وان تأثرت بالسياسات الزمنية لكنها في نفس الحالة قد تراجعها نفسها بمرتكزاتها الاولية فيعروها الندم فتتحول تلكم الهواجس ندبا وتأبينا ويتسبب منهما فك عرى الطاعة للسلطان ، ويعود القبول فيما ارتكبه « الوالي » هياجا في الأفئدة وحراب وجلادا فينتقض فتله ويتلاشى كل ما دبره من إطفاء النائرة والحصول على الغاية.

ولقد خاب الدعي وفشل لئن أخمد فورة مسلم أوقل ونهضة سيد الشهداء فيما زعم ذلك اليوم ولم يقف في وجه المنكر الذي ارتكبه أيّ أحد غير العقيلة زينب وبنات أميرالمؤمنين عليه‌السلام فلقد وافاه المستقبل بما كشف عن بوادره وبوار من دعا اليه من

١٥٣

طواغيت الشام يوم قام التوابون في وجهه ، ويوم وثبة غلام ثقيف الذي أخبر سيد الشهداء يوم الطف عنه إذ قال : « وكأني بغلام ثقيف يسقيكم كأسا مصبرة » فأجهزت عليه ضربة ابن الأشتر وألحقته بأميره الذي دعا إليه.

وان ما ذكرناه من الهاجسة التي حسب لها الوالي حسابه ولها وضع القبرين بالقرب من قصره شيء مطّرد عنه الولاة والحكام فإنهم لايدعون أحدا يقرب ممن نكّلوا بهم إذا كان لهم شأن بين الأمة حذرا من تأثر النفوس واحتدام القلوب بتذكّر ما جرى عليهم فتثور العواطف وتصبح الحالة مضطربة من جميع جهاتها.

ويشهد لذلك حديث الحسين بن بنت أبي حمزة الثمالي فإنه يعطينا صورة واضحة عما عليه الأمويون من الجد في منع الناس من اتيان قبر الحسين ، ولو لم يكن السبب الوحيد ما أشرنا اليه من خوف الأمراء من اضطراب الحالة عليهم وهياج الأمة عندما يتذكّرون الفوادح الجارية عليه وإلا فأين الحسين واين خلافة المروانيين.

قال الحسين :

خرجت في آخر دولة بني مروان الى زيارة الحسين عليه‌السلام مستخفيا من أهل الشام ولما وصلت كربلاء وأردت الدخول على القبر خرج إليّ رجل ومنعني منه فقلت : يا هذا لا تحل بيني وبين القبر فغني أخاف إذا طلع الصبح يقتلوني أهل الشام فقال الرجل : ان موسى بن عمران استأذن ربه في سبعين ألفا من الملائكة لزيارة الحسين فهم من أول الليل الى طلوع الفجر ، وبعد الفجر جئت الى الزيارة فلم أر أحدا (١).

وجاء دور الرشيد فزاد على ما عليه المروانيون فإنه قطع السدرة التي هي عند قبر الحسين والزوار يستظلون تحتها وقد لعن النبي قاطع السدرة ثلاث مرات ، فلم يفهم الناس معنى الحديث الى أن قطعها الرشيد (٢).

وحديث المتوكل العباسي متواتر عند المؤرخين فقد وضع المسالح لذلك وفي سنة ٢٤٧ أرسل قائدا ومعه جند لمنع الناس من اتيان قبر الحسين فرأى خلقا مجتمعين عنده و

__________________

١) كامل الزيارة ص١١١.

٢) أمالي ابن الشيخ الطوسي.

١٥٤

لهم سوق كبير فنادى : برئت الذمة ممن بقى هنا ؛ فتفرق الناس ، وفي هذه السنة أجرى الماء على القبر لاطفاء نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، فحار الماء واستدار على قبل المنحور على مجزرة الدعوة الإلهية ممنوعا من الورود.

وهذا كله حذرا على الدست الذي اغتصبوه من آل رسول الله ، فإنهم علموا أن ذلك الاجتماع يوجب التعريف بمبدأ الحسين وسلفه أما بكلمة تلقى أو قريض يرتل ، أو انشودة يصدح بها ، أو نوادب تجيش الأفئدة وتستفزّ الحلوم ، وفي خلال ذلك يعرف فضل العترة الطاهرة ، ووصايا الرسول بهم وأوامره بالأخذ بحجزتهم ، والتنديد بظالمهم ، والبراءة منهم ، فيعتكر حينئذ صفو الخلفاء ، ويقلقجوّهم الهادئ وربما تكلّفهم الحالة مقاسات معارك دامية.

هكذا صوّرت لهم أحلامهم وما صوّرت إلا حقيقة ناصعة كفلق الصباح فمنعوا الناس من المثول في « مجزرة الحقائق » ومشهد الطف.

لكن شيعة الحسين من ناحية تحفّظهم على المبدأ القويم ، وتهالكم في القيام بوصايا النبي بآله الأطهرين ، وظنوا أنفسهم على كل ما يجري عليهم من القتل ، وقطع الأيدي ، الارهاب دون مقصدهم الراقي ، وضالتهم المنشودة ، فلم يتركوا المثول عند المرقد الأقدس.

وقد روى الشيخ الطوسي في « الأمالي » : ان في سنة ٢٣٧ أنفذ المتوكل قائدا من قوّاده ، ومعه جند يمنع الزائرين ، فرأى خلقا كثيرا ، وثار اليه الناس وقالوا : لو قتلتنا بأجمعنا لما أمسك من بقى منا زيارته ، فكتب بذلك الى المتوكل فأمره بالكف عنهم مخافة أن يتسبّب ما لا يحمد عقباه.

ثم أن الشيعة لم يقتصروا على أداء حق الحسين في الزيارة فقط ، بل طفقوا يعقدون الأندية والمحتشدات سرية وعلنية حسب مقتضيات الظروف والأحوال لتذكّر ما جرى على آل الرسالة من القساوة الشائنة فلاقوا من أعدائهم القتل والنهب والحرق ، فلم يبالوا بكل ذلك حتى تسنى لهم الحصول على طلبتهم من تدمير صروح النعرة الأموية في شتى الوسائل.

ثم لاتزال الشيعة يكثر عددها ، ويقوى أمرها حتى جاء منهم ملوك ووزراء وولاة وعلماء مجاهدون ، فتفننوا في توسيع دائرة الذكريات الى حفلات تعقد في الأفراح والأحزان ، ومواكب تجول في الطرقات فيها تمثيل تلك المأسات الدامية الى أن نمت بذرة

١٥٥

الحق فأثمرت الولاء الأكيد لأهل البيت وفي القولب عداء محتدم للأمويين نسبا ومذهبا ، فنسيتهم الأمة إلا عند كل سبة ، فكأن وعاء الدهر لم يقل منهم أحدا أو أنهم حديث أمس الدابر.

وهذا الذي ذكرناه في دفن مسلم وهاني حول القصر اعتبار لم يبعد عن الحقيقة ، ولسنا نعتمد عليه فقط في إتيان هذا المشهد المطهر ، وإنما المستند الوحيد هو سيرة العلماء والصلحاء ، والشيعة عامة المتصلة بزمان المعصومين في المثول بهذا الموضع المقدس الذي لم تزل الكرامات تصدر ممن ثوى فيه ، فلم يؤمّه مريض إلا عوفي ولا طالب حاجة إلا قضيت ، ولا تجرأ عليه متمرد باليمين الكاذبة إلا عاد بالخيبة والخسران وهذه السيرة دليل قطعي في كل مشهد ولولاها فأي مشهد يمكننا تعيينه من دون نقاش.

١٥٦

زوجاته وأولاده

تزوج مسلم عليه‌السلام رقية بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام فولدت له عبدالله وعليا (١) ، ومحمد من أم ولد (٢) ، وأما مسلم وعبدالعزيز لم يعيّن ابن قتيبة أمهما ، وله بنت اسمها حميدة أمها أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين (٣) ، وحيث لا يصح الجمع بن الاختين فلابد من فراق احداهما أو موتها ، وتزوج حميدة ابن عمها وابن خالتها عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، وأمه زينب الصغرى بنت أميرالمؤمنين ، وكان شيخا جليلا محدثا فقيها عده الشيخ الطوسي من رجال الامام الصادق عليه‌السلام وجزم الترمذي بصدقه ووثاقته ، وخرّج حديثه في جامعه ، كما احتج به أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وابن ماجة القزويني مات سنة ١٤٢ (٤) وولدت حميدة محمدا أعقب من خمسة القاسم وعقيل وعلي وطاهر وابراهيم(٥).

فأولاد مسلم الذكور خمسة ؛ عبدالله ومحمد استشهدا يوم الطف ، واثنان قتلا بالكوفة ، ولم نقف على شيء من أمر الخامس.

وكان من حديث المقتولين بالكوفة ما يحدث به الشيخ الصدوق عن رجاله قال : اسر طفلان من عسكر الحسين ، فجيء بهما الى ابن زياد ، فدفعهما الى رجل ، وأوصاه

__________________

١) المعارف ص٨٨.

٢) مقاتل أبي الفرج ص٣٧ ط ايران.

٣) عمدة الطالب ص١٦ ط نجف.

٤) تهذيب التهذيب ج٦ ص١٥.

٥) عمدة الطالب ص١٧.

١٥٧

بالتضييق عليهما حتى في الطعام والشراب ، فمكثا في الحبس سنة فقال أحدهما للآخر : لقد طال الحبس بنا ويوشك أن تفنى أعمارنا ، فاذا جاء الشيخ ، فأعلمه بمكاننا من رسول الله لعله يوسّع علينا.

ولما جاء الرجل سألاه هل تعرف محمد بن عبدالله؟ قال : هو نبيي. ثم سألاه عن جعفر الطيار ، قال : إنه الذي أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة. فسألاه عن علي بن أبي طالب ، قال : إنه ابن عم رسول الله.

فقالا له : نحن من عترة رسول الله نبيك ، ومن أولاد مسلم بن عقيل وقد ضيّقت علينا حتى في الطعام والشراب.

فانكبّ الرجل عليهما يقبّلهما ، ويعتذر من التقصير معهما مع مالهما من المنزلة من رسول الله ، ثم قال لهما : اذا جنّ الليل أفتح لكما باب السجن ، وخذا أيّ طريق شئتما ، ولما أن جاء الليل أخرجهما وقال : سيرا في الليل ، واكمنا في النهار حتى يجعل الله لكما من أمره فرجا.

فهرب الغلامان ، ولما أن جن عليهما الليل انتهيا الى عجوز كانت واقفة على باب دارها تنتظر ختنا لها ، فوقفا عليها وعرفاها بأنهما غريبان من عترة رسول الله لا يهتديان الى الطريق واستضافاها سواد هذه الليلة.

فأدخلتهما البيت وقدّمت لهما الطعام والشراب فأكلام وشربا وباتا راجيين للسلامة ، واعتنق أحدهما الآخر وناما ، وفي تلك الليلة أقبل ختن العجوز وقد أجهده الطلب للغلامين وقص على العجوز هرب الغلامين من سجن ابن زياد ، وانه نادى عسكره من أتاه برأسيهما فله ألفا درهم.

فحذّرته العجوز من العذاب الأليم ، ومخاصمة جدهما محمد ، وأنه لافائدة في دنيا ولاآخرة معها ، فارتاب الرجل من هذا الوعظ ، وظن الغلامين عندها ، ولما ألح على أن تخبره بما عندها وهي كاتمة عليه أمرهما أخذ يفحص البيت عنهما فوجدهما نائمين ، فقال لهما : من أنتما؟ قالا : إن صدقناك فلنا الأمان؟ قال : نعم ، فأخذا عليه أمان الله وأمان رسوله ثم جعلا الله عليه شهيدا ووكيلا فأوقفاه على حالهما.

وعند الصباح أمر غلاما له أسود أن يأخذهما الى شاطئ الفرات ويذبحهما ويأتيه برأسيهما.

فلما أخذهما الغلام قالا له : يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول

١٥٨

الله أتقتلنا ونحن عترة نبيك ، وقصّا عليه قصّتهما في السجن وما لاقياه من النصب حتى أضافتهما العجوز.

فرقّ الغلام لهما واعتذر منهما ورمى السيف وألقى نفسه في الفرات وعبر الى الجانب الآخر فصاح به مولاه : عصيتني؟ فأجابه : أنا في طاعتك ما دمت لا تعصي الله فاذا عصيت الله فأنا بريء منك.

فلم يتّعظ الرجل ولا رقّت لهما بل دعا ابنه وقال له : إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك ، والدنيا محرص عليها فاضرب عنقي الغلامين لأحضى برأسيهما عند ابن زياد ، ولما وقف عليهما الولد قالا له : يا شاب أما تخاف على شبابك من نار جهنم ونحن عترة رسول الله محمد. فرقّ الولد لهما وفعل مثل العبد.

فقال الرجل : أنا أتولى ذبحكما ، فقالا له الغلامان : إن كنت تريد الال فانطلق الى السوق وبعنا ولا تكن ممن يخاصمك محمد في عترته ، فما ارعوى عن غيّة ، قالا له : انطلق بنا الى ابن زياد ليرى فينا رأيه ، فأبى. قالا : ألم ترع حرمة رسول الله في آله ، فأنكر قرابتهما من النبي ، فاستعطفاه لصغر سنهما فلم يرقّ قلبه.

فطلبا منه أن يصليا لربهما سبحانه فقال : صليا إن نفعتكما الصلاة ، وبعد أن فرغا رفعا أيديهما الى الله سبحانه وهما يقولان : يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين إحكم بيننا وبينه بالحق.

فقدّم الأكبر وذبحه فتمرّغ الأصغر بدمه وقال : هكذا ألقى رسول الله وأنا مخضّب بدم أخي ، ثم ضرب عنقه ورمى ببدنهما في الفرات وأقبل بالرأسين الى ابن زياد وقصّ عليه ما شاهده منهما.

فاستجاب الله تعالى دعاءهما وحرمه الدنيا والآخرة إذ قال ابن زياد له : إن أحكم الحاكمين حكم بقتلك ، وأمر به فأخذ الى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فضربت عنقه ونصب رأسه على قناة والصبيان يرمونه بالحجارة ويقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله (٦).

وحكى في رياض الأحزان ص٣ عن المناقب أنهما من ولد جعفر الطيار اسم أحدهما محمد والآخر ابراهيم.

__________________

٦) أمالي الصدوق ص٥١ مجلس ١٩.

١٥٩

وانّ السيرة بين الشيعة على المثول بمشهدهما الواقع بالقرب من « المسيب » تفيد القطع به ، وبناء على ما أفادته الرواية من القاء بدنهما في الفرات يكون هذا الموضع أما محل القتل وأما انهما فدفنا هناك.

والتأمل في الرواية يفيد بأنهما لم يأتيا دار العجوز في الليلة التي هربا فيها من السجن ، فإن غاية ما تنص عليه أن ختن العجوز قال لها : ان ابن زياد نادى في عسكره يهرب الغلامين ، وجعل لمن أتاه برأسيهما ألفي درهم ، وقطعا لم يعلم ابن زياد يهربهما في تلك الليلة فلابد أن يكون في صاحبها ، كما لم يعلم مجيء ختن العجوز الى الدار هل هو في الليلة الثانية أو بعدها لأنه كان بصدد التفتيش عنهما ، فالتشكيك في الرواية من جهة بعد الموضع الذي قتلا فيه عن الكوفة التي هي محل حبسهما إنما يتجه لو فرض قبض الرجل عليهما في الليلة التي هربا فيها ، وأما احتمال عثوره عليهما فيما بعها بأكثر فلا.

ثم أن الرواية لم تنص أيضا على كون الحبس في نفس البلد فاحتمال بعض العلماء على أن يكون ابن زياد دفعهما الى الرجل على أن يحبسهما ولو في بيته الخارج عن الكوفة وانه لم يكن بعيدا عن موضع قتلهما بكثير متجه.

ولو انا ماشينا من ينكر هذه الرواية لبعض الاحتمالات فلا نوافقه على الإلتزام ببطلان نسبة هذا المشهد الى ولدي مسلم عليه‌السلام ، فإن سيرة الشيعة ، والشهرة بينهم تحقق كون المشهد المعروف لولدي مسلم على الاجمال ولم يحصل الشك في أدوارهم اتباعا للخلف على طريقة السلف حتى كثرت زرافات الزائرين لهما تقربا الى الله تعالى مع النذور المهداة إليهما ، والعمارة المتجددة حول القبرين على نحو غير واحد من المشاهد المحقق ثبوتها ، وكل هذا بمشهد من العلماء فلا يعتنى حينئذ بمن تأخذه الوسوسة الى مناحي ممقوتة كما هو شأنه في جملة من المظاهر والمشاعر.

١٦٠