الشّهيد مسلم بن عقيل عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

ومرّت سنة مجدبة على بني تيم الله بن ثعلبة فقصد جماعة منهم وهم مالك وعامر وحليحة مجاورة « بدر بن حمران الضبي » فوق لهم حتى أحيوا ورجعوا مسرورين الى وطنهم مكرمين ، وقصد جماعة منهم « مساورا » فجعل يفخر بنسائهم فقال بدر بن حمران :

وفيتُ وفاء لم ير الناس مثله

بتعشار إذ تحنو إليّ الأكابـر

ومن يك مبنيا به عـرس جـاره

فإني امرؤ عن عرس جاري جافر

واستجار امرؤ القيس بن حجر الكندي بعامر بن جوين الطائي ثم الجرمي ، فقبّل عامر امرأة امرئ القيس فأعلمته بذلك فارتحل عنه ، واستجار « بأبي حنبل جارية بن مر الطائي ثم الثعلبي » فلم يصادفه فقال له ابن جارية : أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل يعني أباه فرضي امرؤ القيس وتحول إليه ، ولما قدم أبو حنبل رأى كثرة اموال امرئ القيس ، وأعمله ابنه بما شرط له في الجوار فاستشار أهله بذلك فقالوا له : لا ذمة له عندك ، فخرج أبو حنبل الى الوادي ونادى : ألا ان أبا حنبل غادر ، فأجابه الصدى من الجبل بذلك ، ثم نادى : ألا ان أبا حنبل واف ، وأجابه الصدى بذلك ، فقال : الثانية أحسن ثم أتى منزله وحلب جذعة من غنم امرئ القيس وشرب لبنها ومسح بطنه وقال : « اغدر وقد كفاني لبن جذعة » ثم قال :

لقد آليت أغدر في جـذاع

ولو منّيت أمت الربـاع

لان الغدر في الأقوام عار

وان اُلحر يجزأ بالكـراع

ثم عقد له وأعلمه امرؤ القيس فعلة عامر بن جوين بامرأته ، فركب أبو حنبل في أسرته حتى أتى منزل عامر بن جوين ومعه امرؤ القيس فقال له : قبّل امرأة عامر كما قبّل امرأتك ، ففعل (٣٩).

الى غير ذلك من قضاياهم الكثيرة في حفظ الجوار وحماية النزيل ، ولا يشفقون في الدفاع عمن استجار بهم وان كان فيه ذهاب أنفسهم وعشائرهم وأموالهم أو يحصلون على أغراضهم.

وقد جاءت الشريعة المطهرة الحافلة بمكارم الأخلاق الحاثة على السلام والوئام فأقرت تلك الفضيلة ، وأدخلت التحسينات فيها حتى أجازت الإجارة للمشركين قصدا للتأليف ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : « وان أحد من المشركين استجارك فأجره » فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم » وفسّره

__________________

٣٩) هذه القضايا في المحبر لابن حبيب ص٣٤٨ الى ص٣٥٥.

١٢١

الامام الصادق عليه‌السلام بأن جيش المسلمين اذا حاصر قوما من المشركين فأشرف رجل وقال : اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم واناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به (٤٠).

وقام الأئمة من أبنائه عليه‌السلام بالمحافظة على هذه النواميس التي فيها الإبقاء على الجامعة ، فما زالوا يوصون شيعتهم بحرمة الجوار وان كان المجير عبدا أو امرأة ، وتناهوا فيه حتى عدّوا الإيماء بالأمان لازم الوفاء به ، وان من أعطى الأمان بأي لغة فلا تخفر ذمته ووجب الوفاء به (٤١).

وانت اذا عرفت ما هتفت به العادة من حُسن حماية الجوار والذبّ عن النزيل ، وما أيّته الشريعة الإلهية تعرف أن ما قام به « هاني بن عروة » من هذه المأثرة في حماية ابن عقيل عليه‌السلام واجارته مما يمدح عليه في حد ذاته ، لكن في الحقيقة ان ما قام به « هاني » منبعث عما هو أرقى من تلك الناحية وهو جهة دينية وعقيدة راسخة بأن الحسين عليه‌السلام هو الإمام المفترض طاعته ، وحيث ان « مسلما » ممثل حجة الله على الخلق كان الواجب الأخذ بعضده والدفاع عنه ، وكلاءته عن عادية الشقي وأنه من أداء أجر الرسالة.

وان صبّه في مجلس ابن زياد في قالب التقليد والعادة فقال : إني ما دعوته الى منزلي حتى رأيته على باب داري ، وسألني النزول فاستحييت من ردّه ودخلني من ذلك ذمام ، فأدخلته داري وضيّفته وآويته ـ الخ.

فان هانيا لم يسعه في ذلك الموقف الحرج إلا أن يعتذر بما يقتضيه الحفاظ والغيرة. كيف لا وهوبين ناب الدعيّ ومخلبه مغلوب على أمره فحسب أنه سوف يجديه اخفاء أمر مسلم لكنه لم ينتفع بهذه المعاذير بعد قيام « معقل » جاسوس ابن مرجانة ، وقد أعلم ابن زياد بكل ما وقف عليه من أمر مسلم في دار هاني.

وعلى هذا فما ذكره ابن جرير الطبري من قول هاني لمسلم : لقد كلّفتني شططاً ولولا دخولك داري لسألتك الخروج عنّي غير إنّي يأخذني من ذلك ذمام وليس يردّ مثلي على مثلك عن جهل ، ثم آواه ، وكذا ما ذكره من أن هانيا قال لشريك : لا أحبّ أن يقتل

__________________

٤٠) الوسائل ج٢ ص٤٢٥ عين الدولة.

٤١) المستدرك للنوري ج٢ ص٢٥٠.

١٢٢

ابن زياد في داري (٤٢) ، لا يعبؤبه ؛ لأن ولاء هاني لأهل هذا البيت واعتقاده بكون مناصرتهم واجبه الديني لا يرتاب فيه من يقرأ حياته المفعمة بالمآثر والمفاخر.

ومما يشهد له أن هانيا لو كانت اجارته لمسلم لمحض وقوفه على باب داره ودخوله عليه ، فما الذي ألزمه بادخال الشيعة على مسلم وقد اعترف به ابن جرير حيث قال : « وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني بن عروة » (٤٣).

وكان يهيّء له الأمور يدبر الشؤون يرتّب العساكر ويجمع المال والعتاد (٤٤) ، وفي وسعه أن يقول لمسلم : ادخل أنت وحدك ولا تهج عليّ امرا ساكنا ولا يدخل عليك أحد.

ثم أن المؤامرة الواقعة بين شريك الأعور وبين مسلم بالفتك بابن زياد كانت بمشهد من هاني فلم يمنع منها ، حتى أن مسلما لما اعتذر عن الفتك بأن امرأة هاني سألته أن لا يفعله في دارهم ، قال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرت منه وقعت فيه.

أليس هذا يشفّ عن مرضاة هاني بالفتك بابن مرجانة لما رسخ بين جنبيه من وجوب التنكيل بأعداء آل الرسول؟ ومن هنا قال لمسلم : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا (٤٥).

__________________

٤٢) الطبري ج٦ ص٢٠٤ وص٢٠٣.

٤٣) الطبري ج٦ ص٢٠٣ ، والاخبار الطوال ص٢٣٥.

٤٤) الاخبار الطوال ص٢٣٥.

٤٥) تاريخ الطبري ج٦ ص٢٠٤ وابن الأثير ج٤ ص١١.

١٢٣
١٢٤

هاني مع ابن زياد

لما انتقل مسلم الى بيت هاني ، وأخذت الشيعة اليه في هذا البيت (١) على تستر واستخفاء وتواصوا بالكتمان (٢) وخفى على ابن زياد موضع مسلم دعا مولاه « معقلا » وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وذلك بعد موت شريك الأعور ، وأمره أن يلقى الشيعة ويعرّفهم أنه من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري ، وقد أنعم الله عليه بحب أهل هذا البيت وبلغه قدوم رجل منهم داعية للحسين ، وعنده مال يريد أن يوصله إليه.

فدخل « معقل » الجامع الأعظم ، ورأى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة يصلي ، وسمع الناس يقولون : هذا يبايع للحسين ، وأخذ منه البيعة والمواثيق ليناصحنّ ويكتمنّ كي لايفشوا الخبر الى ابن مرجانة.

ثم أدخله على ابن عقيل في دار هاني ، وسلم المال ألى أبي ثمامة الصائدي وكان بصيرا شجاعا ومن وجه الشيعة ، عيّنه مسلم لقبض ما يرد اليه من المال يشتري به سلاحا ، فكان ذلك الرجل يختلف الى مسلم كل يوم فلا يحجب عنه ويتعرّف الأخبار ويرفعها الى ابن زياد عند المساء (٣).

ولما وضح الأمر لابن زياد وعرف أن مسلما مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن

____________

١) الأخبار الطوال ص٢٣٥.

٢) الإرشاد للشيخ المفيد.

٣) الطبري ج٦ ص٢٠٤.

١٢٥

خارجة ، ومحمد بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن انقطاع هاني عنه فقالوا : الشكوى تمنعه ، فلم يقتنع ابن زياد بعد أن أخبرته العيون بجلوسه على باب داره كل عشيّة ، فركب هؤلاء الجماعة الى هاني وسألوه المصير الى السلطان لأن الجفاء لا يحتمله ، وألحّوا عليه فركب بغلته ولما طلع على ابن زياد قال : « اتتك بخائن رجلاه » (٤) والتفت الى شريح القاضي يقول (٥) :

اريد حباءه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد

ثم التفت الى هاني قائلا : أتيت بابن عقيل الى دارك وجمعت له السلاح؟ فأنكر هاني ، ولما كثر الجدال دعا ابن زياد الجاسوس « معقلا » ففهم هاني أن الخبر أتاه من جهته فاعتذر بأنه لم يدعه الى منزله ، وإنما استجار به واستضافه ، والذمام الذي يحمله يأبى له ألا يجير من استجار به ، ثم طلب من ابن زياد أن يمضي الى داره ، ويخرج مسلما منها الى حيث شاء ليخرج بذلك من جواره ولا يكون سُبّة للعرب ، ويعطيه رهنا على ذلك ، فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلا أن يأتيه بمسلم (٦).

ههنا جاهر ابن عروة بعقيدته ، فعرّف ابن مرجانة أن مسلما أحق منه بالأمر ، ولوفاء أبيه زياد ومكافاته في ولده لمعروفه معه يقوم بحمايته ، والدفاع عنه وعن أهله حتى يخرجوا بأموالهم إلى الشام سالمين ، لأن داعية الحسين عليه‌السلام أولى بالقيام على أمر الأمة وادارة شؤونها.

فغضب ابن مرجانة من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأن هذا محال عليه ويأباه دينه وعقيدته فقال في التعبير عنه :

لو كان « ابن عقيل » تحت قدمي لما رفعتهما عنه.

فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل ، فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع « ابن عروة » ثلاثون ألفا ، فقال لابن زياد : إذا تكثر البارقة حولك

فاستدناه ابن زياد وأخذ بظفيرتيه وضربه بالسوط حتى كسر أنفه ونثر لحم

__________________

٤) في مجمع الأمثال للميداني ج١ ص١٩ قاله الحرث بن جبلة الغساني لما ظفر بالحرث بن جبلة العبدي حين هجاه.

٥) في الإصابة ج٣ ص٢٧٤ بترجمة قيس بن الكشوح قاله عمرو بن معديكرب في أبيات في ابن أخته وكانا متباعدين ، وفي الأغاني ج١٤ ص٣٢ : ان أمير المؤمنين عليا تمثّل به لما دخل عليه ابن ملجم يبايعه.

٦) ابن الأثر ج٤ ص١١.

١٢٦

خدّيه وجبينه على لحيته ، وتناول هاني سيف شرطيّ ، ومانعه الرجل فأمر به ابن زياد إلى الحبس ، فأدخل بعض بيوت القصر وجعل عليه حرسيّ.

فقال أسماء بن خارجة : أرسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى اذا أدخلناه عليك هشمت وجهه وأسلت دمه؟ فأمر به ابن زياد أن يخرج من المجلس فأخرجه الشرطة ، ولما رأى ابن الأشعث ذلك قال : ان الأمير مؤدب رضينا برأيه لنا أم علينا.

وبلغ عمرو بن الحجّاج قتل هاني الذي هو صهره على أخته « روعة » وهي أم « يحيى بن هاني » فأقبل في مذحج وأحاط بالقصر فأمر ابن زياد شريح القاضي أن يدخل على هاني ويخبرهم بحياته (٧).

ولما سمع هاني لغط الرجال حول القصر وعرف أنهم مذحج صاح : يا للرجال ، أين عشيرتي ، أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، ألا عشرة من قومي ينقذوني من عدوهم وابن عدوهم؟

ومن يسمع صوته وأين من يبلغهم نداءه ، والخوف على رؤوسهم والطمع مخيّم على نفوسهم؟

نعم دخل قاضي المسلمين « شريح » على هاني ممتثلا أمر ابن زياد وخرج الى القوم يخبرهم بأنه حي ، فهلا مسائل لهذا القاضي المائل عن الحق كيف ساغ له إخفاء استغاثة هاني بقومه وعشيرته؟ وطمن القوم بحياته وسكن فورتهم حتى أزالهم عن القصر ، تهاونه؟ أبالخوف من بادرة ابن مرجانة؟ فهلا ضحى نفسه على تقديره دون مناصرة الحق وأهله وانقاذ المؤمن الاسير من أنياب الطاغية؟ ولماذا كان يدّخر الحياة الذميمة وقد بلغ من الكبر عتيا؟ ومن ذا الذي أخبره أنه لو أصدق القوم في المقال ، وزحفوا على القصر ، وأخرجوا زعيمهم وانتكث الأمر على ابن زياد كان يتمكن الدعيّ من التنكيل به؟ لكنه يتحرّى الحياة مع الظالمين!

ثم ألا مُسائل مذحجا لماذا تجمهروا على القصر ، ولماذا تفرقوا لمحض القول بأنه حي ، فتكون تلك الجلبة واللغط للوقوف على حياته أو مماته بحيث اذا وجدوه ميّتا شيّعوا جنازته ، وان كان حيا تركوه عرضة للذئاب وليست لهم حاجة في انقاذه. إذا فعلى

__________________

٧) الطبري ج٦ ص٢٠٦ ، ولكن في مثير الأحزان واللهوف لابن طاووس اسمها رويحة ، وأنها ابنة عمرو بن الحجاج.

١٢٧

الحفاظ والشهامة السلام.

راية الأمان :

لما رجع ابن الحجاج بمن معه من مذحج ، خرج ابن زياد الى الجامع الأعظم وخطب الناس وقال : اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، ان أخاك من صدّقك وقد أعذر من أنذر. (٨)

وأمر محمد بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، والقعقاع بن شَور الذهلي ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن جريث ، أن يرفعوا راية الأمان ويخذلوا الناس (٩) فأجاب جماعة ممن خيّم الفرق عليهم ، وآخرين جرّهم الطمع الموهوم ، واختفى غيرهم ممن طهرت ضمائرهم وكانوا يترقّبون فتح الأبواب للحملة على صولة الباطل.

__________________

٨) الطبري ج٦ ص٢٠٧.

٩) ابن الأثير ج٤ ص١٢.

١٢٨

نهضة مسلم

كان لنهضة مسلم موعد مضروب بينه وبين الناس ، ولم يزل هو ومن بايعه يتأهبون لذلك الأجل من تعبئة الرجال ، وتهيئة العتاد ، ورسم خطط الحرب الأخذ بالتدابير اللازمة ، غير أن الأمر باغته بالقبض على هاني وهو آخذ بعضده ، وموئل رأيه ، وفي داره قاعدة ولايته ، ومركز سلطته ، فاضطرّت الحالة « مسلما » أن يتعجّل الخروج قبل الأجل مخافة أن يؤخذ غيلة ولعله ينقذ صاحبه من مخلب الظالم وقد أسلمته عشيرته.

وكان رسوله الى القصر عبدالله بن حازم الكبريّ من الأزد من بني كبير (١) ليأتيه بخبرهاني ، فعرّفه حبسه وأن نسوة مراد مجتمعات ينادين واثكلاه واعثرتاه فعندها أمره أن ينادي في أصحابه : « يا منصور أمت » (٢) وقد ملأبهم الدور حوله ، وتنادى أهل الكوفة بذلك الشعار فاجتمع اليه أربعة آلاف فعقد راية لعبيدالله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وأمّره على الخيل ، وراية لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج واسد وأمّره على الرّجالة ، وراية لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وراية للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة.

ثم أقبل مسلم عليه‌السلام بهؤلاء الجمع الى القصر وكان ابن زياد في الجامع الأعظم يخطب الناس فدخلت النظارة المسجد من باب التمارين يهتفون بمجيء ابن عقيل فراع ذلك ابن زياد ، وأسرع الى القصر وأغلق أبوابه.

__________________

١) الطبري ج٦ ص٢٠٨.

٢) منصور رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي يوم بدر وكان شعار المسلمين يا منصور أمت.

١٢٩

واجتمع الناس حتى امتلأ المسجد والسوق منهم وأحاطوا بالقصر وضاق بابن زياد ذرعه إذ لم يكن معه إلا ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه (٣).

فكان أسهل شيء على اولئك الدارعين الا جهاز على ابن مرجانة ومن معه لأول وهلة في طليعة الزحف وفي القوم مساعير للحرب ، ولعل منهم من لا يروعه التقحّم على أولئك النفر المعدودين بالأنامل ولم يكن لابن زياد في ذلك الوقت غير قعقعة الارهاب ، وما أدري كيف انطلت هذه البهرجة على ذوي البصائر بشؤون المصر الواقفين على ما في أرجائه من قلاقل وفي أجوائه من محن وإحن؟

ولكن لا عجب من أذناب الكوفيين إذا مالوا مع عصبة الشيطان بمجرد أن سمعوا ابن لأشعث وحجار بن أبجر وشمر بن ذى الجوشن يمنّونهم العطاء مع الطاعة ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم ، وأشرف عليهم كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب وقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ويفوّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البري بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا ذاق وبال ما جرّت يده (٤).

فطفقق الأخ يخذل أخاه والمرأة تتعلّق بزوجها حتّى يرجع ، والآباء يفصلون أبناءهم عن الجهاد ويحبذون لهم العافية شأن أذناب الناس الدقاق حسباً الضعفاء حلوماً.

فتفرق أولئك الجمع عن مسلم عليه‌السلام حتى لم يبق معه إلا ثلثمائة رجل وصلى العشاء بالمسجد ومعه ثلاثون رجلا وانصرف نجو كندة (٥) ومعه ثلاثة ولم يمض إلا قليلا وإذا لم يشاخد أحدا يدلّه على الطريق فنزل عن فرسه ومشى متلدّدا في أزقة الكوفة (٦) لا يدري إلى أين يتوجّه (٧).

__________________

٣) ابن الاثير ج٤ ص١٢.

٤) الطبري ج٦ ص٢٠٨.

٥) الأخبار الطوال ص٢٤٠.

٦) الشريشيّ في شرح مقامات الحريريّ ج١ ص١٩٢.

٧) اللّهوف لابن طاووس.

١٣٠

انّ من العجيب الغريب أمير مصر يتفرق عنه جنده ، ووالي قارّة أسلمته أنصاره ، لماذا كان ذلك؟ للاوهام والتهافهات ، أو للمطامع الشهوات؟ أين النخوة والحفاط؟ أين الاباء والحمية؟ أيظنون أنهم لو انضووا الى راية الهدى يحرمهم صاحبه الاعطاء؟ أو يضن عليهم بالوظائف؟ أو يقيم الحق بغيرهم؟ لا ها الله ما كان يدّخر الاعطيات إلا لهم ، ولا ينضد الكراسي بمن عداهم ، ولا قيادة الجيوش إلا بهم ، ولو عدلوا لما استلم الحكم سواهم.

لكن خسّة الطباع ولؤم العنصر حالا دون أن يحضوا بالشرف وضاح والسعادة في الدنيا والآخرة فاستمرأوا أجاج الأمويين تحت راية ابن مرجانة ، وتركوا التاريخ يذكرهم منافيات المروءة والحفاظ ولوازم قول الزور وخفر الذمم « ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون ».

خطبة ابن زياد :

لما تفرق الناس عن مسلم عليه‌السلام وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها. فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال الى أن تصل الى صحن الجامع ، وفعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلم يروا لأصحاب ابن عقيل أثرا ، فأعلموا ابن مرجانة فأمر مناديه أن ينادي في الناس ليجتمعوا في المسجد ، ولما امتلأ المسجد بهم رقي المنبر وقال : ان ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقو االله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

الى السجن :

ثم أمر ابن زياد صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتّش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك الذريع اذا أفلت مسلم وخرج من الكوفة (٨).

فقام الحصين بهذه المهمة فبثّ العيون ووضع الحرس على أفواه السكك ، وتتبّع الأشراف الناهظين مع مسلم فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي وعمارة بن

__________________

٨) الطبري ج٦ ص٢٠٩.

١٣١

صلخب الأزدي فحبسهما ثم قتلهما.

وحبس جماعة من الوجوه استيحاشا منهم وكان فيهم المختار الثقفي وعبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب (٩) وقد خرجا لنصرة ابن عقيل ، وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى « لقفا » فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ، ويحمل عبدالله بن الحارث راية حمراء وانتهيا الى باب الفيل (١٠) ووضح لهما قتل مسلم وهاني ، واشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ففعلا وشعد لهما ابن حريث باجتنابهما مسلما عليه‌السلام. فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه وبقيا في السجن الى أن قتل الحسين عليه‌السلام.

ولما أحضر سبي آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجلسه أخرج المختار من الحبس شامتا منه ، وفرحا بما يحبسه من الظفر ، وإذ رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة كادت روحه أن تخرج فيها ، ولم يثن هذا من عزمه ولا أوهن من عقيدته ، فأغلظ لابن زياد في كلام جرى بينهما (١١) وعرّفه بالعقيدة التي يحملها من مصدر وثيق بأن ايامه عدد ومُلكه بدد وسيلقى خزيا وبوارا يكون ذلك على يده.

فاضحك ابن زياد هذا النبأ من أسير تحت قبضته ، وليس له مساعد له يحذر سطوته خصوصا يرى أعناق الأشراف ذللا نحوه وقد ملأ السجن بمن يتحفّز لنخوته ، فأرجعه الى السجن ولم يطلق سراحه إلا بشفاعة عبدالله بن عمر بن الخطاب عند يزيد لاقترانه من « صفية » ابنة أبي عبيد الثقفي أخت المختار.

ولما خطب ابن زياد بعد قتل ابن عفيف الأزدي ونال من أمير المؤمنين بحضرة اولئك الأجلاف من الكوفيين ، ولم يلق منهم رادا عليه غير المختار ، فقد ثار في وجهه شاتما ومعرّفا بأن اللصيق لم يستحق من الإمارة موطأ قدم وان أهلها العاملون بالحق السالكون بالأمة طريق الجد المهذّبون المرشدون كابن عقيل ومن حذا حذوه من أهل هذا البيت الطاهر.

فأمر ابن مرجانة بقتله غير أن عمر بن سعد تشفّع فيه لأنه كان صهره على أخته ، أولدت له حفصا ، فأرجعه الى السجن ثم تشفع فيه ثانيا عبدالله بن عمر عند

__________________

٩) المصدر ، ص٢٠٨ وص٢١٤ وص٢١٥.

١٠) أنساب الأشراف للبلاذري ج٥ ص٢١٥.

١١) رياض الأحزان ص٥٢ عن روضة الشهداء.

١٣٢

يزيد فكتب الى ابن زياد يأمره باطلاقه فأخرجه من السجن على أن لا يساكنه في البلد (١٢).

__________________

١٢) المصدر ص٥٨ عن روضة الصفا.

١٣٣
١٣٤

في بيت طوعة

لقد كان في الكوفة ممن تحلى بسمات الرجال المهذبين الذين لم تلم بساحتهم أي لائمة ولا توجهت اليهم مغبّة ، وأنه ذلك الانسان الواحد الحاوي للشرف المعلى والذكر الخالد والثناء الجميل ، وحضى بالرضوان مع حبيب الله وخاتم رسله ، ألا وهي « طوعة ».

ولو كنا النساء كمـن ذكرنـا

لفضّلت النساء علـى الرجال

فلا التأنيث باسم الشمس عيب

ولا التذكير فخـر للهلال

أصحيح أن امرأة تفوق الرجال في الفضائل والفواضل؟ نعم أن ذلك لما أجنته في أضالعها من طهارة النفس ، وشرف المنبت والولاء الصحيح لأهل هذا البيت ، فقامت بما يرضى الله ، ورسوله ويحبذه الشرف والإنسانية ، ويدعو إليه الخطر ، والناس يتمايزون بالنفسيات الكريمة والغرائز الطيبة والعمل الصالح.

وماذا على « طوعة » وقد طاوعتها نفسها على متابعة العقل واقتصاص أثر الدين وأداء أجر الرسالة بايواء ابن عم سيد الشهداء وممثله الفذ ، فتحلّت بما فتحلّت بما تخلّى عنه ذووالهمم القاصرة والنفوس الضعيفة والحلوم الضئيلة ، فشع نورها بين هاتيك الظلم المدلهم كما شاع ذكرها في الجوامع والزبر ، وفي ثنايا الحقب والأجيال المتتالية فهي حية بعمرها الثاني حتى يسكنها الله تعالى الخلد محبورة في جوار المصطفى ووصيه المرتضى.

قال المؤرخون : لما بقى مسلم وحده يتلذذ في أزقة الكوفة لا يدري إلى أين يتوجه انتهى به السير الى باب امرأة يقال لها طوعة ، أم ولد كان للأشعث بن قيس أعتقها

١٣٥

وتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا كان مع الناس ، وكان هذه المرأة على الباب تنتظره فلما رآه مسلم عليه‌السلام استقاها فسقته فجلس على الباب لا تطاوعه نفسه أن يبتدئها بطلب الإذن في الدخول للدار ، ولا يعرف موضعا يؤيه من عادية الطاغي ، ولا من يأخذ الى الخلص من صحبه والشوارع فيها الحرص ، وقد فرّق الخوف جل الناهضين معه.

فالتفتت اليه قائلة : ألم تشرب؟ فأجابها بصوت منكسر وزفرات متصاعدة : نعم قد شربت ، قالت : إذا لماذا تذهب إلى أهلك؟ فسكت عنها إذ لم يكن له أهل ولا يعرف من يؤيه ، ولكنها لم تقتنع بذلك لأنها امرأة مصونة متأنف من وقوف الأجنبي على بيتها فقالت له : إني لا أحل لك الجلوس هنا ولا يصلح لك.

فعندها رق وتلاين وقال : يا أمة الله مالي في هذا المصر منزل ، ولا عشيرة فهل لك الى أجر ومعروف ولعلي مكافئك به بعد هذا اليوم.

فاستفزّنها هذه الكلمة الغالية لأن الأجر من أعمال الصالحين والمعروف لا يكافي عليه إلا أهله فقالت مستفهمة : وما ذاك؟ قال : أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغرّوني. فلما سمعت باسمه شعرت بزلفى الأبد ، وسعادة لا يتوفّق لها إلا من أودع الله تعالى فيه نور الايمان ، فأعادت عليه السؤال عن اسمه متأكدة في الحصول على الغاية الثمينة وقالت له : أنت مسلم؟ قال : نعم ، فرحبت به وامتلأ قلبها سرورا بالحضوة بضيافة مثل داعية ابن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدخلته بيتاً غير الذي يأوي اليه ابنها وعرضت عليه الطعام فأبى.

ولما وافى ابنها المنزل ورآها تكثر الدخول لذلك البيت استراب منه فاستفهمها عنه فأعرضت وألح عليها ، فلم تخبره إلا بعد أن أخذت عليه العهود أن لا يعلم أحدا بما في البيت ، فبات الغلام فرحا بجائزة ابن زياد (١).

مسلم في اليوم الثاني :

كانت هذه الليلة أطول ليلة مرت على مسلم عليه‌السلام يرقب آناءها ويعدد دقائقها وثوانيها ، ينظر بعين البصيرة الى زوايا البيت وهو يعلم أنه مأتي لا محالة ولكن كيف يؤتى ومن أين يتوقع الهجوم عليه ، وكيف يدافع ولا يبصر إلا ناحية واحدة

__________________

١) مقاتل الطابيين ص٤١ إيران.

١٣٦

شدّ إليها الرحال منذ خرج من المدينة بأمر السبط الشهيد ، ألا وهي إظهار الدعوة إلى حُكم الكتاب المجيد وسنة الرسول وانقاذ الأمة من مخالب الضلال وتعريفها سبيل الرشد من الغي ، ومما رؤياه عمه أميرالمؤمنين في المنام يقول له :

« أنت معي غدا فالعجل العجل (٢) ».

فعرفت نفسه المطمئنة الملهمة أن في صباح هذه الليلة اللقاء والفناء الذي فيه البقاء الأبدي ، فلم تبعثه الحالة إلا إلى النشاط والبسالة والوثوق بازوف الموعد.

فلما انفلق عمود الفجر وانفتل من صلاته ودعائه ونوافله تأهب لمجاهدة من مرق عن الدين وأعرض عن وصايا النبي في أهله وذويه وقال لطوعة : « قد اديت ما عليك من البر والإحسان ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله » وقص عليها الرؤيا (٣).

أما ابن العجوز فذهب الى القصر وأعلم عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بمكان مسلم عليه‌السلام في بيتهم ، فأخبر عبدالرحمن أباه ، ووضح الأمر لابن زياد ، فدعا الغلام وطوقه بطوق من ذهب (٤) وأمر ابن الأشعث أن يذهب اليه في سبعين من قيس ليأتيه به.

فلما سمع مسلم عليه‌السلام وقع حوافر الخيل ولغط الرجال علم أن هذا طليعة الشر (٥) ، فخرج اليهم بجأش طامن ، وجنان راسخ بهضب يهزأ الرواسي وحشو الردى منه فروسية وشجاعة ، وملء اهابه بشر ومسرة فاستقبلهم كمي آل أبي طالب في جحفل مجر من عزمه ، أو حشد لهام من بأسه والقوم سبعون دارعا وهو واحد في ذلك المأزق الحرج من نواحي البيت فلم يفتأوا يرجفوا عليه الدار وهو يكردهم غير مكترث بعددهم ولا بعدّتهم.

الا تعجب من مكثور أطلعت عليه أعداؤه حيث لا متسع فيه لكر أو فر في مضائق الشوارع ومرتبك الأزقة والجراح يؤلمه والعطش يرمضه ، وهناك جلبة الصاخبين وتشجيع المنشطين ، وهلهلة النساء كما يقتضيه طبع الحال عند العرب ، وهم على يقين

__________________

٢) نفس المهموم ص٥٦ عن كامل البهائي.

٣) نفس المهموم ص٥٦.

٤) رياض المصائب ص٢٦٥.

٥) مقاتل الطالبيين ص٤١.

١٣٧

بالمدد أن أعزوتهم القوة.

وصريحة الهاشميين خالي من ذلك كله ، ولكن سل القوم والموقف كما وصفناه ، هل ألم بابن عقيل خور ، أو داخله فرق ، أو فترت منه عزيمة ، أو تثبّط من إقدام؟ لا ومن ترك «الجديدين» يرتّلان صحيفته البيضاء على رؤوس الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولم يشعروا أهو مسلم ينساب عليهم بصارمه الذكر ، أو عمه أمير المؤمنين يشق الصفوف ويطرد الألوف ، أو أن زورعة الحمام أخذتهم من نواحيهم فقتل من السبعين أربعين وهو يرتجز (٦) :

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع

فأنت بكـأس الموت لاشك جـارع

فصبـرا لأمر الله جل جلاله

فحكم قضاء الله في الخلـق ذايع

وكان من قوته يأخذ الرجل من محزمه ويرمي به فوق البيت ، (٧) والمرأة الطاهرة « طوعة » تحرّضه على القتال (٨) فاضطرهم البؤس واليأس من الظفر الى الاستمداد ، فأنفذ ابن الأشعث الى ابن مرجانة يستمدّه الرجال فبعث اليه : إنا أرسلناك الى رجل واحد لتأتينا به فثلم في أصحباك هذه الثلمة فكيف لو أرسلناك الى غيره؟ (٩)

فأرسل إليه ابن الأشعث : « أيها الأمير أتظن أنك أرسلتني الى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقان من جرامقة الحيرة؟ وإنما وجّهتني الى سيف من أسياف محمد بن عبدالله » فأمده بخمسمائة فارس (١٠).

إن ابن مرجانة يعجب من هذه البسالة الطالبية وما لهم من القسط الأوفر منها ، ولا تزال أنباء مواقفهم في الحروب ترنّ في مسامعه كما أن صداها لم ينقطع عن اذن الدهر ومسامع الأجيال والاندية تلهج بحديث النبي :

« لو ولد الناس كلهم أبوطالب لكانا * شجعانا » (١١)

لكنّ طيش الملك وغرور الحاكمية أخذا به الى الاستخفاف بسرّي مضر من أنه

__________________

٦) مناقب ابن شهر آشوب ج ٢ ص ٢١٢.

٧) نفس المهموم ص ٥٧.

٨) رياض المصائب ص ٢٦٥.

٩) مقتل محمد بن أبي طالب.

١٠) رياض المصائب ص ٢٦٦.

* كذا في المتن ولكن الصحيح لكانوا بدل لكانا.

١١) غرر الخصائص للوطواط ص ١٧ في باب حفظ الجوار.

١٣٨

واحد فكيف يثلم ذلك الجمع.

نعم هو واحد بالذات كثير في العزم والبأس.

فتجمهروا عليه من كل الجهات وصرخة آل أبي طالب لا يكترث بجمعهم ولم ترعه كثرتهم ، فأوقع فيهم الموت الزوام ، واختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين ، ضرب بكير فم مسلم ـ عليه‌السلام فقطع شفته العليا وأسرع السيف الى السفلى ونصلت لها ثنيّتان ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، واخرى على حبل العاتق كادت أن تطلع الى جوفه (١٢) فمات منها (١٣).

وأخذ يقاتلهم وحده في ذلك المجال الضيّق حتى أكثر القتلى والناس من أعلى السطوح يرمونه بالحجارة ، ويقلبون عليه القصب المضرم بالنار (١٤) وهو يرتجز في حملاته (١٥) :

أقسمت لا أقتـل إلا حـرا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

كل امرئ يوما ملاق شـرا

ويخلط البـارد سخنا مـرا

رد شعاع النفس فاستقـرا

أخـاف أن أكـذب أو أغرا

ولمّا أثخنته الجراح وأعياه نزف الدم استند الى جنب تلك الدار فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة فقال :

« ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ألا ترعون حق رسول الله في عترته (١٦) ».

وحيث أعوزتهم الحيل والدابير الحربية لالقاء القبض عليه أو التوصل الى قتله ، أو تحرّي منجاة من سيفه الرهيف قابلوه بالأمان عساه يكف عن القتال فيتسنى لهم

__________________

١٢) الطبري ج٦ ص٢١٠.

١٣) مقتل الخوارزمي.

١٤) ابن الأثير ج٤ ص١٣.

١٥) في اللهوف ص٣٠ صيدا ، الأبيات لحمران بن مالك النخعي قالها يوم القرم ، وعند ابن نما « القرن » ويشهد له ما في المعجم مما استعجم ج٣ ص١٠٦٨ قرن اسم جبل كانت فيه وقعة لغطفان على بني كنانة فهو يوم قرن ، وفي تاج العروس ج٩ ص٣١٠ يوم أقرن كاملس يوم لغطفان على بني عامر وفي معجم البلدان ج٧ ص٦٤ قرن اسم جبل كانت به وقعة لبني قرن على بني عامر بن صعصعة ، وفي نهاية الارب للقلقشنديّ ص٣٢١ بنو فرن بطن من مراد وهم بنو قرن ابن رومان بن ناجية بن مراد منهم أو يس القرني الشهور.

١٦) مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٢.

١٣٩

بعض ما يرومونه ، فقال له ابن الأشعث : أنت آمن ، إلا عبيد الله بن العباس السلمي فغنه تنحى وقال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل (١٧).

أما ابن عقيل عليه‌السلام فلم تفته خيانتهم ونقضهم العهود وأنهم لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فلم يعبء بأمانهم فقال : « لا والله لا أؤسر وبي طاقة ، لايكون ذلك أبداء » وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثم تكاثروا عليه وقد اشتد به العطش فطعنه رجل من خلفه فسقط الى الأرض وأسر (١٨).

وقيل : أنهم عملوا حفيرة وستروها بالتراب وانكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه (١٩).

ولما أركبوه البغلة وانتزعوه سيفه دمعت عينه ، فقال له عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي : ان الذي يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، فقال عليه‌السلام :

« ما على نفسي أبكي ولكن أبكي لأهلي المقبلين اليكم ، أبكي للحسين وآل الحسين (٢٠). »

تفيدنا هذه الجملة درسا آخر من نفسية مسلم وقوة ايمانه وثبات جأشه وقداسة نفسه ؛ فان هذا البكاء لم يكن لجروحه الدامية أو عطشه المبرح لما ألم به من الضرب والطعن وهو في الحالة نفسها مكثورة وأنه سوف يؤدّي به الظلوم الغاشم في منتأى عن أهله وولده.

لكن الذي أبكاه أمام ذلك الجمع المحارب أمر ديني وطاعة للمولى نظير الغاية التي أوقفته هذا الموقف وهو ما سيجري على حجة الوقت الواجب على العباد الإنقياد له والخضوع لأمره ، وان سيد شباب أهل الجنة سيرد هذا المورد متى حلّ بين ظهراني أهل الكوفة الطغاة وهو لايريد أن تشوك سيدة شوكة ولا يستهين أن يصيبه أي أذى ، وإنما وقف هذا الموقف للحصول على مرضاة إمامه والدعوة إليه والذّب عنه ، ولم يبرح هذه نواياه حتى نسي نفسه ولم ينس أبي الضيم عليه‌السلام فطفق يبكي لما يصيبه وهو

__________________

١٧) ابن الأثير ج٤ ص١٣.

١٨) ابن شهر آشوب في المناقب ج٢ ص٢١٢.

١٩) المنتخب للطريحي.

٢٠) تاريخ الطبري ج٦ ص٢١١.

١٤٠