الشّهيد مسلم بن عقيل عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

ابن سعد مع يزيد

لامناص من الخضوع لناموس الوراثة الحاكم في الجملة بأن لنفسيات الآباء تأثيرا في الأبناء أما بتسريها إليهم مع الطبيعة المشتركة بين الفريقين أو بتمرين مما يترشح من أواني سلفهم المفعمة بالفضائل أو الرذائل من مفعولات تلكم الغرائز ، وبطبع الحال أن الناشئ يتخذ النواجم من ضرائب سلفه سنة متبعة ، اللهم إلا أن يكبح ذلك الجماح ما تتأثر به الأبناء بواسطة الكسبيات ، وهذا على خلاف ذلك الناموس.

وعلى هذا فهلم معي الى عمر بن سعد الذي لم يعرف من أبيه غير المناوأة لأهل هذا البيت عليهم‌السلام والحسد لهم ، وكان أخف ما نجم من بغضاء سعد بن ابي وقاص قعوده عن نصرة أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الجمل وهو الإمام المفروض طاعته بعد اجتماع الأمة عليه ، وقالوا له لا يصلح لإمامة المسلمين سواك ، ولا نجد أحدا يقوم بها غيرك ، وهو ممتنع عليهم أشد الامتناع حتى تداكوا عليه لا يرون أحدا صالحا سواه ، فلما رأى حرصهم عليها بسط يده للبيعة فتمت بيعة المهاجرين والأنصار ولم تكن بيعته مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة كبيعة أبي بكر وإمامة عمر الثابتة بأبي بكر وحده وتمت البيعة لعثمان في الحقيقة بان عوف.

ولما عاتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام تظاهر سعد بالشك في الجهاد معه وقال : إني أكره الخروج في هذا الحرب فاصيب مؤمنا فان أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك (١).

__________________

١) الجمل للشيخ المفيد ٢٩ طبع النجف ثاني.

١٠١

وهذا أعجب شيء منه وقد شاهد من فضل « أبي الريحانتين » الكثير وسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقه أكثر ، ألم يكن هو القائل : « إني سمعت رسول الله يقول لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (٢) إلا أنه لا نبي بعدي » ثم وضع إصبعيه على أذنيه وقال « أنى سمعته يقول ذلك وإلا استكّتا؟ » (٣)

ولما قال له معاوية : ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال :

« اما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله لئن تكون لي واحدة منهنّ أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم فلن أسبّه ؛ سمعت رسول الله يقول وقد خلّفه في بعض المغازي فقال له علي : يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي » وسمعته يقول يوم خيبر : لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع اليه الراية ففتح الله عليه ؛ ولما نزلت هذه الآية « فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم » فدعا رسول الله عليا وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال : اللهم هؤلاء أهلي ».(٤)

ولمّا عاتبه معاوية على ترك القتال معه في صفين قال له : « أتأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله :« أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »؟ فقال معاوية : من سمع هذا معك؟ فقال سعد : سمعه : فلان وفلان وأم سلمة. قال معاوية : لو كنت سمعت هذا لما قاتلته (٥) ».

ولا شك فيما لأمير المؤمنين من السوابق والفضائل والمواقف والتأهل للخلافة كما لاريب في ثبوت البيعة له باختيار الأمة ، وأن الخارج على الامام العادل باغ يجب قتله ، وقد اعترف أبو بكر الجصاص المتوفى سنة ٣٧٠ بأن عليا عليه‌السلام كان محقا

__________________

٢) صحيح البخاري ج٢ ص٢٥٩.

٣) صحيح مسلم ج٢ ص٣٢٣.

٤) الاصابة لابن حجر ج٢ ص٥٠٩

٥) شرح النهج لابن ابي الحديد ج١ ص٢٠١.

١٠٢

في قتاله الفئة الباغية ولم يخالف فيه أحد (٦).

وقال أبوبكر ابن العربي الأندلسي المتوفى سنة ٥٤٦ : « إن عليا كان إماما لأنهم اجتمعوا عليه ولم يمكنه ترك الناس لأنه كان أحق الناس بالبيعة فقبلها حوطة على الأمة ، وأن لاتسفك دماؤها بالتهارج ويتخرّق الأمر ، وربما تغير الدين ، وانقض عمود الإسلام ، وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان فقال لهم علي : « ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا اليه » وكان علي أسدّهم رأيا وأصوب قولا لأنه لو تعاطى القود لتعصّبت لهم قبائلهم فتكونحربا ثالثة فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامة ثم ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء ، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك الى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.

وحينئذ فكل من خرج على علي عليه‌السلام باغ وقتال الباغي واجب حتى يفيء الى الحق وينقاد الى الصلح ، وأن قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة ، وأهل الجمل والنهروانالذين خلعوا بيعته حق ، وكان حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا ، فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بُغاة فتناولهم قوله تعالى : « فقاتلوا التي نبغي حتى تفيء الى أمر الله ».

ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقاص بعدم مشاركة له في قتال علي عليه‌السلام فردّ عليه سعد : بأني ندمت على تأخري عن قتال الفئة الباغية يعني بها معاوية ومن تابعه (٧). »

وحكى الآلوسي عن الحاكم والبيهقي أن عبدالله بن عمر يقول : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت من نفسي من هذه الآية « فقاتلوا التي تبغى ـ الآية ». حيث أني لم أقاتل الفئة الباغية يعني معاوية ومن معه من الباغين على علي عليه‌السلام » ، ولم يتعقبه آلوسي بشيء وزاد بتصريح بعض الحنابلة بوجوب قتال الباغين احتجاجا بأن عليا اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد فهو إذا أفضل من الجهاد (٨).

وما أدري بماذا يعتذر سعد مع ذلك التصريح منه لمعاوية بأنه باغ ولم ينهض مع

__________________

٦) أحكام القرآن ج٣ ص٤٩٢.

٧) أحكام القرآن ج٢ ص٢٢٤.

٨) تفسير روح المعاني ج٢٦ ص١٥١.

١٠٣

خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لجهاد من يبغي في دين الله عوجا ، وكيف تفوّه بطلب السيف العارف بالمؤمن من الكافر ولم يطلبه من « الشيخين » في قتالهم أهل الردة وكان موافقا لهما على ذلك مع أن أهل الردة لم يمتنعوا من أداء الزكاة إلا بشبهة الدفع لمن أقامه النبي خليفة على المسلمين يوم الغدير ، ولم يخلعوا يدا عن طاعة ، ولا فارقوا جماعة المسلمين ، لولا أن قتالهم أمر دبّر بليل.

فأين كانت جلبة سعد وضوضاء أسامة وتزفّر ابن عمر من قتل علي عليه‌السلام لأهل الجمل أيام تفريط خالد في أولئك المسلمين الذين لم يتركوا الشهادتين حتى آخر نفس لفظوه ، وكما كان لأصحاب الجمل عند هؤلاء عذر في الخروج على سيد الوصيين يكون لأولئك الذين اطلقت عليهم الردة عذر في الامتناع عن أداء الزكاة ، أهل كان الحكم بقتال المرتدّين مقصورا على خصوص من خالف « أبابكر » أم هو عام لكل من تمت له البيعة؟

نعم الحسد من جهة وعدم الرضوخ الى الحق منجهة أخرى لم يدعا لسعد وأمثاله طريقا في الخضوع لأمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ « وإنما متسافل الدرجات يحسد من علا ».

لقد كان سعد ممن يشمخ أنفه بالفخفخة الباطلة والمجلد الكاذب ويرى نفسه في أشراف الصحابة ، وإذا قايسها مع أخي الرسول وجده أطهر منه نسبا وأعلا حسبا وأغزر علما وأثبت في المواقف وأشجع في الهزاهز وأقوى حجة وأشرف نفسا الى أن تنتهي حلقات الفضل ولأمير المؤمنين بقايا غير محصورة ينبوعها الحساب.

فكان في رضوخه لأبي الحسن عليه‌السلام خضوع الى هاتيك المآثر وظهور لنقصه فيها ، ولطموح نفسه إلى التّعالي ، ولم يكن عنده من التقوى ما يكبح عامل الكبرياء ليستهل البخوع للمجد العلوي ، وان أضر ذلك بدينه وأراده في آخره ؛ فإن العصبية أعشت بصره ، والنخوة الجاهلية تحكمت بين أحشائه ، والحسد المحتدم بصدره ألقاه في مدحرة الهلكة وحفزه الى مكامن البغضاء ، وان تستر بظواهر الاسلام وتعاليمه.

يشهد لذلك سؤاله أمير المؤمنين عليه‌السلام لما سمعه يقول في خطابه :

« سلوني قبل أن تفقدوني فوالله ما تسألوني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون إلا أنبأتكم به. »

فقام إليه سعد وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من

١٠٤

شعره ، فقال عليه‌السلام : « لقد سألتني عن مسألة حدّثني عنها خليلي رسول الله أنك ستسألني عنها ، وما في لحيتك ورأسك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ولدي الحسين » ، وعمر يدرج بين يدي أبيه (٩).

وهذا منه سؤال مستهزء لا مستفهم ظن في ذلك أن يفحم الإمام لأن الجواب الحقيقي يعوزه البرهان ؛ فإن أمير المؤمنين لوعيّن عددا فأي أحد يمكنه عد الشعرات ولا يرمى بالخطأ ، وحيث وضح لأبي الحسن عليه‌السلام الواقف على ضمائر العباد ما أضمره سعد عدل الى ما في خزي لذلك المتعنّت اللدود ، وقد بقي وصمة عليه الى آخر الأبد فحكى له حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهذا الذي عرفناه من نفسيات سعد وبوائقه يسير من كثير ولو أردنا الإستقصاء لأريناك غرائب.

إذا فليس من البدع إذا قام ابنه عمر بهاتيك المظاهر الذميمة فؤاد الحق ونصر الباطل وأجهز على بقايا الرسالة وشظابا النبوة الى مخازي لا تحصى مع القسوة التي يمجها الطبع البشريّ ، وتتذمر منها الانسانية فأعقبها سبة خالدة ، وشية من العار سجلها له الدهر منذ خيانته مسلم بن عقيل الى مشهد الطف الى ما بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وإلى هذا القضايا الطبيعية كان يوعز أمير المؤمنين بعلمه المستقى من بحر النبوة فيقول : « إن بيتك لسخلا يقتل ابني الحسين. »

وإذا كان سعد يستهزئ بسيد الوصيين فلقد استهزأ ابنه عمر بسيد شباب أهل الجنة يوم اجتمع به قبل اشتباك الحرب وقال له :

« أي عمر أتقاتلني؟ أما تتقى الله الذي اليه معاد فأنا ابن من علمت؟ ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه أقرب الى الله تعالى؟ »

فاعتذر ابن سعد بمعاذير لاترضى الخالق تعالى قال : ( أولا ) أخاف أن تهدم داري ، قال الحسين : أنا أبنيها لك ، و ( ثانيا ) أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، قال عليه‌السلام أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز (١٠) ، ويروى أنه قال له : أعطيك

__________________

٩) كامل الزيارة لابن قولويه من أعيان القرن الثالث ص٧٤.

١٠) مقتل العوالم ص٧٨.

١٠٥

البغيبغة وكانت عين عظيمة فيها نخل وزرع كثير دفع فيها معاوية الف الف دينار فلم يبعها منه (١١) و ( ثالثا ) أخاف من ابن زياد أن يقتل أولادي.

ولما أيس منه أو عبدالله قام من عنده وهو يقول :

« ما لك ذبحك الله على فراشك عاجا ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا اليسير. »

فقال ابن سعد مستهزى ءً :

« في الشعير كفاية (١٢) ».

انّ المواعظَ لا تفيد بمعشر

صموا عن النبأ العظيم كما عمُوا

انّك يا سيد الشهداء أبصر بهذا الطاغي ، وإنه يعشو عن الحق لدناءة حسبه ، وضؤولة مروءته ، وضعف دينه ، وبعده عن الصرط السّويّ ، وانغماره في الشهوات لكنك ابن من تحمّل الأذى ، ولاقى المتاعب في سبيل إنقاذ الأمة وانتشالها من موج الضلال فلم ترد بتلك النصائح وادلاء الحجج وضرب الأمثال إلا إتمام الحجة ، ولم تبق له مسرحا يلتوي اليه ، ولا منتكصا يتحرج منه حتى أتممت عليه كلمة العذاب ، وقطعت عنه المعاذير يوم تنشر الصحف وتنصب الموازين.

واذا كان أبوه سعد لم يستضئ بنور النبوة ولا استفاد من تعاليمه ما يقرّبه الى الحق فيتباعد عن وصي النبي مع ما يعلمه من الحق الثابت له ، فجدير بابنه اذا بات ليلته مفكرا في النصائح التي القيت اليه ممن يمحضه الود ولا يرديه في باطل ، فجار عن الطريق الواضح واختار الدنيا على الآخرة ، فإن « الشجرة المرة لا تنبت إلا مرا » والذي خبث لايخرج إلا نكدا وهل ترجى الهداية منه بعد قوله (١٣) :

أأترك مُلك الريّ والري رغبتي

أم أرجع مذمومـا بقتـل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الـري قرة عيـن

وبعد هذا فهل يعجب القارئ ويستغرب من كتابة عمر بن سعد الى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل ، واجتماع الناس عليه ، وتوقف النعمان بن بشير عن محاربته (١٤) وكان محرّضا له على تدارك الأمر لئلا ينتكث فتله.

__________________

١١) تظلم الزهراء ص١٠٣.

١٢) تهذيب الأسماء واللغاة للنووي بترجمة عمر بن سعد.

١٣) ابن الأثير ج٤ ص٢٢.

١٤) الطبري ج٦ ص١٩٩.

١٠٦

ولقد تحققت فيه كلمة سيد الشهداء : « لاتأكل من بر العراق إلا يسيرا » فإنه رجع من كربلاء صفر الكف خالي الوطاب من الزلفى ، وهل أحد أخسر صفقة منه حين دعاه ابن زياد ، وطلب منه العهد بولاية الري فاعتذر بضياعه فلم يقبل منه ، وألحّ عليه قال : إني تركته يُقرأ على عجائز قريش اعتذارا منهن : أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعدالكنت قد أديت حقه. (١٥) وبقى في الكوفة خاسرا ربح السلطان والفوز بجوار المصطفى حتى قتله المختار شر قتلة في ذي الحجة سنة ست وستين ومعه ابنه حفص (١٦) ولعذاب الله أشد.

لفت نظر :

تقدم في حديث ابن قولويه أن سعد بن ابي وقاص اعترض على أميرالمؤمنين لما قال : « سلوني ـ الخ » ، ورواه الصدوق في الأمالي ص٨١ مجلس ٢٨ ، والإستبعاد بأن سعدا لم يرد الكوفة موقوف على أن يكون هذا الخطاب بالكوفة ولم تقم قرينة على أمير المؤمنين لم يقل : « سلوني » إلا في الكوفة إذ من المحتمل أن يكون ذلك الإعتراض بعد خطبته عليه‌السلام بالمدينة اما في أيام خلافته أو في أيام خلافة من تقدمه ويؤيد تكرر هذا القول منه عليه‌السلام حديث عباية الأسدي : كان أمير المؤمنين علي كثيرا ما يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ـ الخ (١٧).

ولعل حديث ابن قولويه : وكان عمر يدرج بين يديه ، يؤكد هذا الإحتمال أعني وقوع الخطاب والإعتراض في المدينة ، فإنه على هذا يكون عمر صغيرا ، حتى على القوم بولادته أيام النبي ، واحتمال بعض العلماء أن تعيين الأب والإبن في حديث ابن قولويه والصدوق من الراوي للمغروسية في الأذهان بأن عمر بن سعد قاتل الحسين ، فعيّن الأب والإبن باجتهاده وحسبه الآخر رواية فدوّنها ورواها ، مبني على حصر الخطاب في الكوفة وليس له شاهد في الحديث والتاريخ.

ومما يشهد لتعدد الواقعة ما يروى أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض على أمير المؤمنين لما سمعه يقول : سلوني ـ الخ ، فأخبره ـ عليه‌السلام بأن في

__________________

١٥) المصدر ص٢٦٨.

١٦) تاريخ أبي الفدا ج١ ض١٩٥.

١٧) أمالي ابن الشيخ الطوسي ص٣٧.

١٠٧

بيته سخلا يقتل الحسين وكان ابنه الحصين طفلا صغيرا يرضع اللبن وعاش الى أن صار على شرطة عبيدالله بن زياد ، وأخرجه الى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين يتوعّده إن أخّر (١٨).

وهناك رواية ثالثة تشهد بأن المعترض هو أنس النخعي فقال عليه‌السلام : وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله وكان ابنه سنان قاتل الحسين ، وهو يومئذ طفل يحبو (١٩).

وهذه الروايات الحاكية لتعدد المعترض تدل على تعدد الخطاب من أمير المؤمنين فليس من البعيد أن يكون سعد في جملة هؤلاء.

وكيف كان فقد جاء في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج٥ ص١١٣ ، وتذكرة الخواص ص١٤١ ، وابن الأثير في الكامل ج٤ ص٩٤ ومثير الأحزان لابن نما ص٢٥ : أن أمير المؤمنين لقى عمر بن سعد وقال :

كيف بك يا ابن سعد اذا قمت مقاما تخيّر فيه بين الجنة والنار فتختار النار؟

ويزيد ابن الأثير : أن عبدالله بن شريك يقول : أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود اذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله.

وكان عمر يقول للحسين : يزعم السفهاء إني أقتلك فقال الحسين : ليسوا بسفهاء (٢٠).

وكانت ولادة عمر أما في أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ارتأه ابن عساكر لرواية ابن اسحاق أن أباه سعدا أرسل الى الجزيرة جيشا كان معهم ولده عمر وذلك في سنة ١٩ ، واختار ابن معين أن عمر بن سعد كان غلاما حدث السن سنة موت عمر بن الخطاب لحديث سيف أن سعدا تزوج يسرى بنت قيس بن أبي الكتم من كندة أيام الردة فولدت له عمر (٢١) ، وفي الرياض النظرة امّه بنت قيس بن معديكرب.

__________________

١٨) نهج البلاغة ج٢ ص٥٠٨.

١٩) شرح النهج لابن أبي الحديد ج٢ ص٢٠٨.

٢٠) تهذيب التهذيب ج٧ ص٤٥١.

٢١) الإصابة ج٣ ص١٨٤.

١٠٨

في بيت هاني

كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي (١) من أشراف الكوفة (٢) ، وقرائها (٣) ، وله منزلة في المصر ، ولبيته في العشيرة منعة ، (٤) وله الزعامة الكبرى في مراد ، يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفا (٥) ولازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستفاد منه آدابا ، (٦) وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاء حسنا (٧) وفي يوم الجمل كان يرتجز :

يا لك حرب حشّها جمالها

قائدة ينقصها ضلالها

هذا علي حوله أقيالها (٨)

وأدرك النبي (٩) وله يوم قتله بضع وتسعون سنة (١٠).

____________

١) الاصابة بترجمة عروة المرادي.

٢) الأخبار الطوال ص٢٣٥.

٣) الأغاني ج١٤ ص٩٥.

٤) الطبري ج٦ ص٢١٣.

٥) مروج الذهب ج٢ ص٨٩.

٦) تاريخ ابن عساكر.

٧) ذخيرة الدارين ص٢٧٨.

٨) مناقب ابن شهر آشوب ج١ ص٦١٤.

٩) الإصابة بترجمة هاني.

١٠) الإصابة لابن حجر بترجمته.

١٠٩

ولسيدنا بحر العلوم الطباطبائي كلام ضاف في ترجمته في « رجاله » وقد أغرق نزعا في إثبات جلالته والدفاع عنه ، والجواب عما قيل فيه ، وتابعه على رأيه السديد السيد المحقق الأعرجي في « عدة الرجال » وكل من تعرض له من علماء الرجال ، ذكره مترحما ومترضيا عليه ، وبالغ شيخنا الحجة الشيخ عبدالله المامقاني في « تنقيح المقال » بترجمته في مدحه والثناء عليه ، ووافقه المحقق الشيخ عباس القمي في نفس المهموم ص٦٢.

وذكر محمد بن المشهدي من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس في مزاريهما زيارة خاصة تزار في مشهده ، وفيها وصفه « بالعبد الصالح الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام » والشهادة بأنه قتل مظلوما وأنه لقسا لله تعالى وهو راض عنه بما فعل ونصح ، وأنه بلغ درجة الشهداء السعداء بما نصح لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجتهدا وبذل نفسه في ذات الله ومرضاته ثم الترحم عليه ».

ثم ذكرا بعد الزيارة صلوتها ودعاء الوداع ، وزاد ابن المشهدي « تقبيل القبر ».

وحيث أنهما ذكرا في مزاريهما أن ما أودعاه في كتابيهما على الوجة الذي ظهر لهما من الروايات يتجلّي لنا أن هاتيك الآداب مأثورة عن أهل بيت العصمة ، وجلالة هذين العلمين تفيدنا القطع بعثورهما على أثر حاكم بذلك العمل الخاص حتى لو لم ينصّا في الكتاب على ما حصل لديهما من جهة الرواية وإلا لتسرّب الى نقلهما شبة البدعة في الدين ، وهؤلاء الأعلام في المذهب لا يتورّطون في البدعة التي لا تقال عثرتها. إذا ففي قولهما الحجة البالغة.

ولو سلمنا عدم الورود فلا أقل من أن يكون كلامهما في حقه كشهادة من تقدم من علماء الرجال من أن الرجل متحلي بتلكم الفضائل ، ولو كان لهما كتب في الرجال لاتخذها العلماء من الأصول المسلّمة التي يعوّل عليها في هذا العلم إذ لم يقصر قولهما عن سائر الكتب في تمييز الرجال وبيان الممدوح والثقة منهم كما أن وقولهما في غير هذا العلم حجة قوية يركن اليه ويستشهد به.

ثم يكفينا في القناعة بفضل الرجل وجلالة مقامه عند آل الرسول ترحم سيد الشهداء عليه فإنه عليه‌السلام لما نزل « الثعلبية » ممسيا أخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وأنهما سُحبا من أرجلهما في الأسواق قال عليه‌السلام : « إنا لله وإنا إليه

١١٠

راجعون رحمة الله عليهما » ردد ذلك مرارا (١١).

واذا كان ترحم الإمام الحجة الواقف على نفسيات الرجال ومقادير أعمالهم على شخص يعد تزكية له وشهادة منه في نزاهته وطهارته ، وأنه مضى محمود الطريقة متبعا للحنيفية البيضاء فأي رجل مثل هاني بن عروة يقرنه سيد شباب أهل الجنة بنائبه الخاص وخليفته في ذلك المصر المثبت له في صك الولاية شرف الأخوّة له والوثاقة في الأمور وأنه مفضّل عنده من أهل بيته ويترحّم عليه كما ترحم على ابن عمه وداعيته.

ان هذا الترحم من أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام وشهادة أولئك الأعلام تنم عن أن « ابن عروة » كان على أرفع منصّة من الإيمان ومن الراسخين في ولاء العترة الطاهرة ، وأن ما قام به من إتمام البيعة لمسلم عليه‌السلام في داره وجمع العتاد والأخذ بالتدابير اللازمة لحافز ديني وإيمان بأجر الرسالة المرغوب فيه لسيد النبيين وخاتم الرُسل أجمع.

ولم يزل يلاقي في ذلك المحن والكوارث حتى أودي به شهيدا في سبيل نصرة ابن عم رسول الله ، وهو الذي شارك شريك الأعور في التدبير لقمع جذور الفساد بقتل الدعي ابن مرجانة لكن القدر حال دون ما يريدون.

ومن أمعن النظر في سيرته من كتب التواريخ والمقاتل ولا سيما في رجال آية الله لسيد بحر العلوم الطباطبائي يزداد بصيرة فيما قلناه. وهناك تعرف أن ما تشدّق به ابن أبي الحديد من حكاية أخذه البيعة « ليزيد » من الأقاصيص التي لانعرف سندها ولامن جاء بها ، أراد به تشويه مقام هذا الرجل العظيم الناصح لأهل البيت حتى آخر نفس لفظه ، ومما يزيد في وهنه إعراض أرباب الفن من المنقبين في الآثار عن ذلك والقصة بمرأى منهم.

وكان السبب في انتقال مسلم الى داره أنه لما بلغه خطبة ابن زياد ووعيده ، وظهر له حال الناس ، وفرقهم من ابن زياد خاف أن يؤخذ غيلة فخرج من دار المختار بعد العتمة الى هذا الزعيم الكبير لعلمه بمكانته في المصر وشرفه في العشيرة ، وأنه مهاب الجانب أكثر من المختار مع ولائه الصميم وعقيدته الراسخة ونصرته الصادقة ، فلاقاه هاني بكل ترحيب ، وعلم أن تشريف ابن عقيل محله يعود عليه بأسمى السعادتين اما حياة

__________________

١١) الطبري ج٦ ص٢٢٥.

١١١

مع ابن المصطفة أو شهادة طيبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس.

وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري ـ الخ.

ونزل مع مسلم في دار هاني شريك (١٢) بن عبدالله (١٣) الأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة علي عليه‌السلام بالبصرة جليل القدر من أصحابنا (١٤) شهد معه صفين ، وقاتل مع عمار بن ياسر (١٥) ولشرفه وجاهه ولآه معاوية كرمان (١٦) وكانت له مواصلة مع هاني.

ولشريك محاورة مع معاوية تنم عن قوة جنان وذرب لسان ، وان المال مهما تكثر من معاوية لايغويه ، فيخضع له ؛ دخل على معاوية وكان ذميما فقال له معاوية : إنك لذميم والجميل خير من الذميم ، وإنك لشريك وليس لله شريك ، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك؟

فقال له شريك : وإنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب ، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير الصخر ، وانك ابن أمية وأمية غلا أمة صغّرت فكيف صرت أميرالمؤمنين ، وخرج منه يقول (١٧) :

أيشتمُني معاوية بن حـرب

وسيفي صـارم ومعي لساني

وحولي من بني يزين ليوث

ضراغمـة تهش الى الطعان

يعير بالدمامة مـن سفاه

وربّـات الخدور من الغواني

ذوات الحسن والرئبال جُهم

شتيـم وجهـه ماضي الجنان

مسلم لا يغدر :

الفتك من الغدر ولا يوصم به مؤمن يعرف أن شريعة الإسلام جاءت لتحلية

__________________

١٢) الإصابة بترجمة هاني.

١٣) أنساب الاشراف للبلاذري ج٤ قسم ثاني.

١٤) مثير الأحزان لابن نما ص١٤.

١٥) تاريخ الطبري ج٦ ص٢٠٣.

١٦) النجوم الزاهرة لابن تغربردي ج١ ص١٤٣ وابن الأثير ج٣ ص٢٠٦ والأغاني ج١٧ ص٧٠.

١٧) ربيع الأبرار للزمخشري في باب الأجوبة المسكتة.

١١٢

النّفوس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل ولم يرد الشارع لمن اعتنق دينه القويم إلا أن يكونوا في الغارب والسنام من كل فضيلة رابية فيسلكوا سبل السلام في أعراق طاهرة ومآز عفة ، وقلوب نزيهة ، وجوارح مؤدبة بآداب الله تعالى ، وجوانح ممرّتة بالقداسة.

وجاء في وصية رسول الله لأمير المؤمنين :

« إيّاك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته فإن الله جعل عهده وذمَّته أماناً أمضاه بين العباد برحمته والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته (١٨) فان كل غادر يأتي يوم القيامة مائلا شدقه (١٩) وله لواء يعرف به فيقال هذه غدرة فلان (٢٠) ».

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنة أوفى منه وما يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيّسا ، ونسبهم أهل الجهل الى حُسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم الله. قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لاحريجة له في الدين (٢١) ».

وقال على منبر الكوفة :

« أيّها الناس لولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس ألا انّ لكلّ غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة ، ألا وان الغدر والفجوز والخيانة في النار (٢٢) ».

والغدر لايأتلف مع شيء من المآثر الفاضلة لأنه ينم عن خسّة في الطبع ودناءة في العنصر وعدم المبالات بالنواميس الدينية والبخس لحقوق المسلمين ويشب منه تفريق الكلمة وملاشاة الإلفة واحتدام البغضاء. وان الشريعة المطهرة حاولت ببيانها

__________________

١٨) دعائم الاسلام للقاضي نعمان المصري.

١٩) الوسائل ج٢ ض٤٢٥ عين الدولة.

٢٠) نهاية الارب للنويري ج٣ ص٣٧١.

٢١) شرح النهج ج١ ص٢١٦.

٢٢) الوسائل ج٢ ص٢٤٥.

١١٣

الأوفى بث روح التحابب بين الجامعة البشرية. والغادر يبغضه كل من مسه غدره وكل من عرف شيئا من ذلك ، وكلما اتسعت الدائرة بمرور الزمن ازداد التباغض واشتدت عوامله.

ومن هنا ضربوا المثل بغدرة آل الأشعث وقالوا : أعرق العرب في الغدر آل الأشعث فان عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث غدر بأهل سجستان ، وغدر أبوه محمد بأهل طبرستان ، فإنه عقد بينهم وبينه عهدا فغزاهم فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبابكر وفضحوه ، وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب وكان بينه وبينهم عهد فغزاهم وأسروه ففدى بمائتي فلوس فأدّى مائة وعجز عن البقية ، ولما أسلم أهدره الاسلام ، وغدر قيس ابو الأشعث ببني مراد فإنه كان بينه وبينهم عهد الى أجل وآخره يوم الجمعة فغزاهم يوم الجمعة قالوا له : لم ينته الأجل فكان جوابه أنه لا يحل لي القتال يوم السبت لأنه يهودي فقتلوه وهزموا جيشه ، وغدر معديكرب أبوقيس ببني مهرة وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً بالعهد فقتلوه وشقوا بطنه وملأوه حصى وقالوا : اشبع لاشبعت يا ابن بغايا ضريه (٢٣).

فالغدر ضامن العثرة ، قاطع ليد النصرة ، والغالب بالغدر مغلول ولا عذر لغادر ، وفي ذلك يقول الشاعر (٢٤) :

أخلق بمن رضي الخيانة شيمة

ألا يُرى إلا صريـع حوادث

ما زالت الأرزاء تُلحق بؤسها

أبداً بغادر زمّة أو ناكث

وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر فتشهره ليتجنبه الناس (٢٥).

وغدرة خالد بن الوليد ببني جذيمة أعقبت ندما ، وجرت له الخزي حين تبرأ النبي من فعلته وغدرته وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسله هم داعيا لا مقاتلا وكانت بينه وبينهم إحنة فإنهم في الجاهلية قتلوا عمه الفاكهة ، فلما نزل على ماء لهم أخذوا السلام فرقا منه فصاح بهم : ضعفوا السلاح فإن الناس أسلموا فلما وضعوا السلاح آمنين

__________________

٢٣) المحبر لابن حبيب النسابة ص٢٤٤ ، وشرح الصفدي على لأمية العجم ج٢ ص٢٠١ ، ونهاية الأرب للنويري ج٣ ص٣٧٣.

٢٤) نهاية الأرب للنويري ج٣ ص٣٧٢.

٢٥) شرح الصفدي على لأمية العجم ج٢ ص٢٠١.

١١٤

من غدر المسلم أمر جماعته فكتفوهم وقتل منهم مقتلة عظيمة فلما بلغ رسول الله هذا المنكر ساءه ورفع يديه مبتهلا الى الله تعالى :

« اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد »

ثم أرسل أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعه مال ليؤدّي بني جذيمة حتى ميلغة الكلب (٢٦).

على أن الغادر لا يرى للنفوس والأموال والأغراض المحترمة شرعا حرمة فمتى ثارت فيه هذه الخصلة الخسيسة يكون من السهل عليه وأد النفوس ونهب الأموال والنيل من الأعراض ، وكله نقض لغرض المولى سبحانه ، فقد شاء لعباده أن يكونوا متحابّين ليقيموا عمد الحق ، ويرفعوا راية الهدى ، ويتم بهم الاجتماع والتعاون على مناجح الحياة من غير منافة بينهم. وما ذكرناه من تبعات الغدر أعني النفاق والمباغتة والإغتيال لا تخلو من وصمة على المجتمع البشريّ كما توجب منقصة في مروءة الغادر ودرن ردائه والغمز في حسبه.

وهذا في امراء المسلمين وولاة أمرهم أشد من غيرهم لكونهم مرقومون في النفسيات الحميدة قبل أفراد الرعية ، وأن الامم تحتج بملكات ولاتهم وغرائزهم وأعمالهم ، ويكون ما يتصفون به من نواميس المذهب حجة لازمة فإذا تخلوا الأمراء عن هذه الملكات عاد الطعن على المبدأ الديني ، فالواجب على أمير المسلمين ووالى شؤونهم أن يثابر على الشدائد مهما بلغت ، ويقاسي النكبات وان تراكمت ، ولا يغدر ولا يفتك ليكون ذكره بريئا من كل وصمة.

على أن ولاة الأمور حيث كانوا قدوة لجيلهم يكونون اسوة لمن يأتي بعدهم. فيعرف الناس في المستقبل الكشّاف الذي يميط الستار عن نواياهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، ومساعيهم المشكورة فاللازم على الوالي أن يرتكب خطة تسير على أثره الرعية في غاياتهم المرموق اليها.

واذا وضح هذا فلا يرتاب أحد في الغاية لمسلم بن عقيل عليه‌السلام في جوابه لشريك لما لم يقتل ابن زياد.

وذلك أن شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ولما مرض

__________________

٢٦) صحيح البخاري ج٣ ص٤٧ في كتاب المغازي ، والإستيعاب بترجمة خالد ، وتاريخ الطبري ج٣ ص١٢٣ ، وكامل ابن الأثير ج٢ ص٩٧ حوادث سنة ٨.

١١٥

أرسل إليه ابن زياد اني عائد لك فاخذ شريك يحرّض مسلم بنعقيل على الفتك بابن زياد وقال له : ان غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى اذا اطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة معا العافية (٢٧).

وبينا هم على هذا إذ قيل : الأمير على الباب ، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيدالله فلما استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه ، ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلماً :

ما الانتظار بسلمـي لا تحيوهـا

حيوا سليمى وحيوا من يحيهـا

هل شربة عذبة أسقى على ظماء

ولـو تلفت وكانت منيتـي فيها

وإن تخشّيت من سلمى مراقبـة

فلست تأمن يوما مـن دواهيهـا

وما زال يكرّره (٢٨) وعينه رامقة الى الخزانة ثم صاح بصوت رفيع إسقونيها ولو كان فيها حتفي فالتفت عبيدالله إلى هاني وقال : إن ابن عمك يخلط في علته؟ فقال هاني : ان شريكا يهجر منذ وقع في علته وإنه ليتكلم بما لا يعلم (٢٩) فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك : ما منعك منه؟ قال عليه‌السلام : منعني خلتان الأولى حديث عليّ عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن (٣٠) والثانية امرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي ، فقال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه (٣١).

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثة أيام وما فصلى عليه ابن زياد ، ودفن

__________________

٢٧) مثير الاحزان ص١٤.

٢٨) رياض المصائب ص٦٠.

٢٩) ابن نما ص١٤.

٣٠) الطبري ج٦ ص٢٠٤ ، وابن الأثير ج٤ ص١١ ، والأخبار الطوال ص٢٣٦ ـ وهذا الحديث تكرر ذكره في الجوامع ، رواه أحمد بن حنبل في المسند ج١ ص١٦٦ ، وفي منتخب كنز العمال بهامش المسند لأحمد ج١ ص٥٧ ، والجامع الصغير للسيوطي ج١ ص١٢٣ ، وكنوز الحقائق بهامشه ج١ ص٩٥ ، ونص عليه من علمائنا ابن شهر آشوب في المناقب ج٢ ص٣١٨ ، والبحار في معاجز الصادق ج١١ ، وفي وقائع الأيام عن الشهاب في الحكم والآداب.

٣١) مثير الأحزان لابن نما ص١٤.

١١٦

« بالثوية » (٣٢).

ولما وضح لابن زياد أن شريكا يحرض على قتله قال : والله لا أصلى على جنازة عراقي أبدا ، ولولا قبر زاد فيهم لنبشت شريكا (٣٣).

إن القارئ جد عليم بأن الأمة اذا بلغها عن ممثل سيد الشهداء « مسلم بن عقيل » بأنه آثر انتكاث الأمر عليه ، وقدم تضحيته على الفتك بان مرجانة فلم يقدم على اغتياله والغدر به تكريما لنفسه القدسية عن ارتكاب هذه الخصلة الذميمة التي نهى الشارع الأقدس عن ارتكابها ، فلا يقال رسول الحسين وداعيته الى مناهج الرشاد باغت صاحبه في حين لو أجهز عليه لقضى على فاجر فاسق ولكنه عليه‌السلام ترك ذلك وعرض بنفسه للهلاك تعليما للأمة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقا لاحبا للفوز بالرضوان ، فلا يتجرأ الناس على الملة الحقة ، ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة.

فالأمة اذا بلغها أن هذا الداعي الى الحق ضحى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر ، وذهب ضحية السؤدد والخطر ، ضحية المجد والكرامة ، كان هذا دليلا للتأسّي به ؛ فإن للشيعة نفوسا نزّاعة الى اقتصاص أثر أهل البيت والإستنارة بضوء تعاليمهم ، ولا محالة تنعقد ضمائرهم على القيام بمثله أو ما يشبه كما تسعه نفوسهم وتنضح به آنيتهم.

فمسلم عليه‌السلام كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الأمة دروسا أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كل فرد من شهداء الطف إباء ونخوة وحمية دون القويم.

فهذه الكلمة « الإيمان قيد الفتك » التي أفاضها عالم آل أبي طالب وخليفة الإمام الحجة في الدينيات أوقفتنا على سر من أسرار الشريعة وهو مبغوضية

__________________

٣٢) في المعجم مما استعجم ج١ ص٣٥٠ الثوية موضع وراء الحيرة كان سجنا بناء تبّع وفي معجم البلدان ج١ ص٢٨ كان النعمان يحبس فيه فيقال للمحبوس : ثوي ، فسمي الموضع به ، وهو قريب من الكوفة ودفن فيه المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد وضبطها بالثاء المثلثة مفتوحة بعدها واو مكسورة ثم ياء مشددة بعدها هاء وفي تاج العروس أنها كسمية.

٣٣) ابن الأثير ج٤ ص١١.

١١٧

الغدر ، وإن النفوس الطاهرة تأبى للضيف أن يدخل بمن استضافهم ما يكرهون.

وهناك سرّ آخر لتأخر مسلم عليه‌السلام عن الفتك بابن مرجانة لم تكن الظروف تساعده على كشفه نعرفه من نظائر ما صدر عن المعصومين ؛ فإن أمير المؤمنين لما أتاه ابن ملجم يبايع له وولّى نه قال : « من أراد أن ينظر الى قاتلي فلينظر الى هذا ». فقيل له : ألا تقتله؟ قال عليه‌السلام :

« يا عجباه تريدون أن أقتل قاتلي (٢٤) ».

وليس مراده عليه‌السلام بيان عدم جواز القصاص قبل الجناية كما ظنه من لا خبرة له وإنما اراد بيان ما ثبت لديه من أن الله سبحانه قدّر شهادته على يد أشر بريته وأنه عنده كعاقر ناقة صالح ، وقد علم أمير المؤمنين بما أودع الله تعالى فيهم من القوة النورانية التي بها يدركون ما في الكون من حوادث وملاحم كما هو الحق الذي لا محيص عنه ان هذه الشهادة على يد ابن ملجم من القضاء الذي لا مردّ له ، فيكون المعنى كيف أقدر أن أنقض ما أبرمه المولى الجليل عز شأنه من هذه الشهادة.

والى هذا أوعز عليه‌السلام في كلامه مع ابن ملجم حين مر عليه ورآه نائما على وجهه فعرّفه بأن نومته تلك يمقتها الله تعالى ثم قال له :

« لقد هممت بشيء تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك (٣٥) ».

على أنّ أمير المؤمنين لو فرضنا علمه بتأخر شهادته ذلك الحين لم يقدم على قتل ابن ملجم لأنه به تتجرّى الناس على الفتك بمن يحتملون أنه يريد الإجهاز عليهم ، بل قد يكون العداء فيما بينهم والضغائن التي تحملها جوانحهم حاملا لهم على إزهاق النفوس معتمدين على دعوى العلم أو الظن بذلك فيكثر الهرج وينتشر الفساد.

وعلى ذلك الإساس يكون جواب الحسين لام سلمة حين قالت له :

« لا تخزني بخروجك الى العراق فإني سمعت جدك رسول الله يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق يقال لها : كربلا ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال الحسين :

__________________

٣٤) بصائر الدرجات للصفار ص٦.

٣٥) البحار ج٩ عن أبي الحسن البكري.

١١٨

« يا أماه وأنا أعلم مقتول مذبوح ظلما وعدوانا ، وقد شاء ربي أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا. »

قالت أم سلمة : واعجباه فأنى تذهب وأنت مقتول؟ فقال الحسين :

« يا اماه ان لم أذهب اليوم ذهبت غدا ، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وهل من الموت والله بدّ ، واني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها ، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك ، وان أحببت يا أماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي »

فطلب منه ذلك ، فأراها تربته وتربة أصحابه (٣٦).

ثم أعطاها من تلك التربة وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فاذا رأتها تفور دما تيقّنت قتله ، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت الى القارورتين فاذا هما يفوران دما (٣٧).

وعلى هذا فمن الجائز الممكن أن مسلم بن عقيل عليه‌السلام كان على يقين من شهادته ومحل تربته وانها تكون على يد الدعي ابن الدعي ابن مرجانة ، استفاد ممن أودع عندهم هذا العلم المكنون وهو سيد الشهداء عليه‌السلام.

وعلم المعصومين وان كان « صعب مستصعب لا يتحمّله إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان » لكنهم عليهم‌السلام اذا علموا قابليّة من اشرقت عليه أنوار ولايتهم لتحمل تلك الأسرار ، يوقفونهم عليها ، كما أخبر أميرالمؤمنين ميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وعمر بن الحمق ، ورشيد الهجري الى أمثالهم بقتلهم ، وعلى يد من تكون الشهادة ، والوقت الذي يقتلون فيه ، وكما أخبر سيد الشهداء من ثبت معه على التضحية والمفادات.

ومسلم بن عقيل عليه‌السلام كان في الغارب والسنام من الايمان واليقين والبصيرة النافذة من اولئك الأفذاذ فأي مانع من أن يوقفه أبو عبدالله الحسين عليه‌السلام على ما يجري عليه من كوارث ومحن حرفا حرفاً.

__________________

٣٦) مدينة المعاجز ص٢٢٤.

٣٧) الخرايج للراوندي في باب معجزات الحسين.

١١٩

ثمّ ان الفتك الذي هو قيد الايمان كما في نص الحديث شامل باطلاقه لكل من أراد الوقعية بالمؤمن سواء من ناحية الإجهاز عليه ، أو من جهة اغتيابه وإظهار عيوبه للناس ، أو من جهة النميمة المثيرة للاحن والبغضاء الموجبة لملاشاة الأخوة بين المؤمنين ، أو من جهة اشاعة الفاحشة التي يقول فيها سبحانه وتعالى : « الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدّنيا والآخرة »

فان في كل ذلك وردت الشريعة المحذّرة عنه ، الحاكمة على مرتكب هذه الجهات بالخروج عن ربقة الإيمان.

حفظ الجوار :

حماية الجار من عادات العرب الفاضلة ولهم في ذلك أيام بيض وصحائف ناصعة وإن تطرّق فيها بعضهم فخرج إلى الرعونة (٣٨) لكنها في الجملة مما يمدحون بها ، ولم يبرحوا متهالكين عليها ، فكانت تراق على ذلك الدماء ، وتقوم الحرب العوان على أشدها لأنها من ولائد الحفاظ والشهامة والغيرة على الأحساب وفيها الابقاء على المستجيرين من عادية المرجفين وجلب ودّهم وودّ ذويهم وقبائلهم ، وسيادة الإلفة وتوارث المحبة ، وظهور الأبهة وبروز المنعة ، واخماد الفتن ودحض الفوضى ، ولعل العداء يعود حنانا بارجاء الفتك لأجل الإستجارة الى التفاهم ، أو تبيين أغراض النمامين المثيرين للعداء أو بالمعاذير المقبولة.

وقد حفظ المؤرخون من قضاياهم في هذه الخصلة التي تتفق مع العقل نأتي على بعضها :

منها قصة « أوفى بن مطر المازني » مع رجل جاوره وعنده امرأة أعجبت أخاه قيسا فلم يصل اليها مع زوجها فقتله غيلة وبلغ ذلك « أوفى » فقتل أخاه قيسا بجاره وقال :

إني ابنة العمريّ لا ثوب فاجـر

لبست ولا من غدرة أتقنّـع

سعيت على قيس بذمة جاره

لأمنع عرضي إن عرضي ممنّعُ

__________________

٣٨) في غرر الخصائص للوطواط ص١٦ ، كان حارثة بن مر يسمى مجير الجراد لأنه حمى جرادا لأنه حمى جرادا حط يفنائه ، وكان ثور بن شحمة الضبيّ يسمى مجير الطير فلا تصاد بأرضه ، وحمى زياد الأعجم حمامة تصوت على شجرة فقتلها حبيب وشكاه زياد الى الملهب فالزم حبيبا دية الحر وأعطى زيادا الف دينار.

١٢٠