جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

والعذرة إذا امتزجت بالتراب ، وتقادم عهدها حتى استحالت ترابا نظر.

______________________________________________________

والعذرة إذا امتزجت بالتراب ، وتقادم عهدها حتى استحالت ترابا نظر ).

ينشأ من أن اجزاء النجاسة باقية لم تزل ، وإنما تغيرت الصورة ، وكما أن النجاسة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل ، كذا حصول الطهارة موقوف على الدليل ولم يثبت ، ومن أن مناط النجاسة هو تلك الصورة مع الاسم ، لأن أحكام الشرع جارية على المسميات بواسطة الأسماء ، لأن المخاطب بها كافة الناس ، فينزل على ما هو المتفاهم بينهم عرفا أو لغة كما يليق بالحكمة ، ولا ريب أن الذي كان من أفراد نوع الكلب قبل الاستحالة ، بحيث يصدق عليه اسمه ، قد زال عنه ما كان ، وصار في الفرض من أفراد الملح ، بحيث لا يصدق عليه ذلك الاسم ، بل يعد إطلاقه غلطا.

وكذا القول في العذرة بعد صيرورتها ترابا ، فيجب الآن أن يجري عليها الأحكام المرتبة شرعا على التراب والملح ، على أن جميع ما أجمعوا على طهارته من نحو العذرة تصير دودا ، والمني يصير حيوانا طاهر العين ، ونحو ذلك ، لا يزيد على هذا ، فكان التوقف في الطهارة هنا لا وجه له.

وقد خرّج الشارح الفاضل ولد المصنف بقاء النجاسة ، تارة على كونها ذاتية لهذه الأعيان ، وأخرى على أن الباقي مستغن عن المؤثر ، وزوالها على احتياجه (١) ، وهو تخريج غير واضح ، لأن المراد بكون النجاسة ذاتية للشي‌ء حكم الشارع بها ، لا باعتبار طروء شي‌ء آخر عليه ، وهذا لا دخل له في بقاء النجاسة وزوالها ، وليس المراد بكونها ذاتية معنى آخر ، ولو أريد لم يستقم.

وبناء الطهارة على احتياج الباقي غير واضح ، لأن احتياجه في الإبقاء لا يقتضي زواله باختلاف الزمان ، ولا بتغير محله ، وإلا لكان الحكم الشرعي الثابت ـ بدليل ـ في كل آن زائلا ، أو بكل تغير يعرض لمحله ، وهو معلوم الفساد ، وقد تقرر في الأصول : أن استصحاب الحال حجة إلى أن يحصل الناقل.

فان قيل : لما كان المقتضي للنجاسة هو تعليق الشارع إياها بالاسم والصورة‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٣١.

١٨١

وتكفي إزالة العين والأثر وان بقيت الرائحة ، واللّون العسر الإزالة كدم الحيض ، ويستحب صبغه بالمشق وشبهه.

______________________________________________________

المخصوصين وجب أن يعتبر بقاؤهما في بقائه.

قلنا : ليس المقتضي للنجاسة هنا ذلك ، بل المقتضي لها نص الشارع على نجاسة الجسم المعين ، ولا يعتبر لبقاء الحكم إلا بقاء ذلك الجسم ، ولا دخل لاحتياج الباقي واستغنائه في بقاء الحكم وزواله ، مع بقاء المحل ، فان ذلك مخل بحجية الاستصحاب.

على أن هذا البناء لا يستقيم أصلا ، لأن احتياج الباقي وعدمه ، إنما هو في العلل الحقيقية المؤثرة دون علل الشرع ، فإنها معرفات الأحكام ، والحكم بعد ثبوته بدلالة معرّفة عليه مستغن عن التعريف الى أن يثبت معرّف بحكم آخر.

والحق أن تخريج مسائل الفقه على مثل هذه القواعد بعيد ، وينبغي أن تفرض المسألة فيما إذا كانت العذرة يابسة ، إذ لو كانت رطبة لتنجست الأرض بها ، فإذا استحالت اختلطت أجزاؤها بالمتنجسة ، فلا تكون طاهرة ، نعم لا تكون عين نجاسة.

قوله : ( وإن بقيت الرائحة واللون العسر الإزالة ).

هذا إذا لم تكن الرائحة في الماء ، فان علم تغيره بها نجس ، وإلا فلا عبرة بها ، وكذا لا عبرة باللون العسر الإزالة ، فيعفى عنه للرواية (١) والمشقة ، والمراد العسر عادة ، فلو كان بحيث يزول بمبالغة كثيرة لم يجب.

وهل يتعين له نحو الأشنان والصابون ، أم يتحقق العسر بمجرد الغسل بالماء إذا لم يزل به؟ كل محتمل والأصل يقتضي الثاني ، والاحتياط الأول.

قوله : ( ويستحب صبغه بالمشق وشبهه ).

هو بكسر الميم ، وإسكان الشين المثلثة : المغرة محركة ، ومستند ذلك النص (٢) ، والمتبادر صبغ موضع الدم ، ويحتمل صبغ جميع الثوب ، لأن الظاهر أن المراد زوال صورته من النفس ، ولا يتحقق إلا بالجميع.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧ حديث ٩ ، الفقيه ١ : ٤٢ حديث ١٦٥ ، التهذيب ١ : ٢٨ حديث ٧٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥٧ حديث ٧٤٦ ، والمغرة : طين أحمر تصبغ به الثياب ( الصحاح ٢ : ٨١٨ ـ مغر ـ ).

١٨٢

ويستحب الاستظهار بتثنية الغسل وتثليثه بعد إزالة العين. وانما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه ، لا ما لا يمكن كالمائعات وان أمكن إيصال الماء إلى أجزائها بالضرب.

______________________________________________________

قوله : ( ويستحب الاستظهار بتثنية الغسل وتثليثه بعد إزالة العين ).

هو إمّا استفعال من الطهارة ، أو من الظهور ، أي : طلب الطهارة ، أي المبالغة فيها ، أو طلب ظهورها ، فيصح كون الطاء مهملة ومعجمة ، وهذا إنما يتمشى على الاكتفاء بغسلة واحدة ، أما على القول بوجوب التعدد فتستحب الثالثة حيث لا يجب ، وإنما يعتد بالغسل الذي تذهب به العين ، أما غيره فلا عبرة به.

قوله : ( وإنما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه ، لا ما لا يمكن كالمائعات ، وإن أمكن إيصال الماء إلى أجزائه بالضرب ).

لما ثبت اشتراط انفصال الماء المغسول به عن محل النجاسة إذا كان قليلا ، إما بنفسه أو بالعصر فيما يعصر ، أو بآلة كخرقة أو إناء ، وجب قصر الحكم على ما يمكن نزع الماء عنه كالخشب ، والحجر ، والثوب ، والبدن ، ولا تضر الثقوب والمسام التي لا يمتنع نزع الماء منها ، أما نحو الصابون ، والورق ، والطين والحبوب ، والجبن ذي المسام المانعة من فصل الماء ، والمائعات فلا تطهر بالقليل ، بل يتخلل الكثير لها ، وقد سبق في بحث المياه بيان تطهير المائعات من ماء وغيره.

وفي طهارة الدهن المائع بالكثير إذا ضرب وشاع فيه الماء قول ، اختاره المصنف في المنتهى (١) ، والتذكرة (٢) إذا علم وصول الماء إلى جميع أجزائه ، وهو حق على هذا التقدير ، إلا أنه لا يعلم ، بل قد يعلم خلافه ، لأن الدهن يبقي في الماء مودعا فيه غير مختلط به ، وإنما يصيب سطحه الظاهر ، ولو كان الدهن جامدا جدا كسائر الجامدات طهر ظاهره بالغسل ، كالألية قبل أن تذاب ، وإلا فيكشط ما يكتنف النجاسة كالسمن.

ولو كان منه على البدن شي‌ء طهر بالغسل ، إذا لم يكن له جرم ، لما ورد من‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ١٨٠.

(٢) التذكرة ١ : ٩.

١٨٣

فروع :

أ : لو جبر عظمه بعظم نجس وجب نزعه مع الإمكان.

ب : لا يكفي إزالة عين النجاسة بغير الماء كالفرك ، ولو كان الجسم صقيلا كالسيف لم يطهر بالمسح.

______________________________________________________

كراهة الادهان قبل الغسل (١) ، ولأن هذا القدر غير مانع من وصول الماء إلى البدن ، وضمير ( اجزائه ) في العبارة يعود إلى ( ما ) في قوله : ( لا ما لا يمكن ) ، وفي كثير من النسخ اجزاؤها للمائعات ، وهو حسن.

قوله : ( لو جبر عظمه بعظم نجس وجب نزعه مع الإمكان ).

الظاهر أن المراد به نجس العين كعظم الكلب ، لأن المسألة مفروضة فيه ، لكن على ما اختاره أصحابنا ، لا فرق بين نجس العين والمتنجس ، والمراد بإمكان النزع عدم حصول مشقة كثيرة لا يتحمل مثلها عادة ، سواء خشي تلف عضو أم لا ، ومثله ما لو خاط جرحه بخيط نجس ، فلو صلّى مع إمكان النزع بطلت ، لأنه حامل نجاسة مغلظة.

واحتمل في الذكرى (٢) مع اكتساء اللحم عدم الوجوب ، أي : وإن لم يكن في النزع مشقة لالتحاق ذلك بالباطن ، وهو بعيد عن البواطن المعهودة للنجاسات المختصة بها ، وقال الشافعي : يجب النزع إلا أن يخشى تلفه ، أو تلف عضو من أعضائه (٣) ، ونفي الحرج الحاصل بالمشقة يدفعه.

قوله : ( لا يكفي إزالة عين النجاسة بغير الماء كالفرك ).

خالف أبو حنيفة في ذلك ، فاجتزأ بفرك المني عن الثوب يابسا (٤).

قوله : ( ولو كان الجسم صقيلا كالسيف لم يطهر بالمسح ).

خالف في ذلك السيد المرتضى ، فحكم بطهارة الصيقل بالمسح (٥) ، وهو‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥١ حديث ٦ ، التهذيب ١ : ١٢٩ حديث ٣٥٥ ، الاستبصار ١ : ١١٧ حديث ٣٩٣.

(٢) الذكرى : ١٧.

(٣) المجموع شرح المهذب ٣ : ١٣٧.

(٤) المبسوط للسرخسي ١ : ٨١ ، شرح فتح القدير ١ : ١٧٣ ، اللباب في شرح الكتاب ١ : ٥١.

(٥) لم نجد القول في كتب السيد المتوفرة لدينا ونقله عنه العلامة في المختلف : ٦٣.

١٨٤

ج : لو صلّى حاملا لحيوان غير مأكول صحّت صلاته ، بخلاف القارورة المصمومة المشتملة على النجاسة ، ولو كان وسطه مشدودا بطرف حبل طرفه الآخر مشدود في نجاسة صحّت صلاته وان تحركت بحركته.

______________________________________________________

ضعيف ، لأن زوال النجاسة حكم شرعي ، فيتوقف على الشرع.

قوله : ( لو صلى حاملا لحيوان غير مأكول صحت صلاته ، بخلاف القارورة المصمومة المشتملة على النجاسة ).

الحجة في ذلك حمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمامة بنت أبي العاص وهو يصلي (١) ، وللأصل السالم عن معارضة ما يقتضي المنافاة ، وليست القارورة المصمومة الرأس ـ أي : المسدودة الرأس برصاص ونحوه ، فان صم القارورة ، بالصاد المهملة : سدها ـ كالحيوان غير المأكول على الأصح ، وإن تردد فيه الشيخ في الخلاف (٢) وفي المنتهى بعد أن قوى المنع من ذلك قال : وإن كان لم يقم عندي عليه دليل (٣) ، وجوّزه في المعتبر مطالبا بدليل المنع في مثله (٤) ، فعلى قوله لا حاجة إلى سدّ رأس القارورة.

ومن اشترطه من العامة (٥) إنما أراد به القياس على الحيوان المحمول ، إذ لا يقولون بالعفو عن نجاسة ما لا تتم فيه الصلاة ، ولو كان الحيوان مذبوحا فكالقارورة ، لصيرورة الظاهر والباطن ـ المشتمل على النجاسة ـ سواء بعد الموت ، ولأن حمل جلد غير المأكول لحمه ممنوع منه في الصلاة.

قوله : ( ولو كان وسطه مشدودا بطرف حبل ، طرفه الآخر مشدود في نجاسة صحت صلاته وإن تحركت بحركته ).

لانتفاء اللبس والحمل ، والمنع منوط بهما ، وكذا لو نجس طرف ثوبه الذي لا‌

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٣٧ باب ١٣٧ ، صحيح مسلم ١ : ٣٨٥ حديث ٥٤٣ سنن النسائي ٢ : ٩٥ ، سنن أبي داود ١ : ٢٤١ ، الموطأ ١ : ١٧٠ حديث ٨١.

(٢) الخلاف ١ : ١٠٩ مسألة ١٩١ كتاب كيفية الصلاة.

(٣) المنتهى ١ : ١٨٤.

(٤) المعتبر ١ : ٤٤٣.

(٥) المجموع شرح المهذب ٣ : ١٥٠ وفي ص ١٤٨ شرط بالنجس الا يتحرك بتحرك المصلي فتصح الصلاة.

١٨٥

د : ينبغي في الغسل ورود الماء على النجس ، فان عكس نجس الماء ولم يطهر المحل.

هـ : اللّبن إذا كان ماؤه نجسا أو نجاسة طهر بالطبخ على اشكال ، ولو كان بعض أجزائه نجاسة كالعذرة.

______________________________________________________

يقله في شي‌ء من أحوال الصلاة ـ كالعمامة الطويلة ـ لانتفاء الحمل واللبس على موضع النجاسة ، كما ذكره الشيخ في المبسوط (١) وجماعة (٢).

قوله : ( ينبغي في الغسل ورود الماء على النجس ، فلو عكس نجس الماء ولم يطهر المحل ).

ينبغي قد تستعمل في الوجوب ، والأكثر استعمالها في الندب ، والمراد بها هنا الوجوب ، بدليل قوله : ( فلو عكس ... ) وإنما اشترط الورود ، لأن الوارد عامل فلا يتنجس ، بل يفيد المحل الطهارة.

وهذا فيما يمكن فيه الورود ، أما ما لا يمكن كالإناء ، فيحتمل عدم الاشتراط إلا أن يكتفى بأول وروده. كذا قيل (٣) ، والحق أنه لا يراد بالورود أكثر من هذا ، وإلا لم يتحقق الورود في شي‌ء مما يحتاج فصل الغسالة عنه إلى معونة شي‌ء آخر.

ويحتمل عدم اشتراط الورود مطلقا ، لأن ملاقاة الماء القليل للنجاسة حاصل على التقديرين ، ووروده لا يخرجه عن كونه ملاقيا ، وفيه ضعف ، خصوصا على القول بأن النجاسة في الماء بعد انفصاله لا قبله ، فيلزم تنجس القليل بالملاقاة وعدمه.

قوله : ( اللبن إذا كان ماؤه نجسا ، أو نجاسة طهر بالطبخ على إشكال ).

ينشأ من ادعاء صدق الاستحالة ، وقول أبي الحسن عليه‌السلام في الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى : « إن الماء والنار قد طهراه » (٤) ، ومن أن الاستحالة إنما تتحقق مع زوال الصورة النوعية ، التي هي مدار التسمية والاسم ، ولم يحصل ،

__________________

(١) المبسوط ١ : ٩٤.

(٢) منهم : العلامة في التذكرة ١ : ٩٤ ، والشهيد في الذكرى : ١٥٠.

(٣) قاله السيد المرتضى في الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢١٥.

(٤) الكافي ٣ : ٣٣٠ حديث ٣ ، الفقيه ١ : ١٧٥ حديث ٨٢٩ ، التهذيب ٢ : ٢٣٥ حديث ٩٢٨.

١٨٦

و : لو صلّى في نجاسة معفو عنها ـ كالدم اليسير ، أو فيما لا تتم الصلاة فيه منفردا ـ في المساجد بطلت.

كلام في الآنية : وأقسامها ثلاثة :

الأول : ما يتّخذ من الذهب أو الفضة ، ويحرم استعمالها في أكل وشرب وغيره.

______________________________________________________

والحديث لا دلالة فيه. ولو في قوله : ( ولو كان بعض أجزائه نجاسة ... ) وصلية.

قوله : ( لو صلّى في نجاسة معفوّ عنها ـ كالدم اليسير أو فيما لا تتم الصلاة فيه منفردا ـ في المساجد بطلت ).

لا يجوز إدخال النجاسة الملوّثة للمسجد أو لشي‌ء من آلاته اليه ، لقوله عليه‌السلام : « جنبوا مساجدكم النجاسة » (١) ، قال في الذكرى (٢) : الظاهر أن المسألة إجماعية.

أما غير الملوثة ، فمذهب المصنف عدم جواز إدخالها الى المسجد ، وإن عفي عنها في الصلاة إما لقلتها ، أو باعتبار محلّها ، والأصح عدم التحريم ، للأصل السالم عن معارضة النص السابق ، والإجماع ، وللاتفاق على دخول الحيّض من النساء اجتيازا مع عدم الانفكاك من النجاسة ، والصبيان والغالب عليهم النجاسة ، وكذا القول في المجروح ، والسلس ، والمستحاضة.

قوله : ( كلام في الآنية ).

هي جمع إناء ، وقد جرت العادة بالبحث عنها في آخر أحكام النجاسات ، لأن معظم أحكامها تتعلق بزوال النجاسة.

قوله : ( ويحرم استعمالها في أكل وشرب وغيره ).

لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم » (٣) يقال : جرجر الشراب ، أي : صوت ، والمراد انه بفعله ذلك مستحق‌

__________________

(١) ذكره الشهيد في الذكرى وقال : ( ولم أقف على اسناد هذا الحديث النبوي ... )

(٢) الذكرى : ١٤.

(٣) المجازات النبوية : ١٤٣ حديث ١٠٨ البحار ٦٦ : ٥٣١ حديث ٢١ وفيه : ( آنية ) ، صحيح البخاري ٧ : ١٤٦.

١٨٧

وهل يحرم اتخاذها لغير الاستعمال ، كتزيين المجالس؟ فيه نظر أقربه التحريم.

ويكره المفضض ، وقيل : يجب اجتناب موضع الفضّة.

______________________________________________________

للعذاب على أبلغ وجوهه ، فالمجرجر في جوفه ليس الا نار جهنم ، والوعيد بالنار إنما يكون على فعل المحرم ، وإذا حرم الشرب حرم غيره ، لأنه أبلغ ، ولعدم القائل بالفصل ، ويلزم من تحريم ذلك في إناء الفضة تحريمه في الذهب بطريق أولى.

قوله : ( وهل يحرم اتخاذها لغير الاستعمال كتزيين المجالس؟ فيه نظر أقربه التحريم ).

ينشأ من الأصل ، ومن نهي الباقر عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضة (١) ، والنهي للتحريم ، ولما امتنع تعلقه بالأعيان لأنه لفعل المكلف ، وجب المصير إلى أقرب المجازات إلى الحقيقة ، والاتخاذ أقرب من الاستعمال لأنه يشمله ، بخلاف العكس ، وفي قول الكاظم عليه‌السلام : « إنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون » (٢) إيماء إلى ذلك ، وكذا ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : « إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » (٣) ومنه يظهر وجه القرب ، وهو الأصح.

فرع هذا التحريم مشترك بين : الرجال والنساء اتفاقا.

قوله : ( ويكره المفضض ).

هذا أصح القولين ، لقول الصادق عليه‌السلام : « لا بأس بأن يشرب الرجل في القدح المفضض » (٤) ، وقيل : يحرم (٥) للنهي عنه في حديث آخر (٦) ، وهو محمول على الكراهية ، أو على تحريم الأكل والشرب من موضع الفضة جمعا بين الأخبار.

قوله : ( وقيل : يجب اجتناب موضع الفضة ) (٧).

أي : حال الأكل والشرب ، فيعزل الفم عنه لقوله عليه‌السلام : « واعزل فاك‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٧ حديث ٤.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٨ حديث ٧ ، التهذيب ٩ : ٩١ حديث ٣٨٩.

(٣) صحيح البخاري ٧ : ٩٩ و ١٤٦.

(٤) التهذيب ٩ : ٩١ حديث ٣٩٢.

(٥) قاله الشيخ في الخلاف ١ : ٤ مسألة ١٥ كتاب الطهارة.

(٦) التهذيب ٩ : ٩٠ حديث ٣٨٦.

(٧) قاله الشيخ في المبسوط ١ : ١٣ ، وابن البراج في المهذب ١ : ٢٨.

١٨٨

الثاني : المتّخذ من الجلود ، ويشترط طهارة أصولها وتذكيتها ، سواء أكل لحمها أو لا. نعم يستحب الدبغ فيما لا يؤكل لحمه ، أما المتّخذ من العظام فإنما يشترط فيه طهارة الأصل خاصة.

الثالث : المتخذ من غير هذين ، ويجوز استعماله مع طهارته وان غلا ثمنه. وأواني المشركين طاهرة وان كانت مستعملة ، ما لم يعلم مباشرتهم لها برطوبة.

______________________________________________________

عن موضع الفضّة » (١) والأمر للوجوب ، وهو الأصح.

قوله : ( ويشترط طهارة أصولها وتذكيتها ).

إنما يشترط التذكية فيما ينجس بالموت ، وهو ماله نفس دون ما لا نفس له.

قوله : ( نعم يستحب الدبغ فيما لا يؤكل لحمه ).

وقيل بالوجوب (٢) ، ومقتضى كلام القائلين به : ان الطهارة تحصل بالدبغ ، وهو مردود ، لأن الطهارة حاصلة بالتذكية ، إذ لولاها لكان ميتة ، فلم يطهر بالدبغ ، والأصح عدم الوجوب ، وإن كان العمل به أحوط ، وربما اعتبر الدبغ إن استعمل في مائع ، وفيه ضعف.

قوله : ( المتخذ من غير هذين ).

أراد بهذين القسمين المذكورين ـ أعني آنية الذهب والفضة ، وآنية الجلود والعظام ـ إذ لو لا ذلك لدخل بعض الأقسام الثلاثة في بعض.

قوله : ( ويجوز استعماله مع طهارته وإن غلا ثمنه ).

المراد مع طهارة أصله.

قوله : ( وأواني المشركين طاهرة ما لم يعلم مباشرتهم لها برطوبة ).

للأصل والنصوص الدالة على ذلك (٣) ، ولا فرق بين أوانيهم وسائر ما بأيديهم وعليهم ، إلاّ الجلد واللحم ، لاشتراط العلم بالذكاة.

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٩١ حديث ٣٩٢ وفيه : ( واعزل فمك ).

(٢) القائل به الشيخ في المبسوط ١ : ١٥ ، الخلاف ١ : ٣ : مسألة ١١ كتاب الطهارة ، والشهيد في البيان : ٤٣.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٤ حديث ١٠ ، السنن الكبرى للبيهقي ١ : ٣٢.

١٨٩

وتغسل الآنية من ولوغ الكلب ثلاث مرات أولاهن بالتراب ،

______________________________________________________

قوله : ( ويغسل الانية من ولوغ الكلب ثلاث مرّات أولاهن بالتراب ).

الأصل في ذلك النص الوارد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن الأئمة عليهم‌السلام ، كخبر الفضل أبي العباس ، عن الصادق عليه‌السلام : « اغسله بالتراب أول مرة ، ثم بالماء مرّتين » (١) والولوغ هو شرب الكلب ممّا في الإناء بطرف لسانه ، نص عليه صاحب الصحاح (٢) وغيره (٣).

وهل يلحق بالولوغ ما لو لطع الإناء بلسانه؟ الظاهر نعم لمفهوم الموافقة ، ولا يلحق به مباشرته بسائر أعضائه ، ولا وقوع لعابه في الإناء ، بل هي كسائر النجاسات ، وكذا الحكم في غسالة الولوغ ، ولا يتفاوت الغسل منها بكونها الأولى أو الأخيرة ، لبقاء النجاسة بحالها ما بقي شي‌ء من الغسل ، لامتناع تأثير جزء السبب.

وربما يوجد في كلام بعض الأصحاب وجوب تعدد الغسل من إصابة ماء الغسلة ، بقدر ما بقي من الغسل الواجب قبل ورودها ، لأن الغسالة كالمحل قبلها (٤) ، وهو ضعيف ، وعلى هذا يتخرج الحكم في غسالة ولوغ الخنزير وغيره.

ولا يلحق بالإناء غيره من ثياب وغيرها ، بل يغسل منه كسائر النجاسات.

والقول بوجوب الغسل ثلاثا هو المشهور بين الأصحاب ، والنصوص المعتبرة واردة به (٥) ، وقال ابن الجنيد : يغسل سبعا ، ويجب كون التراب أولا (٦) ، خلافا للمفيد حيث اعتبر الغسل به ثانيا (٧) ، وحديث الفضل حجة عليه (٨) ، ولا يعتبر تجفيف الإناء بعد الغسل خلافا له ، فإن الرطوبة لو كانت نجسة لم يطهر الإناء.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٥ حديث ٦٤٦ ، الاستبصار ١ : ١٩ حديث ٤٠ وليس فيهما ( مرتين ) ، المعتبر ١ : ٤٥٨ وفيه : مرتين.

(٢) الصحاح ( ولغ ) ٤ : ١٣٢٩.

(٣) القاموس ( ولغ ) ٣ : ١١٥.

(٤) الشهيد في اللمعة الدمشقية : ١٧.

(٥) مستدرك الوسائل ١ : ١٦٧ باب ٤٣ من أبواب النجاسات.

(٦) حكاه عنه في المعتبر ١ : ٤٥٨ ، والمختلف : ٦٣.

(٧) المقنعة : ٩.

(٨) التهذيب ١ : ٢٢٥ حديث ٦٤٦.

١٩٠

ومن ولوغ الخنزير سبع مرات بالماء ، ومن الخمر والجرذ ثلاث مرات ويستحب السبع ،

______________________________________________________

ويشترط في التراب الطهارة على أظهر الوجهين ، لظاهر قوله عليه‌السلام : « اغسله » فإن الحقيقة إذا تعذرت يجب المصير إلى أقرب المجازات ، والغسل إنما يكون بطاهر.

وربما يوجد في بعض الأخبار : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب » الحديث (١) ، والطهور هو المطهر ، ولا يلحق به ولوغ الخنزير ، خلافا للشيخ (٢) نظرا إلى صدق اسم الكلب عليه ، وفيه منع ، فإنه قد غلب على هذا النابح.

قوله : ( ومن ولوغ الخنزير سبع مرّات بالماء ).

هذا هو الأصح ، لنص الكاظم عليه‌السلام (٣) ، وقيل : تجزئ الثلاث (٤) ، أما نجاسة بدنه فكسائر النجاسات.

قوله : ( ومن الخمر والجرذ ثلاث مرات ، ويستحب السبع ).

الأصح وجوب السبع فيهما ، لخبري عمار عن الصادق عليه‌السلام الدالين على وجوب السبع فيهما (٥) ، وضعف عمار منجبر بالشهرة ، ولا تضرّ المعارضة بخبره الدال على الثلاث ، لأن الشهرة مرجحة ، وليس الحكم مقصورا على الخمر ، بل المسكر المائع كله كذلك ، ولا يبعد إلحاق الفقاع بها.

وأما الجرذ ، فهو بضم الجيم وفتح الراء المهملة والذال المعجمة آخرا : ضرب من الفأر ، والمراد الغسل من نجاسة موته ، وهل يكون الغسل من غير هذا الضرب من الفأر؟ الظاهر عدم التفاوت ، نظرا إلى إطلاق اسم الفأر على الجميع ، وقد صرح به جمع من الأصحاب (٦) ، وإن توقف فيه صاحب المعتبر (٧).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١ : ١٦٧ باب ٤٣ من أبواب النجاسات.

(٢) المبسوط ١ : ١٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٦١ حديث ٧٩٠.

(٤) قاله الشيخ في المبسوط ١ : ١٥ ، والخلاف ١ : ٢٨ المسألة ١٤٣ كتاب الطهارة.

(٥) التهذيب ١ : ٢٨٤ حديث ٨٣٢ ، التهذيب ٩ : ١١٦ حديث ٥٠٢.

(٦) منهم : العلامة في المختلف : ٦٤.

(٧) المعتبر ١ : ٤٦١.

١٩١

ومن باقي النجاسات ثلاثا استحبابا ، والواجب الإنقاء ، وهذا الاعتبار مع صب الماء في الآنية ، أما لو وضعت في الجاري أو الكر فإنّها تطهر مع زوال العين بأول مرة.

أ : لو تطهّر من آنية الذهب ، أو الفضة ، أو المغصوبة ، أو جعلها مصبا لماء الطهارة صحّت طهارته ، وان فعل محرما.

______________________________________________________

قوله : ( ومن باقي النجاسات ثلاثا استحبابا ، والواجب الإنقاء ).

الأصح وجوب الثلاث ، لرواية عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام (١) ويستفاد من قوله : ( والواجب الإنقاء ) أن الغسل الوارد على عين النجاسة ـ إذا أزالها ـ محسوب من الغسل الواجب ، بخلاف ما لو لم تزل به العين ، فإنه لا أثر له. ويحتمل أن لا يحسب إلا ما ورد بعد زوال العين إن كانت موجودة ، نظرا الى أن سبب التنجيس موجود ، فلا أثر للماء الوارد معه.

قوله : ( وهذا الاعتبار مع صب الماء في الآنية ... ).

لا يخفى أن الماء الكثير لما لم ينفعل بملاقاة النجاسة ، لم يكن كالقليل الذي ينفعل بها في تطهير المحل المتنجس ، فاعتبر في الغسل به عدد مخصوص بخلاف الكثير ، فيكفي الغسل به مرّة ، لكن يعتبر في الولوغ غسل الإناء بالتراب قبله على الأصح ، لإطلاق الأمر به.

قوله : ( لو تطهر من آنية الذهب ، أو الفضة ، أو المغصوبة ، أو جعلها مصبا لماء الطهارة صحت طهارته ، وإن فعل محرما ).

إما آنية النقدين فلأن المنهي عنه فيهما هو أخذ الماء منهما ، أو جعلها مصبا (٢) ، لا إفاضة الماء على محل الطهارة ، ولا تبطل العبادة بمقارنة فعل محرم لفعلها ، ولو تطهر فيهما فالظاهر عدم البطلان ، لرجوع النهي إلى أمر خارج عن العبادة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٤ حديث ٨٣٢.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٥ حديث ١٣٥٣.

١٩٢

بخلاف الطهارة في الدار المغصوبة.

ب : لا يمزج التراب

______________________________________________________

أما إذا تطهر من المغصوبة أو جعلها مصبّا لماء الطهارة ، فإن النهي حينئذ متوجه إلى العبادة ، نظرا إلى منافاتها لحق آدمي مضيق ، فان رد الإناء المغصوب على مالكه واجب على الفور ، فيقتضي الفساد ، كما هو مختار بعض الأصحاب في الصلاة إذا نافت حق آدمي مضيق (١) ، إلا أن يراد فعل الطهارة آخر الوقت.

ولا ريب أن هذا أحوط ، إلا أنّ الدليل لا يساعد عليه ، لأن النهي في العبادة إنما يتحقق بتوجهه إلى نفس العبادة من حيث هي ، أو إلى جزئها أو شرطها ، والمنهي عنه في المتنازع إنما هو ترك الرد على المالك ، لأن الأمر يقتضي الرد على وجه يمنع من نقيضه ، وهو الترك.

وتحقق ترك الرد في ضمن فرد مخصوص ـ كالطهارة في المثال ـ لا يقتضي كون الطهارة منهيّا عنها إلا بالواسطة والعرض وما هذا شأنه فليس بمنهي عنه من حيث هو ، فلا يتطرق الفساد إلى الطهارة. ومثله لو تطهر مكشوف العورة اختيارا مع ناظر محترم ، أو أخرج الخمس ، أو الزكاة ، أو الكفارة في الدار المغصوبة ، أو نوى الصوم إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة.

قوله : ( بخلاف الطهارة في الدار المغصوبة ).

أي : فإنها تبطل ، ومثله لو تطهر في نفس الإناء المغصوب ، واعلم أن وجه الفرق المقتضي للبطلان هنا دون الأول غير واضح ، فإن النهي عن شغل المغصوب بالكون فيه لا يقتضي النهي عن مقارناته التي من جملتها الطهارة ، لأنها أمر خارج عن التصرف فيه ، إذ هي عبارة عن جريان الماء على البدن بفعل المكلف ، وليس للكون بها تعلق في نظر الشارع ، نعم يتخرج على القول السابق ـ إن تم لقائله ـ البطلان مع سعة الوقت لا مع ضيقه ، وأكثر المتأخرين حكموا بالبطلان هنا مطلقا ، لما فيه من الزجر عن الاستيلاء على مال الغير عدوانا ، والمصير إليه هو المختار.

قوله : ( لا يمزج التراب بالماء ).

__________________

(١) منهم : السيد المرتضى في الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢٣١ ، والشهيد في الذكرى : ١٤٩.

١٩٣

ج : لو فقد التراب أجزأ مشابهة من الأشنان والصابون ، ولو فقد الجميع اكتفى بالماء ثلاثا

______________________________________________________

يجوز الكسر في الجيم على أنه مجزوم بلا ، وأنها للنهي ، والكسر للساكنين ، ويجوز الرفع على أنه خبر بمعنى النهي ، ويحتمل أن يكون المعنى : لا يجب أن يمزج التراب ، والمخالف في ذلك هو ابن إدريس فاعتبر المزج ، لأن الغسل حقيقة إجراء المائع (١) ، وقد ورد الأمر بالغسل بالتراب (٢) ، فيجب المزج تحصيلا للحقيقة.

وهو خيال ضعيف ، فان الغسل حقيقة إجراء الماء ، فالمجاز لازم على كل تقدير ، مع أن الأمر بغسله بالتراب ، والممزوج ليس ترابا ، فعلى هذا لو مزج هل يتحقق معه الامتثال أم لا؟ لا أعلم تصريحا بالمنع ، مع أن الحاجة قد تدعو اليه ، كما في الإناء الضيق الرأس إذا أريد تعفيره ، فإنه بدون المزج متعذر أو متعسر.

قوله : ( لو فقد التراب أجزأ مشابهة من الأشنان والصابون ).

يظهر من تعليق أجزأ ما شابه التراب على فقده عدم الإجزاء مع وجوده ، وفيه إشكال يلتفت إلى أن الأمر بالتراب إن كان لخصوصية قائمة به لكونه طهورا ، وجب أن لا يجزئ غيره اضطرارا واختيارا ، لأن النجاسة مانع ، ومزيلها سبب ، وكلاهما من خطاب الوضع الذي لا يتفاوت الحال فيه بالضرورة ، والاختيار ، والاضطرار ، وإلا لم يكن سببا مطلقا.

والمتبادر من النص خلافه (٣) ، ولم تكن خصوصيته معتبرة ، والمفروض خلافه وإن لم يكن لخصوصية فيه ، وإنما أريد به الاستعانة بجرمه على قلع لزوجة النجاسة ، وذكره بخصوصه ، لأنه أعم وجودا وأسهل وجب الاجتزاء بغيره اختيارا ، والمتجه هو الأول اتباعا للمنصوص ، إلا أن جمعا من الأصحاب (٤) ذكروا الاجتزاء بمشابهه مع فقده ، والخروج عن مقالتهم أشد إشكالا ، وإن كان الاحتياط تحري التراب مطلقا.

قوله : ( ولو فقد الجميع اكتفى بالماء ثلاثا ).

__________________

(١) السرائر : ١٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٥ حديث ٦٤٦.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٥ حديث ٦٤٦.

(٤) منهم : الشيخ في المبسوط ١ : ١٤ ، والعلامة في المختلف : ٦٤ حكاه عن ابن الجنيد.

١٩٤

ولو خيف فساد المحل باستعمال التراب فكالفاقد ، ولو غسله بالماء عوض التراب لم يطهر على إشكال.

د : لو تكرر الولوغ لم يتكرر الغسل ، ولو كان في الأثناء استأنف.

هـ : آنية الخمر من القرع ، والخشب ، والخزف غير المغضور كغيره.

______________________________________________________

هذا فتوى المصنف‌ والشيخ (١) ، مع أن عبارة الشيخ تقتضي الاكتفاء بالماء عند فقد التراب ، ويحتمل الاجتزاء بغسلتين عند فقده ، كما يجبان عند وجوده.

والذي يقتضيه النظر بقاء المحل على نجاسته ، الى أن يوجد الذي عينه الشارع لتطهيره ، فان الماء لو فقد لم تطهر النجاسة بالمسح ، والتراب في الولوغ أحد جزأي المطهر ، ومثله لو خيف فساد المحل باستعمال التراب.

قوله : ( ولو غسله بالماء عوض التراب لم يطهر على إشكال ).

ينشأ : من أن الماء أبلغ من التراب فيجزي عنه ، ومن أن النص (٢) ورد على أن المطهر له هو الماء والتراب فلا يتعدى ، وهو الأصح.

قوله : ( آنية الخمر من القرع ، والخشب ، والخزف غير المغضور كغيره ).

المراد بالمغضور : المدهون بشي‌ء يقويه ، ويمنع نفوذ المائع في مسامه ، كالدهن الأخضر الذي تدهن به الأواني غالبا ، ومقصود المسألة أن ما له منافذ من الآنية كالقرع ، وما ليس كذلك كالزجاج والمغضور ، سواء في طهارتها من الخمر إذا غسلت على الوجه المعتبر على أصح القولين.

وقيل : إن القسم الأول لا يطهر ، ولا يجوز استعماله وإن غسل (٣) ، وهو ضعيف ، نعم طهارته باطنا موقوف على تخلل الماء بحيث يصل إلى ما وصل إليه أجزاء الخمر ، ومتى طهر ظاهره وعلم ترشح شي‌ء من أجزاء الخمر المستكنة في البواطن نجس ، وإلاّ فلا.

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٥ حديث ٦٤٦.

(٣) حكاه عن ابن الجنيد المحقق الحلي في المعتبر ١ : ٤٦٧.

١٩٥

المقصد الرابع : في الوضوء ، وفصوله ثلاثة :

الأول : في أفعاله وفروضه سبعة :

أولا : النيّة ، وهي إرادة إيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا ،

______________________________________________________

قوله : ( المقصد الرابع : في الوضوء : وفصوله ثلاثة ).

لا ريب أن مباحث الطهارة هي المقصود الحقيقي في هذا الكتاب ، وما سبق من المباحث بالنسبة إليها كالمقدمات ، والوضوء ، بالضم : الفعل من الوضاءة ، وهي الحسن ، وبالفتح : الماء المعد له.

قوله : ( وفروضه سبعة : الأول : النية ، وهي إرادة إيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا ).

يمكن أن يراد بالأفعال جملة ما يتوقف عليه الشي‌ء ، فلا ينافيه قوله بعد ( وهي شرط في كل طهارة ، ... ) بل هو الأنسب ، لأن النية بالشرط أشبه لسبقها على باقي الأفعال ومصاحبتها إلى الآخر ، وهكذا شأن الشروط ، واللام في النية للعهد كما هو المتبادر ، لأن الظاهر أن المراد بالنية نية الوضوء ، ومقتضى قوله : ( وهي ) أن التعريف لها ، فيكون تعريفا بالأعم ، ولا يتعين أن يراد بالفعل الوضوء كما قيل ، وإن كان صادقا عليه.

والظاهر أن المصنف لما أراد تعريف نيّة الوضوء ، ورأى أنّ تعريف مطلق النية أنفع لعمومه وأليق ، لأن الوضوء أول العبادات فيناسبه البحث عما يشترك فيه جميعها ، وهو النيّة ، والمطلوب ـ وهو معرفة نية الوضوء ـ حاصل ، عدل إلى تعريف مطلق النية ، وإن كان نظم عبارته ليس بذلك الحسن ، والإرادة جنس يتناول كلاّ من النيّة والعزم ، لأنها أعم من أن تقارن الفعل أولا ، ومن وقوعها جنسا لتعريف النية يعلم أن النطق لا دخل له في النيّة أصلا ، وبإضافتها إلى إيجاد الفعل تخرج إرادة ترك المنهيات على الوجه المعتبر من أنها نيّة.

وكذا تخرج نية الصوم والإحرام ، لأن كلا منهما عبارة عن الإمساك عن أمور‌

١٩٦

وهي شرط في كل طهارة عن حدث لا عن خبث ، لأنها كالترك.

______________________________________________________

مخصوصة ، وما قيل من أن التكليف فيهما ، وفي التروك بالكف عن تلك الأشياء (١) ، والكف فعل ، لا يجدي نفعا ، إذ ليس ثم إيجاد فعل بل إبقاؤه.

والجار في قوله : ( على الوجه المأمور به ) إن علق بإيجاد ـ وهو المتبادر ـ صدق على العزم ، فلم يكن التعريف مانعا ، وكذا يصدق على إرادة الله ـ تعالى ـ أفعال العباد ، وإن علق بإرادة لم ينتقض بهما ، لكن لا يكون دالا على اعتبار مشخصات الفعل في النية إلا بطريق اللزوم ، لأن الوجه المأمور به على ذلك التقدير للإرادة لا للفعل.

ثم المأمور به إن أريد به الواجب ـ لأن الأمر حقيقة في الوجوب ، ومجاز في غيره ـ ، انتقض التعريف في عكسه بخروج نية المندوب ، وإن أريد به مطلق المطلوب فعله ، ولو على وجه الإباحة ، كالمطلوب في قوله تعالى ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (٢) لزم مع ارتكاب المجاز صدقه على إرادة إيجاد المباح ، كالاصطياد في الآية على الوجه المطلوب فيها ، وفي عد ذلك نيّة عند الفقهاء بعد.

وأيضا فإن الوجه محتمل أن يراد به الإجمالي ، فينتقض في طرده بإرادة أي عبادة فرضت للقربة ، وأن يراد به التفصيلي ، فلا يصدق على شي‌ء من نيّات العبادات ، وإن أريد غير ذلك ، فلا بد من شي‌ء يعينه ، وأخذ الألفاظ المجملة في التعريف ينافي المطلوب منه من التبيين والإيضاح. وأورد عليه انه شرعا مستدرك ، لأن النيّة تكون للتكليفات العقلية ، وأجيب بأن التكليفات العقلية معتبرة بالشرع فهي شرعية أيضا.

قوله : ( وهي شرط في كل طهارة عن حدث لا عن خبث ، لأنها كالترك ).

لا ريب أن الطهارة عن الحدث فعل مطلوب للقربة ، وهو اتفاقي. ووقوعه على وجوه متعددة ـ بعضها معتبر عند الشارع ، وبعضها غير معتبر ـ أمر معلوم ، وما هذا شأنه فلا بد فيه‌

__________________

(١) قاله الشهيد في اللمعة : ٥٦.

(٢) المائدة : ٢.

١٩٧

ومحلّها القلب ، فان نطق بها مع عقد القلب صحّ ، وإلاّ فلا ، ولو نطق بغير ما قصده كان الاعتبار بالقصد.

______________________________________________________

من النية ، لأن بها يصير واقعا على الوجه المطلوب شرعا ، لأن المؤثر في وجوه الأفعال هو النيّة ، كما دل عليه قوله عليه‌السلام : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى » (١).

أما طهارة الأخباث ـ أعني إزالة النجاسات ـ فان المطلوب ترك النجاسة ، والفعل الموصل إلى ذلك غير مقصود إلا بطريق العرض والتروك باعتبار كونها مرادة للشارع ، لا على وجه مخصوص بأي وجه تحققت حصل المطلوب شرعا ، فليس هناك وجوه متعددة لمتعلق التكليف يتوقف الامتثال على تعيين بعضها بالنية ، فمن ثم لم يحتج في التروك وفي الأفعال ـ التي المطلوب بها ترك شي‌ء آخر ـ إلى النيّة ، بخلاف الأفعال التي تقع على وجوه متعددة بعضها غير مطلوب شرعا ، فإنه لا بد فيها من النيّة كما قدمناه.

وفي حكمها التروك التي ألحقت بالأفعال ، وأجريت مجراها في وقوعها عبادة على وجه مخصوص ـ وهو الصوم والإحرام ـ فيتحصل أن متعلق التكليف منحصر بالاستقراء في أربعة : فعل محض ، ترك محض ، فعل كالترك ، ترك كالفعل ، وقد علم حكمها في اعتبار النيّة ، وعدم اعتبارها.

واعلم أن قول المصنف : ( كالترك ) أراد به أنّ إزالة النجاسة لما كان المراد بها تركها أشبهت التروك باعتبار المعنى المراد منها.

قوله : ( ومحلها القلب ).

هذا معلوم بطريق اللزوم من قوله : ( ارادة ... ) ذكره للتصريح به ، وليبني عليه ما بعده ، وليعلم أن النطق لا تعلّق له بالنيّة أصلا.

قوله : ( فان نطق بها مع عقد القلب صح ، وإلاّ فلا ).

فيه تسامح ، لأن الذي يسبق الى الفهم من العبارة أن يكون المراد صح النطق ، والمراد معلوم ، بني الأمر فيه وفي أمثاله على المسامحة ، كأنه أراد صح فعل النيّة.

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٢ ، وسنن أبي داود ٢ : ٢٦٢.

١٩٨

ووقتها استحبابا عند غسل كفّيه المستحب ، ووجوبا عند ابتداء أول جزء من غسل الوجه ،

______________________________________________________

قوله : ( ووقتها استحبابا عند غسل كفيه المستحب ).

لا يخفى أن محل النيّة عند أول العبادة ، لأنها لو تقدمت عليه لكانت عزما ، ولو تأخرت عنه خلا بعض العبادة عن النيّة ، وأول واجبات الوضوء الذي يتصور إيقاع النية عنده أول غسل الوجه ، فلا يجوز تأخيرها عنه.

وأما غسل اليدين ، والمضمضة والاستنشاق ، فإنها لما كانت من الأفعال المستحبة ، كان أول الوضوء الكامل عند غسل اليدين ، فيكون إيقاع النيّة عنده جائزا ، بل مستحبا ، ليتحقق بها كون الغسل والمضمضة والاستنشاق مستحبة ، إذ لو خلت من النيّة لم يقع من مستحبات الوضوء ، ولا ينافي استحباب النية حينئذ كونها واجبة على معنى التوسعة ، لأن أول وقت الموسّع أفضل من غيره ، كقضاء الصلوات الواجبة فإن أوله أفضل مع ثبوت الوجوب.

وقيد الغسل بكونه مستحبا ، إذ لا يكون من أفعال الوضوء إلا مع الاستحباب ، ومراده استحبابه للوضوء ، كما يشعر به السياق ، ويرشد إليه التعليل ، فلو وجب الغسل لنحو إزالة النجاسة ، أو حرم لصيرورة ماء الطهارة بسببه قاصرا عنها ، أو كره لتوهم قصوره مع ظن العدم ، أو أبيح كأن تتوضأ من كر فصاعدا أو مما لا يمكن الاغتراف منه.

واحتمل في الذكرى (١) الاستحباب هنا ، لحصول مقصود الغسل بالإضافة إلى باقي الأعضاء ، أو لم يكن الوضوء من حدث النوم ، والبول ، والغائط ، أو استحب لغير الوضوء مما يتعلق به كالغسل للاستنجاء ، أو لما لا يتعلق به كالغسل للأكل لم يجز إيقاع النيّة في شي‌ء من هذه المواضع ، لانتفاء كونه من أفعال الوضوء.

واعلم أن قوله : ( استحبابا ) منصوب على التمييز ، وكذا قوله ( وجوبا ) ، وأراد بالوجوب فيه المضيق الذي لا يجوز التأخير عنه ، و ( ابتداء ) في قوله : ( عند ابتداء أول جزء من غسل الوجه ) مستدرك ، مع أنه ليس لأول جزء من غسل الوجه ابتداء.

واعلم أيضا أنه لما كان إدخال جزء من الرأس في غسل الوجه واجبا من باب‌

__________________

(١) الذكرى : ٩٣.

١٩٩

ويجب استدامتها حكما الى آخر الوضوء.

ويجب في النيّة القصد الى رفع الحدث ، أو استباحة فعل مشروط بالطهارة ، والتقرب الى الله تعالى ، وأن يوقعه لوجوبه أو ندبه أو لوجههما على رأي.

______________________________________________________

المقدمة ، كان غسل ذلك الجزء أوّل جزء ، فيجب الابتداء به ، أو بضمه إلى جزء أول من الوجه ويبتدئ بهما.

قوله : ( ويجب استدامتها حكما إلى آخر الوضوء ).

قد كان الواجب استدامة النيّة فعلا الى آخر الوضوء وكل عبادة ، لأن كل جزء من الاجزاء عبادة ، فلا بد له من النية ، الا أن هذا متعذر أو متعسر فاكتفى بالاستدامة حكما ، وفسرها أكثر الأصحاب بأمر عدمي (١) ، وهو أن لا يأتي بنية تنافي الأولى.

وشيخنا الشهيد فسرها بأمر وجودي ، وهو البقاء على حكمها ، والعزم على مقتضاها ، وجعل في رسالة الحج مبنى القولين على مسألة كلامية اختلف فيها ، وهي أن الممكن الباقي هل هو محتاج إلى المؤثر ، أو مستغن عنه؟ وما ذهب اليه من التفسير لا حاصل له ، فان الذهول لا ينافي صحة العبادة اتفاقا ، ولا يجتمع معه ما فسر به ، والبناء المذكور مع بعده غير مستقيم في نفسه ، فالقول ما قاله الأكثر.

قوله : ( ويجب في النية القصد الى رفع الحدث ، أو استباحة فعل مشروط بالطهارة ، والتقرب الى الله تعالى ، وأن يوقعه لوجوبه أو ندبه ، أو لوجههما على رأي ).

اختلف في نيّة الوضوء على أقوال : فقيل بالاكتفاء بالقربة ـ وهو قول الشيخ في النهاية ) (٢) ـ وقيل بالاكتفاء برفع الحدث ، أو استباحة فعل مشروط بالطهارة ـ وهو قوله في المبسوط (٣) ـ والظاهر أنه يريد به مع القربة.

وقيل باعتبار الاستباحة ، وينسب إلى المرتضى (٤) ، وقيل بالقربة والوجوب أو‌

__________________

(١) منهم : الشيخ في المبسوط ١ : ١٩ ، والمحقق في المعتبر ١ : ١٣٩ : والعلامة في التذكرة ١ : ١٥.

(٢) النهاية : ١٥.

(٣) المبسوط ١ : ١٩.

(٤) الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢١٩ ، ٢٢٣.

٢٠٠