إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ٢

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي

إعلام الورى بأعلام الهدى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-011-0
الصفحات: ٤٧٧
الجزء ١ الجزء ٢

وروى محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضل قال : اختلفت الرواية بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء ، أهو من الأصابع إلى الكعبين؟ أم من الكعبين إلى الأصابع؟ فكتب عليّ بن يقطين إلى أبي الحسن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك ، إنّ أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب بخطّك إليّ ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء الله.

فكتب إليه أبو الحسن عليه‌السلام : « فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا ، وتستنشق ثلاثا ، وتغسل وجهك ثلاثا ، وتخلّل لحيتك وتغسل يدك من أصابعك إلى المرفقين ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر اذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ، ولا تخالف ذلك إلى غيره ».

فلمّا وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين تعجّب ممّا رسم له فيه ممّا جميع العصابة على خلافه ، ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذه.

قال : وسعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد وقيل له : إنّه رافضيّ مخالف لك ، فقال الرشيد لبعض خاصّته : قد كثر القول عندي في عليّ بن يقطين وميله إلى الرفض ، وقد امتحنته مرارا فما ظهرت منه على ما يقرف (١) به ، فقيل له : إنّ الرافضة تخالف [ الجماعة ] (٢) في الوضوء فتخفّفه ، ولا تغسل الرجلين ، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه.

فتركه مدّة وناطه بشيء من شغله في الدار حتّى دخل وقت الصلاة ،

__________________

(١) القرف : الاتهام. « الصحاح ـ قرف ـ ٤ : ١٤١٥ ».

(٢) اثبتناه من الارشاد.

٢١

وكان عليّ يخلو في حجرة من الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء فتوضّأ على ما أمره الإمام ، فلم يملك الرشيد نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ثمّ ناداه : كذب يا عليّ بن يقطين من زعم أنّك من الرّافضة. وصلحت حاله عنده.

وورد كتاب أبي الحسن عليه‌السلام : « ابتدئ من الآن يا عليّ بن يقطين توضّأ كما أمرك الله : اغسل وجهك مرّة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنت أخافه عليك ، والسلام » (١).

وروى أحمد بن مهران ، عن محمد بن عليّ ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك بم يعرف الإمام؟

قال : « بخصال : أمّا اولاهنّ : فإنّه بشيء قد تقدّم فيه من أبيه وإشارته إليه لتكون حجّة ، ويسأل فيجيب ، وإذا سكت عنه ابتدأ ، ويخبر بما في غد ، ويكلّم الناس بكلّ لسان » ثمّ قال : « يا أبا محمد ، اعطيك علامة قبل أن تقوم » فلم ألبث أن دخل عليه رجل من أهل خراسان ، فكلّمه الخراساني بالعربيّة فأجابه أبو الحسن بالفارسيّة ، فقال له الخراساني : والله ما منعني أن اكلّمك بالفارسيّة إلاّ أنّني ظننت أنّك لا تحسنها.

فقال : « سبحان الله ، إذا كنت لا أحسن أن اجيبك فما فضلي عليك فيما أستحقّ [ به ] الامامة ». ثمّ قال : « يا أبا محمد ، إنّ الإمام لا يخفى عليه

__________________

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٢٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣٣٥ / ٢٦ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٢٨٨ ، الثاقب في المناقب : ٤٥١ / ٣٨٠ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٥.

٢٢

كلام أحد من الناس ، ولا منطق الطير ، ولا كلام شيء فيه روح » (١).

وروى الحسن بن عليّ بن أبي عثمان (٢) ، عن إسحاق بن عمّار قال : كنت عند أبي الحسن عليه‌السلام ودخل عليه رجل فقال له أبو الحسن : « يا فلان أنت تموت إلى شهر ».

قال : فأضمرت في نفسي كأنّه يعلم آجال الشيعة ، قال : فقال لي : « يا إسحاق ، ما تنكرون من ذلك ، قد كان رشيد الهجري مستضعفا وكان يعلم علم المنايا والإمام أولى بذلك منه ». ثمّ قال : « يا إسحاق ، تموت إلى سنتين ويشتّت مالك وعيالك وأهل بيتك ويفلسون إفلاسا شديدا ».

قال : فكان كما قال (٣).

وروى محمد بن جمهور عن بعض أصحابنا ، عن أبي خالد الزبالي قال : ورد علينا أبو الحسن موسى عليه‌السلام ، وقد حمله المهديّ ، فلمّا خرج ودّعته وبكيت ، فقال لي : « ما يبكيك ، يا أبا خالد؟ » فقلت : جعلت فداك ، قد حملك هؤلاء ولا أدري ما يحدث.

فقال : « أمّا في هذه المرة فلا خوف عليّ منهم ، وأنا عندك يوم كذا في شهر كذا في ساعة كذا ، فانتظرني عند أوّل ميل » ومضى.

__________________

(١) قرب الاسناد : ١٤٦ ، الكافي ١ : ٢٢٥ / ٧ ، ارشاد المفيد ٢ : ٢٢٤ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٢٩٩ ، وباختلاف يسير في : دلائل الامامة : ١٦٩.

(٢) الحسن بن علي بن أبي عثمان ، الملقب أبو محمد سجادة ، قمي ، ضعّفه أصحابنا واتهموه بالغلو وفساد العقيدة.

انظر : رجال الطوسي : أصحاب الامام الجواد عليه‌السلام (١١) ، رجال النجاشي : ٦١ / ١٤١ ، رجال الكشي ٢ : ٨٤١ / ١٠٨٣ ، الخلاصة : ٢١٢ / ٤ ، نقد الرجال : ٨٩ / ٩١.

(٣) نحوه في : بصائر الدرجات ٢٨٥ / ١٣ ، الكافي ١ : ٤٠٤ / ٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣١٠ / ٣ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٢٨٧ ، دلائل الامامة : ١٦٠ ، الثاقب في المناقب : ٤٣٤ / ٣٦٦.

٢٣

قال : فلمّا أن كان في اليوم الذي وصفه لي خرجت إلى أوّل ميل فجلست أنتظره حتّى اصفرّت الشمس ، وخفت أن يكون قد تأخّر عن الوقت فقمت انصرف ، فإذا أنا بسواد قد أقبل ومناد ينادي من خلفي ، فأتيته فإذا هو أبو الحسن عليه‌السلام على بغلة له فقال لي : « أيها يا أبا خالد ».

فقلت : لبّيك يا ابن رسول الله ، الحمد لله الذي خلّصك من أيديهم.

فقال لي : « يا أبا خالد ، أمّا أن لي إليهم عودة لا أتخلّص من أيديهم » (١).

* * *

__________________

(١) قرب الاسناد : ١٤٠ ، الكافي ١ : ٣٩٨ / ٣ ، اثبات الوصية : ١٦٥ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٢٨٧ ، دلائل الامامة : ١٦٨ ، الثاقب في المناقب : ٢٠٠ ، الفصول المهمة : ٢٣٤.

٢٤

( الفصل الرابع )

في ذكر طرف من مناقبه وفضائله وخصائصه التي بان بها عن غيره

قد اشتهر في الناس : أنّ أبا الحسن موسى عليه‌السلام كان أجلّ ولد الصادق عليه‌السلام شأنا ، وأعلاهم في الدين مكانا ، واسخاهم بنانا ، وأفصحهم لسانا ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأفقههم وأكرمهم.

وروي : أنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ، ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ، ثمّ يخرّ ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس ، وكان يقول في سجوده عليه‌السلام : « قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو والتجاوز من عندك ».

وكان من دعائه عليه‌السلام : « اللهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ».

وكان عليه‌السلام يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع.

وكان يتفقّد فقراء المدينة فيحمل إليهم في اللّيل العين (١) والورق (٢) وغير

__________________

(١) العين : الذهب والدنانير. « الصحاح ـ عين ـ ٦ : ٢١٧٠ ».

(٢) الورق : الفضة والدراهم. « الصحاح ـ ورق ـ ٤ : ١٥٦٤ ».

٢٥

ذلك ، فيوصلها إليهم وهم لا يعلمون من أيّ وجه هو (١).

وروى الشريف أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى العلويّ ، عن جدّه بإسناده قال : إنّ رجلا من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه‌السلام ويشتم عليّا عليه‌السلام ، فقال له بعض حاشيته : دعنا نقتل هذا الرجل ، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي ، وسأل عن العمريّ فقيل : إنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة.

فركب إليه ، فوجده في مزرعة [ له ] فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمريّ : لا توطئ زرعنا ، فتوطّأه أبو الحسن عليه‌السلام بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه ، وقال له : « كم غرمت في زرعك هذا؟ ».

فقال : مائة دينار.

قال : « وكم ترجو أن تصيب؟ » قال : لست أعلم الغيب.

قال : « إنّما قلت لك : كم ترجو ».

فقال : « أرجوا أن يجيئني فيه مائتا دينار ».

قال : فأخرج له أبو الحسن عليه‌السلام صرّة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال : « هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو ».

فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسّم أبو الحسن

__________________

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣١ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٨ ، ودون صدر الرواية في : المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٨ ، ونحوه في : تاريخ بغداد ١٣ : ٢٧ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٨ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧١ ، الفصول المهمة : ٢٣٧.

٢٦

موسى عليه‌السلام وانصرف ، ثمّ راح إلى المسجد فوجد العمريّ جالسا فلمّا نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

قال : فوثب إليه أصحابه فقالوا له : ما قصّتك؟ فقد كنت تقول غير هذا!! قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه‌السلام ، فخاصموه وخاصمهم.

فلمّا رجع أبو الحسن عليه‌السلام إلى داره قال لمن سألوه قتل العمريّ : « أيّما كان خيرا ما أردت أو ما أردتم؟ » (١).

وذكرت الرواة : أنّه عليه‌السلام كان يصل بالمائتي دينار إلى ثلاثمائة دينار ، وكانت صرار موسى عليه‌السلام مثلا (٢).

وذكروا : أنّ الرشيد لما خرج إلى الحجّ وقرب من المدينة استقبله وجوه أهلها يقدمهم موسى بن جعفر عليهما‌السلام على بغلة ، فقال له الربيع : ما هذه الدابّة التي تلقّيت عليها أمير المؤمنين ، وأنت إن طلبت عليها لم تدرك وإن طلبت لم تفت؟

فقال عليه‌السلام : « إنّها تطأطأت عن خيلاء الخيل وارتفعت عن ذلّة العير ، وخير الامور أوسطها » (٣).

قالوا : ولمّا دخل هارون المدينة وزار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٣ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٩ ، دلائل الامامة : ١٥٠ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٨ ، مقاتل الطالبيين : ٤٩٩ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧١.

(٢) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٤ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٨ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٩ ، مقاتل الطالبيين : ٤٩٩ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٨ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧١.

(٣) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٤ ، روضة الواعظين : ٢١٥ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٠ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٩ ، وباختلاف يسير في : أعلام الدين : ٣٠٦ ، مقاتل الطالبيين : ٥٠٠.

٢٧

قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا ابن عمّ ، مفتخرا بذلك على غيره.

فتقدّم أبو الحسن عليه‌السلام وقال : « السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبه » فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن فيه الغضب (١).

وروى الشريف الأجلّ المرتضى ـ قدس الله روحه ـ عن أبي عبيد الله المرزبانيّ ، مرفوعا إلى أيّوب بن الحسين الهاشميّ قال : كان نفيع رجلا من الأنصار حضر باب الرشيد ـ وكان عريضا ـ وحضر معه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، وحضر موسى بن جعفر عليهما‌السلام على حمار له ، فتلقّاه الحاجب بالبشر والإكرام ، وأعظمه من كان هناك ، وعجّل له الإذن ، فقال نفيع لعبد العزيز : ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم ، يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير ، أما لئن خرج لأسوءنّه ، قال له عبد العزيز : لا تفعل ، فإن هؤلاء أهل بيت قلّ من تعرّض لهم في خطاب إلاّ وسموه في الجواب سمه يبقى عارها عليه مدى الدهر.

قال : وخرج موسى عليه‌السلام فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ، ثمّ قال : من أنت؟

فقال : « يا هذا ، إن كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب الله ابن اسماعيل ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله ، وإن كنت تريد البلد فهو الذي فرض الله عزّ وجلّ على المسلمين وعليك ـ إن كنت منهم ـ الحجّ إليه ، وإن كنت تريد المفاخرة فو الله ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء لهم

__________________

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٤ ، كنز الفوائد ١ : ٣٥٦ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٠ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٩ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٣١ ، تذكرة الخواص : ٣١٤ ، كفاية الطالب : ٤٥٧ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٩ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٣ ، البداية والنهاية ٥ : ١٨٣.

٢٨

حتّى قالوا : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش ، وإن كنت تريد الصيت والاسم فنحن الذين أمر الله تعالى بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة بقول : ( اللهم صلّ على محمد وآل محمد ) فنحن آل محمد ، خلّ عن الحمار ».

فخلّى عنه ويده ترعد ، وانصرف بخزي ، فقال له عبد العزيز : ألم أقل لك؟! (١)

وروي عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت قال : دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام فسلّمت عليه ، وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى عليه‌السلام في دهليزه قاعدا في مكتبه وهو صغير السنّ ، فقلت : أين يضع الغريب إذا كان عندكم إذا أراد ذلك؟

فنظر إليّ ثمّ قال : « يجتنب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية الدور ، والطرق النافذة ، والمساجد ، ويرفع ويضع بعد ذلك أين شاء ».

فلمّا سمعت هذا القول نبل في عيني وعظم في قلبي ، فقلت له : جعلت فداك ، ممّن المعصية؟

فنظر إليّ ثم قال : « اجلس حتّى اخبرك » ، فجلست فقال : « إنّ المعصية لا بد أن تكون من العبد ، أو من ربه ، أو منهما جميعا ، فإن كانت من الربّ فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله ، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجّه النهي وله حقّ الثواب والعقاب ، ولذلك وجبت له الجنّة والنار ».

__________________

(١) أمالي المرتضى ١ : ٢٧٤ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٦ ، أعلام الدين : ٣٠٥ دلائل الامامة : ١٥٦.

٢٩

فلمّا سمعت ذلك قلت : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) (٢).

ونظم بعضهم هذا المعنى شعرا وقال :

لم تخل أفعالنا اللاّتي نذمّ بها

إحدى ثلاث خلال حين نأتيها

إمّا تفرّد بارينا بصنعتها

فيسقط اللوم عنّا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيه فيلحقه

ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنايتها

ذنب فما الذنب إلاّ ذنب جانيها (٣)

وروى أبو زيد قال : أخبرنا عبد الحميد قال : سأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى عليه‌السلام بمحضر من الرشيد ـ وهم بمكّة ـ فقال له : هل يجوز للمحرم أن يظلّل على نفسه ومحمله؟

فقال : « لا يجوز له ذلك مع الاختيار ».

فقال محمد بن الحسن : أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا؟

قال : « نعم ».

فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : « أتعجب من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتستهزئ بها!! إنّ رسول الله كشف ظلاله في إحرامه ومشى تحت الظلال وهو محرم ، إنّ أحكام الله تعالى يا محمد لا تقاس ، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضلّ

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٣٤.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٤ ، تحف العقول : ٤١١ ، وصدر الرواية في : الكافي ٣ : ١٦ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣٠ / ٧٩ ، اثبات الوصية : ١٦٢ ، دلائل الامامة : ١٦٢ ، وذيلها في : أمالي الصدوق : ٣٣٤ / ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٨ / ٣٧ ، التوحيد ٩٦ / ٢ ، كنز الفوائد ١ : ٣٦٦ ، كشف الغمة ٢ : ٢٩٤.

(٣) كنز الفوائد ١ : ٣٦٦ ، اعلام الدين : ٣١٨.

٣٠

عن سواء السبيل ».

فسكت محمد بن الحسن ولم يحر جوابا (١).

وكان عليه‌السلام أحفظ الناس بكتاب الله تعالى وأحسنهم صوتا به ، وكان إذا قرأ يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته ، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المتهجّدين (٢).

ومن باهر خصائصه عليه‌السلام ما وردت به الآثار في شأن أمّه ، وذلك ما أخبرني به المفيد عبد الجبّار بن علي الرازي رحمه‌الله ، إجازة ، قال : أخبرنا الشيخ أبو جعفر الطوسي قال : أخبرنا الحسين بن عبيد الله ، عن أبي عليّ أحمد بن جعفر البزوفريّ ، عن حميد بن زياد ، عن العبّاس بن عبيد الله ابن أحمد الدهقان ، عن إبراهيم بن صالح الأنماطي ، عن محمد بن الفضل وزياد بن النعمان وسيف بن عميرة ، عن هشام بن أحمر قال : أرسل إليّ أبو عبد الله عليه‌السلام في يوم شديد الحرّ ، فقال لي : « اذهب إلى فلان الافريقي فاعترض جارية عنده من حالها كذا وكذا ، ومن صفتها كذا ».

فأتيت الرجل فاعترضت ما عنده ، فلم أر ما وصف لي ، فرجعت إليه فأخبرته فقال : « عد إليه فإنّها عنده ».

فرجعت إلى الافريقي ، فحلف لي ما عنده شيء إلاّ وقد عرضه عليّ ، ثمّ قال : عندي وصيفة مريضة محلوقة الرأس ليس ممّا يعترض ، فقلت له : اعرضها عليّ ، فجاء بها متوكّئة على جاريتين تخطّ برجليها الأرض ، فأرانيها

__________________

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٥ ، روضة الواعظين : ٢١٦ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٤ ، كشف الغمة ٢ : ٢٣٠.

(٢) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٥ ، روضة الواعظين : ٢١٦ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣١٨ ، كشف الغمة ٢ : ٢٣٠.

٣١

فعرفت الصفة ، فقلت : بكم هي؟ فقال لي : اذهب بها إليه فيحكم فيها ، ثم قال لي : قد والله أردتها منذ ملكتها فما قدرت عليها ، ولقد أخبرني الذي اشتريتها منه عند ذلك أنّه لم يصل إليها ، وحلفت الجارية أنّها نظرت إلى القمر وقع في حجرها.

فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بمقالتها ، فأعطاني مائتي دينار فذهبت بها إليه فقال الرجل : هي حرّة لوجه الله تعالى إن لم يكن بعث إليّ بشرائها من المغرب.

فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بمقالته ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « يا ابن أحمر أما إنّها تلد مولودا ليس بينه وبين الله حجاب » (١).

وقد روى الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب ( الإرشاد ) مثل هذا الخبر مسندا إلى هشام بن الأحمر أيضا ، إلاّ أنّ فيه : إن أبا الحسن موسى عليه‌السلام أمره ببيع هذه الجارية ، وإنّها كانت أمّ الرضا عليه‌السلام (٢).

وسمّي عليه‌السلام بالكاظم لما كظمه من الغيظ ، وتصبّره على ما فعله الظالمون به ، حتّى مضى قتيلا في حبسهم (٣).

* * *

__________________

(١) أمالي الطوسي ٢ : ٣٣١ ، ونحوه في : دلائل الامامة : ١٤٨.

(٢) ارشاد المفيد ٢ : ٢٥٤ ، وكذا في : الكافي ١ : ٤٠٦ / ١ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٧ / ٤ ، الاختصاص : ١٩٧ ، اثبات الوصية : ١٧٠ ، كشف الغمة ٢ : ٢٤٤ و ٢٧٢ ، دلائل الامامة : ١٧٥.

(٣) ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٥ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٢٣٥.

٣٢

( الفصل الخامس )

في ذكر وفاته عليه‌السلام وسببها

ذكروا : أنّ الرشيد قبضه عليه‌السلام لمّا ورد إلى المدينة قاصدا للحجّ ، وقيّده واستدعى قبّتين جعله في إحداهما على بغل وجعل القبّة الاخرى على بغل آخر ، وخرج البغلان من داره مع كلّ واحد منهما خيل ، فافترقت الخيل فمضى بعضها مع إحدى القبّتين على طريق البصرة ، وبعضها مع الاخرى على طريق الكوفة ، وكان عليه‌السلام في القبة التي تسير على طريق البصرة ـ وإنّما فعل ذلك الرشيد ليعمي على الناس الخبر ـ وأمر أن يسلّم إلى عيسى بن جعفر بن المنصور فحبسه عنده سنة ، ثمّ كتب إليه الرشيد في دمه فاستعفى عيسى منه ، فوجّه الرشيد من تسلّمه منه ، وصيّر به إلى بغداد ، وسلّم إلى الفضل بن الربيع وبقي عنده مدّة طويلة ، ثمّ أراده الرشيد على شيء من أمره فأبى فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى ، فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد ، فكان عليه‌السلام مشغولا بالعبادة ، يحيي الليل كلّه صلاة وقراءة للقرآن ، ويصوم النهار في أكثر الأيّام ، ولا يصرف وجهه عن المحراب ، فوسّع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه.

فبلغ ذلك الرشيد وهو بالرقّة فكتب إليه يأمره بقتله ، فتوقّف عن ذلك ، فاغتاظ الرشيد لذلك وتغيّر عليه وأمر به فادخل على العبّاس بن محمد وجرّد وضرب مائة سوط ، وامر بتسليم موسى بن جعفر عليهما‌السلام إلى السندي ابن شاهك.

وبلغ يحيى بن خالد الخبر ، فركب إلى الرشيد وقال له : أنا أكفل بما تريد ، ثمّ خرج إلى بغداد ودعا بالسندي وأمره فيه بأمره ، فامتثله وسمّه في

٣٣

طعام قدّمه إليه ويقال : إنّه جعله في رطب أكل منه فأحسّ بالسمّ ، ولبث بعده موعوكا ثلاثة أيّام ، ومات عليه‌السلام في اليوم الثالث.

ولما استشهد صلوات الله عليه أدخل السنديّ عليه الفقهاء ووجوه الناس من أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عديّ ، فنظروا إليه لا أثر به من جراح ولا خنق ، ثمّ وضعه على الجسر ببغداد ، وأمر يحيى بن خالد فنودي : هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت قد مات فانظروا إليه ، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت ، ثمّ حمل فدفن في مقابر قريش ، وكانت هذه المقبرة لبني هاشم والأشراف من الناس قديما (١).

وروي : أنّه عليه‌السلام لمّا حضرته الوفاة سأل السندي بن شاهك أن يحضره مولى له مدنيّا ينزل عند دار العبّاس في مشرعة القصب ليتولّى غسله وتكفينه ، ففعل ذلك.

قال السندي بن شاهك : وكنت سألته أن يأذن لي في أن اكفّنه فأبى وقال : « إنّا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا ، وعندي كفني واريد أن يتولّى غسلي وجهازي مولاي فلان » فتولّى ذلك منه (٢).

وقيل : انّ سليمان بن أبي جعفر المنصور أخذه من أيديهم وتولّى غسله وتكفينه ، وكفّنه بكفن فيه حبرة استعملت له بألفي وخمسمائة دينار ، مكتوب عليها القرآن كلّه ، ومشى في جنازته حافيا مشقوق الجيب إلى مقابر قريش

__________________

(١) انظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٥ / ١٠ ، ارشاد المفيد ٢ : ٢٣٩ ، الغيبة للطوسي : ٢٨ / ضمن حديث ٦ ، روضة الواعظين : ٢١٩ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٧ ، مقاتل الطالبيين : ٥٠٢ ، الفصول المهمة : ٢٣٩.

(٢) ارشاد المفيد ٢ : ٢٤٣ ، الغيبة للطوسي : ٢٨ / ضمن حديث ٦ ، كشف الغمة ٢ : ٢٣٤ ، مقاتل الطالبيين : ٥٠٤ ، الفصول المهمة : ٢٤٠.

٣٤

فدفنه هناك (١).

* * *

__________________

(١) كمال الدين ١ : ٣٩ ، المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٨.

٣٥

( الفصل السادس )

في ذكر عدد أولاده عليه‌السلام

كان له عليه‌السلام سبعة وثلاثون ولدا ذكرا وانثى :

عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ، وإبراهيم ، والعبّاس ، والقاسم لامّهات أولاد.

وأحمد ، ومحمد ، وحمزة ، لأمّ ولد.

وإسماعيل ، وجعفر ، وهارون ، والحسين ، لأمّ ولد.

وعبد الله ، وإسحاق ، وعبيد الله ، وزيد ، والحسن ، والفضل ، وسليمان ، لامّهات أولاد.

وفاطمة الكبرى ، وفاطمة الصغرى ، ورقيّة ، وحكيمة ، وأمّ أبيها ، ورقيّة الصغرى ، وكلثم ، وأمّ جعفر ، ولبابة ، وزينب ، وخديجة ، وعليّة ، وآمنة ، وحسنة ، وبريهة ، وعائشة ، وأمّ سلمة ، وميمونة ، وأمّ كلثوم [ لامّهات أولاد ] (١).

وكان أحمد بن موسى كريما ورعا ، وكان موسى عليه‌السلام يحبّه ووهب له ضيعته المعروفة باليسيرة ، ويقال : إنّه أعتق ألف مملوك.

وكان محمد بن موسى عليهما‌السلام صالحا ورعا.

وكان إبراهيم بن موسى شجاعا كريما ، وتقلّد الإمرة على اليمن في أيّام المأمون من قبل ( محمد بن زيد ) (٢) بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي

__________________

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٤٤ ، تاريخ الامامة ( مجموعة نفيسة ) : ٢٠ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٤ ، دلائل الامامة : ١٤٩ ، تذكرة الخواص : ٣١٤ ، الفصول المهمة : ٢٤١

(٢) لعل المصنف أراد نسبته إلى جده ، وكذا هو في الارشاد ، حيث ان اسمه محمد بن محمد

٣٦

طالب عليهم‌السلام الذي بايعه أبو السرايا بالكوفة ومضى إليها ففتحها وأقام بها مدّة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان ، وأخذ له الأمان من المأمون.

ولكلّ واحد من ولد أبي الحسن موسى عليه‌السلام فضل ومنقبة ، وكان الرضا عليه‌السلام مشهورا بالتقدّم ونباهة القدر ، وعظم الشأن ، وجلالة المقام بين الخاصّ والعامّ (١).

* * *

__________________

ابن زيد.

انظر : رجال الكشي ـ ترجمة علي بن عبيد الله بن حسين العلوي ـ ٢٥٦ / ٦٧١ ، تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٩ ، مقاتل الطالبيين : ٥١٣ ، والكامل في التاريخ ٦ : ٣٠٥.

(١) ارشاد المفيد ٢ : ٢٤٤ ، كشف الغمة ٢ : ٢٣٦ ، الفصول المهمة : ٢٤٢.

٣٧
٣٨

( الباب السابع )

في ذكر الامام المرتضى أبي الحسن

علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام

وهو ستة فصول :

٣٩

( الفصل الأول )

في ذكر تاريخ مولده ، ومبلغ سنه ، ووقت وفاته

ولد بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة (١). ويقال : إنّه ولد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة يوم الجمعة سنة ثلاث وخمسين ومائة ، بعد وفاة أبي عبد الله عليه‌السلام بخمس سنين ، رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه (٢). وقيل : يوم الخميس (٣).

وامّه أمّ ولد يقال لها : أمّ البنين (٤) ، واسمها نجمة (٥). ويقال : سكن النوبية (٦). ويقال : تكتم (٧).

روى الصولي عن عون بن محمد قال : سمعت عليّ بن ميثم قال : اشترت حميدة المصفّاة ـ وهي أمّ أبي الحسن موسى عليه‌السلام وكانت من أشراف العجم ـ جارية مولّدة اسمها تكتم ، فكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة ، حتّى أنّها ما جلست بين يديها منذ

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٠٦ ، ارشاد المفيد ٢ : ٢٤٧ ، تاج المواليد ( مجموعة نفيسة ) : ١٢٤ ، الفصول المهمة : ٢٤٤ ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٤٩ : ٣ / ٤

(٢) في عيون الاخبار ١ : ١٨ ) المطبوع ذكر ذلك باختلاف فيه ، ولكن الشيخ الجزائري في لوامع الانوار ( مخطوط ) اشار الى ان في جملة من نسخ العيون موافق لما عندنا اعلاه.

(٣) تاج المواليد ( مجموعة نفيسة ) : ١٢٤.

(٤) الكافي ١ : ٤٠٦ ، ارشاد المفيد ٢ : ٢٤٧ ، الهداية الكبرى : ٢٧٩.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤ / ١ ، دلائل الامامة : ١٧٦.

٤٠