الأمان من أخطار الأسفار والأزمان

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الأمان من أخطار الأسفار والأزمان

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٦

(بسم الله) (١) رب الأرض والسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم. اللهم أسعدني في مطعمي (٢) هذا بخيره ، وأعذني من شره ، وامتعني بنفعه ، وسلمني من ضره (٣).

قال الطبرسي : وابدأ في أول الطعام بالملح ، واختم بالخل (٤).

وقال : وكان المني صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أكل طعاماً قال : «اللهم بارك لنا فيه ، وارزقناً خيراً منه» (٥).

قال : وكان إذا أكل اللبن أو شرب قال : «اللهم بارك لنا فيه ، وارزقنا منه».

وقال الطبرسي : وتقول عند الفراغ من الطعام : الحمدلله الذي أطعمني فأشبعني ، وسقاني فأرواني ، وصانني وحماني. الحمدلله الذي عرفني البركة واليمن فيما أصبته وتركته منه ، اللهم اجعله هنيئاً مريئاً لاوبيئاً ولادوياً ، وأبقني بعده سويا قائماً بشكرك ، محافظاً على طاعتك ، وارزقني رزقاً داراً ، (وعيشاً قاراً) (٦) ، واجعلني بارا ، واجعل ما يتلقاني في المعاد منهجاً ساراً برحمتك (يا أرحم الراحمين) (٧) (٨).

وقال الطبرسي في آداب شرب الماء : وإذا شربت الماء فاجتنب موضع العروة ، فإنها مقعد الشياطين (٩) ، ولا تشرب بنفس واحد ، بل ينبغي أن يكون بثلاثة أنفاس.

قال : وتقول عند شرب الماء : الحمدلله منزل الماء من السماء ، مصرف الأمر كيف يشاء ، بسم الله خير الأسماء.

قال : وتقول عند الفراغ من الشرب : الحمدلله الذي سقاني عذباً فراتاً ، ولم

__________________

(١) ليس في «د» و «ش».

(٢) في «ط» زيادة : ومشربى.

(٣) الآداب الدينية : ٢١ ، مكارم الأخلاق : ١٤٤.

(٤) الاداب الدينية : ٢٢.

(٥) الآداب الدينية : ٢٣.

(٦) ليس في «د».

(٧) أجس في «د» و «ط».

(٨) الآداب الدينية : ٢١ ، مكارم الأخلاق : ١٤٤.

(٩) في «ش» : الشيطان.

٦١

يجعله ملحاً اجاجاً (١) فله الشكرعلى إنعامه وجوده وامتنانه. الحمد لله الذي سقاني فأرواني ، وأعطاني فأرضاني ، وعافاني وكفاني. اللهم اجعلني ممن تسقيه في المعاد من حوض محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسعده بمرافقته ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وقال في آداب الأكل والشرب : ويكره الأكل والشرب ماشياً ، وليس بمحظور (٢).

قال : ويستحب أن يبدأ صاحب الطعام بالأكل ، وأن يكون آخر من يرفع يده.

قال : وإذا أرادوا غسل الأيدي ، بدأ بمن هو عن يمينه ، حتى ينتهي إلى آخرهم.

قال : ويستحب جمع غسالة الأيدي في إناء واحد (٣).

قال : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أكل التمر طرح النوى على ظهر كفه ، ثم يقذف به.

وقال و (كان عبدالله بن عباس رضي‌الله‌عنه) (٤) إذا أكل رمانة لا يشركه فيها أحد ، و (يقول : في كل رمانة حبة من حب الجنة) (٥).

قال : ويستحب أكل الرمان يوم الجمعة.

قال : وفي آداب الضيافة أن رجلاً دعا أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : «قد أجبتك على أن تضمن لي ثلاث خصال» قال : وما هي ، يا أمير المؤمنين؟ قال : «لاتدخل علي شيئا من خارج ، ولا تدخرعني شيئا في البيت ، ولا تجحف بالعيال» قال : ذلك لك ، فأجابه علي عليه‌السلام (٦).

* * *

__________________

(١) في المصدرزيادة : بذنوبي.

(٢) ورد في «د» تحتها ما نصه : وقيل يعم والأول أظهر.

(٣) الآداب الدينية : ٢٢.

(٥,٤) ليس في «د» و «ش».

(٦) الآداب الدينية : ٢٣.

٦٢

الباب الرابع :

فيما نذكره من الاداب في لبس المداس أو النعل أو السيف ، والعدة عند الأسفار ، وفيه فصول :

إعلم : أننا نذكر لكل شيء من هذه الآلات ما نختاره من الآداب في الروايات.

الفصل الأول : فيما نذكره مما يختص بالنعل والخف.

فمن ذلك ما رواه الطبرسي في كتاب (الآداب الدينية) فقال : وإذا أردت لبس الخف أو النعل ، فالبسهما جالساً ، وابدأ باليمين وقل : بسم الله ، اللهم صل على محمد وآل محمد ، ووطئ قدمي في الدنيا والآخرة ، وثبتهما على الصراط يوم تزل فيه الأقدام.

وإذا أردت خلع النعل أو الخف ، فابدأ باليسار وقل : بسم الله ، الحمدلله الذي رزقني ما أوقي به قدمي من الأذى ، اللهم ثبتهما على صراطك ، ولا تزلهما عن صراطك السوي (١).

قال : ويستحب لبس النعل البيضاء والصفراء ، ويكره لبس النعل السوداء ، وروي في ذلك عدة روايات.

الفصل الثاني : في صحبة السيف في السفر ، وما يتعلق به من العوذة الدافعة للخطر.

إعلم : أن القران الشريف يتضمن ( واعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّالله وعدوّكم ) (٢) والأحاديث كثيرة في صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله السيف ، وحمله له صلوات الله عليه واله ، وأما لبس السيف ، فإن العادة أنه يكون نصله عن اليسار ، بحيث إذا احتاج الانسان إلى سله يأخذه باليمين ، من غير التفات ولا مشقة عند الضرورات. وقد يكون الإنسان قوته باليد اليسار ، فيحتاج أن

__________________

(١) الاداب الدينية : ٥.

(٢) الأنفال ٨ : ٦٠.

٦٣

يلبسه على يمينه ، ليكون أمكن له عند سله ، فهذا أمر يتعلق بمصلحة حامله في الأسفار في دفع الاخطار.

وأما العوذة التي تشد على السيف ، فنذكر بعض ما رأيناه من العوذ والدعوات ، فإنها كثيرة في الروايات. فمن ذلك عوذة روي أنها وجدت في قائم سيف مولانا علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وكانت في قائم سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي :

بسم الله الرحمن الرحيم ، يا الله يا الله يا لله ، أسألك يا ملك الملوك الأول القديم الأبدي الذي لا يزول ولا يحول ، أنت الله العظيم الكافي كل شيء المحيط بكل شيء ، اللهم اكفني باسمك الأعظم الأجل الواحد الاحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد. حجبت عني شرورهم وشرورالأعداء كلهم وسيوفهم وبأسهم ، والله من ورائهم محيط ، اللهم احجب عني شر من أرادني بسوء ، بحجابك الذي احتجبت به فلم ينظرإليه أحد ، من شر فسقة الجن والإنس ، ومن شرسلاحهم ، ومن الحديد ، ومن كل مايتخوف ويحذر ، ومن شركل شدة وبلية ، ومن شر ما أنت به أعلم وعليه أقدر ، إنك على كل شيء قدير ، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليماً.

الفصل الثالث : فيما نذكره من القوس والنشاب ، ومن ابتدأه ، وما يقصد بحمله من رضى سلطان الحساب.

وجدت في كتاب (الرمي بالنشاب) وهوكتاب عتيق لم يذكراسم مصنفه ، فذكرأنه أول ما ابتدأ بالرمي على عهد سليمان بن داود عليه‌السلام ، فقال : إنه سأل ربه أن يرزقه من الحيلة مايقتل به عدوه من الجن والإنس ، من غير ان يروه (١) ويخالطوه ، فألهمه الله صنعة القوس والنشاب.

قال مصنف كتاب (الرمي) : فلم تزل الملوك من بعده يرمون بنشابة واحدة ، حتى كان على عهد (كيخسرو بن سياوش (٢)»ملك الأقاليم ، وكان موحداً عظيم الهيبة ، سديد الرأي في نكاية العدو ، وكان له قائد يقال له : بسطام بن كردم صاحب ثغر ناحية

__________________

(١) في «ش» : يقربوه.

(٢) في «ش» : كيكاوس.

٦٤

أرمينية وأذربيجان ، وكان مسلحته يومئذ وخزائن سلاحه مدينة همدان ، وكان لبسطام إذ ذاك أب يقال له : كردم ، من قدماء فرسانهم ، وأهل العلم والخير والتجارب بالحرب منهم ، وكان له أربعة عشر ولداً مع بسطام ، فلما رأى غلبة الملوك على البلاد ، وإضرارهم بولده وأصحابه ومسالحه (١) ، طلب الحيلة في الظفر بالملوك.

أقول : ثم شرح كيف استخرج الرمي في دفعة واحدة بقوس واحد بنشاب جماعة عن يمين وشمال ، وذكرما أنعم به الملك كيخسرو على بسطام من الإنعام ، وكيف علم الجند ذلك الرمي ، وأزال الملوك عن البلاد.

وقد ذكرمحمد بن صالح ـ مولى جعفر بن سليمان ـ في كتاب (نسب الخيل) في حديث عن ابن عباس ، ماهذا لفظه قال : فلما شب إسماعيل أعطاه الله القوس فرمى عنها (٢) ، وكان لا يرمي شيئا إلا أصابه.

وقال الحميري في الجزء الأول من (الدلائل) : إن أول من اتخذ القسي والنشاب الملك منوشهر. ورواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلت : وأنا أعلم أنه ينبغي اتخاذ هذا القوس والنشاب للأمر الذي أراده سليمان بن داود عليه‌السلام ، ليدفع به العدو بحسب رضى رب الأرباب ، فإنه إذا فعل الرامي ذلك بالله ولله وفي الله ، كان على منهاج صاحب النبوة صلوات الله عليه وآله في يوم بدر ، لما رماهم بالحصى بقوة مالك الأسباب ، فذلت صعاب الرقاب ، فقال الله جل جلاله : ( وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى ) (٣) وقد ذكرعلي بن إبراهيم بن هاشم في كتاب (المبعث وغزوات النبي) صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ننقله من نسخة عتيقة ، مما وقفناه من كتب خزانتنا ، تاريخها سنة أربعمائة ، فقال ما هذا لفظه : ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفا من حصى فرمى به في وجوه قريش ، وقال : «شاهت الوجوه» (٤) فبعث الله ريحاً فضربت وجوه قريش ، وكانت الهزيمة عليهم.

__________________

(١) مسالح : جمع مسلحة ، وهم قوم ذوو سلاح ، يكونون في الثغور والمراقب. «الصحاح ـ سلح ـ ١ : ٣٧٦».

(٢) في «ش» : بها.

(٣) الانفال ٨ : ١٧.

(٤) ذكرنحوه في تفسيرالقمي ١ : ٢٨٧.

٦٥

أقول : فاجعل هذا مثالاً لرميك بالنشاب ، ليكون الله ـ جل جلاله ـ هو الرامي في المعنى ، إذا كان به ـ جل جلاله ـ ولأجله ـ جل جلاله ـ وتظفر بنجاح الطلاب.

أقول : وقد روينا في الرمي ـ إذا كان بالله وفي الله (١)جل جلاله ـ حديثا ينبغي ذكره ونشره ، ففيه كرامة وقدوة (٢) ومعجزة لملوك ذوي الألباب ، رويناه من كتاب (دلائل الامامة) تأليف أبي جعفر محمد بن رستم بن جرير الطبري الإمامي ، من أخبار معجزات مولانا محمدبن علي الباقر عليهما‌السلام ، ذكربإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهم‌السلام ، فقال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : «الحمدلله الذي بعث محمدا بالحق نبيا وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله وخلفاؤه على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا».

ثم قال : «فأخبرمسلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي فاشخصنا ، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً (٣) ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم ، سماطان متسلحان ، وقد نصب البرجاس (٤)حذاءه وأشياخ قومه يرمون.

فلما دخلنا ـ وأبي أمامي وأنا خلفه ـ فنادى أبي : يا محمد ، ارم مع أشياخ قومك الغرض ، فقال له : إني قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني ، فقال : وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه لا أعفيك ، ثم أومأ إلى شيخ من بني امية أن أعطه قوسك ، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثم تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس ،

__________________

(١) في «ش» : ولله.

(٢) في «ش» : وقدرة.

(٣) في «ش» : ثلاثة أيام.

(٤) البرجاس : غرض في الهواء يرمى بالسهام. «الصحاح ـ برجس ـ٣ : ٩٠٨».

٦٦

ثم انتزع ورمى وسط الغرض (فنصبه فيه) (١) ، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق (٢) سهمه إلى نصله ، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت ـ يا أبا جعفر ـ وأنت أرمى العرب والعجم ، كلا زعمت أنك كبرت عن الرمي.

ثم أدركته ندامة على ما قال ، وكان هشام لم يكن أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهم به وأطرق إلى الارض إطراقة يتروى فيه ، وأنا وأبي واقف حذاءه مواجه له ، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به ، وكان أبي ـ عليه وعلى آبائه السلام ـ إذا غضب نظرإلى السماء نظر غضبان ، يتبين الناظر الغضب في وجهه ، فلما نظرهشام إلى ذلك من أبي قال : إلي يا محمد ، فصعد أبي إلى السرير وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمد ، لاتزال العرب والعجم يسودها قريش مادام فيهم مثلك ، لله درك! من علمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلمته؟ فقال أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته ، فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه ، فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وماظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي ، أيرمي جعفرمثل رميك؟ فقال : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ) (٣) والأرض لاتخلو ممن يكمل هذه الامور ، التي يقصرغيرنا عنها.

قال : فلما سمع ذلك من أبي ، انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم وأحد؟

فقال أبي : نحن كذلك ، ولكن الله ـ جل ثناؤه ـ اختصنا من مكنون سره

__________________

(١) في «ش» : فأثبته في فنصبه.

(٢) الفوق : موضع الوتر من السهم. «الصحاح ـ فوت ـ ٤ : ١٥٤٦».

(٣) المائدة ٥ : ٣.

٦٧

وخالص علمه ، بما لم يخصه به أحداً غيرنا.

فقال : أليس الله ـ جل ثناؤه ـ بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة عبد مناف ، إلى الناس كافة ـ أبيضها وأسودها وأحمرها ـ من أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ، وذلك قول الله تبارك وتعالى ( ولله ميراث السّماوات والارض ) (١) إلى آخر الاية ، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء؟

فقال : من قوله ـ تبارك وتعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لا تحرّك به لسانك لتعجل به ) (٢) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا ، أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان ناجى أخاه عليا من دون أصحابه ، فأنزل الله بذلك قرآنا في قوله ( وتعيها أذن واعية ) (٣) فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله يجعلها اذنك يا علي ، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة : علمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، ففتح كل باب ألف باب ، خصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكنون سره ، بما يخص (٤) أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه ، كما خصى الله نبيه عليه‌السلام أخاه علياً من مكنون سره وعلمه ، بما لم يخص به أحداً من قومه ، حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا.

فقال هشام بن عبدالملك : إن علياً كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحدا ، فمن أين ادعى ذلك؟

فقال أبي : إن الله ـ جل ذكره ـ أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، في قوله : ( ونّزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) (٥) وفي قوله : ( وكلّ شيء احصيناه في امام مبين ) (٦)

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٨٠.

(٢) القيامة ٧٥ : ١٦.

(٣) الحاقة ٦٩ : ١٢.

(٤) في «ش» : مما خص.

(٥) النحل ١٦ : ٨٩.

(٦) يس ٣٦ : ١٢.

٦٨

وفي قول : ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) (١) وفي قوله : ( وما من غائبة في آلسّماء والارض الاّ في كتاب مبين ) (٢).

وأوحى الله إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلا يناجي به علياً ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه. وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي ، غير أخي علي ، فإنه مني وأنا منه ، له مالي وعليه ماعلي ، وهو قاضي ديني ، ومنجز وعدي.

ثم قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله.

ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي عليه‌السلام ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقضاكم علي ، أي هو قاضيكم.

وقال عمر بن الخطاب : لولا علي هلك عمر. يشهد له عمر ويجحده غيره!

فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك ، فقال : خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي ، فقال : قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم سرمن يومك ، فاعتنقه أبي (ودعا له) (٣) ، وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه.

وخرجنا إلى بابه إذا ميدان ببابه ، وفي آخر الميدان اناس قعود عدد كثير ، قال أبي : من هؤلاء؟ فقال الحجاب : هؤلاء القسيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم ، فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه ، وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم ، وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظرمايصنع أبي ، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى قد شد حاجبيه بحريرة صفراء (٤) حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلّمين عليه ، فجاء إلى صدرالمجلس

__________________

(١) الأنعام٦ : ٣٨.

(٢) النمل ٢٧ : ٧٥.

(٣) في المصدر : وودعه.

(٤) في «ش» : بيضاء.

٦٩

فقعد فيه وأحاط به أصحابه ، وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثم قال لأبي : أمنا أم من هذه الامة المرحومة؟ فقال أبي : بل من هذه الامة المرحومة. فقال : من أين أنت ، من علمائها ، أم من جهالها؟ فقال له أبي : لست من جهالها. فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال له : أسألك. فقال له أبي : سل.

فقال : من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون ، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لايجهل؟ فقال له أبي : دليل ما ندعي من شاهد لايجهل ، الجنين في بطن امه يطعم ولا يحدث.

قال : فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً ، ثم قال : كلا زعمت أنك لست من علمائها ، فقال له أبي : ولا من جهالها. وأصحاب هشام يسمعون ذلك.

فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى ، فقال له أبي : سل ، فقال : من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية ، موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لايجهل؟ فقال له أبي : دليل ما ندعي أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم ، عند جميع أهل الدنيا (١) ، لا ينقطع.

فاضطرب اضطراباً شديداً ، ثم قال : كلا ، زعمت أنك لست من علمائها ، فقال له أبي : ولا من جهالها.

فقال له : أسألك عن مسألة ، فقال له : سل ، فقال : أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ، ولا من ساعات النهار. فقال له أبي : هي الساعة التي بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، (يهدأ فيها المبتلى) (٢) ويرقد فيها الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرة للعاملين لها (٣) ودليلاً واضحاً وحجاباً بالغاً على الجاحدين المنكرين التاركين لها.

قال : فصاح النصراني صيحة (٤) ، ثم قال : بقيت مسألة واحدة ، والله لأ سألنك

__________________

(١) في جميع النسخ : الجنة ، وما أثبتناه من البحار.

(٢) في «ش» : يهدى فيها الضال المسافر.

(٣) في «ش» : بها.

(٤) في «ش» : بأعلى صوته.

٧٠

عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبداً ، قال له أبي : سل ، فإنك حانث في يمينك ، فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد ، وماتا في يوم واحد ، عمر أحدهما خمسون ومائة سنة ، والاخر خمسون سنة في دار الدنيا ، فقال له أبي : ذلك عزير وعزيرة ، ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً ، مر عزير على حماره راكباً على قرية بأنطاكية ، وهي خاوية على عروشها ، فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، وقد كان الله اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطاً عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه ، فعاد إلى داره وعزيرة أخوه لا يعرفه ، فاستضافه فأضافه ، وبعث إلى ولد عزيرة وولد ولده ، وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا ، وهم يذكرون ما يذكرهم ، ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور؟ ويقول له عزيرة ، وهو شيخ كبير ابن مائة وخمس وعشرين سنة : ما رأيت شاباً في سن خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال عزير لأخيه عزيرة : أنا عزير ، سخط الله علي بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني ، فأماتني مائة سنة ثم بعثني ، لتزدادوا بذلك يقيناً أن الله على كل شيء قدير ، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم ، أعاده الله تعالى لي كما كان ، فعندها أيقنوا ، فأعاشه الله بينهم خمساً وعشرين سنة ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد.

فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً ، وقام النصارى على أرجلهم ، فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم مني ، واقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني ، وأعلم المسلمين أن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة.

فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك في الخبر إلى هشام بن عبدالملك ، فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نحتبس ، لأن الناس ماجوا (١)

____________

(١) في «ش» زيادة : في أمرنا.

٧١

وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى.

فركبنا دوابنا منصرفين ، وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين (١)على طريقنا إلى المدينة ، إن ابني أبي تراب الساحرين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين ـ بل هو الكذاب لعنه الله ـ فيما يظهران من الإسلام ، وردا علي فلما صرفتهما إلى المدينة ما لا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى ، وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام الى الكفر دين النصارى ، وتقربا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكل بهما لقرإبتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا ، فناد في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما ، فإنهما قد ارتدا عن الإسلام ، ورأى أمير المؤمنين أن تقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة.

قال : فورد البريد إلى مدينة مدين ، فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ، ليرتادوا لنا منزلاً ويشتروا لدوابنا علفاً ولنا طعاماً فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا ، وشتمونا وذكروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع ، يا كفار ، يا مشركين ، يا مرتدين ، يا كذابين ، يا شر الخلائق أجمعين.

فوقف غلماننا على الباب حتى أنتهينا إليهم ، فكلمهم أبي ولين لهم القول ، وقال لهم : اتقوا الله ولا تغلطون فلسنا كما بلغكم ، ولا نحن كما تقولون فاسمعونا. فقال لهم : فهبنا كما يقولون افتحوا لنا الباب ، وشارونا وبايعونا كما تشارون؟ تبايعون اليهود والنصارى والمجوس. فقالوا : أنتم شر من اليهود والنصارى والمجوس ، لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون ، فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وأنزلونا ، وخذوا منا الجزية كما تاخذون منهم. فقالوا : لا نفتح ، ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً نياعاً (٢) ، أوتموت دوابكم تحتكم. فوعظهم أبي فازدادوا عتواً ونشوزاً.

قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ، ثم قال لي : مكانك يا جعفر لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين ، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلما صار في أعلاه

__________________

(١) مدين : بلدة تجاة تبوك بين المدينة والشام. «معجم البلدان ٥ : ٧٧».

(٢) النياع : جمع نائع وهو العطشان. «الصحاح ـ نوع ـ٣ : ١٢٩٤».

٧٢

استقبل بوجهه المدينة وحده ، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ، ثم نادى بأعلى صوته ( والى مدين اخاهم شعيبا ) إلى قوله تعالى : ( بقيّة الله خير لكم ان كنتم مؤمنين ) (١) نحن والله بقية الله في أرضه. فأمر الله ريحاً سوداء مظلمة ، فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في اسماع الرجال والنساء والصبيان ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح ، وأبي مشرف عليهم.

وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى بأعلى صوته : اتقوا الله ـ يا أهل مدين ـ فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه‌السلام حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه ، جاءكم من الله العذاب فأتى عليكم ، وقد أعذر من أنذر ، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا.

وكتب (٢) بجميع ذلك إلى هشام ، فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدينة مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيطمره (٣) ـ رحمة الله عليه وصلواته ـ وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء (٤).

يقول علي بن موسى بن طاووس : فهذا ما أردنا ذكره من التنبه على أن الرمي با لله ـ جل جلاله ـ ولله ـ جل جلاله ـ يتولاه الله ـ جل جلاله ـ.

* * *

__________________

(١) هود١١ : ٨٤ـ٨٦.

(٢) في «ش» زيادة : العامل.

(٣) طمره : دفنه أو غيبه. «لسان العرب ـ طمر ـ ٤ : ٥٠٢».

(٤) دلائل الامامة : ١٠٤ باختلاف في الفاظه. وأخرجه المجلسي في البحار ٤٦ : ٣٠٦ / ١.

٧٣

الباب الخامس :

فيما نذكره من استعداد العوذ للفارس والراكب عند الأسفار ، وللدواب للحماية من الأخطار ، وفيه فصول :

الفصل الأول : في العوذة المروية عن مولانا محمد بن علي الجوادـ صلوات الله عليه ـ وهي العوذة الحامية من ضرب السيف ، ومن كل خوف (١).

ذكرها جماعة من أصحابنا ، ونحن نرويها وننقلها من كتاب (منية الداعي وغنية الواعي) تأليف الشيخ السعيد علي بن محمد بن علي بن الحسين بن عبدالصمد التميمي رضي‌الله‌عنه فقال : حدثنا الفقيه أبو جعفر محمد بن أبي الحسن رحمه‌الله عم والدي ، قال : حدثنا أبو عبدالله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس الدوريستي قال : حدثنا والدي ، عن الفقيه أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه.

وأخبرني جدي قال : حدثنا والدي الفقيه أبو الحسن رحمه‌الله قال : حدثنا جماعة من أصحابنا رحمهم‌الله منهم السيد العالم أبو البركات ، والشيخ أبو القاسم علي بن محمد المعاذي ، وأبو بكر محمد بن علي المعمري ، وأبو جعفر محمد بن إبراهيم بن عبدالله المدائني ، قالوا كلهم : حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين القمي ـ قدس الله روحه ـ قال : حدثني أبي قال : حدثني علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن جده ، قال : حدثني أبو نصر الهمداني ، قال : حدثتني حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر ـ عمة أبي محمد الحسن بن علي عليهما‌السلام ـ قالت :

لما مات محمد بن علي الرضا عليه‌السلام ، أتيت زوجته ام عيسى بنت المأمون فعزيتها ، ووجدتها شديدة الحزن والجزع عليه وكادت أن تقتل نفسها بالبكاء والعويل ، فخفت عليها أن تنصدع مرارتها ، فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خلقه ، وما أعطاه الله تعالى من الشرف والإخلاص ، ومنحه من العز والكرامة ، إذ قالت ام عيسى : ألا أخبرك عنه بشيء عجيب ، وأمر جليل ، فوق الوصف والمقدار؟ قلت : وما ذاك؟

__________________

(١) في «ش» : أمر مخيف.

٧٤

قالت : كنت أغار عليه كثيراً واراقبه أبداً ، وربما أسمعني الكلام ، فأشكو ذلك إلى أبي فيقول : يا بنت احتمليه ، فإنه بضعة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . فبينما أنا جالسة ذات يوم ، إذ دخلت علي جارية فسلمت ، فقلت : من أنت؟ فقالت : أنا جارية من ولد عمار بن ياسر ، وأنا زوجة أبي جعفر محمد بن علي الرضا عليهما‌السلام ـ زوجك ـ فدخلني من الغيرة ما لم أقدرعلى احتمال ذلك ، وهممت أن أخرج وأسيح في البلاد ، وكاد الشيطان أن يحملني على الإساءة إليها (١) ، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها ، فلما خرجت من عندي نهضت ودخلت على أبي وأخبرته الخبر ، وكان سكرانا لايعقل ، فقال : يا غلام ، علي بالسيف ، فأتى به ، فركب وقال : والله لأقتلنه ، فلما رأيت ذلك قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت بنفسي وبزوجي ، وجعلت الطم حرّ وجهي.

فدخل عليه والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه ، ثم خرج من عنده وخرجت هاربة من خلفه ، فلم أرقد ليلتي ، فلما ارتفع النهار أتيت أبي فقلت : أتدري ما صنعت البارحة؟ قال : وما صنعت؟ قلت : قتلت ابن الرضا عليه‌السلام ، فبرق عينيه وغشي عليه ، ثم أفاق بعد حين وقال : ويلك ، ما تقولين؟ قلت : نعم ـ والله ـ يا أبت ، دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسيف حتى قتلته ، فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً ، وقال : علي بياسر الخادم ، فجاء ياسر فنظرإليه المأمون وقال : ويلك (٢) ، ماهذا الذي تقول هذه ابنتي؟ قال : صدقت يا أمير المؤمنين ، فضرب بيده على خده وصدره وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هلكنا والله وعطبنا وافتضحنا إلى آخر الابد ، ويلك ـ يا ياسر ـ فانظر ما الخبر والقصة عنه عليه‌السلام؟ وعجل علي بالخبر ، فإن نفسي تكاد أن تخرج الساعة.

فخرج ياسر ، وأنا الطم حر وجهي ، فما كان بأسرع من أن رجع ياسر فقال : البشرى يا أمير المؤمنين ، قال : لك البشرى ، فما عندك؟ قال ياسر : دخلت عليه فإذا هو جالس وعليه قميص ودواج (٣) وهو يستاك ، فسلمت عليه وقلت : يا ابن رسول الله ،

__________________

(١) ليس في «د» و «ش» ، وفي «ط» : عليها ، وما أثبتناه لاستقامة المعنى.

(٢) في «ش» : يا ويلك.

(٣) الدواج : اللحاف الذي يلبس. «القاموس المحيط ـ دوج ـ ١ : ١٨٩».

٧٥

أحب أن تهب لي قميصك هذا أصلي فيه وأتبرك به ، وإنما أردت أن أنظر إليه «وإلى جسده ، هل به جراحة وأثر السيف؟ قال : لا ، بل أكسوك خيراً من هذا ، فقلت : يا ابن رسول الله ، لا أريد غيرهذا ، فخلعه وأنا أنظر إليه وإلى جسده ، هل به أثر السيف؟ فوالله كأنه العاج الذي مسته صفرة ، وما به أثر.

قال : فبكى المأمون بكاء طويلا وقال : ما بقي مع هذا شيء ، إن هذا لعبرة للأولين والاخرين ، وقال : يا ياسر ، أما ركوبي إليه وأخذي السيف ودخولي عليه فإني ذاكر له ولخروجي عنه ، ولست أذكر شيئا غيره ، ولا أذكر أيضاً انصرافي إلى مجلسي ، فكيف كان أمري وذهابي إليه؟ لعن الله هذه الابنة لعناً وبيلاً ، تقدم إليها وقل لها : يقول لك أبوك : والله لئن جئتني بعد هذا اليوم شكوت ، أو خرجت بغير إذنه ، لأنتقمن له منك ، ثم سر إلى ابن الرضا عليه‌السلام وأبلغه عني السلام ، واحمل عليه عشرين ألف دينار ، وقدم إليه الشهري (١) الذي ركبته البارحة ، (ثم مر بعد ذلك الهاشميين) (٢) ، أن يدخلوا عليه بالسلام ، ويسلموا عليه.

قال ياسر : فأمرت لهم بذلك ، ودخلت أنا ـ أيضاً ـ معهم عليه وسلمت وأبلغت التسليم ، ووضعت المال بين يديه ، وعرضت الشهري فنظر إليه (٣) ساعة ، ثم تبسم فقال : يا ياسر ، هكذا كان العهد بيننا وبين أبي وبينه ، حتى يهجم علي بالسيف ، أما علم ان لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه؟ فقلت : يا سيدي ـ يا ابن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ما كان يعقل شيئا من أمره ، وما علم أين هو من أرض الله؟ وقد نذر لله نذراً صادقاً وحلف أن لا يسكر بعد ذلك أبداً ، فإن ذلك من حبائل الشيطان ، فإذا أنت ـ يا ابن رسول الله ـ أتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاقبه على ما كان منه. فقال عليه‌السلام : هكذا كان عزمي ورأيي والله.

ثم دعا بثيابه ولبس ونهض ، وقام معه الناس أجمعون حتى دخل على المأمون ،

__________________

(١) الشهرية : ضرب من البراذين ، وهو بين البرذون والمقرف من الخيل «لسان العرب ـ شهر ـ ٤ : ٤٣٣».

(٢) في «ش» : تم من بعد ذلك أمر الهاشميين.

(٣) في «ش» : إلي.

(٤) في «ط» زيادة : دع عنك هذا العتاب فوالله.

٧٦

فلمّا رآه قام إليه وضمه إلى صدره ورحب به ، ولم يأذن لأحد في الدخول عليه ، ولم يزل يحدثه ويسامره ، فلما انقضى ذلك ، قال أبو جعفر محمد بن الرضا عليهما‌السلام : يا أمير المؤمنين ، قال : لبيك وسعديك ، قال : لك عندي نصيحة فاقبلها ، قال المأمون : بالحمد والشكر ـ قال ـ فما ذاك ، يا ابن رسول الله؟ قال : أحب لك أن لا تخرج بالليل ، فإني لا آمن عليك هذا الخلق المنكوس ، وعندي عقد تحصن به نفسك وتحترز به من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات ، كما أنقذني الله منك البارحة ، ولو لقيت به جيوش الروم والترك ، واجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعا ما تهيأ لهم منك شر ، بإذن الله الجبار ، وإن أحببت بعثت به إليك ، ولتحترز به من جميع ما ذكرت لك ، قال : نعم ، فاكتب ذلك بخطك وابعثه إلي ، قال : نعم يا أمير المؤمنين.

فلما أصبح أبو جعفر عليه‌السلام بعث إلي فدعاني ، فلما صرت إليه وجلست بين يديه ، دعا برق ظبي من أرض تهامة ، ثم كتب بخطه هذا العقد ، ثم قال : يا ياسر ، أحمل هذا إلى أمير المؤمنين ، وقل له حتى يصاغ له قصبة من فضة ، منقوش عليها ما أذكر بعد.

فإذا أراد شده على عضده فليشده على عضده الأيمن ، وليتوضأ وضوءاً حسناً سابغاً ، وليصل أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسبع مرات (آية الكرسي) وسبع مرات (شهد الله) وسبع مرات (والشمس وضحاها) وسبع مرات (والليل اذا يغشى) وسبع مرات (قل هوالله أحد) ثم يشد على عضده الأيمن عند الشدائد والنوائب ، يسلم ـ بحول الله وقوته ـ من كل شيء يخافه ويحذره. وينبغي أن الا يكون طلوع القمر في برج العقرب ، ولو أنه حارب أهل الروم وملكهم لغلبهم ببركة هذا الحرز.

وروي أنه لما سمع المأمون من أبي جعفر عليه‌السلام في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلها ، غزا أهل الروم فنصره الله تعالى عليهم ، ومنح من المغنم ما شاء ألله عز وجل ، ولم يفارق هذا العقد عند كل غزوة ومحاربة ، وكان ينصره الله ـ عز وجل ـ بفضله ، ويرزقه الفتح بمشيئته ، إنه ولي ذلك بحوله وقوته ، الحرز :

( بسم الله الرّحمن الرّحيم * الحمد لله رب العالمين * الرّحمن الرّحيم * مالك

٧٧

يوم الدّين * أيّاك نعبد واياك نستعين * اهدنا الصّراط المستقيم * صراط الّذين انعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضّالين ) (١) ( الم تر اَنّ الله سخّر لكم ما في الآرض والفلك تجري في البحر بامره ويمسك السماء ان تقع على الآرض الأ بإذنه انّ الله بالناس لرؤف رحيم ) (٢) اللهم أنت الواحد الملك الديان يوم الدين ، تفعل ما تشاء بلا مغالبة ، وتعطي من تشاء بلامن ، تفعل ما تشاء ، وتحكم ماتريد ، وتداول الأيام بين الناس ، وتركبهم طبقاً عن طبق ، أسالك باسمك المكتوب على سرادق المجد ، وأسالك باسمك المكتوب على سرادق السرائر ، السابق الفائق (٣) الحسن (٤) النضير ، رب الملائكة الثمانية ، والعرش الذي لا يتحرك ، وأسالك بالعين التي لا تنام ، وبالحياة التي لا تموت ، وبنور وجهك الذي لايطفأ ، وبالاسم الأكبر الأكبر الأكبر ، وبالاسم الأعظم الأعظم الأعظم ، الذي هو محيط بملكوت السماوات والأرض ، وبالاسم الذي أشرقت به الشمس ، وأضاء به القمر ، وسجرت به البحار (٥) ، ونصبت به الجبال ، وبالاسم الذي قام به العرش والكرسي ، وباسمك المكتوب على سرادق العرش ، وباسمك المكتوب على سرادق العظمة ، وباسمك المكتوب على سرادق البهاء ، وباسمك المكتوب على سرادق القدرة ، وباسمك العزيز ، وبأسمائك المقدسات المكرمات المخزونات في علم الغيب عندك ، وأسألك من خيرك خيراً مما أرجو ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شر ما أخاف وأحذر (٦) وما لا أحذر.

يا صاحب محمد يوم حنين ، ويا صاحب علي يوم صفين ، أنت يا رب مبير الجبارين (٧) ، وقاصم المتكبرين ، أسألك بحق طه ويس ، والقرآن العظيم ، والفرقان الحكيم ، أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تشد عضد صاحب هذا العقد ، وأدرأ بك

__________________

(١) سورة الفاتحة.

(٢) الحج ٢٢ : ٦٥.

(٣) في «ش» : الفالق.

(٤) في «ش» و «ط» زيادة : الجميل.

(٥) في «د» : القبور.

(٦) في «ش» زيادة : وما لا أخاف.

(٧) في «ش» : الجبابرة.

٧٨

في نحر كل جبار عنيد ، وكل شيطان مريد ، وعدو شديد ، وعدو منكر الأخلاق ، واجعله ممن أسلم إليك نفسه ، وفوض إليك أمره ، والجأ إليك ظهره.

اللهم بحق هذه الأسماء التي ذكرتها وقرأتها ، وأنت أعرف بحقها مني ، وأسالك يا ذا المن العظيم ، والجود الكريم ، ولي الدعوات المستجابات ، والكلمات التامات ، والأسماء النافذات ، وأسألك يا نور النهار ، ويا نور الليل ، ونور السماء والأرض ، ونور النور ، ونوراً يضيء كل نور ، يا عالم الخفيات كلها ، في البر والبحر والأرض والسماء والجبال ، وأسألك يا من لا يفنى ولا يبيد ولا يزول ، ولا له شيء موصوف ، ولا إليه حد منسوب ، ولا معه إله ، ولا إله سواه ، ولا له في ملكه شريك ، ولا تضاف العزة إلا إليه ، ولم يزل بالعلوم عالماً ، وعلى العلوم واقفاً ، وللأمور ناظماً ، وبالكينونة عالماً ، وللتدبير محكماً ، وبالخلق بصيراً ، وبالأمور خبيراً.

أنت الذي خشعت لك الأصوات ، وضلت فيك الأحلام ، وضاقت دونك الأسباب ، وملأ كل شيء نورك ، ووجل كل شيء منك ، وهرب كل شيء إليك ، وتوكل كل شيء عليك.

وأنت الرفيع في جلالك ، وأنت البهي في جمالك ، وأنت العظيم في قدرتك ، وأنت الذي لا يدركك شيء ، وأنت العلي الكبير.

مجيب الدعوات ، قاضي الحاجات ، مفرج الكربات ، ولي النعمات ، يا من هو في علوه دان ، وفي دنوه عال ، وفي إشراقه منير ، وفي سلطانه قوي ، وفي ملكه عزيز ، صل على محمد وآل محمد ، واحرس صاحب هذا العقد وهذا الحرز وهذا الكتاب ، بعينك التي لا تنام ، واكنفه بركنك الذي لا يرام ، وارحمه بقدرتك عليه ، فإنه مرزوقك.

بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله وبالله ، لا صاحبة له ولا ولد ، بسم الله قوي الشان ، عظيم البرهان ، شديد السلطان ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.

أشهد أن نوحا رسول الله ، وأن إبراهيم خليل الله ، وأن موسى كليم الله ونجيه ، وأن عيسى بن مريم ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ كلمته وروحه ، وأن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيين لا نبي بعده.

وأسألك بحق الساعة التي يؤتى فيها بإبليس اللعين يوم القيامة ، ويقول اللعين

٧٩

في تلك الساعة : والله ما أنا إلا مهيج مردة ، الله نور السماوات والأرض ، وهو القاهر وهو الغالب ، له القدرة السابغة ، وهو الحليم (١) الخبير.

اللهم وأسألك بحق هذه الأسماء كلها ، وصفاتها وصورها ، وهي :

سبحان الذي خلق العرش والكرسي واستوى عليه ، أسألك أن تصرف عن صاحب كتابي هذا كل سوء ومحذور ، فهو عبدك ابن عبدك وابن أمتك ، وعبدك وأنت مولاه ، فقه اللهم الأسواء كلها ، وأقمع عنه أبصار الظالمين ، والسنة المعاندين والمريدين به السوء والضر ، وادفع عنه كل محذور ومخوف ، وأي عبد من عبيدك ، أو أمة من إمائك ، أو سلطان مارد ، أو شيطان أو شيطانة ، أو جني أو جنية ، أو غول أو غولة ، أراد صاحب كتابي هذا بظلم أو ضر أو مكر أو كيد أو خديعة أو نكاية (٢) أو سعاية أو فساد أو غرق أو اصطلام أو عطف أو مغالبة أو غدر أو قهر أو هتك ستر أو اقتدار أو آفة أو عاهة أو قتل أو حرق أو انتقام أو قطع أو سحر أو مسخ أو مرض أو سقم أو برص أو بؤس أو فاقة أو سغب أو عطش أو وسوسة أو نقص في دين أو معيشة ، فاكفه بما شئت ،

__________________

(١) في «ش» : الحكيم.

(٢) في «د» : ناكبة.

٨٠