بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

ومن لا يكون ذلك (١) منه كان أفضل. « ج ٢ ص ٤٣٥ ».

٧٥ ـ كا : محمد ، عن أحمد ، عن علي بن النعمان ، عن محمد بن سنان ، عن يوسف بن أبي يعقوب بياع الارز ، (٢) » عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ. « ج ٢ ص ٤٣٥ »

٧٦ ـ كا : علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حمران ، عن زرارة قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إن العبد إذا أذنب ذنبا اجل من غداة إلى الليل فإن استغفر الله لم يكتب عليه. « ج ٢ ص ٤٣٧ »

ين : ابن أبي عمير مثله.

٧٧ ـ كا ، علي ، عن أبيه ، وأبوعلي الاشعري ، ومحمد بن يحيى جميعا ، عن الحسين بن إسحاق ، عن علي بن مهزيار ، عن فضالة ، عن عبدالصمد بن بشير ، عن أبى عبدالله عليه‌السلام قال : العبد المؤمن إذا أذنب ذنبا أجله الله سبع ساعات فإن استغفر الله لم يكتب عليه ، (٣) وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة ، وإن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له ، وإن الكافر لينساه من ساعته. « ج ٢ ص ٤٣٧ »

٧٨ ـ كا : علي ، عن أبيه ، والعدة ، عن سهل ، ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن ابن محبوب ، عن محمد بن النعمان الاحول ، عن سلام بن المستنير قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء ، فلما هم حمران بالقيام قال لابي جعفر عليه‌السلام : اخبرك أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك (٤) : أنا نأتيك فما نخرج

__________________

(١) أى المراجعة إلى الذنب بعد التوبة.

(٢) هو يوسف بن السخت ، أورده العلامة في القسم الثانى من الخلاصة وترجمه بقوله : يوسف بن السخت ـ بالسين المهملة ، والخاء المعجمة ، والتاء المنقطة فوقها النقطتين ـ بصرى ، ضعيف ، مرتفع القول ، استثناء القميون من نوادر الحكمة. انتهى. وأضاف الفاضل المامقانى إلى الضبط ضم السين وسكون الخاء ، وحكى أن الوحيد مال إلى إصلاح حاله.

(٣) في المصدر : عليه شئ.

(٤) أى صيرنا ننتفع ونلتذ بك زمانا طويلا.

٤١

من عندك حتى ترق قلوبنا ، وتسلو أنفسنا عن الدنيا ، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال ، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا! قال : فقال أبوجعفر عليه‌السلام : إنما هي القلوب (١) مرة تصعب ، ومرة تسهل ، ثم قال أبوجعفر (ع) : أما إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : يارسول الله نخاف علينا النفاق ، قال : فقال : ولم تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأننا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك ، حتى كأنا لم نكن على شئ ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومو على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة مشيتم على الماء ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا لله فيغفر لهم ، إن المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله عزوجل : «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » وقال : « استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ». « ج ٢ ص ٤٢٣ ـ ٤٢٤ »

*(اختتام فيه مباحث رائقة)*

الاول : في وجوب التوبة ، ولا خلاف في وجوبها في الجملة ، والاظهر أنها إنما تجب لما لم يكفر من الذنوب ، كالكبائر والصغائر التي أصرت عليها ، فإنها ملحقة بالكبائر ، والصغائر التي لم يجتنب معها الكبائر ، فأما مع اجتناب الكبائر فهي مكفرة إذا لم يصر عليها ولا يحتاج إلى التوبة عنها ، لقوله تعالى : « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » وسيأتي تحقيق القول في ذلك في باب الكبائر إن شاء الله تعالى.

قال المحقق الطوسي قدس الله روحه في التجريد : التوبة واجبة لدفعها الضرر. ولوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب.

__________________

(١) قال المصنف قدس‌سره في شرح الحديث في كتابه مرآت العقول : إنما هي القلوب أى إنما سمى بالقلب لتقلب أحواله ، مرة تصعب اه.

٤٢

وقال العلامة رحمه الله في شرحه : التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية ، والعزم على ترك المعاودة في المستقبل لان ترك العزم يكشف عن نفي الندم ، وهي واجبة بالاجماع ، لكن اختلفوا فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك ، ولا تجب من الصغائر المعلوم أنها صغائر ، وقال آخرون : إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل ، وقال آخرون : إنها تجب من كل صغير وكبير من المعاصي ، أو الاخلال بالواجب ، سواء تاب منها قبل أو لم يتب.

وقد استدل المصنف على وجوبها بأمرين : الاول أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف فيه ، ودفع الضرر واجب. الثاني أنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل القبيح أو الاخلال بالواجب ، إذا عرفت هذا فنقول : إنها تجب من كل ذنب ، لانها تجب من المعصية لكونها معصية ، ومن الاخلال بواجب لكونه كذلك ، وهذا عام في كل ذنب وإخلال بواجب. انتهى.

أقول : ظاهر كلامه وجوب التوبة عن الذنب الذي تاب منه ، ولعله نظر إلى أن الندم على القبيح واجب في كل حال وكذا ترك العزم على الحرام واجب دائما ، وفيه أن العزم على الحرام ما لم يأت به لا يترتب عليه إثم ، كما دلت عليه الاخبار الكثيرة ، إلا أن يقول : إن العفو عنه تفضلا لا ينافي كونه منهيا عنه كالصغائر المكفرة ، وأما الندم على ما صدر عنه فلا نسلم وجوبه بعد تحقق الندم سابقا وسقوط العقاب ، وإن كان القول بوجوبه أقوى.

الثانى : اختلف المتكلمون في أنه هل تتبعض التوبة أم لا ، والاول أقوى لعموم النصوص وضعف المعارض.

قال المحقق في التجريد : ويندم على القبيح لقبحه ، وإلا انتفت ، وخوف النار إن كان الغاية فكذلك ، وكذا الاخلال ، فلا تصح من البعض ، ولا يتم القياس على الواجب ، ولو اعتقد فيه الحسن صحت وكذا المستحقر ، والتحقيق أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه ، وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الداعي إلى الفعل ، ولو اشترك الترجيح اشترك وقوع الندم ، وبه يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده

٤٣

عليهم‌السلام ، وإلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه ، المقيم على صغيرة.

وقال العلامة : اختلف شيوخ المعتزلة هنا فذهب أبوهاشم (١) إلى أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح ، وذهب أبوعلي (٢) إلى جواز ذلك ، والمصنف رحمه الله استدل على مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا بأنه يجب أن يندم على القبيح لقبحه ، ولولا ذلك لم تكن مقبولة ، والقبح حاصل في الجميع ، فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه ، واحتج أبوعلي بأنه لو لم تصح التوبة من قبيح دون قبيح لم يصح الاتيان بواجب دون واجب ، والتالي باطل ، بيان الشرطية أنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا يجب عليه فعل الواجب لوجوبه فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من بعضها لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الاتيان بواجب دون آخر ، وأما بطلان التالي فبإلاجماع ، إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخل بالصوم.

وأجاب أبوهاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه ، وفعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الاول دون الثاني ، فإن من قال لا آكل الرمانه لحموضتها فإنه لا يقدم على أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع ، ولو أكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يأكل كل رمانة حامضة فافترقا.

وإليه أشار المصنف رحمه الله ، ولا يتم القياس على الواجب أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل الواجب لوجوبه ، وقد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح أنها حسنة وتاب عما يعتقده قبيحا ، فإنه تقبل توبته لحصول الشرط فيه ، وهو ندمه على القبيح لقبحه ، وإذا كان هناك فعلان أحدهما عظيم القبح والآخر صغيره وهو مستحقر بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به ، ويكون وجوده بالنسبة إلى

__________________

(١) هو عبدالسلام بن أبى على محمد بن عبدالوهاب ، يلقب هو وأبوه أبوعلى بالجبائى ، وكلاهما من رؤساء المعتزلة ولهما مقالات في الكلام على مذهب الاعتزال ، توفى أبوهاشم سنة ٣٢١. وكانت ولادته سنة ٢٤٧.

(٢) أى محمد بن عبدالوهاب الجبائى المتوفى سنة ٣٠٣ ، وقد أوعزنا سابقا إلى ترجمته.

٤٤

العظيم كعدمه حتى تاب فاعل القبيح عن العظيم فإنه تقبل توبته ، ومثال ذلك أن الانسان إذا قتل ولد غيره وكسر له قلما ثم تاب وأظهر الندم على قتل الولد دون كسر القلم فإنه تقبل توبته ، ولا يعتد العقلاء بكسر القلم وإن كان لابد من أن يندم على جميع إساءته ، وكما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد إساءة فكذا العزم.

ثم قال رحمه الله : ولما فرغ من تقرير كلا م أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام ، وتقريره أن نقول : الحق أنه يجوز التوبة عن قبيح دون قبيح لان الافعال تقع بحسب الدواعي ، وتنتفي الصوارف فإذا ترجح الداعي وقع الفعل. إذا عرفت هذا فنقول : يجوز أن يرجح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم على بعض القبائح دون بعض ، وإن كانت القبائح مشتركة في أن الداعي يدعو إلى الندم عليها ، وذلك بأن يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب ، أو كثرة الزواجر عنه ، أو الشناعة عند العقلاء عند فعله ، ولا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها ، وهذا كما في دواعي الفعل فإن الافعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ، ثم يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الافعال على بعض ، بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي ، فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى العدم ثم يقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيرجح لاجلها الداعي إلى الندم على ذلك البعض ، ولو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم عليها ولم يصح الندم على البعض دون الآخر ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام أميرالمؤمنين علي (ع) وكلام أولاده كالرضا وغيره (ع) حيث نقل عنهم نفي تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض ، لانه لولا ذلك لزم خرق الاجماع والتالى باطل فالمقدم مثله ، بيان الملازمة أن الكافر إذا تاب عن كفره وأسلم وهو مقيم على الكذب إما أن يحكم بإسلامه وتقبل توبته من الكفر أولا ، والثاني خرق الاجماع لاتفاق المسلمين على إجراء حكم المسلم عليه ، والاول هو المطلوب ، وقد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر وعدم قبول توبته وإسلامه ، ولكن لا يمتنع إطلاق اسم الاسلام عليه.

٤٥

الثالث : اعلم أن العزم على عدم العود إلى الذنب فيما بقي من العمر لابد منه في التوبة كما عرفت ، وهل إمكان صدوره منه في بقية العمر شرط ، حتى لو زنى ثم جب (١) وعزم على أن يعود إلى الزنا على تقدير قدرته عليه لم تصح توبته ، أم ليس بشرط فتصح؟ الاكثر على الثاني ، بل نقل بعض المتكلمين إجماع السلف عليه ، وأولى من هذا بصحة التوبة من تاب في مرض مخوف غلب على ظنه الموت فيه وأما التوبة عند حضور الموت وتيقن الفوت وهو المعبر عنه بالمعاينة فقد انعقد الاجماع على عدم صحتها ، وقد مر ما يدل عليه من الآيات والاخبار.

الرابع : في أنواع التوبة ، قال العلامة رحمه الله : التوبة إما أن تكون من ذنب يتعلق به تعالى خاصة ، أو يتعلق به حق الآدمي.

والاول إما أن يكون فعل قبيح كشرب الخمر والزنا ، أو إخلالا بواجب كترك الزكاة والصلاة ، فالاول يكفى في التوبة منه الندم عليه والعزم على ترك العود إليه.

وأما الثاني فتختلف أحكامه بحسب القوانين الشرعية ، فمنه ما لابد مع التوبة من فعله أداءا كالزكاة ، ومنه ما يجب معه القضاء كالصلاة ، ومنه ما يسقطان عنه كالعيدين ، وهذا الاخير يكفي فيه الندم والعزم على ترك المعاودة كما في فعل القبيح ، وأما ما يتعلق به حق الآدمي فيجب فيه الخروج إليهم منه ، فإن كان أخذ مال وجب رده على مالكه أو ورثته إن مات ، ولو لم يتمكن من ذلك وجب العزم عليه ، وكذا إن كان حد قذف ، وإن كان قصاصا وجب الخروج إليهم منه ، بأن يسلم نفسه إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوه أو يعفوا عنه بالدية أو بدونها ، وإن كان في بعض الاعضاء وجب تسليم نفسه ليقتص منه في ذلك العضو إلى المستحق من المجني عليه أو الورثة ، وإن كان إضلالا وجب إرشاد من أضله ورجوعه مما اعتقده بسببه من الباطل إن أمكن ذلك. واعلم إن هذه التوابع ليست أجزاءا من التوبة فإن العقاب سقط بالتوبة ، ثم إن قام المكلف بالتبعات كان ذلك إتماما للتوبة من جهة المعنى لان ترك التبعات لا يمنع من سقوط العقاب بالتوبة عما تاب منه ، بل يسقط العقاب ويكون ترك القيام بالتبعات بمنزلة ذنوب مستأنفة يلزمه التوبة منها ، نعم التائب إذا فعل التبعات بعد إظهار توبته كان ذلك دلالة

__________________

(١) أى استؤصل ذكره وخصياه.

٤٦

على صدق الندم ، وإن لم يقم بها أمكن جعله دلالة على عدم صحة الندم. ثم قال رحمه الله المغتاب إما أن يكون قد بلغه اغتيابه أولا ، ويلزم الفاعل للغيبة في الاول الاعتذار عنه إليه لانه أوصل إليه ضرر الغم فوجب عليه الاعتذار منه والندم عليه ، وفي الثاني لا يلزمه الاعتذار ولا الاستحلال منه لانه لم يفعل به ألما ، وفي كلا القسمين يجب الندم لله تعالى لمخالفة النهي ، والعزم على ترك المعاودة.

وقال المحقق في التجريد ، وفي إيجاب التفصيل مع الذكر إشكال. وقال العلامة ذهب قاضي القضاة (١) إلى أن التائب إن كان عالما بذنوبه على التفصيل وجب عليه التوبة عن كل واحدة منها مفصلا وإن كان يعلمها على الاجمال وجب عليه التوبة كذلك مجملا ، وإن كان يعلم بعضها على التفصيل وبعضها على الاجمال وجب عليه التوبة عن المفصل بالتفصيل وعن المجمل بالاجمال ، واستشكل المصنف رحمه الله إيجاب التفصيل مع الذكر لامكان الاجتزاء بالندم على كل قبيح وقع منه وإن لم يذكره مفصلا.

ثم قال المحقق رحمه الله : وفي وجوب التجديد إشكال ، وقال العلامة قدس‌سره إذا تاب المكلف عن معصية ثم ذكرها هل يجب عليه تجديد التوبة؟ قال أبوعلي : نعم بناءا على أن المكلف القادر بقدرة لا ينفك عن الضدين ، إما الفعل ، أو الترك ، فعند ذكر المعصية إما أن يكون نادما عليها ، أو مصرا عليها ، والثاني قبيح فيجب الاول. وقال أبوهاشم : لا يجب لجواز خلو القادر بقدرة عنهما.

ثم قال المحقق : وكذا المعلول مع العلة. وقال الشارح : إذا فعل المكلف العلة قبل وجود المعلول هل يجب عليه الندم على المعلول ، أو على العلة ، أو عليهما؟ مثاله الرامي إذا رمي قبل الاصابة ، قال الشيوخ : عليه الندم على الاصابة لانها هي القبيح ، وقد صارت في حكم الموجود ، لوجوب حصوله عند حصول السبب ، وقال القاضي : يجب عليه ندمان أحدهما على الرمي لانه قبيح ، والثاني على كونه مولدا للقبيح ، ولا يجوز أن يندم على المعلول ، لان الندم على القبيح إنما هو لقبحه ، وقبل وجوده لا قبح.

__________________

(١) هو عبد الجبار المعتزلى ، ابن احمد بن عبدالجبار الهمدانى الاسد آبادي ، شيخ معتزلة عصره ، المتوفي سنه ٤١٥.

٤٧

الخامس : اعلم أنه لا خلاف بين المتكلمين في وجوب التوبة سمعا ، واختلفوا في وجوبها عقلا ، فأثبته المعتزلة لدفعها ضرر العقاب. قال الشيخ البهائي رحمه الله : هذا لا يدل على وجوب التوبة عن الصغائر ممن يجتنب الكبائر لكونها مكفرة ، ولهذا ذهبت البهشمية (١) إلى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا ، نعم الاستدلال بأن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح يعم القسمين ، وأما فورية الوجوب فقد صرح بها المعتزلة ، فقالوا : يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر ، تجب التوبة منه أيضا ، حتى أن من أخر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين ، وساعتين أربع كبائر : الاولتان وترك التوبة عن كل منهما ، وثلاث ساعات ثمان كبائر وهكذا ، وأصحابنا يوافقونهم على الفورية ، لكنهم لم يذكروا هذا التفصيل فيما رأيته من كتبهم الكلامية.

السادس : سقوط العقاب بالتوبة مما أجمع عليه أهل الاسلام ، وإنما الخلاف في أنه هل يجب على الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما ، أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه ورحمة بعباده؟ فالمعتزلة على الاول ، والاشاعرة على الثاني ، وإلى الثاني ذهب شيخ الطائفة في كتاب الاقتصاد ، والعلامة الحلي رحمه الله في بعض كتبه الكلامية وتوقف المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد ، ومختار الشيخين هو الظاهر من الاخبار وأدعية الصحيفة الكاملة وغيرها ، وهو الذي اختاره الشيخ الطبرسي رحمه الله ، ونسبه إلى أصحابنا كما عرفت ، ودليل الوجوب ضعيف مدخول ، كما لا يخفى على من تأمل فيه.

أقول : أثبتنا بعض أخبار التوبة في باب الاستغفار ، وباب صفات المؤمن ، وباب صفات خيار العباد وباب جوامع المكارم ، وسيأتي تحقيق الكبائر والصغائر والذنوب وأنواعها وحبط الصغائر بترك الكبائر في أبوابها إن شاءالله تعالى.

__________________

(١) اتباع أبى على وأبى هاشم الجبائيين ، وهؤلاء فرقة من المعتزلة ، انفردوا عنهم بامور كاتبات إرادات حادثة لا في محل يكون البارى تعالى بها موصوفا ، وتعظيما لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته ، وفناء لا في محل إذا أراد أن يفنى العالم ، وقالا : بأنه تعالى متكلم بكلام يخلقه في محل وحقيقة الكلام أصوات مقطعة ، وحروف منظومة ، والمتكلم من فعل الكلام ، وقالا بأنه تعالى لا يرى بالابصار في دار القرار ، وإن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية وأن الذم والعقاب ليسا على الفعل ، وإن التوبة لا تصح من العاجز بعد العجز عن مثله إلى غير ذلك مما هو مذكور في تراجم الفرق ، وكتب الملل والنحل ، كالملل للشهرستانى ، والفرق بين الفرق للبغدادي.

٤٨

(باب ٢١)

*(نفى العبث وما يوجب النقص من الاستهزاء والسخرية والمكر)*

*(والخديعة عنه تعالى وتأويل الايات فيها)*

الايات البقرة « ٢ » الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ١٥.

النساء « ٤ » يخادعون الله وهو خادعهم ١٤٢.

الانفال « ٨ » ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠.

التوبة « ٩ » فيسخرون منهم سخر الله منهم ٧٩.

يونس «١٠» قل الله أسرع مكرا ٢١.

الرعد « ١٣ » وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا ٤٢.

النمل « ٢٧ » ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ٥٠.

الطارق « ٨٦ » إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ١٥ ـ ١٧.

تفسير : قال البيضاوي : « الله يستهزئ بهم » (١) : يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء

__________________

(١) قال الرضى رضوان الله عليه في تلخيص البيان في مجازات القرآن : وهاتان استعارتان : فالاولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء على الله سبحانه ، والمراد بها أنه يجازيهم على استهزائهم بارصاد العقوبة لهم فسمى الجزاء على الاستهزاء باسمه ، إذ كان واقعا في مقابلته ، وإنما قلنا : إن الوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى لانه عكس أوصاف الحكيم وضد طرائق الحليم. والاستعارة الاخرى قوله تعالى : « ويمدهم في طغيانهم يعمهون » إى يمد لهم كأنه يخليهم ، والامتداد عمههم والجماح في غيهم إيجابا للحجة وانتظارا للمراجعة ، تشبيها بمن أرخى الطول للفرس أو الراحلة ليتنفس خناقها ويتسع مجالها. وربما حمل قوله سبحانه : « يخادعون الله والذين آمنوا » على أنه استعارة في بعض الاقوال ، وهو أن يكون المعنى : أنهم يمنون أنفسهم أن لا يعاقبوا وقد علموا أنهم مستحقون للعقاب ، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين ، ولذلك قال سبحانه : « وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون » لان الله تعالى لا يجوز عليه الخداع ولا تخفى عنه الاسرار ، و إذا حمل قوله سبحانه : « يخادعون الله » على أن المراد به يخادعون رسول الله كان من باب إسقاط المضاف ، وجرى مجرى قوله : « واسئل القرية » وأراد أهل القرية.

٤٩

الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة إما لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم ، فيكون كالمستهزئ بهم ، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالامهال وزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه ، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ». « ويمدهم في طغيانهم يعمهون » من مد الجيش وأمده : إذا زاده وقواه ، لا من المد في العمر ، فإنه يعدى باللام ، والمعتزلة قالوا : لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم وسدهم طريق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة ، وتزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا ، أو مكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا ، اسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب ، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ، وقال : « وإخوانهم يمدونهم في الغي » وقيل : أصله : نمد لهم بمعنى نملي لهم ، ونمد في أعمارهم كي ينتبهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلا طغيانا عمها ، فحذفت اللام وعدي الفعل بنفسه ، كما في قوله تعالى : « واختار موسى قومه » أو التقدير : يمدهم استصلاحا وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم.

وقال في قوله تعالى : « يخادعون الله » : الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو بصدده ، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لانه لا تخفى عليه خافية ، ولانهم لم يقصدوا خديعته ، بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال : « ومن يطع الرسول فقد أطاع الله » وإما أن صورة صنعهم مع الله من إظهار الايمان واستبطان الكفر وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم استدراجا لهم ، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين.

وقال في قوله تعالى : « ويمكر الله » : برد مكرهم ، أو بمجازاتهم عليه ، أو بمعاملة

٥٠

الماكرين معهم ، بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا. « والله خير الماكرين » إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره ، وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة ، ولا يجوز إطلاقها ابتداءا لما فيه من إيهام الذم. وقال في قوله : « سخر الله منهم » : جازاهم على سخريتهم.

١ ـ يد ، مع ، ن : المعاذي ، عن أحمد الهمداني ، عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال : سألت الرضا (ع) عن قول الله عزوجل : « سخر الله منهم » وعن قوله : « الله يستهزئ بهم » وعن قوله : « ومكروا ومكر الله » وعن قوله : « يخادعون الله وهو خادعهم » فقال : إن الله عزوجل لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه عزوجل يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. « يد ص ١٥٤ ، ن ص ٧١ ـ ٧٢ »

ج : مرسلا مثله. « ص ٢٢٤ »

٢ ـ م : « يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون » قال موسى بن جعفر (ع) : لما نصب النبي (ص) عليا (ع) يوم غدير خم (١) وأمر عمر وتمام تسعة من رؤساء المهاجرين والانصار أن يبايعوه بإمرة المؤمنين ففعلوا ذلك وتواطؤوا بينهم أن يدفعوا هذا الامر عن علي عليه‌السلام وأن يهلكوهما ، كان من مواطاتهم أن قال أولهم : ما اعتددت بشئ كاعتدادي بهذه البيعة ولقد رجوت أن يفسح الله بها لي في قصور الجنان ويجعلني فيها من أفضل النزال والسكان!. وقال ثانيهم : بأبي أنت وأمي يارسول الله ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة والله ما يسرني إن نقضتها أو نكثت بعدما اعطيت وإن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلي رطبة وجواهر فاخرة. وقال ثالثهم : والله يارسول الله لقد صرت من الفرح بهذه البيعة ومن السرور الفسيح من الآمال في رضوان الله ما أيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الارض كلها علي لمحصت عني بهذه البيعة ـ وحلف على ما قال من ذلك ـ ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين ، فقال الله عزوجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يخادعون الله »

__________________

(١) قال الفيروز آبادى في القاموس : غدير خم : موضعه على ثلاثة أميال من الجحفة بين الحرمين.

٥١

يعني يخادعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم « والذين آمنوا » كذلك أيضا الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام. ثم قال : « وما يخدعون إلا أنفسهم » ما يضرون بتلك الخديعة إلا أنفسهم فإن الله غني عنهم وعن نصرتهم ، ولولا إمهاله لهم ما قروا على شئ من فجورهم وطغيانهم « وما يشعرون » أن الامر كذلك وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين ، وذلك اللعن لا يفارقهم ، في الدنيا يلعنهم خيار عباد الله ، وفي الآخرة يبتلون بشدائد عقاب الله « وإذا لقوا الذين آمنوا » إلى قوله : « يعمهون » قال موسى (ع) : وإذا لقي هؤلاء الناكثون للبيعة ، المواطؤن (١) على مخالفة علي (ع) ودفع الامر عنه ، الذين آمنوا قالوا آمنا كإيمانكم ، إذا لقوا سلمان والمقداد و أباذر وعمار قالوا آمنا بمحمد وسلمنا له بيعة علي وفضله كما آمنتم ، وأن أولهم وثانيهم وثالثهم إلى تاسعهم ربما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان وأصحابه فإذا لقوهم اشمأزوا منهم وقالوا : هؤلاء أصحاب الساحر والاهوج ـ يعنون محمدا و عليا عليهما‌السلام ـ فيقول أولهم : انظروا كيف أسخر منهم وأكف عاديتهم عنكم ، فإذا التقوا قال أولهم : مرحبا بسلمان بن الاسلام ، ويمدحه بما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، وكذا كان يمدح تمام الاربعة ، فلما جازوا عنهم كان يقول الاول كيف رأيتم سخريتي لهؤلاء كفي عاديتهم عني وعنكم ، فيقول له : لا نزال بخير ما عشت لنا ، فيقول لهم : فهكذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذا ، فإن اللبيب العاقل من تجرع على الغصة حتى ينال الفرصة ، ثم يعودون إلى أخدانهم من المنافقين المتمردين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أداه إليهم عن الله عزوجل من ذكر تفضيل أميرالمؤمنين عليه‌السلام ونصبه إماما على كافة المسلمين ، قالوا لهم : إنا معكم فيما واطأناكم عليه من دفع علي عن هذا الامر إن كانت لمحمد كائنة ، فلا يغرنكم ولا يهولنكم ما تسمعونه منا من تقريظهم وترونا نجترئ عليهم من مداراتهم فإنا نحن مستهزؤون بهم ، فقال الله عزوجل : « الله يستهزئ بهم » يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا

__________________

(١) أى الموافقون والمساهمون.

٥٢

والآخرة « ويمدهم في طغيانهم يعمهون » يمهلهم ويتأتى بهم ويدعوهم إلى التوبة ، ويعدهم إذا تابوا المغفرة ، وهم يعمهون لا يرعوون عن قبيح ولا يتركون أذى بمحمد وعلي يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلغوه.

قال العالم عليه‌السلام : أما استهزاء الله بهم في الدنيا فهو إجراؤه إياهم على ظاهر أحكام المسلمين لاظهارهم السمع والطاعة ، وأما استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أن الله عزوجل إذا أقرهم في دار اللعنة والهوان وعذبهم بتلك الالوان العجيبة من العذاب وأقر هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمد صفي الله الملك الديان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم في الدنيا حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات فيكون لذتهم وسرورهم بشماتتهم كلذتهم وسرورهم بنعيمهم في جنان ربهم ، فالمؤمنون يعرفون اولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم وصفاتهم ، والكافرون والمنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمد وعلي و آلهما يعتقدون ، فيرونهم في أنواع الكرامة والنعيم ، فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين : يافلان! ويا فلان! ويا فلان! ـ حتى ينادوهم بأسمائهم ـ ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلموا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم وتلحقوا بنا ، فيقولون : ياويلنا أنى لنا هذا؟ فيقول المؤمنون : انظروا إلى هذه الابواب ، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتحة يخيل إليهم أنها إلى جهنم التي فيها يعذبون ، ويقدرون أنهم يتمكنون من أن يخلصوا إليها فيأخذون في السباحة في بحار حميمها ، وعدوا من بين أيدي زبانيتها ، (١) وهم يلحقونهم يضربونهم بأعمدتهم و مرزباتهم (٢) وسياطهم فلا يزالون هكذا يسيرون هناك ، وهذه الاصناف من العذاب تمسهم حتى إذا قدروا أن قد بلغوا تلك الابواب وجدوها مردومة (٣) عنهم ، و

__________________

(١) قال الجوهرى : الزبانية عند العرب : الشرط. وسموا بها بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها.

(٢) جمع « المرزبة » وقد يشدد الباء : عصية من حديد.

(٣) أى مسدودة.

٥٣

تدهدههم الزبانية (١) بأعمدتها فتنكسهم إلى سواء الجحيم ، ويستلقي اولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم ، مستهزئين بهم ، فذلك قول الله عزوجل : « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الارائك ينظرون ».

بيان : قال في القاموس : الهوج محركة : طول في حمق وطيش وتسرع ، والهوجاء : الناقة المسرعة.

أقول : سيأتي تمام الخبر في موضعه إن شاء الله تعالى.

(باب ٢٢)

*(عقاب الكفار والفجار في الدنيا)*

الايات ، الرعد « ١٣ » إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ١١.

الكهف « ١٨ » واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين. الآيات ٣٢ ـ ٤٤ طه « ٢٠ » فإن لك في الحيوة أن تقول لا مساس ٩٧. (٢)

حمعسق « ٤٢ » وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير* وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ٣٠ ـ ٣١.

ن « ٦٨ » إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين* ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم * فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون * بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا ياويلنا إنا كنا

__________________

(١) أى وتدحرجهم الزبانية.

(٢) أى لا مماسة ولا مخالطة ، لا أمس ولا امس ، عوقب السامرى في الدنيا بالمنع من مخالطة الناس ، وحرم عليهم مكالمته ومخالطته ومجالسته ومؤاكلته ، فاذا اتفق أن يماس أحدا حم الماس والممسوس ، فكان يهيم في البرية مع الوحش ، وإذا لقى أحدا قال : لا مساس ، أى لا تقربنى ولا تماسنى.

٥٤

طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ١٧ ـ ٣٣.

تفسير : « ليصرمنها » أي ليقطعنها « ولا يستثنون » أي لا يقولون إن شاء الله « طائف » أي بلاء طائف « كالصريم » أى كالبستان الذي صرمت ثماره (١) « وهم يتخافتون » أي يتشاورون بينهم خفية « على حرد » (٢) أي نكد ، من حردت السنة : إذا لم يكن فيها مطر « قادرين » عند أنفسهم على صرامها. وسيأتي تفسير ساير الآيات وتأويلها في مواضعها.

فس : في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » وهي النقمة « أو تحل قريبا من دارهم » فتحل بقوم غيرهم فيرون ذلك ويسمعون به ، والذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم ، ولا يتعظ بعضهم ببعض ، ولن يزالوا كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر ويخزي الكافرين. « ص ٣٤٢ »

٢ ـ فس : « واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب و حففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا » قال : نزلت في رجل كان له بستانان كبيران ، عظيمان ، كثير الثمار ـ كما حكى الله عزوجل ـ وفيهما نخل وزرع وماء ، وكان له جار فقير فافتخر الغني علي الفقير ، وقال له : « أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا » ثم دخل بستانه وقال : « ما أظن أن تبيد (٣) » هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا « فقال له الفقير « أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي لا اشرك بربي أحدا » ثم قال الفقير للغني : فهلا « إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا » ثم قال الفقير : « فعسى

__________________

(١) وقيل : الصريم : الليل اى صارت سوداء كالليل لاحتراقها.

(٢) قال الشيخ في التبيان : « وغدوا على حرد » فالحرد : القصد ، قال الحسن : معناه على جهة من الفاقة. وقال مجاهد : معناه على جد من أمرهم. وقال سفيان : معناه على حنق. وقيل معناه على منع ، من قولهم : حاردت السنة : إذا منعت قطرها ، والاصل القصد ، وقوله : « قادرين » معناه : مقدرين أنهم يصرمون ثمارها ، ويجوز أن يكون المراد : وغدوا على حرد قادرين عند أنفسهم على صرام جنتهم.

(٣) أى أن تهلك.

٥٥

ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا (١) من السماء فتصبح صعيدا زلقا » (٢) أي محترقا « أو يصبح ماؤها غورا ». فوقع فيها ما قال الفقير في ذلك (٣) الليلة « فأصبح » الغني « يقلب كفيه » (٤) على ما أنفق فيها « وهي خاوية (٥) » على عروشها ويقول ياليتني لم اشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا « وهذه عقوبة الغني ». (٦) ( ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧ )

٣ ـ عن سليمان بن عبدالله قال : كنت عند أبي الحسن موسى عليه‌السلام قاعدا فاتي بامرأة قد صار وجهها قفاها ، فوضع يده اليمنى في جبينها ويده اليسرى من خلف ذلك ثم عصر وجهها عن اليمين ، ثم قال : « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » رجع وجهها ، فقال احذري أن تفعلي كما فعلت ، قالوا : يابن رسول الله وما فعلت؟ فقال : ذلك مستور إلا ان تتكلم به ، فسألوها فقالت : كانت لي ضرة فقمت اصلي فظننت أن زوجي معها فالتفتت إليها فرأيتها قاعدة وليس هو معها ، فرجع وجهها على ما كان.

٤ ـ شى : عن أبي عمرو المدائني ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إن أبي كان يقول : إن الله قضى قضاءا حتما : لا ينعم على عبده بنعمة فيسبلها إياه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة ، وذلك قول الله : « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ».

٥ ـ شى : عن أحمد بن محمد ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في قول الله « إن الله لا يغير

__________________

(١) بضم الحاء ، قال الراغب في مفرداته : قيل : نارا وعذابا وإنما هو في الحقيقة ما يحاسب عليه فيجازى بحسبه انتهى. وقيل : أصل السهام التى ترمى لتجرى في طلق واحد وكان ذلك من رمى الاساورة ، والحسبان : المرامى الكثيرة. وقيل : بردا.

(٢) أرض زلق : لمساء ليس بها شئ.

(٣) في المصدر : في تلك الليلة. م

(٤) تقليب الكف عبارة عن الندم ذكرا لحال ما يوجد عليه النادم ، أى فاصبح يصفق ندامة.

(٥) خاوية أى ساقطة من خوى النجم : إذا سقط ، أو خالية من خلى المنزل : إذا خلى من أهله وكل مرتفع أظلك من سقف أو كرم أو بيت فهو عرش.

(٦) في المصدر : فهذه عقوبة البغى. م

٥٦

ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإذا أرأد الله بقوم سوء فلا مرد له « فصار الامر إلى الله تعالى.

٦ ـ شى : عن الحسين بن سعيد المكفوف كتب إليه في كتاب له : جعلت فداك ياسيدي علم مولاك : ما لا يقبل لقائله دعوة وما لا يؤخر لفاعله دعوة؟ وما حد الاستغفار الذي وعد عليه نوح؟ والاستغفار الذي لا يعذب قائله؟ وكيف يلفظ بهما؟ وما معنى قوله : « ومن يتق الله ، ومن يتوكل على الله »؟ وقوله : « ومن اتبع هداي ، ومن أعرض عن ذكري ، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم »؟ وكيف تغيير القوم ما بأنفسهم حتى يغير ما بأنفسهم؟

فكتب صلوات الله عليه : كافاكم الله عني بتضعيف الثواب والجزاء الحسن الجميل وعليكم جميعا السلام ورحمة الله وبركاته ، الاستغفار ألف ، والتوكل من توكل على الله فهو حسبه ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، وأما قوله : « ومن اتبع هداي » من قال : بالامامة واتبع أمركم بحسن طاعتهم ، وأما التغير إنه لا يسئ إليهم حتى يتولوا ذلك بأنفسهم بخطاياهم وارتكابهم ما نهي عنه. وكتب بخطه.

نهج : وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذبوب اجترحوها ، لان الله تعالى ليس بظلام للعبيد ، ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم و تزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد.

توضيح : في غض نعمة أي في نعمة غضة طرية ناضرة. والوله بالتحريك : الحزن والخوف ، والشارد : النافر.

٨ ـ دعوات الراوندي : قال الصادق عليه‌السلام : اتقوا الذنوب وحذروها إخوانكم فوالله ما العقوبة إلى أحد أسرع منها إليكم ، لانكم لا تؤاخذون بها يوم القيامة.

٩ ـ وقال زين العابدين عليه‌السلام : ما من مؤمن تصيبه رفاهية في دولة الباطل إلا ابتلي قبل موته ببدنه أو ماله حتى يتوفر حظه في دولة الحق.

٥٧

(باب ٢٣)

*(علل الشرايع والاحكام)*

الايات ، المائدة « ٥ » ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ٦.

الاعراف « ٧ » قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ٢٨.

حمسعق « ٤٢ » الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ١٧.

الرحمن « ٥٥ » والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان ٧ ـ ٨.

تفسير : قد فسر جماعة من المفسرين الميزان في الآيتين بالشرع ، وبعضهم بالعدل وبعضهم بالميزان المعروف. وأما الاخبار ففيها ثلاثة فصول :

الفصل الاول العلل التي رواها الفضل بن شاذان.

١ ـ ن ، ع : حدثني عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار بنيسابور في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاث مائة ، قال : حدثني أبوالحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : قال أبومحمد الفضل بن شاذان ، وحدثنا الحاكم أبوجعفر محمد بن نعيم بن شاذان رحمه الله ، عن عمه أبي عبدالله محمد بن شاذان قال : قال الفضل بن شاذان النيسابوري : إن سأل سائل فقال : أخبرني هل يجوز أن يكلف الحكيم (١) عبده فعلا من الافاعيل لغير علة ولا معنى؟ قيل له : لا يجوز ذلك لانه حكيم غير عابث ولا جاهل.

فإن قال : فأخبرني لم كلف الخلق؟ قيل : لعلل.

فإن قال : فأخبرني عن تلك العلل معروفة موجودة هي أم غير معروفة ولا موجودة؟ قيل : بل هي معروفة وموجودة عند أهلها.

فإن قال : أتعرفونها أنتم أم لا تعرفونها؟ قيل لهم : منها ما نعرفه ، ومنها ما لا نعرفه.

فإن قال : فما أول الفرائض؟ قيل : (٢) الاقرار بالله عزوجل « وبرسوله و حجته ع » وبما جاء من عند الله عزوجل.

__________________

(١) في العلل : هل يكلف الحكيم. م

(٢) في العيون : قيل له. م

٥٨

فإن قال : لم أمر الله الخلق (١) بالاقرار بالله وبرسله (٢) وحججه وبما جاء من عند الله عزوجل؟ قيل : لعلل كثيرة : منها أن من لم يقر بالله عزوجل لم يجتنب معاصيه ولم ينته عن ارتكاب الكبائر ، ولم يراقب أحدا فيما يشتهي ويستلذ من الفساد و الظلم ، فإذا فعل الناس هذه الاشياء وارتكب كل إنسان ما يشتهي ويهواه من غير مراقبة لاحد كان في ذلك فساد الخلق أجمعين ، ووثوب بعضهم على بعض ، فغصبوا الفروج والاموال وأباحوا الدماء والنساء « والسبي ع » وقتل بعضهم بعضا من غير حق ولا جرم ، فيكون في ذلك خراب الدنيا ، وهلاك الخلق ، وفساد الحرث والنسل.

ومنها أن الله عزوجل حكيم ، ولا يكون الحكيم ولا يوصف (٣) بالحكمة إلا الذي يحظر الفساد ، ويأمر بالصلاح ، ويزجر عن الظلم ، وينهى عن الفواحش ، ولا يكون حظر الفساد والامر بالصلاح والنهي عن الفواحش إلا بعد الاقرار بالله عزوجل ومعرفة الآمر والناهي ، فلو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفته لم يثبت أمر بصلاح ، ولا نهي عن فساد إذ لا آمر ولا ناهي.

ومنها أنا وجدنا الخلق قد يفسدون بامور باطنة ، مستورة عن الخلق ، فلولا الاقرار بالله عزوجل وخشيته بالغيب لم يكن أحد إذا خلا بشهوته وإرادته يراقب أحدا في ترك معصية ، وانتهاك حرمة ، وارتكاب كبيرة ، إذا كان فعله ذلك مستورا (٤) عن الخلق ، غير مراقب لاحد ، وكان يكون في ذلك هلاك الخلق أجمعين ، فلم يكن قوام الخلق و صلاحهم إلا بالاقرار منهم بعليم خبير ، يعلم السر وأخفى ، آمر بالصلاح ، ناه عن الفساد ، لا تخفى عليه خافية ، ليكون في ذلك انزجار لهم عما يخلون (٥) به من أنواع الفساد.

فإن قال : فلم وجب عليهم (٦) معرفة الرسل والاقرار بهم والاذعان لهم بالطاعة؟ قيل : لانه لما لم يكن (٧) في خلقهم وقولهم وقواهم ما يكملون لمصالحهم ، (٨) وكان

__________________

(١) في العلل : لم امر الخلق. م

(٢) في العلل : برسوله. م

(٣) في المصدر : ولا يكون حكيما ولا يوصف. م

(٤) في العلل : اذا فعل ذلك مستورا. م

(٥) في العلل عما يحلون به. م (٦) في العلل : فان قال قائل : فلم وجب عليكم. م

(٧) في العيون : لما إن لم يكن ، وفى العلل : لما لم يكتف. م

(٨) في العلل بعد قوله : وقواهم : ما يثبتون به لمباشرة الصانع عزوجل حتى يكلمهم ويشافههم وكان الصانع اه. م

٥٩

الصانع متعاليا عن أن يرى ، (١) وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بد (٢) من رسول بينه وبينهم ، معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم (٣) ودفع مضارهم ، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم ، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجئ الرسول منفعة ولا سد حاجة ، ولكان يكون إتيانه عبثا لغير منفعة ولا صلاح ، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شئ.

فإن قال : فلم جعل اولي الامر وأمر بطاعتهم؟ قيل : لعلل كثيرة : منها أن الخلق لما وقعوا على حد محدود وامروا أن لا يتعدوا ذلك الحد « تلك الحدودع » لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم لانه لو لم يكن ذلك (٤) كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والاحكام.

ومنها أنا (٥) لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم و رئيس لما لابد لهم (٦) منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به ، فيقاتلون به عدوهم ، ويقسمون به (٧) فيئهم ، ويقيم (٨) لهم جمعتهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم.

ومنها أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة ، وذهب الدين ، وغيرت السنة والاحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ، ونقص منه الملحدون ، وشبهوا ذلك على المسلمين ، لانا قد وجدنا (٩) الخلق منقوصين محتاجين ،

__________________

(١) في العلل : متعاليا عن أن يرى ويباشر. م

(٢) في المصدرين : لم يكن بد لهم. م

(٣) في العلل : اجتلاب منافعهم. م

(٤) في العلل : ذلك لو لم يكن لكان. م

(٥) في العلل لم نجد. م

(٦) في العيون : ولما لابد لهم. م

(٧) ليس في العيون لفظة « به ». م

(٨) في العلل ويقيمون به. م

(٨) في العلل : اذ قد وجدنا. م

٦٠