بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

فائدة : قال السيد المرتضى قدس الله روحه : إن سأل سائل فقال : بم تدفعون من خالفكم في الاستطاعة وزعم أن المكلف يؤمر بما لا يقدر عليه ولا يستطيعه إذا تعلق بقوله تعالى : «انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا» (١) فإن الظاهر من هذه الآية يوجب أنهم غير مستطيعين للامر الذي هم غير فاعلين له ، وأن القدرة مع الفعل ; وإذا تعلق بقوله تعالى في قصة موسى : «إنك لن تستطيع معي صبرا» (٢) وأنه نفى أن يكون قادرا على الصبر في حال هو فيها غير صابر ، وهذا يوجب أن القدرة مع الفعل ; وبقوله تعالى : «ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون»؟. (٣)

يقال له : أول ما نقوله : إن المخالف لنا في هذا الباب من الاستطاعة لا يصح له فيه التعلق بالسمع ، لان مذهبه لا تسلم معه صحة السمع ، ولا يتمكن مع المقام عليه من معرفة السمع بأدلته ، وإنما قلنا ذلك لان من جوز تكليف الله تعالى الكافر بالايمان وهو لا يقدر عليه لا يمكنه العلم بنفي القبائح عن الله عزوجل ، وإذا لم يمكنه ذلك فلابد من أن يلزمه تجويز القبائح على الله في أفعاله وأخباره ، ولا يأمن من أن يرسل كذابا ، وأن يخبرهم بالكذب ، تعالى عن ذلك ، فالسمع إن كان كلامه قدح في حجته تجويز الكذب عليه ، وإن كان كلام رسوله قدح فيه ما يلزمه من تجويز تصديق الكذاب ، وإنما طرق ذلك تجويز بعض القبائح عليه ، وليس لهم أن يقولوا : إن أمره تعالى الكافر بالايمان وإن لم يقدر عليه يحسن من حيث أتى الكافر فيه من قبل نفسه لانه تشاغل بالكفر فترك الايمان ، وإنما كان يبطل تعلقنا بالسمع لو أضفنا ذلك إليه تعالى على وجه يقبح ، وذلك لان ما قالوه إذا لم يؤثر في كون ما ذكرناه تكليفا لما لا يطاق لم يؤثر في نفي ما ألزمناه عنهم لانه يلزم على ذلك أن يفعل الكذب وسائر القبائح وتكون حسنة منه بأن يفعلها من وجه لا يقبح منه ، وليس قولهم : إنا لم نضفه إليه من وجه يقبح بشئ يعتمد ، بل يجري مجرى قول من جوز عليه أن يكذب ويكون الكذب منه حسنا ، ويدعي مع ذلك صحة معرفة السمع بأن يقول : إنني لم أضف إليه قبيحا فيلزمنى إفساد

________________

(١) الاسراء : ٤٨.

(٢) الكهف : ٦٧.

(٣) هود : ٢٠.

٦١

طريقة السمع ، فلما كان من ذكرناه لا عذر له في هذا الكلام لم يكن للمخالف في الاستطاعة عذر بمثله.

ونعود إلى تأويل الآي : أما قوله : «انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا» فليس فيه ذكر للشئ الذي لا يقدرون عليه ولا بيان له ، وإنما يصح ما قالوه لو بين لهم أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى أمر معين ، فأما إذا لم يذكر ذلك كذلك فلا متعلق لهم.

فإن قيل : فقد ذكر تعالى من قبل ضلالهم فيجب أن يكون المراد بقوله : «فلا يستطيعون سبيلا» إلى مفارقة الضلال.

قلنا : إنه تعالى كما ذكر الضلال فقد ذكر ضرب المثل منهم ، فيجوز أن يريد أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من الامثال ، وذلك غير مقدور على الحقيقة ولا مستطاع ، والظاهر أن هذا الوجه أولى لانه تعالى حكى عنهم أنهم ضربوا له الامثال ، وجعل ضلالهم وأنهم لا يستطيعون السبيل متعلقا بما تقدم ذكره ، وظاهر ذلك يوجب رجوع الامرين جميعا إليه ، وأنهم ضلوا بضرب المثل ، وأنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من المثل ، على أنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم ضلوا ، وظاهر ذلك الاخبار عن ماضي فعلهم ، فإن كان قوله : «فلا يستطيعون سبيلا» يرجع إليه فيجب أن يدل على أنهم لا يقدرون في المستقبل على ترك الماضي ، وهذا مما لا يخالف فيه ، وليس فيه ما نأباه من أنهم لا يقدرون في المستقبل أو في الحال على مفارقة الضلال والخروج عنه وتعذر تركه ، وبعد(١) فإذا لم يكن للآية ظاهر فلم صاروا بأن يحملوا نفي الاستطاعة على أمر كلفوه بأولى منا إذا حملنا ذلك على أمر لم يكلفوه؟ أو على أنه أراد الاستثقال والخبر عن عظم المشقة عليهم ، وقد جرت عادة أهل اللغة بأن يقولوا لمن يستثقل شيئا : إنه لا يستطيعه ولا يقدر عليه ولا يتمكن منه ; ألا ترى أنهم يقولون : فلان لا يستطيع أن يكلم فلانا ولا ينظر إليه وما أشبه ذلك وإنما غرضهم الاستثقال وشدة الكلفة والمشقة.

________________

(١) في الامالى المطبوع : وتعذر تركه بعد مضيه.

٦٢

فإن قيل : فإذا كان لا ظاهر للآية يشهد بمذهب المخالف فما المراد بها عندكم؟ قلنا : قد ذكر أبوعلي أن المراد أنهم لا يستطيعون إلى بيان تكذيبه سبيلا لانهم ضربوا الامثال ظنا منهم بأن ذلك يبين كذبه ، فأخبر تعالى أن ذلك غير مستطاع لان تكذيب صادق وإبطال حق مما لا تتعلق به قدرة ولا تتناوله استطاعة. وقد ذكر أبوهاشم أن المراد بالآية أنهم لاجل ضلالهم بضرب المثل وكفرهم لا يستطيعون سبيلا إلى الخير الذي هو النجاة من العقاب والوصول إلى الثواب ، وليس يمكن على هذا أن يقال : كيف لا يستطيعون سبيلا إلى الخير والهدى وهم عندكم قادرون على الايمان والتوبة؟ ومتى فعلوا ذلك استحقوا الثواب ، لان المراد أنهم مع التمسك بالضلال والمقام على الكفر لا سبيل لهم إلى خير وهدى ، وإنما يكون لهم سبيل إلى ذلك بأن يفارقوا ما هم عليه ، وقد يمكن أيضا في معنى الآية ما تقدم ذكره من أن المراد بنفي الاستطاعة عنهم أنهم مستثقلون للايمان ، فقد يخبر عمن يستثقل شيئا بأنه لا يستطيعه على ما تقدم ذكره ، كذا في كتاب الغرر للسيد رحمه الله.

أما قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : «إنك لا تستطيع معي صبرا» فظاهره يقتضي أنك لا تستطيع ذلك في المستقبل ، ولا يدل على أنه غير مستطيع للصبر في الحال أن يفعله في الثاني ، وقد يجوز أن يخرج في المستقبل من أن يستطيع ما هو في الحال مستطيع له ، غير أن الآية تقتضي خلاف ذلك ، لانه قد صبر عن المسألة أوقاتا ، وإن لم يصبر عنها في جميع الاوقات فلم تنتف الاستطاعة للصبر عنه في جميع الاحوال المستقبلة؟.

على أن المراد بذلك واضح ، وأنه تعالى خبر عن استثقاله الصبر عن المسألة عما لا يعرف ولا يقف عليه لان مثل ذلك يصعب على النفس ، ولهذا يجد أحدنا إذا جرى بين يديه ما ينكره ويستبدعه تنازعه نفسه إلى المسألة عنه والبحث عن حقيقته ، ويثقل عليه الكف عن الفحص عن أمره ، فلما حدث من صاحب موسى عليه‌السلام ما يستنكر ظاهره استثقل الصبر عن المسألة عن ذلك ، ويشهد لهذا الوجه قوله تعالى : «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا» فبين أن العلة في قلة صبره ما ذكرناه دون غيره ، ولو كان الامر على ما ظنوا لوجب أن يقول : وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر؟.

٦٣

وأما قوله تعالى : «ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون» فلا تعلق لهم بظاهره ، لان السمع ليس بمعنى فيكون مقدورا ، لان الادراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى ، ولو ثبت أنه معنى على ما يقوله أبوعلي لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث اختص القديم تعالى بالقدرة عليه. هذا إن أريد بالسمع الادراك ، وإن أريد به نفس الحاسة فهي أيضا غير مقدورة للعباد لان الجواهر وما تختص به الحواس من البينة والمعاني ليصح به الادراك مما ينفرد القديم تعالى بالقدرة عليه(١) فالظاهر لا حجة لهم فيه.

فإن قالوا : ولعل المراد بالسمع كونهم سامعين ، كأنه نفى عنهم استطاعة أن يسمعوا. قلنا : هذا خلاف الظاهر ، ولو ثبت أن المراد ذلك لحملنا نفي الاستطاعة ههنا على ما تقدم ذكره من الاستثقال وشدة المشقة كما يقول القائل : فلان لا يستطيع أن يراني ، ولا يقدر على أن يكلمني ، وما أشبه ذلك ، وهذا بين لمن تأمله. (٢)

وقال رضي‌الله‌عنه : إن سأل سائل عن قوله تعالى : «قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون» (٣) فقال : أليس ظاهر هذا القول يقتضي أنه خالق لاعمال العباد؟ لان «ما» ههنا بمعنى «الذي» فكأنه قال : خلقكم وخلق أعمالكم.

قلنا : قد حمل أهل الحق هذه الآية على أن المراد بقوله : وما تعملون أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما مما كانوا يتخذونه أصناما ويعبدونها ، قالوا : وغير منكر أن يريد بقوله : وما تعملون ذلك ، كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله : «أتعبدون ما تنحتون» لانه لم يرد أنكم تعبدون نحتكم الذي هو فعل لكم بل أراد ما تفعلون فيه النحت ، كما قال تعالى في عصا موسى عليه‌السلام : «تلقف ما يأفكون» (٤) وتلقف ما

________________

(١) هكذا في النسخ ولكن الصحيح كما في الامالى المطبوع : لا يصح بها الادراك فانه مما ينفرد به القديم تعالى بالقدرة عليه.

(٢) يوجد ذلك كله في كتابه الامالى المسمى بالغرر ، في ج ٤ ص ٧١ ـ ٧٤ ويوجد بعده في ص ١٤٣ _ ١٤٦من هذا المجلد.

(٣) الصافات : ٩٤ و ٩٥.

(٤) الاعراف : ١١٧.

٦٤

صنعوا (١) وإنما أراد أن العصا تلقف الحبال التي أظهروا سحرهم فيها ، وهي التي حلتها صنعتهم وإفكهم فقال : « ما صنعوا وما يأفكون » وأراد ما صنعوا فيه ، وما يأفكون فيه ، ومثله قوله تعالى : «يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان» (٢) وإنما أراد المعمول فيه دون العمل ـ وهذا الاستعمال أيضا سائع شائع ـ لانهم يقولون : هذا الباب عمل النجار ; وفي الخلخال : هذا من عمل الصائغ ; وإن كانت الاجسام التي أشير إليها ليست أعمالا لهم ، وإنما عملوا فيها فحسن إجراء هذه العبارة.

فإن قيل : كل الذي ذكرتموه وإن استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع ، لان العمل في الحقيقة لا يجري إلا على فعل الفاعل دون ما يفعل فيه ، وإن استعير في بعض المواضع. قلنا : ليس نسلم لكم أن الاستعمال الذي ذكرناه على سبيل المجاز ، بل نقول : هو المفهوم الذي لا يستفاد سواه لان القائل إذا قال : هذا الثوب عمل فلان لم يفهم منه إلا أنه عمل فيه ، وما رأينا أحدا قط يقول في الثوب بدلا من قوله : هذا من عمل فلان : هذا مما حله عمل فلان ; فالاول أولى بأن يكون حقيقة ، وليس ينكر أن يكون الاصل في الحقيقة ما ذكروه ، ثم انتقل بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه ، وصار أخص به ومما لا يستفاد من الكلام سواه كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحد ، ولا اعتبار بالمفهوم من الالفاظ إلا بما استقر عليه استعمالها دون ما كانت عليه في الاصل فوجب أن يكون المفهوم. والظاهر من الآية ما ذكرناه على أنا لو سلمنا أن ذلك مجاز لوجب المصير إليه من وجوه ، فمن ذلك(٣) أنه تعالى أخرج الكلام مخرج التهجين لهم ، والتوبيخ لافعالهم ، والازراء على مذاهبهم ، فقال «أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون» ومتى لم يكن قوله : «وما تعملون» المراد به تعملون فيه ليصير تقدير الكلام أتعبدون الاصنام التي تنحتونها ، والله خلقكم وخلق هذه الاصنام التي تفعلون فيها التخطيط والتصوير لم يكن للكلام معنى ولا مدخل في باب التوبيخ ، ويصير على ما يذكره المخالف كأنه

________________

(١) طه : ٦٩ أقول : لقف الشئ : تناوله بسرعة.

(٢) سبا : ١٣.

(٣) في الامالى المطبوع هكذا : منها ما يشهد به ظاهر الاية ويقتضيه ولا يسوغ سواه ، ومنها ما تقتضيه الادلة القاطعة الخارجة عن الاية ، فمن ذلك أنه تعالى أخرج إه

٦٥

قال : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وخلق عباداتكم فأي وجه للتقريع ، وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من أن يكون لوما وتوبيخا لانه إذا خلق عبادتهم للاصنام فأي وجه للومهم عليها. (١) على أن قوله تعالى «والله خلقكم وما تعملون» بعد قوله : «أتعبدون ما تنحتون» إنما خرج مخرج التعليل للمنع من عبادة غيره تعالى فلابد أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله : «تعبدون ما تنحتون ، ومؤثرا في المنع من عبادة غير الله ، فلو أفاد» قوله : «ما تعملون» نفس العمل الذي هو النحت دون المعمول فيه لكان لا فائدة في الكلام لان القوم لم يكونوا يعبدون النحت ، وإنما كانوا يعبدون محله ، وأنه كان لاحظ في الكلام للمنع من عبادة الاصنام ، وذلك إن حمل قوله تعالى : «ما تعملون» على أعمال اخر ليست نحتهم ولا هي ما عملوا فيه لكان أظهر في باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم ، فلم يبق إلا أنه أراد أنه خلقكم وما تعملون فيه النحت فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم؟

فإن قيل : لم زعمتم أنه لو كان الامر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثاني حظ في باب المنع من عبادة الاصنام؟ وما تنكرون أن يكون لما ذكرناه وجه في المنع من ذلك ، على أن ما ذكرتموه أيضا لو اريد لكان وجها ، وهو أن من خلقنا وخلق الافعال فينا لا يكون إالاله القديم الذي تحق له العبادة ، وغير القديم تعالى كما يستحيل أن يخلقنا يستحيل أن يخلق فينا الافعال على الوجه الذي يخلقها القديم عليه فصار لما ذكرناه تأثير.

قلنا : معلوم أن الثاني إذا كان كالتعليل للاول والمؤثر في المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقان وما تعبدونه أولى من أن ينصرف إلى ما ذكرتموة مما لا يقتضي أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه فإنه لاشئ أدل على المنع من عبادة الاصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق ، ويشهد بما ذكرناه قوله تعالى في موضع آخر; «أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون» (٢)

________________

(١) اضاف في الامالى المطبوع : وتقريعهم بها.

(٢) الاعراف : ١٩١ ـ ١٩٢

٦٦

فاحتج تعالى عليهم في المنع من عبادة الآلهة دونه بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولاعنهم ، وهذاواضح على أنه لو ساوى ما ذكروه ما ذكرناه في التعلق بالاول لم يسغ حمله على ما أدعوه لان فيه عذرا لهم في الفعل الذي عنفوا به وقرعوا من أجله ، وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم ، ويذمهم بما ينزههم على ما تقدم ; على أنا لا نسلم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة لان من جملة أفعالهم القبائح ، ومن فعل القبائح لا يكون إلها ولا تحق العبادة له ، فخرج ما ذكروه من أن يكون مؤثرا في انفراده بالعبادة ; على أن إضافته العمل إليهم بقوله تعالى : «تعملون) يبطل تأويلهم هذه الآية ، لانه لو كان خالقا له لم يكن عملا لهم لان العمل إنما يكون عملا لمن يحدثه ويوجده ، فكيف يكون عملا لهم والله خلقه؟! هذه مناقضة لهم ، فثبت بهذا أن الظاهر شاهد لنا أيضا ; على أن قوله : «وما تعملون» يقتضي اللاستقبال ، وكل فعل لم يوجد فهو معدوم ، ومحال أن يقول تعالى : إني خالق للمعدوم. فإن قالوا : اللفظ وإن كان للاستقبال فالمراد به الماضي فكأنه قال : والله خلقكم وما عملتم. قلنا : هذا عدول منكم عن الظاهر الذي أدعيتم أنكم متمسكون به ، وليس أنتم بأن تعدلوا عنه بأولى منا ، بل نحن أحق لانا نعدل عنه بدلالة ، وأنتم تعدلون بغير حجة.

فإن قالوا : فأنتم تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم ، وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ الماضي. قلنا : نحن لا نحتاج في تأويلنا إلى ذلك لانا إذا حملنا قوله : «وما تعملون» على الاصنام المعمول فيها ومعلوم أن الاصنام موجودة قبل عملهم فيها فجاز أن يقول تعالى : «إنى خلقتها» ولا يجوز أن يقول : «إني خلقت ما سيقع من العمل في المسبقبل» على أنه لو أراد بذلك أعمالهم لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن في الظاهر حجة على ما يريدون لان الخلق هو التقدير والتدبير ، وليس يمتنع في اللغة أن يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا قدره ودبره ألا ترى أنهم يقولون : خلقت الاديم وإن لم يكن الاديم فعلا لمن يقول ذلك فيه؟ ويكون معنى خلقه لافعال العباد أنه مقدر لها ومعرف لنا مقاديرها ومراتبها ، وما به نستحق عليها من الجزاء.

٦٧

*«باب ٢»*

*«آخر وهو من الباب الاول»*

وفيه رسالة آبى الحسن الثالث صلوات الله عليه في الرد على أهل الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين بوجه أبسط مما مر.

١ ـ ف : من علي بن محمد : سلام عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته ، فإنه ورد علي كتابكم وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر ، ومقالة من يقول منكم بالجبر ، ومن يقول بالتفويض ، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم ، وما ظهر من العداوة بينكم ، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كله ، اعلموا رحمكم الله أنا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الاخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام(١) ممن يعقل عن الله عزوجل لا تخلو من معنيين ; إما حق فيتبع ، وإما باطل فيجتنب ، وقد اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ، وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه مصيبون مهتدون ، وذلك بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع أمتي على ضلالة» فأخبر أن جميع مااجتمعت عليه الامة كلها حق ، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضا ، والقرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه ، فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه وأنكر الخبر طائفة من الامة لزمهم الاقرار به ضرورة ، حين(٢) اجتمعت في الاصل على تصديق الكتاب ، فإن هي جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملة ، فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب وتصديقه والماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه ، بحيث لا تخالفه أقاويلهم حيث قال : «إنى مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما وأنهما لن يفترقا حتى يردا

________________

«*» أورد شطرا من الحديث عن الاحتجاج في الباب المتقدم تحت رقم ٣٠.

(١) أى من ينتسب إليه.

(٢) في نسخة : حيث.

٦٨

علي الحوض. (١) فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصا مثل قوله جل وعز : «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون» (٢) وروت العامة في ذلك أخبارا لامير المؤمنين عليه‌السلام أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه ، فوجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أتى بقوله : «من كنت مولاه فعلى مولاه» ، وبقوله : «أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى ، و وجدناه» يقول : «علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم من بعدي ، فالخبر الاول الذي استنبط منه هذه الاخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم ، وهو أيضا موافق للكتاب ، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشواهد الاخر لزم على الامة الاقرار بها ضرورة ، إذ كانت هذه الاخبار شواهدها من القرآن ناطقة ، و وافقت القرآن والقرآن وافقها ، ثم وردت حقائق الاخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن الصادقين عليهم‌السلام نقلها قوم ثقاة معروفون فصار الاقتداء بهذه الاخبار فرضا واجبا على كل مؤمن ومؤمنة ، لا يتعداه إلا أهل العناد ، وذلك أن أقاويل آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متصلة بقول الله ، وذلك مثل قوله في محكم كتابه : « إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا« ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من آذى عليا فقد آذانى ، ومن آذانى فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن ينتقم منه» وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله» ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بني وليعة : (٣) «لابعثن إليهم رجلا كنفسي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قم ياعلي فسر إليهم» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر : «لابعثن إليهم غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله عليه» فقضى

________________

(١) سيوافيك الحديث وما يأتى بعدها من الاحاديث الواردة في أمير المؤمنين عليه‌السلام بأسنادها المتفقة عليها عند جمهور المسلمين في كتاب الامامة.

(٢) سيأتى كلام المفسرين من العامة والخاصة حول الاية وغيرها مما نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب الامامة.

(٣) قال الفيروز آبادى في القاموس : بنو وليعة كسفينة : حى من كندة.

٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله «ص» ، فلما كان من الغد دعا عليا عليه‌السلام فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه الصفة(١) وسماه كرارا غير فرار ، فسماه الله محبا لله ولرسوله ، فأخبر أن الله ورسوله يحبانه. وإنما قدمنا هذا الشرح والبيان دليلا على ما أردنا وقوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر والتفويض ، والمنزلة بين المنزلتين ، وبالله العون والقوة وعليه نتوكل في جميع أمورنا ، فإنا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين» وهى صحة الخلقة ، و تخلية السرب ، والمهلة في الوقت ، والزاد مثل الراحلة ، والسبب المهيج للفاعل على فعله ، فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق عليه‌السلام جوامع الفضل فإذا نقص العبد منها خلة(٢) كان العمل عنه مطروحا بحسبه ، فأخبر الصادق عليه‌السلام بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته ، ونطق الكتاب بتصديقه ، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله ، لان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام لا يعدو شئ من قوله وأقاويلهم حدود القرآن فاذا وردت حقائق الاخبار والتمست شواهدها من التنزيل فوجد لها موافقا وعليها دليلا كان الاقتداء بها فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد كما ذكرنا في أول الكتاب ، ولما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق عليه‌السلام من المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدق مقالته في هذا وخبر عنه أيضا موافقا لهذا أن الصادق عليه‌السلام سئل : هل أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال الصادق عليه‌السلام : هو أعدل من ذلك ، فقيل له : فهل فوض إليهم؟ فقال عليه‌السلام : هو أعز وأقهر لهم من ذلك.

وروى عنه أنه قال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الامر مفوض إليه فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله عزوجل أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا

________________

(١) في نسخة : المنقبة.

(٢) بضم الخاء وفتحها : خصلة.

٧٠

مسلم بالغ ، فأخبر عليه‌السلام أن من تقلد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف الحق ، فقد شرحت الجبر الذى من دان به يلزمه الخطاء ، وأن الذى يتقلد التفويض يلزمه الباطل فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما ، ثم قال : وأضرب لكل باب من هذه الابواب مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث عن شرحه ، تشهد به محكمات آيات الكتاب ، وتحقق تصديقه عند ذوى الالباب وبالله التوفيق والعصمة.

فأما الجبر الذى يلزم من دان به الخطاء فهو قول من زعم أن الله عزوجل أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذبه ورد عليه قوله : «ولا يظلم ربك أحدا» وقوله : «ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد» وقوله : «إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون» مع آي كثيرة في ذكر هذا ، فمن زعم أنه مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الامة ، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه ، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة ، وإظهار الحكمة ، ونفي الجور ، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه ، وعلم أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك ، فلما صار العبد إلى السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعا يمنع منها إلا بشراء وليس يملك العبد ثمنها فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه ، أليس يجب في عدله وحكمته أن لا يعاقبه وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا ولم يملكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه ، مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، فمن دان بالجبر أو بما يدعو

٧١

إلى الجبر فقد ظلم الله ، ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبر العقوبة ، ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله أن الله يدفع عنهم العقوبة ، ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب الله في وعيده ، حيث يقول : «بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» وقوله : «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا» وقوله : «إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما» مع آي كثيرة في هذا الفن ، فمن كذب وعيد الله يلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر ، وهو ممن قال الله : «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون» بل نقول : إن الله عز وجل جازى العباد على أعمالهم ، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها فأمرهم ونهاهم ، بذلك ونطق كتابه «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون» وقال جل ذكره : «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه» وقال : «اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم» فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به ، ومثلها في القرآن كثير ، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب ، وبالله التوفيق. فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه‌السلام وخطأ من دان به وتقلده فهو قول القائل : إن الله جل ذكره فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ، وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته ، وإلى هذا ذهبت الائمة المهتدية من عترة الرسول عليهم‌السلام ، فإنهم قالوا لو فوض إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضى ما اختاروه ، واستوجبوا به الثواب ، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الاهمال واقعا ، وتنصرف هذه المقالة على معنيين : إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة ، كره ذلك أم أحب ، فقد لزمه الوهن ، أو يكون جل وعز عجز عن تعبدهم بالامر والنهي على إرادته ، كرهوا أو أحبوا ففوض أمره ونهيه إليهم

٧٢

وأجراهما على محبتهم ، إذ عجز عن تعبدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والايمان ، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ، ويعرف له فضل ولايته ، ويقف عند أمره ونهيه ، وادعى مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه و وعده على اتباع أمره عظيم الثواب ، وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ، ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأى أمر أمره به أو أي نهي نهاه عنه لم يأته على إرادة المولى ، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه ، واتباع هواه ، ولا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته ، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه ورضي منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك ، وبعثه في بعض حوائجه وسمى له الحاجة فخالف على مولاه ، وقصد لارادة نفسه ، واتبع هواه ، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به فإذا هو خلاف ما أمره به فقال له : لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد : اتكلت على تفويضك الامر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لان المفوض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض ، أو ليس يجب على هذا السبب إما أن يكون المالك للعبد قادرا يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد ، ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه ، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه الثواب والعقاب عليهما وحذره ورغبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة لامره ونهيه وترغيبه وترهيبه فيكون عدله وإنصافه شاملا له ، وحجته واضحة عليه للاعذار والانذار. فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه ، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه؟ أو يكون عاجزا غير قادر ففوض أمره إليه أحسن أم أساء أطاع أم عصى عاجز عن عقوبته ورده إلي اتباع أمره ، وفي إثبات العجز نفي القدرة والتأله ، وإبطال الامر والنهي والثواب والعقاب ، ومخالفة الكتاب ، إذ يقول : «ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم» وقوله عزوجل : «اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون» وقوله : «وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ما اريد منهم من رزق وما اريد أن يطعمون» وقوله : «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا» وقوله : «وأطيعو الله وأطيعوا الرسول ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون» فمن زعم أن الله تعالى فوض أمره

٧٣

ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير وشر ، وأبطل أمر الله ونهيه ، ووعده ووعيده لعلة ما زعم أن الله فوضها إليها لان المفوض إليه يعمل بمشيته ، فإن شاء الكفر أو الايمان كان غير مردود عليه ولا محظور فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه ، وهو من أهل هذه الآية «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون» تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا ، لكن نقول : إن الله عز وجل ، خلق الخلق بقدرته ، وملكهم استطاعة تعبدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد فقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك لهم ، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الامر والنهي ، يختار ما يريد ويأمر به ، وينهى عما يكره و يعاقب عليه ، بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لانه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة ، بالغ الحجة بالاعذار والانذار ، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده اصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثه برسالاته إلى خلقه فقال من قال من كفار قومه حسدا واستكبارا : «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» يعنى بذلك امية بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي ، فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول : «أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون» ولذلك اختار من الامور ما أحب ، ونهى عما كره ، فمن أطاعه أثابه ، ومن عصاه عاقبه ، ولو فوض من اختيار أمره إلى عباده لاجاز لقريش اختيار امية ابن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما أدب الله المؤمنين بقوله : «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم ولم يقبل منهم إلا اتباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه فمن أطاعه رشد ، ومن عصاه ضل وغوى ولزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب

٧٤

نهيه ، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه ، وأنزل به عقابه ، وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الاسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له أمير المؤمنين : سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له أمير المؤمنين : قل ياعباية ، قال وما أقول؟ قال عليه‌السلام : إن قلت إنك تملكها مع الله قتلتك وإن قلت : تملكها دون الله قتلتك قال عباية : فما أقول يا أميرالمؤمنين عليه‌السلام؟ قال عليه‌السلام : تقول : إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن يملكها إياك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه هو المالك لما ملكك ، والقادر على ما عليه أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون : لاحول ولا قوة إلا بالله؟ قال عباية : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : عليه‌السلام لا حول عن معاصي الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله ، قال : فوثب عباية فقبل يديه ورجليه. وروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله قال : يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال عليه‌السلام : بالتمييز الذي خولني ، (١) والعقل الذي دلني ، قال : أفمجبول أنت عليه؟ قال : لو كنت مجبولا ماكنت محمودا على إحسان ، ولا مذموما على إساءة ، وكان المحسن أولى باللائمة من المسئ ، فعلمت أن الله قائم باق ، وما دونه حدث حائل زائل ، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل. قال نجدة : أجدك أصبحت حكيما يا أميرالمؤمنين قال : أصبحت مخيرا فإن أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

وروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال : ياأمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال : نعم ياشيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا إلا بقضاء وقدر من الله ، فقال الشيخ : عندالله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين ، فقال : مه ياشيخ فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفى مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شئ من اموركم

________________

(١) خوله الشئ : أعطاه إياه متفضلا ، أوملكه إياه.

٧٥

مكرهين ، ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم ، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، ولسقط الوعد والوعيد ، ولما ألزمت الاشياء أهلها على الحقائق ، ذلك مقالة عبدة الاوثان وأولياء الشياطين(١) إن الله عزوجل أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، ولم يطع مكرها ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يخلق السماوات والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. فقام الشيخ فقبل رأس أميرالمؤمنين عليه‌السلام وأنشأ يقول :

أنت الامام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه رضوانا

فليس معذرة في فعل فاحشة

عندي لراكبها ظلما وعصيانا

فقد دل قول أميرالمؤمنين عليه‌السلام على موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب ، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر ، ولسنا ندين بجبر ولا تفويض ، لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين ، وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملكنا الله وتعبدنا بها على ما شهد به الكتاب ودان به الائمة الابرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.

ومثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبدا وملك مالا كثيرا أحب أن يختبر عبده على علم منه بما يؤول إليه ، فملكه من ماله بعض ما أحب ، ووقفه على امور عرفها العبد ، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها ; ونهاه عن أسباب لم يحبها ، وتقدم إليه أن يجتنبها ، ولا ينفق من ماله فيها ، والمال يتصرف في أي الوجهين ; فصرف المال أحدهما في اتباع أمر المولى ورضاه ، والآخر صرفه في اتباع نهيه وسخطه ، وأسكنه دار اختبار أعلمه أنه غير دائم له السكنى في الدار ، وأن له دارا غيرها ، وهو مخرجه إليها فيها ثواب وعقاب دائمان ، فإن أنفذ العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه إليها ، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود ،

________________

(١) في المصدر : الشيطان. م

٧٦

وقد حد المولى في ذلك حدا معروفا وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الاولى ، فإذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال وبالعبد على أنه لم يزل مالكا للمال والعبد في الاوقات كلها ، إلا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الاولى إلا أن يستتم(١) سكناه فيها ، فوفى له لان من صفات المولى العدل والوفاء والنصفة والحكمة أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب وتفضل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه على طاعته فيها نعيما دائما في دار باقية دائمة؟ وإن صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الاولى في الوجه المنهي عنه وخالف أمر مولاه كذلك يجب عليه العقوبة الدائمة التي حذره إياها غير ظالم له لما تقدم إليه وأعلمه وعرفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده بذلك يوصف القادر القاهر؟

وأما المولى فهو الله عزوجل ، وأما العبد فهو ابن آدم المخلوق ، والمال قدرة الله الواسعة ، ومحنته إظهار الحكمة والقدرة ، والدار الفانية هي الدنيا ، وبعض المال الذي ملكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم ، والامور التي أمر الله بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتباع الانبياء والاقرار بما أوردوه عن الله جل وعز ، واجتناب الاسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس ، وأما وعده فالنعيم الدائم وهي الجنة ، و أما الدار الفانية فهي الدنيا ، وأما الدار فهي الدار الباقية وهي الآخرة ، والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي ملك العبد ، وشرحها في خمسة الامثال التي ذكرها الصادق عليه‌السلام أنها جمعت جوامع الفضل ، وأنا مفسرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء الله.

تقسير صحة الخلقة ، أما قول الصادق عليه‌السلام فإن معناه كمال الخلق للانسان بكمال(٢) الحواس وثبات العقل والتمييز ، وإطلاق اللسان بالنطق ، وذلك قول الله : «ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على

________________

(١) في المصدر : إلى ان يستتم. م

(٢) في المصدر : وكمال الحواس ، م

٧٧

كثير ممن خلقنا تفضيلا» فقد أخبر عزوجل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودواب البحر والطير وكل ذي حركة تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل والنطق ، وذلك قوله «لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم» وقوله «ياأيها الانسان ماغرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك» وفي آيات كثيرة ، فأول نعمة الله على الانسان صحة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان ، وذلك أن كل ذي حركة على بسيط الارض هو قائم بنفسه بحواسه مستكمل في ذاته ففضل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواس ، فمن أجل النطق ملك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمرا ناهيا ، وغيره مسخر له ، كما قال الله : «كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم» وقال : «وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها» وقال : «والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس» فمن أجل ذلك دعا الله الانسان إلى اتباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة ، بعد أن ملكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله : «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعو» وقوله : «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» وقوله : «لا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها» وفي آيات كثيرة.

فإذا سلب العبد حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته كقوله : «ليس على الاعمى حرح ولا على الاعرج حرج» الآية ، فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الاعمال التي لا يقوم إلا بها ، وكذلك أوجب على ذي اليسار الحج والزكاة لما ملكه من استطاعة ذلك ، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج ، قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» وقوله في الظهار : «والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة» إلى قوله : «فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا» كل ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده إلا ما ملكهم استطاعته بقوة العمل به ، ونهاهم عن مثل ذلك فهذه صحة الخلقة.

٧٨

وأما قوله : تخلية السرب فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به وذلك قوله في من استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا(١) : «من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» فأخبر أن المستضعف لم يخل سربه وليس عليه من القول شئ إذا كان مطمئن القلب بالايمان. وأما المهلة في الوقت فهو العمر الذى يمتع به الانسان(٢) من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير وذلك قوله : «ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله» الآية ، وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره ، وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله تعالى : «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن» الآية فلم يجعل عليهن حرجا في إبداء الزينة للطفل وكذلك لا تجري عليه الاحكام.

وأما قوله : الزاد فمعناه الجدة والبلغة(٣) التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به ، وذلك قوله : «ما على المحسنين من سبيل» الآية ألا ترى أنه قبل عذر من لم يجد ما ينفق ، وألزم الحجة كل من أمكنته البلغة ، والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، كذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقا في مال الاغنياء بقوله : «للفقراء الذين احصروا في سبيل الله» الآية ، فأمر بإعفائهم ، ولم يكلفهم الاعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.

وأما قوله : في السبب المهيج ، فهو النية التي هي داعية الانسان إلى جميع الافعال ، وحاستها القلب ، فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل

________________

(١) في المصدر : ولا يهتدى سبيلا كما قال الله تعالى «الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا». م

(٢) في التحف المطبوع : يبلغ به الانسان.

(٣) الجدة بكسر الجيم وفتح الدال المخففة كعدة : الغنى. البلغة بضم الباء وسكون اللام : ما يكفى من العيش.

٧٩

الله منه عملا إلا بصدق النية ، كذلك(١) أخبر عن المنافقين بقوله : «يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون» ثم أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله توبيخا للمؤمنين «ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون» الآية ، فإذا قال الرجل : قولا واعتقد في قوله دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل ، وإذا لم يعتقد القول لم يتبين حقيقة ، وقد أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله : «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان» وقوله : «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم» الآية ، فدل القرآن وأخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن القلب مالك لجميع الحواس يصحح أفعالها ، ولا يبطل ما يصحح القلب شئ ، فهذا شرح جميع الخمسة الامثال التي ذكرها الصادق عليه‌السلام أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين ، وهما الجبر والتفويض ، فإذا اجتمع في الانسان كمال هذه الخمسة الامثال وجب عليه العمل كملا لما أمر الله عزوجل به ورسوله ، وإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسب ذلك. فأما شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة ، ومن ذلك قوله : «ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم» وقال : «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» وقال : «الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون» وقال في الفتن التي معناها الاختبار : «ولقد فتنا سليمان» الآية ، وقال في قصة قوم موسى : «فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري» وقول موسى : «إن هي إلا فتنتك» أى اختبارك ، فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض ، وأما آيات البلوى بمعنى الاختبار قوله : «ليبلوكم فيما آتاكم» وقوله : «ثم صرفكم عنهم ليبتليكم» وقوله : «أنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ، وقوله : «خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا» وقوله : «وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات» وقوله : «ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض» وكل ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها فهي اختبار وأمثالها في القرآن كثيرة ، فهي إثبات الاختبار والبلوى إن الله عزوجل لم يخلق الخلق عبثا ، ولا أهملهم

________________

(١) في المصدر : ولذلك. م

٨٠