بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

٦٣ ـ شى : عن ابن سنان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام يقول : إن الله يقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو مايشاء ، ويثبت ما يشاء وعنده ام الكتاب. وقال : فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شئ يبدوله إلا وقد كان في علمه ، إن الله لا يبدوله من جهل.

٦٤ ـ شى : عن أبي ميثم بن أبي يحيى ، (١) عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : ما من مولود يولد إلا وإبليس من الا بالسة بحضرته ، فان علم الله أنه من شيعتنا حجبه من ذلك الشيطان ، وإن لم يكن من شيعتنا أثبت الشيطان إصبعه السبابة في دبره فكان مأبونا فإن كان امرأة أثبت في فرجها فكانت فاجرة فعند ذلك يبكي الصبي بكاءا شديدا إذا هو خرج من بطن امه ، والله بعد ذلك يمحوما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب.

٦٥ ـ شى : عن عمار بن موسى ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام سئل عن قول الله «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب» قال : إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوب عليه : الذي يرد به القضاء ، حتى إذا صار إلى ام الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا.

٦٦ ـ شى : عن الحسين بن زيد بن علي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : قال رسول الله «ص» : إن المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاث سنين فيمدها الله إلى ثلاث و ثلاثين سنة ، وإن المرء ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة فيقصرها الله إلى ثلاث سنين أو أدنى. قال الحسين : وكان جعفر يتلو هذه الآية : «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب».

٦٧ ـ كا : علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن علي ، عن عبدالرحمن بن محمد الاسدي ، عن سالم بن مكرم ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : مر يهودي بالنبي «ص» فقال : السام عليك. فقال النبي «ص» : عليك ، فقال أصحابه : إنما سلم عليك بالموت فقال : الموت عليك ، فقال النبي «ص» : وكذلك رددت ، ثم قال النبي «ص» : إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله. قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطبا كثيرا فاحتمله

___________________

(١) مجهول.

١٢١

ثم لم يلبث أن انصرف. فقال له رسول الله (ص) : ضعه فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود فقال : يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال : ما عملت عملا إلا حطبي هذا حملته فجئت به وكان معي كعكتان (١) فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين. فقال رسول الله (ص) : بها دفع الله عنه ، وقال : إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان.

٦٨ ـ كتاب زيد النرسي ، (٢) عن محمد بن علي الحلبي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قلت له : كانت الدنيا قط منذ كانت وليس في الارض حجة؟ قال : قد كانت الارض وليس فيها رسول ولانبي ولا حجة وذلك بين آدم ونوح في الفترة ، ولو سألت هؤلاء عن هذا لقالوا : لن تخلو الارض من الحجة ـ وكذبوا ـ إنما ذلك شئ بد الله عزوجل فيه فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وقد كان بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فترة من الزمان لم يكن في الارض نبي ولا رسول ولاعالم فبعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيرا ونذيرا وداعيا إليه.

بيان : لعل المراد عدم الحجة والعالم الظاهرين لتظافر الاخبار بعدم خلو الارض من حجة قط.

٦٩ ـ ومن كتاب المذكور عن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : ما بد الله بداء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني.

٧٠ ـ كتاب حسين بن عثمان ، عن سليمان الطلحي (٣) قال : قلت لابي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عما أخبرت به الرسل عن ربها وأنهت ذلك إلى قومها أيكون لله البداء فيه؟ قال : أما إني لا أقول لك : إنه يفعل ، ولكن إن شاء فعل

بسط كلام لرفع شكوك وأوهام : علم أن البداء مماظن أن الامامية قد تفردت به

___________________

(١) الكعك : خبز يعمل مستديرا من الدقيق والحليب والسكر أو غير ذلك.

(٢) نسبة إلى «نرس» بفتح النون وسكون الراء المهملة والسين : نهر حفره نرس بن بهرام بنواحى الكوفة. وقيل : قرية من قرى الكوفة تنسب إليها الثياب النرسية وقيل : يمكن كون تسمية القرية بذلك باعتبار وقوعها على النهر المذكور. أقول : قد عرفت في مقدمة الكتاب حال زيد النرسى وأنه لم يوثقه أصحاب الرجال.

(٣) هو سليمان بن عبدالله الطلحى المجهول.

١٢٢

وقد شنع عليهم بذلك كثير من المخالفين ، والاخبار في ثبوتها كثيرة مستفيضة من الجانبين كما عرفت ، ولنشر إلى بعض ما قيل في تحقيق ذلك ، ثم إلى ما ظهر لي من الاخبار مما هو الحق في المقام.

اعلم أنه لما كان البداء ـ ممدودا ـ في اللغة بمعنى ظهور رأي لم يكن ـ يقال : بدا الامر بدوا : ظهر ، وبداله في هذا الامر بداءا أي نشأله فيه رأي ، كما ذكره الجوهري وغيره ـ فلذلك يشكل القول بذلك في جناب الحق تعالى ، لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشئ بعد جهله وهذا محال ، ولهذا شنع كثير من المخالفين على الامامية في ذلك نظرا إلى ظاهر اللفظ من غير تحقيق لمرامهم حتى أن الناصبي المتعصب «الفخر الرازي» ذكر في خاتمة كتاب المحصل حاكيا عن سليمان بن جرير أن الائمة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم فإذا قالوا : إنه سيكون لهم أمر وشوكة ثم لا يكون الامر على ما أخبروه قالوا : بد الله تعالى فيه ، وأعجب منه أنه أجاب المحقق الطوسي رحمه‌الله في نقد المحصل عن ذلك ـ لعدم إحاطته كثيرا بالاخبار ـ : بأنهم لا يقولون بالبداء ، وإنما القول به ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق عليه‌السلام أنه جعل إسماعيل القائم مقامه بعده فظهر من إسماعيل مالم يرتضه منه فجعل القائم مقامه موسى عليه‌السلام ، فسئل عن ذلك فقال : بدالله في إسماعيل ، وهذه رواية وعندهم أن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا انتهه.

فانظر إلى هذا المعاند كيف أعمت العصبية عينه حيث نسب إلى أئمة الدين الذين لم يختلف مخالف ولا مؤالف في فضلهم وعلمهم وورعهم وكونهم أتقى الناس وأعلاهم شأنا ورفعة الكذب والحيلة والخديعة ، ولم يعلم أن مثل هذه الالفاظ المجازية الموهمة لبعض المعاني الباطلة قدوردت في القرآن الكريم وأخبار الطرفين كقوله تعالى : «الله يستهزئ بهم» ومكر الله ، وليبلوكم ، ولنعلم ، ويد الله ، ووجه الله ، وجنب الله إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وقد ورد في أخبارهم ما يدل على البداء بالمعني الذي قالت به الشيعة أكثر مما ورد في أخبارنا ، كخبر دعاء النبي «ص» على اليهودي ، وإخبار عيسى على نبينا وآله وعليه السلام ، وأن الصدقة والدعاء يغير ان القضاء وغير ذلك. وقال ابن الاثير في النهاية :

١٢٣

في حديث الاقرع والابرص والاعمى : بدا لله عزوجل أن يبتليهم أي قضى بذلك ، وهو معنى البداء ههنا لان القضاء سابق والبداء استصواب شئ علم بعد أن لم يعلم ، وذلك على الله غير جائز انتهى.

وقد دلت الآية على الاجلين وفسرهما أخيرا بما عرفت ، وقد قال تعالى : «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب» وقال هذا الناصبي في تفسيرها : في هذه الآية قولان :

الاول : أنها عامة في كل شئ كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا : «إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الاجل والسعادة والشقاوة والايمان والكفر ، وهو مذهب عمرو بن مسعود ، ورواه جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والثانى : أنها خاصة في بعض الاشياء دون البعض ففيها وجوه : الاول : أن المراد من المحو والاثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلا عن الاول. الثاني : أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولاسيئة ، لانهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره. الثالث : أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه ، فإذا تاب عنه محا عن ديوانه الرابع : يمحو الله ما يشاء وهومن جاء أجله ، ويدع من لم يجئ أجله ويثبته الخامس : أنه تعالى يثبت في أول السنة فإذا مضت السنة محيت واثبت كتاب آخر للمستقبل. السادس : يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس. السابع : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. الثامن : أنه في الارزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة ، وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى. التاسع : تعير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو ، وما حضر وحصل فهو الاثبات العاشر : يزيل ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحد فهو المتفرد بالحكم كما يشاء ، وهو المستقل بالايجاد والاعدام والاحياء والاماتة والاغناء والافقار بحيث لايطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه.

واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم فإن قال قائل : ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قدجف بها القلم فكيف يستقيم مع هذا المعني المحو والاثبات؟ قلنا : ذلك المحو

١٢٤

والاثبات أيضا مما قدجف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه ، ثم قال : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده ، وتمسكوا فيه بقوله تعالى : «يمحو الله ما يشاء» انتهى كلامه لعنه الله.

ولا أدري من أين أخذ هذا القول الذي افترى عليهم مع أن كتب الامامية المتقدمين عليه كالصدوق والمفيد والشيخ والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم مشحونة بالتبري عن ذلك ، ولا يقولون إلا ببعض ما ذكره سابقا أو بما هو أصوب منها كما ستعرف ، والعجب أنهم في أكثر الموارد ينسبون إلى الرب تعالى مالا يليق به ، والامامية قدس الله أسرارهم يبالغون في تنزيهه تعالى ويفحمونهم بالحجج البالغة ، ولما لم يظفروا في عقائدهم بما يوجب نقصا يباهتونهم ويفترون عليهم بأمثال تلك الاقاويل الفاسدة ، وهل البهتان و الافتراء إلادأب العاجزين؟ ولو فرض أن بعضا من الجهلة المنتحلين للتشيع قال بذلك فالامامية يتبرؤون منه ومن قوله كما يتبر ؤون من هذا الناصبي وأمثاله وأقاويلهم الفاسدة.

فأما ماقيل في توجيه البداء فقد عرفت ما ذكره الصدوق والشيخ قدس الله روحهما في ذلك (١)

___________________

(١) تقدم توجيه الصدون بعد الخبر الواقع تحت رقم ٢٦ وكلام الشيخ بعد رقم ٤١. ولهما ولغيرهما من أعلام الشيعة حول مسألة البداء مقالات اخرى لا يخلو ذكرها عن فائدة.

قال الصدوق في كتاب العقائد : «باب الاعتقاد في البداء» إن اليهود قالوا : إن الله تبارك وتعالى قد فرغ من الامر : قلنا : بل هو تعالى كل يوم هو في شأن ، لا يشغله شأن عن شأن ، يحيى ويميت ، ويخلق ويرزق ، ويفعل ما يشاء ، وقلنا : «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب» وأنه لا يمحو إلا ما كان ، ولايثبت إلا مالم يكن ، وهذا ليس يبداء كما قالت اليهود واتباعهم فنسبنا في ذلك إلى القول بالبداء ، وتبعهم على ذلك من خالفنا من أهل الاهواء المختلفة ، وقال الصادق عليه‌السلام : » ما بعث الله نبيا قط حتى يأخذ عليه الاقرار لله بالعبودية وخلع الانداد ، وان الله يؤخر ما يشاء ، ويقدم ما يشاء «ونسخ الشرايع والاحكام بشريعة نبينا وأحكامه من ذلك ، ونسخ الكتب بالقرآن من ذلك ، وقال الصادق عليه‌السلام : «من زغم أن الله عزوجل بدا في شئ ولم يعلمه أمس فأيرء منه» وقال : « من زعم أن الله بداله من شئ بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم » اه.

وقال الشيخ الطوسى في العدة : البداء حقيقة في اللغة هو الظهور ، ولذلك يقال : بدالنا سور المدينة ، وبدالنا وجه الرأي ، وقال الله تعالى : «وبدالهم سيئات ما عملوا ، وبدالهم سيئات *

١٢٥

وقد قيل فيه وجوه اخر :

الاول : ما ذكره السيد الداماد قدس الله روحه في نبراس الضياء حيث قال : البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الامر التشريعي والاحكام التكليفية نسخ فهو في الامر التكويني والمكونات الزمانية بداء فالنسخ كأنه بداء تشريعي ، والبداء كأنه نسخ تكويني ، ولابداء في القضاء ولابالنسبة إلى جناب القدس

___________________

* ماكسبوا» ويراد بذلك كله «ظهر» وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ بعد أن لم يكن حاصلا ، وكذلك في الظن ، فأما إذا اضيف هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز اطلاقه عليه ومنه مالا يجوز ، فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه. ويكون اطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع ، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهما‌السلام من الاخبار المتضمنة لاضافة البداء إلى الله تعالى ، دون ما لايجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن ، ويكون وجه اطلاق ذلك فيه تعالى والتشبيه هو أنه اذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين مالم يكن ظاهرا الهم ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلالهم اطلق على ذلك لفظ البداء.

وذكر سيدنا الاجل المرتضى قدس الله روحه وجها آخر في ذلك : وهو أن قال : يمكن حمل ذلك على حقيقته بأن يقال : بداله تعالى بمعنى أنه ظهر له من الامر مالم يكن ظاهرا له ، و بداله من النهى مالم يكن ظاهرا له ، لان قبل وجود الامر والنهى لا يكونان ظاهرين مدركين ، وإنما يعلم أنه يامر أو ينهى في المستقبل ، فاما كونه آمرا أو ناهيا فلا يصح أن يعلمه الا اذا وجد الامر والنهي ، وجرى ذلك مجرى أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالى : «ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم» ، بان نحمله على أن المراد به حتى نعلم جهاد كم موجودا ، لان قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودا ، وانما يعلم كذلك بعد حصوله فكذلك. القول في البداء وهذا وجه حسن جدا اه.

وقال الامام العلامة ، معلم الامة الشيخ المفيد محمد بن النعمان في كتاب تصحيح الاعتقاد في شرح ما قدمنا من كلام الصدوق : قول الامامية في البداء طريقه السمع دون العقل وقد جاءت الاخبار به عن أئمة الهدى : ، والاصل في البداء هو الظهور ، قال الله تعالى «وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون» يعنى به ظهر لهم من أفعال الله تعالى بهم ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم ، وقال : «وبدالهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم» يعنى ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم ذلك ، وتقول العرب : «قد بدا لفلان عمل حسن ، وبدا له كلام فصيح» كما يقولون : «بدا من فلان كذا» فيجعلون اللام قائمة مقامه ، فالمعنى في قول الامامية : بدا لله في كذا أى ظهر له فيه ، ومعنى ظهر فيه أى ظهر منه ، وليس المراد منه تعقب الراى ووضوح أمر كان قد خفى عنه ، وجميع أفعاله تعالى الظاهرة في خلقه بعد أن لم تكن فهى معلومة فيما لم يزل ، وانما يوصف منها بالبداء مالم يكن في الاحتساب ظهوره ، ولا في غالب الظن وقوعه ، فأما ما علم كونه وغلب في الظن حصوله فلا يستعمل فيه لفظ

١٢٦

الحق ، والمفارقات المحضة من ملائكته القدسية ، وفي متن الدهر الذي هو ظرف مطلق الحصول القار والثبات البات ووعاء عالم الوجود كله ، وإنما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي هو افق التقضي والتجدد ، وظرف التدريج والتعاقب ، وبالنسبة إلى الكائنات الزمانية ومن في عالم الزمان والمكان وإقليم المادة والطبيعة ، وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره لارفعه وارتفاعه من وعاء الواقع فكذا حقيقة البداء عند الفحص البالغ انبتات استمرار الامر التكويني ، وانتهاء

___________________

* البداء ، وقول أبى عبدالله عليه‌السلام : «ما بدا لله في شئ كما بدا له في اسماعيل» فانما أراد به ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفا عليه من ذلك ، مظنونا به فلطف له في دفعه عنه ، وقد جاء الخبر بذلك عن الصادق عليه‌السلام فروى عنه عليه‌السلام أنه قال : «ان القتل قد كتب على اسماعيل مرتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه» وقد يكون الشئ مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه ، قال الله تعالى : «ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده» فتبين أن الاجال على ضربين : ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان ، ألاترى إلى قوله تعالى : «وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره الا في كتاب» وقوله تعالى : «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض» فبين أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع بالفسوق ، وقال تعالى ـ فيما خبر به عن نوح عليه‌السلام في خطابه لقومه ـ : «استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا» إلى آخر الايات ، فاشترط لهم في مد الاجل وسبوغ النعم الاستغفار ، فلما لم يفعلوه قطع آجالهم وبتر أعمارهم واستأصلهم بالعذاب : فالبداء من الله تعالى يختص ما كان مشترطا في التقدير ، وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة ، ولا من تعقب الرأى ـ تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا. ـ وقد قال بعض اصحابنا : ان لفظ البداء اطلق في أصل اللغة على تعقب الرأى والانتقال من عزيمة إلى عزيمة ، وانما اطلق على الله تعالى على وجه الاستعارة كما يطلق عليه الغضب والرضا مجازا غير حقيقة ، وان هذا القول لم يضر بالمذهب ، اذ المجاز من القول يطلق على الله تعالى فيما ورد به السمع ، وقد ورد السمع بالبداء على ما بينا. والذى اعتمدناه في معنى البداء انه الظهور على ما قدمت القول في معناه ، فهو خاص فيما يظهر من الفعل الذى كان وقوعه يبعد في النظر «الظن خ ل» دون المعتاد ، اذ لو كان في كل واقع من أفعال الله تعالى لكان الله تعالى موصوفا البداء في كل أفعاله وذلك باطل بالاتفاق. انتهى كلامه.

أقول : انما أطلنا الكلام في نقل الاقوال حتى يتضح جلية الحال في هذه المرغمة والفرية الشائنة ، وترى الباحث أن أقوال الشيعة التى تعرب عن معتقداتهم قديما وحديثا تكذب ما عزاه المخالفون الينا ، وأنهم لم يلتزموا بالصدق والامانة فيما يكتب عن الشيعة بل التزموا بضدها ولم يتركون قوس افكهم منزعالم يرموا بها الشيعة ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودلو أن بينها وبينه أمدا بعيدا والله خبير بما يعملون.

١٢٧

اتصال الافاضة ، ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الافاضة لا أنه ارتفاع المعلول الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حد حصوله. انتهى

الثاني : ما ذكره بعض الافاضل في شرحه على الكافي وتبعه غيره من معاصرينا ، وهو أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الامور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الامور بل إنما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا وجملة فجملة ، مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر فإن ما يحدث في عالم الكون والفساد فإنما هو من لوازم حركات الافلاك المسخرة لله تعالى ونتائج بركاتها فهي تعلم أنه كلما كان كذا كان كذا ، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربما تأخر بعض الاسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقية الاسباب لولا ذلك السبب ، (١) ولم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، (٢) ثم لما جاء أوانه واطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الاول فيمحى عنها نقش الحكم السابق ويثبت الحكم الآخر ، مثلا لما حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا لاسباب تقتضي ذلك ولم يحصل لها العلم بتصدقة الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطلاعها على أسباب التصدق بعد ثم علمت به وكان موته بتلك الاسباب مشروطا بأن لايتصدق فتحكم أولا بالموت وثانيا بالبرء ، وإذا كانت الاسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد لعدم مجيئ أو ان سبب ذلك الرجحان بعد كان لها التردد في وقوع ذلك الامر ولا قوعه فينتقش فيها الوقوع تارة واللاوقوع اخرى فهذا هو السبب في البداء والمحو والاثبات والتردد وأمثال ذلك في امور العالم فإذا اتصلت بتلك القوى نفس النبي أو الامام عليهما الصلاة والسلام وقرأ فيها بعض تلك الامور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه ، أو شاهده بنور بصيرته ، أو سمع باذن قلبه ، وأما نسبة ذلك كله إلى الله تعالى فلان كل ما يجري في العالم الملكوتي إنما يجري بإرادة الله تعالى بل فعلهم بعينه فعل الله سبحانه حيث إنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون إذ لاداعي لهم على الفعل إلا إرادة الله عزوجل لاستهلاك

___________________

(١ ، ٢) في نسخة : ذلك الحادث.

١٢٨

إرادتهم في إرادته تعالى ، ومثلهم كمثل الحواس للانسان كلما هم بأمر محسوس امتثلت الحواس لما هم به فكل كتابة تكون في هذه الالواح والصحف فهو أيضا مكتوب لله عزوجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الاول فيصح أن يوصف الله عزوجل نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الامور يشعر بالتغير والسنوح ، وهو سبحانه منزه عنه ، فإن كل ما وجد فهو غير خارج عن عالم ربوبيته.

الثالث : ما ذكره بعض المحققين (١) حيث قال : تحقيق القول في البداء أن الامور كلها عامها وخاصها ، ومطلقها ومقيدها ، وناسخها ومنسوخها ، ومفرداتها ومركباتها ، وإخباراتها وإنشاءاتها ، بحيث لايشذ عنها شئ منتقشة في اللوح ، والفائض منه على الملائكة والنفوس العلوية والنفوس السفلية قديكون الامر العام المطلق أو المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت ، ويتأخر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر عنها بكتاب المحو والاثبات ، والبداء عبارة عن هذا التغيير في ذلك الكتاب.

الرابع : ما ذكره السيد المرتضى رضوان الله عليه في جواب مسائل أهل الري وهو أنه قال : المراد بالبداء النسخ ، وادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوي. (٢)

أقول : هذا ما قيل في هذا الباب وقد قيل فيه : وجوه اخر لاطائل في إيرادها ، والوجوه التي أوردناها بعضها بمعزل عن معنى البداء وبينهما كما بين الارض والسماء ، وبعضها مبنية على مقدمات لم تثبت في الدين بل ادعي على خلافها إجماع المسلمين ، وكلها يشتمل على تأويل نصوص كثيرة بلا ضرورة تدعو إليه ، وتفصيل القول في كل منها يفضي إلى الاطناب ، ولنذكرما ظهرلنا من الآيات والاخبار بحيث تدل عليه النصوص الصريحة وتأبى عنه العقول الصحيحة.

فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : إنهم عليهم‌السلام إنما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين

___________________

(١) وهو الميرزا رفيعا ، قال ذلك في شرخه على الكافى.

(٢) اعده رحمه‌الله من الوجوه العديدة ليس الا وجها واحداو هو الذى ذكر في الرواية ومحصله كون البداء ، نسبة حاصلة للشئ إلى علله الناقصة والقضاء نسبة إلى علته التامة وبيانه التفصيلى يحتاج إلى محل آخر وليته ـ رحمه‌الله ـ اقتصر على ايراد نفس الروايات فان بيانها شاف كاف. ط

١٢٩

يقولون : إن الله قد فرغ من الامر وعلى النظام ، وبعض المعتزلة الذين يقولون : إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ماهي عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ، ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده ، والتقدم إنما يقع في ظهورها لافي حدوثها و وجودها ، وإنما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة ، و على بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية ، وبأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلا في العقل الاول فهم يعزلونه تعالى عن ملكه ، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء ، فنفوا عليهم‌السلام ذلك وأثبتوا أنه تعالى كل يوم في شأن من إعدام شئ وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك ، لئلا يتركوا العباد التضرع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرب إليه بما يصلح امور دنيا هم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدق على الفقراء وصلة الارحام وبر الوالدين والمعروف والاحسان ما وعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.

ثم اعلم أن الآيات والاخبار تدل على أن الله خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات :

أحدهما اللوح المحفوظ الذي لاتغير فيه أصلا وهو مطابق لعلمه تعالى. والآخر لوح المحو والاثبات فيثبت فيه شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على اولي الالباب ، مثلا يكتب فيه أن عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه أن مقتضي الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون و يكتب مكانه ستون ، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون كما أن الطبيب الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاج يكون ستين سنة ، فإذا شرب سما ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك ، أو استعمل دواءا قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب ، والتغيير الواقع في هذا اللوح مسمى بالبداء إما لانه مشبه به كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها ، أو لانه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبروا بالاول خلاف ما علموا أولا ، وأي استبعاد في تحقق هذين اللوحين

١٣٠

وأية استحالة في هذا المحو والاثبات حتى يحتاج إلى التأويل والتكلف وإن لم تظهر الحكمة فيه لنا لعجز عقولنا عن الاحاطة بها مع أن الحكم فيه ظاهرة : (١)

منها أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللوح والمطلعين عليه لطفه تعالى بعباده و إيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقونه فيزدادوا به معرفة.

ومنها أن يعلم بإخبار الرسل والحجج عليهم الصلاة والسلام أن لاعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح امورهم ، ولاعمالهم السيئة تأثيرا في فسادها فيكون داعيا لهم إلى الخيرات صارفا لهم عن السيئات فظهر أن لهذا اللوح تقدما على اللوح المحفوظ من جهة لصيرورته سببا لحصول بعض الاعمال فبذلك انتقش في اللوح المحفوظ حصوله فلا يتوهم أنه بعد ما كتب في هذا اللوح حصوله لافائدة في المحو والاثبات.

ومنها أنه إذا أخبر الانبياء والاوصياء أحيانا من كتاب المحو والاثبات ثم أخبروا بخلافه يلزمهم الاذعان به ، ويكون ذلك تشديدا للتكليف عليهم ، تسبيبا لمزيد الاجر لهم كما في سائر ما يبتلي الله عباده منه من التكاليف الشاقة وإيراد الامور التي تعجز أكثر العقول عن الاحاطة بها ، وبها يمتاز المسلمون الذين فازوا بدرجات اليقين عن الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.

ومنها أن يكون هذه الاخبار تسلية من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحق وأهله كما روى في قصة نوح على نبينا وآله وعليه السلام حين أخبر بهلاك القوم ثم أخر ذلك مرارا ، وكما روي في فرج أهل البيت عليهم‌السلام وغلبتهم ، لانهم عليهم‌السلام لو كانوا أخبر والشيعة في أول إبتلائهم باستيلاء المخالفين وشدة محنتهم أنه ليس فرجهم إلا بعد ألف سنة ليئسوا ورجعوا عن الدين. ولكنهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج ، وربما أخبروهم بانه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الازمنة القريبة ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظار الفرج كما مر في خبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

___________________

(١) ان كنا بحثنا عن اللوح من جهة العقل فالبرهان يثبت في الوجود أمرا نسبته إلى الحوادث الكونية نسبة الكتاب إلى ما فيه من المكتوب ، ومن البديهى أن لوحا جسمانيا لايسع كتابة ما يستقبل نفسه وأجزاؤه من الحالات والقصص في أزمنة غير متناهية وان كبر ما كبر فضلا عن شرح حال كل شئ في الابد الغير المتناهى ، وان كنا بحثنا من جهة النقل فالاخبار نفسها تؤول اللوح والقلم إلى ملكين من ملائكة الله كما سيجيئ في المجلد الرابع عشر من هذا الكتاب ، وعلى أي حال فلاوجه لما ذكره رحمه‌الله. ط

١٣١

وروى الكليني عن محمد بن يحيى ، وأحمد بن إدريس ، عن محمد بن أحمد ، عن السياري عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن أخيه الحسين ، عن أبيه علي بن يقطين قال : قال لي أبوالحسن عليه‌السلام : الشيعة تربى بالاماني منذ مائتي سنة ، قال : وقال يقطين لابنه علي بن يقطين : ما بالنا قيل لنا فكان ، وقيل لكم فلم يكن؟ قال : فقال له : علي : إن الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد غير أن أمر كم حضر فاعطيتم محضة فكان كما قيل لكم ، وأن أمرنا لم يحضر فعللنا بالاماني ، فلوقيل لنا : إن هذا الامر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاث مائة سنة لقست القلوب ، ولرجع عامة الناس عن الاسلام ، ولكن قالوا : ما أسرعه وما أقربه تأليفا لقلوب الناس وتقريبا للفرج. وقوله : قيل لنا أي في خلافة العباسية ـ وكان من شيعتهم ـ أوفي دولة آل يقطين. وقيل لكم أي في أمر القائم وظهور فرج الشيعة.

وروى أيضا عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الخزاز ، عن عبدالكريم بن عمر والخثعمي ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت : لهذا الامر وقت؟ فقال : كذب الوقاتون ، كذب الوقاتون ، كذب الوقاتون ، إن موسى ـ على نبينا وآله وعليه السلام ـ لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زاد الله إلى الثلاثين عشرا قال قومه : قد أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا ، فإذا حدثنا كم الحديث فجاء على ما حدثنا كم فقولوا : صدق الله ، وإذا حدثنا كم الحديث فجاء على خلاف ما حدثنا كم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين.

وسيأتي كثير من الاخبار في ذلك في كتاب النبوة لاسيما في أصواب قصص نوح موسى وشعيا على نبينا وآله وعليهم‌السلام ، وسيأتي أيضا في كتاب الغيبة ، فأخبارهم عليهم‌السلام بما يظهر خلافه ظاهرا من قبيل المجملات والمتشابهات التي تصدر عنهم بمقتضى الحكم ثم يصدر عنهم بعد ذلك تفسيرها وبيانها ، وقولهم : يقع الامر الفلاني في وقت كذا معناه إن كان كذا ، أو إن لم يقع الامر الفلاني الذي ينافيه ، وإن لم يذكروا الشرط كما قالوا في النسخ قبل الفعل ، وقد أوضحناه في باب ذبح إسماعيل على نبينا وآله وعليه السلام ، فمعني قولهم عليهم‌السلام : ما عبدالله بمثل البداء : أن الايمان بالبداء من أعظم العبادات القلبية

١٣٢

لصعوبته ومعارضته الوساوس الشيطانية فيه ، ولكونه إقرارا بأن له الخلق والامر ، وهذا كمال التوحيد ، أو المعنى أنه من أعظم الاسباب والدواعي لعبادة الرب تعالى كما عرفت. وكذا قولهم عليهم‌السلام : ما عظم الله بمثل البداء يحتمل الوجهين وإن كان الاول فيه أظهر. وأما قول الصادق عليه‌السلام : لو علم الناس ما في القول بالبداء من الاجر مافتروا عن الكلام فيه فلما مر أيضا من أن أكثر مصالح العباد موقوفة على القول بالبداء إذلو اعتقدوا أن كل ما قدر في الازل فلابد من وقوعه حتما لما دعوا الله في شئ من مطالبهم ، وما تضرعوا إليه ، وما استكانوا لديه ، ولاخافوا منه ولارجعوا إليه ، (١) إلى غير ذلك مما قد أو مأنا إليه. وأما أن هذه الامور من جملة الاسباب المقدرة في الازل أن يقع الامر بها لابدونها فمما لايصل إليه عقول أكثر الخلق فظهر أن هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والاثبات أصلح لهم من كل شئ.

بقي ههنا إشكال آخر وهو أنه يظهر من كثير من الاخبار المتقدمة أن البداء لايقع فيما يصل علمه إلى الانبياء والائمة عليهم الصلاة والسلام ، ويظهر من كثير منها وقوع البداء فيما وصل إليهم أيضا ، ويمكن الجمع بينها بوجوه :

الاول : أن يكون المراد بالاخبار الاولة عدم وقوع البداء فيما وصل إليهم على سبيل التبليغ بأن يؤمروا بتبليغه ليكون إخبارهم بها من قبل أنفسهم لا على وجه التبليغ.

الثانى : أن يكون المراد بالاولة الوحي ويكون وما يخبرون به من جهة الالهام واطلاع نفوسهم على الصحف السماوية ، وهذا قريب من الاول.

الثالث : أن تكون الاولة محمولة على الغالب فلا ينافي ما وقع على سبيل الندرة.

الرابع : ما أشار إليه الشيخ قدس الله روحه من أن المراد بالاخبار الاولة عدم وصول الخبر إليهم وأخبارهم على سبيل الحتم فيكون أخبارهم على قسمين : أحدهما ما اوحي إليهم أنه من الامور المحتومة فهم يخبرون كذلك ولابداء فيه وثانيهما ما يوحي

___________________

(١) وفى نسخة : ولارجوا إليه.

١٣٣

إليهم لا على هذا الوجه فهم يخبرون كذلك ، وربما أشعروا أيضا باحتمال وقوع البداء فيه كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الاخبار بالسبعين : ويمحو الله ما يشاء وهذا وجه قريب.

الخامس : أن يكون المراد بالاخبار الاولة أنهم لا يخبرون بشئ لا يظهر وجه الحكمة فيه على الخلق لئلا يوجب تكذيبهم ، بل لو أخبروا بشئ من ذلك يظهر وجه الصدق فيما أخبروا به ، كخبر عيسى على نبينا وآله وعليه السلام ، والنبي «ص» حيث ظهرت الحية دالة على صدق مقالهما. وسيأتي بعض القول في ذلك في باب ليلة القدر ، وسيأتي بعض أخبار البداء في باب القضاء ، وإيفاء حق الكلام في هذه المسألة يقتضي رسالة مفردة والله الموفق.

*( باب ٤ )*

*( القدرة والارادة )*

الايات ، البقرة «٢» قال أعلم أن الله على كل شئ قدير ٢٥٩

آل عمران «٣» والله على كل شئ قدير ٢٩ و ١٨٩ «وقال» : إن الله على كل شئ قدير ١٦٥

النساء «٤» إن الله كان عزيزا حكيما ٥٦ «وقال تعالى» : إن يشأيذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ١٣٣ «وقال تعالى» : فإن الله كان عفوا قديرا ١٤٩ المائدة «٥» إن الله يحكم ما يريد ١

التوبة «٩» فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ٥٥

هود «١١» وهو على كل شئ قدير ٤

ابراهيم «١٤» ألم تر أن الله خلق السموات والارض بالحق أن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز ١٩ ـ ٢٠

١٣٤

النحل «١٦» إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ٤٠

الكهف «١٨» وكان الله على كل شئ مقتدرا ٤٥

الحج «٢٢» إن الله يفعل ما يريد ١٤ «وقال تعالى» : وأن الله يهدي من يريد ١٦ النور «٢٤» يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير ٤٥

الاحزاب «٣٣» قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أرادبكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ١٧ «وقال تعالى» : وكان الله قويا عزيزا ٢٥ «وقال تعالى» : وكان الله على كل شئ قديرا ٢٧

فاطر «٣٥» إن يشأيذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز ١٦ ـ ١٧ «وقال تعالى» : وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولافي الارض إنه كان عليما قديرا ٤٤

يس «٣٦» أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ٨١ ـ ٨٢

الفتح «٤٨» واخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا : ٢ القمر «٥٤» وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ٥٠

المعارج «٧٠» إنا خلقناهم مما يعلمون * فلا اقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ٣٩ ـ ٤١

الجن «٧٢» وأنا طننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا ١٢ (١)

١ ـ يد ، لى : ابن مسرور ، عن ابن عامر ، عن عمه ، عن ابن محبوب ، عن مقاتل بن سليمان ، (٢) عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : لما صعد موسى على نبينا وآله وعليه السلام إلى

___________________

(١) الايات في ذلك كثيرة جدا.

(٢) أورده الشيخ في رجاله في أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام وقال : تبرى وقال الكشى في ص ٢٤٧ من رجاله : مقاتل بن سليمان البجلى وقيل : البلخى ، تبرى. انتهى أقول : هو مقاتل ابن سليمان بن بشر الازدى الخراسانى ، أبوالحسن البلخى المفسر ويقال له : ابن دوال دوز ، كان من أهل بلخ ، تحول إلى مرو وخرج إلى العراق ومات بها ، أورده ابن حجر في تقريبه ص ٥٠٥ وقال : كذبوه وحجروه ورمى بالتجسيم ، من السابعة ، ومات سنة خمسين ومائة. الخطيب في تاريخ بغداد ج ١٣ ص ١٦٠ ـ ١٦٩ وفصل في ترجمته وبيان ما قيل في حقه من الرمى بالكذب ووضع الحديث وغيرهما.

١٣٥

الطور فناجى ربه عزوجل ، قال يا رب أرني خزائنك قال : يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون.

٢ ـ ل : ما جيلويه ، عن محمد العطار ، عن الاشعري ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن معروف ، عن ابن مهزيار ، عن حكم بن بهلول ، عن إسماعيل بن همام ، عن ابن اذينة ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول لابي الطفيل عامر بن واثلة الكنانى : يا أبا الطفيل العلم علمان : علم لا يسع الناس إلا النظر فيه وهو صبغة الاسلام ، وعلم يسمع الناس ترك النظر فيه وهو قدرة الله عزوجل.

بيان : صبغة الاسلام هي العلوم التي يوجب العلم بها الدخول في دين الاسلام والتلون بلونه من توحيد الواجب تعالى ، وتنزيهه عن النقائص وسائر ما يعد من اصول المذهب. وأما قوله : وهو قدرة الله تعالى فلعل المراد بها التفكر في قضاء الله وقدره كما نهي في أخبار اخر عن التفكر فيها ، ويحتمل أن يكون المراد التفكر في كيفية القدرة ، ويشكل بأن التفكر في كيفية سائر الصفات منهي عنه فلا يختص بالقدرة.

٣ ـ ن : السناني ، عن محمد الاسدي ، عن البرمكي ، عن الحسين بن الحسن ، عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن عرفة قال : قلت للرضا عليه‌السلام : خلق الله الاشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟ فقال عليه‌السلام : لا يجوز أن يكون خلق الاشياء بالقدرة لانك إذا قلت : خلق الاشياء بالقدرة فكأنك قد جعلت القدرة شيئا غيره ، وجعلتها آلة له بها خلق الاشياء وهذا شرك ، وإذا قلت : خلق الاشياء بقدرة (١) فإنما تصفه أنه جعلها باقتدار عليها وقدرة ، (٢) ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره بل هو سبحانه قادر لذاته لابالقدرة.

يد : الدقاق ، عن أبي القاسم العلوي ، عن البرمكي مثله إلى قوله : إلى غيره. ثم قال الصدوق رحمه‌الله : إذا قلنا : إن الله لم يزل قادرا فإنما نريد بذلك نفى العجز عنه ، ولا نريد إثبات شئ معه لانه عزوجل لم يزل واحدا لا شئ معه.

___________________

(١) وفى نسخة : وإذا قلت : خلق الاشياء بغير قدرة.

(٢) في العيون المطبوع : فانما تصفه بالاقتدار عليها ولا قدرة.

١٣٦

٤ ـ يد ، ن : ابن إدريس ، عن أبيه ، عن محمد بن عبدالجبار ، عن صفوان بن يحيى قال : قلت لابي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الارادة من الله عزوجل ومن الخلق (١) فقال : الارادة من المخلوق الضمير وما يبدوله بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله عزوجل فإرادته إحداثه لاغير ذلك لانه لا يروي (٢) ولايهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، و هي من صفات الخلق فإرادة الله هي الفعل لاغير ذلك ، يقول له : كن فيكون بلالفظ ولا نطق بلسان ولاهمة ولا تفكر ، ولا كيف لذلك كما أنه بلا كيف.

ما : المفيد ، عن ابن قولويه ، عن الكليني ، عن أحمد بن إدريس مثله.

بيان : اعلم أن إرادة الله تعالى كما ذهب إليه أكثر متكلمي الامامية هي العلم بالخير والنفع وما هو الاصلح ، ولا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا ، (٣) ولعل المراد بهذا الخبر وأمثاله من الاخبار الدالة على حدوث الارادة هو أنه يكون في الانسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النفع فيه ، ثم الروية ، ثم الهمة ، ثم انبعاث الشوق منه ، ثم تأكده إلى أن يصير إجماعا باعثا على الفعل ، وذلك كله إرادة فينا متوسطة بين ذاتنا وبين الفعل ، وليس فيه تعالى بعد العلم القديم بالمصلحة من الامور المقارنة للفعل سوى الاحداث والايجاد ، فالاحداث في الوقت الذي تقتضي المصلحة صدور الفعل فيه قائم مقام ما يحدث من الامور في غيره تعالى ، فالمعنى أنه ذاته تعالى بصفاته الذاتية الكمالية كافية في حدوث الحادث ، من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل.

قال بعض المحققين في شرح هذا الخبر : الظاهر أن المراد بالارادة مخصص أحد الطرفين وما به يرجح القادر أحد مقدوريه على الآخر لاما يطلق في مقابل الكراهة ، كما يقال : يريد الصلاح والطاعة ، ويكره الفساد والمعصية. وحاصل الجواب أن الارادة من

___________________

(١) وفى نسخة : ومن المخلوق.

(٢) روى في الامر : نظر فيه وتفكر ، هم بالشئ ، أراده وأحبه ، عزم عليه وقصده.

(٣) هذا الذى ذكروه تصوير للارادة الذاتية التى هى عين الذات ـ ان صح تصويرهم ـ وأما الارادة التى في الاخبار فهى الارادة التى هى من الصفات الفعلية كالرزق والخلق وهى نفس الموجود الخارجى من زيد وعمرو والارض والسماء كما ذكره شيخنا المفيد رحمه‌الله. ط

١٣٧

الخلق الضمير أي أمر يدخل خواطرهم وأذهانهم ويوجد في نفوسهم ويحل فيها بعد ما لم يكن فيها وكانت هي خالية عنه.

وقوله : وما يبدولهم بعد ذلك من الفعل يحتمل أن يكون جملة معطوفة على الجملة السابقة والظرف خبرا للموصول ، ويحتمل أن يكون الموصول معطوفا على قوله : «الضمير» ويكون قوله : «من الفعل» بيانا للموصول ، والمعنى على الاول أن الارادة من الخلق الضمير ، والذي يكون لهم بعد ذلك من الفعل لامن إرادتهم ، وعلى الثاني أن إرادتهم مجموع ضمير يحصل في قلبهم ، وما يكون لهم من الفعل المترتب عليه ، فالمقصود هنا من الفعل ما يشمل الشوق إلى المراد وما يتبعه من التحريك إليه والحركة ، وأما الارادة من الله فيستحيل أن يكون كذلك ، فإنه يتعالى أن يقبل شيئا زائدا على ذاته بل إرادته المرجحة للمراد من مراتب الاحداث لاغير ذلك إذ ليس في الغائب إلا ذاته الاحدية ولا يتصور هناك كثرة المعاني ولاله بعد ذاته وما لذاته بذاته إلا ما ينسب إلى الفعل فإرادة الله سبحانه من مراتب الفعل المنسوب إليه لاغير ذلك.

أقول : ويحتمل على الاحتمال الاول أن يكون المراد بالضمير تصور الفعل ، وبما يبدولهم بعد ذلك اعتقاد النفع والشوق وغير ذلك ، فقوله : «من الفعل» أي من أسباب الفعل ، وقوله عليه‌السلام : «ولا كيف لذلك» أي لا صفة حقيقية لقوله ذلك وإرادته كما أنه لا كيف لذاته ولايعرف كيفية إرادته على الحقيقة كما لا يعرف كيفية ذاته وصفاته بالكنه.

وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه : إن الارادة من الله جل اسمه نفس الفعل ، و من الخلق الضمير وأشباهه مما لا يجوز إلا على ذوي الحاجة والنقص ، وذلك لان العقول شاهدة بأن القصد لايكون إلا بقلب كما لاتكون الشهوة والمحبة إلا لذي قلب ، ولا تصح النية والضمير والعزم إلا على ذي خاطر يضطر معها في الفعل الذي يغلب عليه إلى الارادة له والنية فيه والعزم ، ولما كان الله تعالى يجل عن الحاجات ويستحيل عليه الوصف بالجوارح والادوات ولا يجوز عليه الدواعي والخطرات بطل أن يكون محتاجا في الافعال إلى القصود والعزمات ، وثبت أن وصفه بالارادة مخالف في معناه لوصف

١٣٨

العباد ، وأنها نفس فعله الاشياء ، وبذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى. ثم أورد هذه الرواية.

ثم قال : هذا نص على اختياري في الارادة ، وفيه نص على مذهب لي آخر ، وهو أن إرادة العبد تكون قبل فعله ، وإلى هذا ذهب البلخي ، والقول في تقدم الارادة للمراد كالقول في تقدم القدرة للفعل ، وقوله عليه‌السلام : «إن الارادة من الخلق الضمير وما يبدولهم بعد الفعل» صريح في وجوب تقدمها للفعل إذ كان الفعل يبدو من العبد بعدها ، ولو كان الامر فيها على مذهب الجبائي لكان الفعل بادئا في حالها ولم يتأخر بدوه إلى الحال التي هي بعد حالها.

٥ ـ يد : في خبر الفتح بن يزيد ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : إن لله إرادتين و مشيئتين : إرادة حتم ، (١) وإرادة عزم ، (٢) ينهي وهو يشاء ، ويأمر وهو لايشاء ، أو ما رأيت الله نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك إذ لولم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة الله ، وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لايذبحه ، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عزوجل. والخبر بإسناده أوردناه في باب جوامع التوحيد.

بيان : قوله عليه‌السلام : وهو شاء ذلك ، قيل : أي علم ذلك ، (٣) والاظهر أن يقال : إنه لما لم يصرفهما عن إرادتهما وكلهما إلى اختيارهما للمصالح العظيمة فكأنه شاء ___________________

(١) ولا يتخلف المراد عنها كما هو شأن إرادته بالنسبة إلى أفعال نفسه.

(٢) يمكن تخلف المراد عنها كما هو شأن إرادته تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد.

(٣) ويؤيد ذلك ما حكى عن الفقه الرضوى من أنه قال عليه‌السلام : قد شاء الله من عباده المعصية وما أراد ، وشاء الطاعة وأراد منهم لان المشيئة مشيئة الامر ومشيئة العلم ، وإرادته إرادة الرضا و إرادة الامر ، أمر بالطاعة ورضى بها ، وشاء المعصية ـ يعنى علم من عباده المعصية ـ ولم يأمرهم بها. الخبر. وقال الصدوق ـ بعد إيراد هذا الخبر ـ : إن الله تبارك وتعالى نهى آدم وزوجته عن أن ياكلا من الشجرة وقد علم أنهما يأكلان منها ، لكنه عزوجل شاء أن لا يحول بينهما وبين الاكل منها بالجبر والقدرة ، كما منعهما من الاكل منهما بالنهى والزجر ، فهذا معنى مشيئته فيهما ، ولو شاء عزوجل منعهما من الاكل*

١٣٩

ذلك (١) وسيأتي القول في ذلك في كتاب العدل إن شاء الله.

٦ ـ يد : الفامي ، عن محمد الحميري ، عن أبيه ، عن ابن عيسى ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبى عبدالله عليه‌السلام قال : إن من شبه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن أنكر قدرته فهو كافر.

٧ ـ يد : ابن المتوكل ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن أبي إسحاق ، عن عدة من أصحابنا أن عبدالله الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له : ألك رب؟ فقال : بلى ، قال : قادر؟ قال : نعم قادر قاهر ، قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لاتكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فقال هشام : النظرة فقال له : قد أنظرتك حولا ، ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبى عبدالله عليه‌السلام فاستأذن عليه فاذن له فقال : يا ابن رسول الله أتاني عبدالله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك. فقال له أبو عبدالله عليه‌السلام : عماذا سألك؟ فقال : قال لي : كيت وكيت فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : يا هشام كم حواسك؟ قال : خمس. فقال : أيها أصغر؟ فقال : الناظر قال : وكم قدر الناظر؟ قال : مثل العدسة أو أقل. منها فقال : يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى فقال : أرى سماءا وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا. فقال له أبو عبدالله عليه‌السلام : إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فانكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه وقال : حسبي يا ابن رسول الله فانصرف إلى منزله ، وغدا عليه الديصاني (٢) فقال له : يا هشام إني جئتك مسلما ،

___________________

بالجبر ثم أكلا منها لكانت مشيئتهما قد غلبت مشيئته كما قال الامام عليه‌السلام ، تعالى الله عن العجز علوا كبيرا. انتهى.

أقول : ويمكن أن يوجه الخبر أيضا بأن إسناد مشيئة الاكل وعدم الذبح ونحوهما في أمثال تلك الاخبار إلى الله تعالى اسناد للفعل إلى علته البعيدة ، فان العبد وقدرته لما كانت مخلوقة لله تعالى فهو سبحانه علة بعيدة لافعاله ، فصح نسبة ذلك اليه بهذا الاعتبار ، كما هو الشأن في جميع العلل الطولية ، فلذا ترى صحة اسناد البناء إلى البناء لانه كان يباشره ، والى الامر لانه أقدره على ذلك ومكنه منه. وللحديث توجيهات اخرى لايسعنا ذكرها هنا.

(١) الذى في الخبر هو تقسيم الارادة إلى تشريعية وتكوينية وسيجيئ إن شاء الله ، وأما ما استظهره المصنف فهو انما يفيد التشبيه دون الحقيقة. ط

(٢) وفى نسخة : وغدا اليه الديصانى.

١٤٠