الإعتقادات

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]

الإعتقادات

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي [ الشيخ الصدوق ]


المحقق: عصام عبد السيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ونسخ الشرايع والأحكام بشريعة نبينا محمد (ص) من ذلك ، ونسخ الكتب بالقرآن من ذلك.

وقال الصادق عليه‌السلام : « من زعم أنّ الله بدا ( له ) في شيء اليوم لم يعلمه أمس فابرؤا منه » (١).

وقال عليه‌السلام : « من زعم أنّ الله بدا له في شيء بداء ندامة ، فهو عندنا كافر بالله العظيم ).

وأمّا قول الصادق عليه‌السلام : « ما بدا لله في شيء كما بدا له في ابني إسماعيل » فإنه يقول : ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في ابني إسماعيل ، « إذ اخترمه قبلي ، ليعلم أنّه ليس بإمام بعدي » (٢).

__________________

(١) رواه مسنداً المصنّف في كمال الدين : ٦٩ باب اعتراض الزيدية على الإمامية. وفي ق ، س ، ر : « من زعم أنّه يريد الله عزّوجلّ في شيء » وما أثبتناه في المتن من م وهامش ر. وفي م : « أنا بريء » بدلا عن « فابرؤوا ».

(٢) رواه مسنداً المصنّف في التوحيد : ٣٣٦ باب البداء ح ١٠.

٤١

[١١]

باب الاعتقاد

في التناهي عن الجدل والمراء في الله عزّوجلّ وفي دينه

قال الشيخ أبو جعفر ـ رحمة الله عليه ـ : الجدل في الله تعالى منهي عنه ، لأنّه يؤدي إلى ما لا يليق به.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( وأنَّ إلى ربك المنتهى ) قال : « إذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا » (١).

وكان الصادق عليه‌السلام يقول : « يا بن آدم ، لو أكل قلبك طائر ما أشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق أبرة لغطّاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السموات والأرض : إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلقاً من خلق الله ، إن قدرت أن تملأ عينك منها فهو كما تقول » (٢).

والجدل في جميع (٣) أُمور الدين منهي عنه.

__________________

(١) رواه مسنداً المصنّف في التوحيد : ٤٥٦ باب النهي عن الكلام والمراء ح ٩ ، والكليني في الكافي ١ : ٧٢ باب النهي عن الكلام في الكيفيّة ح ٢. والآية الكريمة في سورة النجم ٥٣ : ٤٢.

(٢) المصدرين السابقين ، الأوّل ص ٤٥٥ ح ٥ ، والثاني ص ٧٣ ح ٨.

(٣) ليست في م ، س.

٤٢

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من طلب الدين بالجدل تزندق ».

وقال الصادق عليه‌السلام : « يهلك أصحاب الكلام وينجو المسلّمون ، إنّ المسلّمين هم النجباء » (١).

فأمّا الاحتجاج على المخالفين (٢) بقول الأئمّة أو بمعاني كلامهم لمن يحسن الكلام فمطلق ، وعلى من لا يحسن فمحظور محرم.

وقال الصادق عليه‌السلام : « حاجّوا الناس بكلامي ، فإن حاجوكم كنت أنا المحجوج لا أنتم ».

وروي عنه عليه‌السلام أنّه قال : « كلام في حق خير من سكوت على باطل ».

وروي أن أبا هذيل العلاف قال لهشام بن الحكم : أُناظرك على أنّك إن غلبتني رجعت إلى مذهبك ، وإن غلبتك رجعت إلى مذهبي.

فقال هشام : ما أنصفتني ! بل أُناظرك على أني إن غلبتك رجعت إلى مذهبي ، وإن غلبتني رجعت إلى إمامي.

__________________

(١) رواه مسنداً المصنّف في التوحيد : ٤٥٨ باب النهي عن الكلام والمراء ح ٢٢.

(٢) في ر ، ح زيادة : بقول الله تعالى وبقول رسوله و.

٤٣

[١٢]

باب الإعتقاد في اللوح والقلم

قال الشيخ أبو جعفر رضي‌الله‌عنه : اعتقادنا في اللوح والقلم أنّهما ملكان.

[١٣]

باب الإعتقاد في الكرسي

قال أبو جعفر رحمه‌الله : اعتقادنا في الكرسي أنّه وعاء جميع الخلق من (١) العرش والسَّموات والأرض ، وكل شيء خلق الله تعالى في الكرسي.

وفي وجه آخر (٢) هو العلم.

وقد سئل الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : ( وسع كرسيُّه السَّموات والأرض ) ؟

قال : « علمه » (٣).

__________________

(١) في ق ، س : و.

(٢) في م زيادة : الكرسي.

(٣) رواه مسنداً المصنّف في التوحيد : ٣٢٧ باب معنى ( وسع كرسيّه السَّموات والأرض ) ح ١.

والآية الكريمة من سورة البقرة ٢ : ٢٥٥.

٤٤

[١٤]

باب الإعتقاد في العرش

قال الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله : اعتقادنا في العرض أنه جملة جميع الخلق.

والعرض في وجه آخر هو العلم.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : ( الرَّحمن على العرش استوى ) ؟

فقال : « استوى من كل شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء » (١).

فأمّا العرش الذي هو جملة جميع الخلق فحملته ثمانية من الملائكة ، لكل واحد منهم ثمانية أعين ، كل عين طباق الدنيا :

واحد منهم على صورة بني آدم ، فهو يسترزق الله تعالى لولد آدم. واحد منهم (٢) على صورة الثور ، يسترزق الله للبهائم كلّها ، وواحد منهم على صورة الأسد ، يسترزق الله تعالى للسباع ، وواحد منهم على صورة الديك ، فهو يسترزق الله للطيور.

فهم اليوم هؤلاء الأربعة ، فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية.

__________________

(١) رواه مسنداً المصنّف في التوحيد : ٣١٥ باب معنى ( الرحمن على العرش استوى ) ح ١ ، والكليني في الكافي : ١ : ٩٩ باب الحركة والانتقال ح ٦. والآية الكريمة في سورة طه ٢٠ : ٥.

(٢) في م. والآخر ، بدلاً عن : واحد منهم ، وكذا في الموضعين الآتيين.

٤٥

وأمّا العرش الذي هو العلم ، فحملته أربعة من الأوّلين ، وأربعة من الآخرين.

فأمّا الأربعة من الأوّلين : فنوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى. وأمّا الأربعة من الآخرين : فمحمد ، وعلي ، والحسن ، والحسين ، صلّى الله عليهم . هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمّة عليهم‌السلام في العرش وحملته.

وإنّما صار هؤلاء حملة العرش الذي هو العلم (١) لأنّ الأنبياء الذين كانوا قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا على شرائع الأربعة (٢) : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ومن قبل هؤلاء (٣) صارت العلوم إليهم ، وكذلك صار العلم من بعد محمد وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام إلى من بعد الحسين من الأئمّة ـ عليهم‌السلام.

__________________

(١) العبارة في ق ، س : وإنّما صار هؤلاء حملة العلم.

(٢) في ر زيادة : من الأولّين.

(٣) في ر زيادة : الأربعة.

٤٦

[١٥]

باب الإعتقاد في النفوس والأرواح

قال الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله : اعتقادنا في النفوس أنّها هي الأرواح التي بها الحياة ، وأنّها الخلق الأوّل ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ أوّل ما أبدع الله سبحانه وتعالى هي النفوس المقدسة المطهرة (١) ، فأنطقها بتوحيده ، ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه ».

واعتقادنا فيها أنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء ، وإنّما تنقلون من دار إلى دار ».

وأنّها في الأرض غريبة ، وفي الأبدان مسجونة.

واعتقدنا فيها أنّها إذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعمّة ، ومنها معذّبة ، إلى أن يردها الله تعالى بقدرته إلى أبدانها.

وقال عيسى بن مريم للحواريين : « بحق أقول لكم ، أنّه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل منها ».

وقال تعالى : ( ولو شئنا لرفعنه بها ولكنَّه أخلد إلى الأرض واتبَّع هواه ) (٢) فما

__________________

(١) ف س : مقدسة مطهرة.

(٢) الأعراف ٧ : ١٧٦.

٤٧

لم يرفع منها إلى الملكوت بقي يهوى في الهاوية ، وذلك لأنّ الجنّة درجات والنار دركات.

وقال تعالى : ( تعرج الملائكة والرُّوح إليه ) (١).

وقال تعالى : ( إنّ المتَّقين في جنّت ونهر * في مقعد صدق عند مليك مُّقتدر ) (٢).

وقال تعالى : ( ولا تحسبنَّ الّذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون * فرحين بما ءاتاهم الله من فضله ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) (٣).

وقال تعالى : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموت بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون ) (٤).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف » (٥).

وقال الصادق عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام ، فلو قد قام قائمنا أهل البيت لورث الأخ الذي آخى بينهما في الأظلة ، ولم يرث (٦) الأخ من الولادة ».

وقال عليه‌السلام : « إنّ الأرواح لتلتقي في الهواء فتعارف فتساءل ، فإذا أقبل

__________________

(١) المعارج ٧٠ : ٤.

(٢) القمر ٥٤ : ٥٤ و ٥٥.

(٣) آل عمران ٣ : ١٦٩ ، ١٧٠.

(٤) البقرة ٢ : ١٥٤.

(٥) رواه مسنداً المصنّف في علل الشرائع ١ : ٨٤ عن الصادق عليه‌السلام.

(٦) كذا في النسخ وموضع من البحار ٦١ : ٧٨ ، وفي موضع آخر ٦ : ٢٤٩ يورّث.

٤٨

روح من الأرض قالت الأرواح : دعوه (١) فقد أفلت من هول عظيم ، ثم سألوه ما فعل فلان وما فعل فلان ، فكلّما قال قد بقي رجوه أن يلحق بهم ، وكلّما قال قد مات قالوا هوى هوى » (٢).

وقال تعالى : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) (٣).

وقال تعالى : ( وأمّا من خفَّت موزينه فاُمُّه هاوية * وما أدراك ماهية * نارٌ حاميةٌ ) (٤).

ومثل الدنيا وصاحبها (٥) كمثل البحر والملاح والسفينة.

وقال لقمان عليه‌السلام لابنه : « يا بني ، إن الدنيا بحر عميق وقد هلك فيها عالم كثير ، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله ، واجعل زادك فيها تقوى الله ، واجعل شراعها التوكّل على الله. فإن نجوت فبرحمة الله ، وإن هلكت فبذنوبك » (٦).

وأشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات (٧) : يوم يولد ، ويوم يموت ، يوم يبعث حيّاً.

ولقد سلّم الله تعالى على يحيى في هذه الساعات ، فقال الله تعالى : ( وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) (٨).

__________________

(١) العبارة في النسخ : « فإذا أقبل روح من الأرض فدعوه » وما أثبتناه من ج وهامش ر.

(٢) نحوه رواه مرسلاً المصنّف في الفقيه ١ : ١٢٣ ح ٥٩٣ ، ورواه مسنداً الكليني في الكافي ٣ : ٢٤٤ باب في أرواح المؤمنين.

(٣) طه ٢٠ : ٨١.

(٤) القارعة ١٠١ : ٨ ـ ١١.

(٥) ليست في ق ، س.

(٦) رواه مرسلاً المصنّف في كتابه الفقيه ٢ : ١٨٥ باب الزاد في السفر ح ٨٣٣. وفي ر ، وهامش م : « واجعل شراعك فيها التوكّل ». وفي ق ، ر : « وإن هلكت فبذنوبك لا من الله ».

(٧) العبارة في ق ، س : وأشد ساعاته.

(٨) مريم ١٩ : ١٥.

٤٩

وقد سلّم فيها (١) عيسى على نفسه فقال ( والسَّلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموت ويوم أُبعث حيّاً ) (٢) والاعتقاد في الروح أنه ليس من جنس البدن ، وأنه خلق آخر ، لقوله تعالى : ( ثمَّ أنشأنه خلقاً ءاخر فتبارك الله أحسن الخلقين ) (٣).

واعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة عليهم‌السلام إنّ فيهم خمسة أرواح : روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح المدرج.

وفي المؤمنين أربعة أرواح : روح الايمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح المدرج.

وفي الكافرين والبهائم ثلاثة أرواح : روح القوّة ، روح الشهوة ، وروح المدرج.

وأمّا قوله تعالى : ( ويسئلونك عن الرُّوح قل الرُّوح من أمر ربّي ) (٤) فإنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله والأئمة عليهم‌السلام (٥) ومع الملائكة ، وهو من الملكوت.

وأنا أُصنّف في هذا المعنى كتاباً أشرح فيه معاني هذه الجمل إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أثبتناها م ، ج.

(٢) مريم ١٩ : ٣٣.

(٣) المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٤) الاسراء ١٧ : ٨٥.

(٥) والأئمة عليهم‌السلام ، ليست في ق ، س ، وقد أثبتت في هامش م ، ر مذيّلة بإشارة غير واضحة إن كانت تعني بدلاً عن الملائكة أو إضافة إليها. مع ملاحظة أنّ أحاديث الباب في الكافي ١ : ٢١٥ ، والمنقول عن كتابنا في بحار الأنوار ٦١ : ٧٩ ، أثبتا الأئمّة فقط.

٥٠

[١٦]

باب الإعتقاد في الموت

قيل لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام صف لنا الموت ؟.

فقال عليه‌السلام : ( على الخبير سقطتم ) ، هو أحد ثلاثة أُمور يرد عليه :

إمّا بشارة بنعيم الأبد ، وإمّا بشارة بعذاب الأبد ، وإمّا بتحزين (١) وتهويل وأمر مبهم (٢) لا يدري من أي الفرق هو.

أمّا وليّنا والمطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد.

وأمّا عدونا والمخالف لأمرنا ، فهو المبشّر بعذاب الأبد.

وأمّا المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله ، فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤول حاله (٣) يأتيه الخبر مبهما مخوفاً (٤) ثم لن يسويه الله بأعدائنا ، ويخرجه من النار بشفاعتنا.

فاعلموا (٥) وأطعيوا ولا تتّكلوا (٦) ولا تستصغروا عقوبة الله ، فإنّ من

__________________

(١) في ق : بتخويف.

(٢) « وأمر مبهم » أثبتناها من م.

(٣) « لا يدري ما يؤول حاله » أثبتناها من م.

(٤) العبارة في النسخ مضطربة ، فهي ما بين : « الخير / الخبر ، مبهماً / منهما » ولكنها تتفق في : « محرفا » وما أثبتناه من ج ومعاني الأخبار.

(٥) في هامش س : ( فاعقلوا ) وفي بعض النسخ : « فاعتملوا ».

(٦) في ر : ( تتكلموا ) ، وتقرأ في بقية النسخ : « تنكلوا ».

٥١

المسرفين من لا يلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة » (١).

وسئل الحسن بن علي عليهما‌السلام ، ما الموت الذي جهلوه ؟

فقال ـ عليه‌السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد » (٢).

ولما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام : نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ، لأنّهم إذا اشتد بهم الأمر تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجلت قلوبهم ، ووجبت جنوبهم. وكان الحسين عليه‌السلام وبعض من معه من خواصّه (٣) تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم.

فقال بعضهم لبعض : أُنظروا إليه لا يبالي بالموت.

فقال لهم الحسين عليه‌السلام : « صبراً بني الكرام ، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضر (٤) إلى الجنان الواسعة والنعم (٥) الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، وهؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب أليم : إنّ أبي حدثني عن رسول الله : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنًة الكافر.

والموت جسر (٦) هؤلاء إلى جنّاتهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كَذبت ولا كُذِبْت » (٧).

__________________

(١) رواه مسنداً المصنّف في معاني الأخبار : ٢٨٨ باب معنى الموت ح ٢.

(٢) المصدر السابق ، ح ٣.

(٣) في جميع النسخ والبحار ومعاني الأخبار : خصائصه ، وما أثبتناه من ج.

(٤) في م : والضراء.

(٥) في م ، س : والنعيم ، وفي ر : والنعمة.

(٦) في ق : حشر ، وكذا التي بعدها.

(٧) رواه المصنّف في معاني الأخبار : ٢٨٨ باب معنى الموت ح ٣.

٥٢

وقيل لعلي بن الحسين : ما الموت ؟

فقال عليه‌السلام : « للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة ، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطأ المراكب ، وآنس المنازل.

وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل عن منازل أنيسة ، والاستبدال (١) بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش (٢) المنازل ، وأعظم العذاب ».

وقيل لمحمد بن علي عليه‌السلام : ما الموت ؟

فقال : « هو النوم الذي يأتيكم في كل ليلة ، إلا أنّه طويل مدّته (٣) لا ينتبه (٤) منه إلا يوم القيامة. فمنهم من رأى في منامه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره ، ومنهم من رأى في نومه من أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره ، فكيف حال من فرح في الموت (٥) ووجل فيه ! هذا هو الموت فاستعدّوا له » (٦).

وقيل للصادق عليه‌السلام : صف لنا الموت ؟

فقال : « هو للمؤمنين كأطيب ريح يشمّه فينعس (٧) لطيبه فينقطع (٨) التعب والألم كلّه عنه. وللكافر كلسع الأفاعي وكلدغ العقارب وأشد ».

قيل : فإنّ قوماً يقولون (٩) هو أشدّ من نشر بالمناشير ، وقرض بالمقاريض ،

__________________

(١) في م : والاستقبال.

(٢) في ر ، وهامش م : أضيق.

(٣) في م ، ر : المدة

(٤) في س : ينتبّه.

(٥) في ر : النوم.

(٦) رواه المصنّف في معاني الأخبار : ٢٨٩ باب معنى الموت ح ٥ مع اختلاف في بعض الجمل.

(٧) أثبتناها من ق وهامش م ، وفي النسخ : « فينعش ».

(٨) أثبتناها من ر ، وفي النسخ : « فيقطع ».

(٩) في ق ، س ، ر زيادة : إنّه.

٥٣

ورضخ بالحجارة ، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق ؟

فقال : « كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين ، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد فذلك الذي هو أشدّ من هذا [ إلا من عذاب الآخرة فإنه أشد ] من عذاب الدنيا ».

قيل : فما لنا نرى كافراً يسهلٍ عليه النزع فينطفئ ، وهو يتحدّث ويضحك ويتكلّم ، وفي المؤمنين من يكون أيضاً كذلك ، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد ؟

قال عليه‌السلام : « ما كان من راحة هناك للمؤمنين فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شدّة فهو تمحيصه من ذنوبه ، ليرد إلى الآخرة نقيّاً (١) نظيفاً مستحقاً لثواب الله ليس له مانع دونه. وما كان من سهولة هناك على الكافرين فليوفى (٢) أجر حسناته في الدنيا ، ليرد الآخرة وليس له إلا ما يوجب عليه العذاب ، وما كان من شدّة على الكافر هناك فهو ابتداء عقاب الله عند نفاد حسناته ، ذلكم بأنّ الله عدل لا يجور » (٣).

ودخل موس بن جعفر عليه‌السلام على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو لا يجيب داعياً ، فقالوا له : يا بن رسول الله ، وددنا لو عرفنا كيف حال صاحبنا ، وكيف يموت ؟ فقال : « إن الموت هو المصفاة : يصفي المؤمنين من ذنوبهم ، فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر عليهم. ويصفي الكافرين من حسناتهم ، فتكون آخر لذّة أو نعمة أو رحمة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم. أما صاحبكم

__________________

(١) في ق : تقيّاً.

(٢) في م ، س : فليتوفّى.

(٣) رواه مسنداً المصنّف في معاني الأخبار : ٢٨٧ باب معنى الموت ح ١ ، وعلل الشرائع : ٢٩٨ ح ٢ ، ومنهما ما أثبتناه بين المعقوفين.

٥٤

فقد نخل من الذنوب نخلاً (١) وصفي من الآثام تصفية ، وخلص حتى نقى كما ينقى ثوب من الوسخ ، وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في (٢) دارنا دار الأبد » (٣).

ومرض رجل من أصحاب الرضا عليه‌السلام فعاده ، فقال : « كيف تجدك ؟ » فقالت : لقيت الموت بعدك ، يريد به ما لقي من شدّة مرضه.

فقال : « كيف لقيته ؟ » فقال : أليماً شديداً.

فقال : « ما لقيته ، ولكن لقيت ما ينذرك به ، ويعرّفك بعض حاله. إنّما الناس رجلان : مستريح بالموت ، ومستراح منه (٤) فجدّد الإيمان بالله (٥) وبالولاية تكن مستريحا ». ففعل الرجل ذلك (٦) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

وقيل لمحمد بن علي بن موسى عليهم‌السلام : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟.

فقال : « لأنّهم جهلوه فكرهوه ، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله حقّاً لأحبّوه ، ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ».

ثمّ قال : « يا عبدالله ، ما بال الصبي والمجنون يمتنع من الدواء المنقي لبدنه والنافي للألم عنه ؟ ». فقال : لجهلهم بنفع الدواء.

فقال : « والذي بعث محمداً بالحق نبيّاً ، إنّ من قد استعد للموت حق الاستعداد فهو (٧) أنفع لهم من هذا الدواء لهذا المتعالج ، أما إنّهم لو علموا ما

__________________

(١) العبارة في م : « فقد خلي منا الذنوب تخلية » وليس في ق ، س : « نخلاً ».

(٢) في م ، ق : « وفي ».

(٣) رواه مسنداً المصنّف في معاني الأخبار : ٢٨٩ باب معنى الموت ح ٦.

(٤) أثبتناها من هامش ر ، وفي النسخ : « به ».

(٥) في ج ، وهامش ر زيادة : وبالنبّوة.

(٦) رواه مسنداً المصنّف في معاني الأخبار : ٢٨٩ باب معنى الموت ح ٧.

(٧) أثبتناها من ج ، وهامش ر ، وفي النسخ : « إنّه ».

٥٥

يؤدي إليه الموت من النعم ، لاستدعوه وأحبّوه أشد ممّا يستدعي العاقل الحازم الدواء ، لدفع الآفات واجتلاب السلامات » (١).

ودخل علي بن محمد عليهما‌السلام على مريض من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال له : « يا عبدالله ، تخاف من الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتسخت ثيابك وتقذرت ، وتأذّيت بما عليك من الوسخ والقذرة ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمام يزيل عنك ذلك كلَه ، أما تريد أن تدخله فتغسل فيزول (٢) ذلك عنك ، أو ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك ؟ قال : بلى يا ابن رسول الله.

قال : « فذلك الموت هو ذلك الحمّام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيّئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته ، فقد نجوت من كل غمّ وهمّ وأذى ووصلت إلى سرور وفرح ». فسكن الرجل ونشط واستسلم وغمض عين نفسه ومضى لسبيله (٣).

وسئل الحسن بن علي عليهما‌السلام عن الموت ، ما هو ؟ فقال : « هو التصديق بما لا يكون. إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إنّ المؤمن إذا مات لم يكن ميّتاً ، وإن الكافر هو الميّت ، إنّ الله عزّوجلّ يقول : ( يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ) يعني المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (٤).

__________________

(١) رواه مسنداً المصنّف في معاني الأخبار : ٢٩٠ باب معنى الموت ح ٨.

(٢) ليست في ق ، س.

(٣) رواه مسنداً المصنّف في معاني الأخبار : ٢٩٠ باب معنى الموت ح ٩.

(٤) رواه المصنّف في معاني الأخبار : ٢٩٠ باب معنى الموت ح ٩. والآية الكريمة من سورة يونس ١٠ : ٣١.

٥٦

وجاء رجل إلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال يا رسول الله ، ما بالي لا أحبّ الموت ؟ قال :

« ألك مال ؟ ». قال : نعم قال « قدمته ؟ ». قال : لا. قال : « فمن ثم لا تحبّ الموت » (١).

وقال رجل لأبي ذر ـ رحمة الله عليه ـ : ما لنا نكره الموت ؟ فقال : لأنّكم عمّرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة ، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب.

وقيل له : كيف ترى قدومنا على الله ؟ قال : أمّا المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأمّا المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.

قيل : فيكف ترى حالنا عند الله ؟ فقال : اعرضوا أعمالكم على كتاب الله ، يقول الله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم ).

قال الرجل : فأين رحمة الله ؟ قال : ( إنّ رحمة الله قريب من المحسنين ) (٢).

__________________

(١) رواه مسنداً في الخصال ١ : ١٣ باب الواحد ح ٤٧.

(٢) النصوص المروية عن أبي ذر ـ رضوان الله عليه ـ رواها مسندة الكليني في الكافي ٢ : ٣٣١ باب محاسبة العمل ح ٢٠. وفي هامش م ، ر : فكالآبق يقدم على مولاه وهو منه خائف. والآيتان على التوالي في : الانفطار ٨٢ : ١٣ ، ١٤ ، الأعراف ٧ : ٥٦.

٥٧

[١٧]

باب الإعتقاد في المساءلة في القبر

قال الشيخ رحمه‌الله : اعتقادنا في المساءلة في القبر أنّها حق لا بد منها ، فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره ، وبجنّة نعيم في الآخرة ، ومن لم يأت بالصواب فله نزل من حميم في قبره وتصلية جحيم في الآخرة.

وأكثر ما يكون عذاب القبر من النميمة ، وسوء الخلق ، والاستخفاف بالبول.

وأشد ما يكون عذاب القبر على المؤمن (١) مثل اختلاج العين أو شرطة حجام ويكون ذلك كفّارة لما بقي عليه من الذنوب التي (٢) لم تكفّرها الهموم والغموم والأمراض وشدة النزع عند الموت ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفن فاطمة بنت أسد في قميصه بعد ما فرغ النساء من غسلها ، وحمل جنازتها على عاتقه فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها ، ثم وضعها ودخل القبر واضطجع فيه ، ثم قام فأخذها على يديه ووضعها في قبرها ، ثمّ انكبّ عليها يناجيها طويلاً ويقول لها : ابنك ابنك ، ثم خرج وسوّى عليها التراب ، ثمّ انكبّ على قبرها ، فسمعوه وهو يقول (٣) : ( اللّهم إنّي استودعتها (٤) إياك ) ثمّ انصرف.

__________________

(١) في هامش م ، ر زيادة : المحق.

(٢) في ج زيادة : لا.

(٣) في ج ، وهامش ر زيادة : « لا إله إلا الله ».

(٤) أثبتناها من م ، وفي النسخ : « أودعتها ».

٥٨

فقال له المسلمون : يا رسول الله ، إنّا رأيناك صنعت اليوم شيئاً لم تصنعه قبل اليوم ؟.

فقال : « اليوم فقدت برّ أبي طالب ، إنّها كانت يكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها. وإنّي ذكرت يوم القيامة يوماً وأنّ الناس يحشرون عراةً ، فقالت : واسوأتاه ، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسيةً. وذكرت ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه ، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك. فكفّنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك ، وانكببت عليها فلقّنتها ما تسأل عنه.

وإنّما سئلت عن ربّها فقالت الله ، وسئلت عن نبيّها فأجابت (١) ، وسئلت عن وليّها وإمامها فارتجّ عليها ، فقلت لها : ابنك ، ابنك. فقالت (٢) ولدي وليي وإمامي ، فانصرفا عنها وقالا : لا سبيل لنا عليك ، نامي كما تنام العروس في خدرها. ثم إنّها ماتت موتة ثانية.

وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى قوله : ( ربّنا أمتنّا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) (٣).

__________________

(١) العبارة في ر : فقالت : الله ربي ، وسئلت عن نبيها فقالت محمد نبيي.

(٢) من هنا إلى نهاية الباب ليست في ق ، س.

(٣) غافر ٤٠ : ١١.

٥٩

[١٨]

باب الإعتقاد في الرجعة

قال الشيخ رحمه‌الله : اعتقادنا في الرجعة أنها حق.

وقد قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم أُلوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ) (١).

كان هؤلاء سبعين ألف (٢) بيت ، وكان يقع فيهم الطاعون كل سنة ، فيخرج الأغنياء لقوّتهم ، ويبقى الفقراء لضعفهم. فيقل (٣) الطاعون في الّذين يخرجون ، ويكثر في الّذين يقيمون ، فيقولون الّذين يقيمون : لو خرجنا لم أصابنا الطاعون ، ويقول الّذين خرجوا : لو أقمنا لأصابنا كما أصابهم.

فأجمعوا على أن يخرجوا جميعاً من ديارهم إذا كان وقت الطاعون ، فخرجوا بأجمعهم ، فنزلوا على شط بحر ، فلمّا وضعوا رحالهم ناداهم الله : موتوا ، فماتوا جميعاً ، فكنستهم المارة عن الطريق ، فبقوا بذلك ما شاء الله.

ثم مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له إرميا ، فقال : « لو شئت يا رب لأحييتهم فيعمروا بلادك ، ويلدوا عبادك ، وعبدوك مع من يعبدك ». فأوحى الله

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٤٣.

(٢) في بعض النسخ : ألف أهل البيت.

(٣) في ق ، س : يقع ، وفي م ، ر : فيدفع ، وما أثبتناه من هامش الأخيرتين.

٦٠