نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وقال أيضاً ـ بترجمة الحسن بن الحسين العرني ـ : « وقال ابن الأعرابي : حدّثنا الفضل بن يوسف الجعفي ، حدّثنا الحسن بن الحسين الأنصاري ، ـ في مسجد حبّة العرني ـ ، حدّثنا معاذ بن مسلم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد ، عن ابن عبّاس ...

رواه ابن جرير في تفسيره ، عن أحمد بن يحيى ، عن الحسن ، عن معاذ. ومعاذ نكرة ، فلعلّ الآفة منه » (١).

* ابن كثير

وقال ابن كثير ـ بعد رواية ابن جرير الطبري ـ : « وهذا الحديث فيه نكارة ».

ثم قال : « وقال ابن أبي حاتم : حدّثنا علي بن الحسين ، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا المطلب بن زياد ، عن السدي ، عن عبدخير ، عن علي : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال : الهادي رجل من بني هاشم. قال الجنيد : هو علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عبّاس في إحدى الروايات. وعن أبي جعفر محمّد بن علي نحو ذلك » إنتهى (٢).

* أبو حيان

وقال أبو حيّان الأندلسي بتفسيرها : « عن ابن عبّاس : لما نزلت وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره وقال : أنا منذر ...

__________________

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٤٨٤.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ / ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

٣٢١

قال القشيري : نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليّ بن أبي طالب.

... وقالت فرقة : الهادي : عليّ بن أبي طالب.

وإنْ صحّ ما روي عن ابن عبّاس ممّا ذكرناه في صدر هذه الآية ، فإنّما جعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب مثالاً من علماء الأُمّة وهداتها ، فكأنّه قال : أنت يا عليّ هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ثمّ كذلك علماء كلّ مصر.

فيكون المعنى على هذا : إنّما أنت يا محمّد منذر ، ولكلّ قومٍ في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير » (١).

* ابن روزبهان

وقال ابن روزبهان ـ في الردّ على استدلال العلاّمة الحلي بالحديث ـ : « ليس هذا في تفاسير السنّة ، ولو صحّ دلّ على أنّ عليّاً هاد ، وهو مسلَّم ، وكذا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هداة ، لقوله صلّى الله عليه وسلّم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، ولا دلالة فيه على النصّ » (٢).

* ابن تيمية

وقال ابن تيميّة الحرّاني ـ في الردّ على استدلال العلاّمة الحلّي بالحديث ـ :

« والجواب من وجوه : أحدها : أنّ هذا لم يقم دليل على صحّته ، فلا

__________________

(١) البحر المحيط ٥ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٢) إبطال نهج الباطل ـ في الردّ على نهج الحقّ ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ٣ / ٩٣.

٣٢٢

يجوز الاحتجاج [ به ]. وكتاب الفردوس للديلمي فيه موضوعات كثيرة ، أجمع أهل العلم على أنّ مجرّد كونه رواه لا يدلّ على صحّة الحديث ، وكذلك رواية أبي نُعيم لا تدلّ على الصحّة.

الثاني : أنّ هذا كذب موضوع باتّفاق أهل العلم بالحديث ، فيجب تكذيبه ورده.

الثالث : أنّ هذا الكلام لا يجوز نسبته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ قوله : ( أنا المنذر ، وبك يا عليّ يهتدي المهتدون ) ظاهره أنّهم بك يهتدون دوني ، وهذا لا يقوله مسلم ، فإنّ ظاهره أنّ النذارة والهداية مقسومة بينهما ، فهذا نذيرٌ لا يُهتدى به ، وهذا هادٍ ، [ وهذا ] لا يقوله مسلم.

الرابع : أنّ الله تعالى قد جعل محمّداً هادياً فقال : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِراطِ اللهِ ) فكيف يُجعل الهادي مَن لم يوصف بذلك دون مَنْ وُصف به؟!

الخامس : أنّ قوله : ( بك يهتدي المهتدون ) ظاهره أنّ كلّ من اهتدى من أُمّة محمّد فبه اهتدى ، وهذا كذب بيّن ، فإنّه قد آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم خلق كثير ، واهتدوا به ، ودخلوا الجنّة ، ولم يسمعوا من عليٍّ كلمة واحدة ، وأكثر الّذين آمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم واهتدوا به لم يهتدوا بعليٍّ في شيء.

وكذلك لمّا فتحت الأمصار وآمن واهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة وغيرهم ، كان جماهير المؤمنين لم يسمعوا من عليٍّ شيئاً ، فكيف يجوز أن يُقال : بك يهتدي المهتدون؟!

السادس : أنّه قد قيل معناه : إنّما أنت نذير ولكلّ قوم هاد ، وهو الله تعالى ، وهو قول ضعيف. وكذلك قول من قال : أنت نذير وهادٍ لكل قوم ، قول

٣٢٣

ضعيف. والصحيح أنّ معناها : إنّما أنت نذير ، كما أُرسل من قبلك نذيرٌ ، ولكلّ أُمّة نذير يهديهم أي يدعوهم ، كما في قوله : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ ) (١) ، وهذا قول جماعة من المفسّرين ، مثل قتادة وعكرمة وأبي الضحى وعبد الرحمن بن زيد.

قال ابن جرير الطبري : ( حدّثنا بشر ، حدّثنا يزيد ، حدّثنا سعيد ، عن قتادة.

وحدّثنا أبو كريب ، حدّثنا [ وكيع ، حدّثنا ] سفيان ، عن السدّي ، عن عكرمة ومنصور ، عن أبي الضحى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قالا : محمّد هو المنذر وهو الهادي ).

( حدّثنا يونس ، حدّثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لكلّ قوم نبيّ.

الهادي : النبيّ ، والمنذر : النبيّ أيضاً. وقرأ : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ ) (١) ، وقرأ : ( نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) (٢) ، قال : نبي من الأنبياء ).

( حدّثنا بشار ، حدّثنا أبو عاصم ، حدّثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : المنذر : محمّد ، ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال : نبيٌّ ).

وقوله : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (٣) إذ الإمام [ هو ] الذي يؤتمّ به ، أي يُقتدى به. وقد قيل : إنّ المراد به هو الله الذي يهديهم ، والأوّل أصحّ.

وأمّا تفسيره بعليٍّ فإنّه باطل ، لأنّه قال : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، وهذا يقتضي أن يكون هادي هؤلاء غير هادي هؤلاء ، فيتعدّد الهداة ، فكيف يُجْعل عليٌّ هادياً لكلّ قوم من الأوّلين والآخرين؟!

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٤.

(٢) سورة فاطر : ٢٤.

(٣) سورة النجم : ٥٦.

(٤) سورة الاسراء : ٧١.

٣٢٤

السابع : أنّ الاهتداء بالشخص قد يكون بغير تأميره عليهم ، كما يهتدى بالعالِم ، وكما جاء في الحديث الذي فيه : ( أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم ) فليس هذا صريحاً في الإمامة كما زعمه هذا المفتري.

الثامن : أنّ قوله ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) نكرة في سياق الإثبات ، وهذا لا يدلّ على معيّن ، فدعوى دلالة القرآن على عليٍّ باطل ، والاحتجاج بالحديث ليس احتجاجاً بالقرآن ، مع أنّه باطل.

التاسع : أنّ قوله : ( لِكُلِّ قَوْمٍ ) صيغة عموم ، ولو أُريد أنّ هادياً واحداً للجميع لقيل : لجميع الناس هادٍ. لا يقال : ( لِكُلِّ قَوْمٍ ) ، فإنّ هؤلاء القوم [ غير هؤلاء القوم ] ، هو لم يقل : لجميع القوم ، ولا يقال ذلك ، بل أضاف ( كلاًّ ) إلى نكرة ، لم يضفه إلى معرفة.

كما في قولك : ( كلّ الناس يعلم أنّ هنا قوماً وقوماً متعدّدين ، وأنّ كلّ قوم لهم هادٍ ليس هو هادي الآخرين ). وهذا يبطل قول من يقول : [ إنّ ] الهادي هو الله تعالى ، ودلالته على بطلان قول من يقول : ( هو عليٌّ ) أظهر » (١).

* الدهلوي

وقال عبدالعزيز الدهلوي ـ صاحب التحفة ـ ما هذا تعريبه ومنها قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، ورد في الخبر المتّفق عليه ، عن ابن عبّاس ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : أنا المنذر وعليٌّ الهادي.

وهذه رواية الثعلبي في تفسيره ، وليس لمرويّاته ذاك الاعتبار التامّ.

وهذه الآية أيضاً تُعدُّ من الآيات التي يذكرها أهل السنّة في مقام الردّ على مذهب الخوارج والنواصب ، ويتمسّكون بالرواية المذكورة بتفسيرها ،

__________________

(١) منهاج السنّة ٧ / ١٣٩ ـ ١٤٣.

٣٢٥

وهي لا دلالة فيها على إمامة الأمير ونفي الإمامة عن غيره أصلاً قطعاً ، لأنّ كون الشخص هادياً لا يلازمُ إمامته ولا ينفي الهداية عن غيره ، ولو دلّ مجرّد الهداية على الإمامة ، لكان المراد منها الإمام بمصطلح أهل السنّة ، وهي الإمامة في الدين ، وهو غير محلّ النزاع ». إنتهى (١).

* الآلوسي

وقال شهاب الدين الآلوسي بتفسير الآية : « وقالت الشيعة : إنّه عليٌّ كرم الله تعالى وجهه ، ورووا في ذلك أخباراً ، وذكر ذلك القشيري منّا.

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والديلمي ، وابن عساكر ، عن ابن عبّاس ، قال : لما نزلت ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) الآية ، وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره فقال : أنا المنذر ، وأومأ بيده إلى منكب عليّ كرّم الله تعالى وجهه فقال : أنت الهادي ، يا عليّ! بك يهتدي المهتدون من بعدي.

وأخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وصحّحه ، وابن عساكر أيضاً ، عن عليٍّ كرّم الله تعالى وجهه ، أنّه قال في الآية : رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر وأنا الهادي. وفي لفظ : الهادي رجل من بني هاشم ـ يعني نفسه ـ واستدلّ بذلك الشيعة على خلافة عليّ كرّم الله تعالى وجهه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل.

وأُجيب : بأنّا لا نسلّم صحّة الخبر ، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الإعتبار عند أهل الأثر ، وليس في الآية دلالة على ما تضمّنه بوجه من الوجوه ، على أنّ قصارى ما فيه كونه كرّم الله تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم ، وذلك لا يستدعي إلاّ إثبات مرتبة

__________________

(١) التحفة الإثنا عشرية : ٢٠٧.

٣٢٦

الإرشاد ، وهو أمر ، والخلافة التي تقول بها أمر لا تلازم بينهما عندنا.

وقال بعضهم : إن صحّ الخبر يلزم القول بصحّة خلافة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم ، حيث دل على أنّه كرّم الله تعالى وجهه على الحقّ في ما يأتي ويذر ، وأنّه الذي يُهتدى به ، وهو قد بايع أولئك الخلفاء طوعاً ، ومدحهم وأثنى عليهم خيراً ، ولم يطعن في خلافتهم ، فينبغي الإقتداء به والجري على سننه في ذلك ، ودون إثبات خلاف ما أظهر خرط القتاد.

وقال أبو حيّان : إنه صلّى الله عليه وسلّم على فرض صحّة الرواية إنّما جعل عليّاً كرم الله تعالى وجهه مثالاً من علماء الأُمّة وهداتها إلى الدين ، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال : يا عليّ هذا وصفك ، فيدخل الخلفاء الثلاث ، وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، بل وسائر علماء الأُمّة.

وعليه : فيكون معنى الآية : إنّما أنت منذر ولكلّ قوم في القديم والحديث إلى ما شاء الله تعالى هداة دعاة إلى الخير.

وظاهره أنّه لم يَحْمِل تقديم المعمول في خبر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما على الحصر الحقيقي ، وحينئذٍ لا مانع من القول بكثرة من يُهتدى به.

ويؤيّد عدم الحصر ما جاء عندنا من قوله صلّى الله عليه وسلّم : ( اقتدوا باللّذين من بعدي : أبي بكر وعمر ) وأخبار أُخر متضمّنة لإثبات من يُهتدى به غير عليٍّ كرّم الله تعالى وجهه ، وأنا أظنّك لا تلتفت إلى التأويل ، ولا تعبأ بما قيل ، وتكتفي بمنع صحّة الخبر وتقول : ليس في الآية ممّا يدل عليه عين ولا أثر » (١).

__________________

(١) روح المعاني ١٣ / ١٠٨.

٣٢٧

أقول :

وكلامهم حول هذا الحديث الشريف يكون في جهتين : جهة السند ، وجهة الدلالة ، ونحن نتكلّم على كلتا الجهتين ، بالنظر إلى الكلمات المذكورة ، لتظهر الحقيقة لكلّ منصف حرّ ...

١ ـ كلماتهم في ما يتعلّق بالسند

أمّا من جهة سند الحديث ، فكلماتهم مضطربة جدّاً ، فهم بعد ما لا يذكرون إلاّ أحد أسانيده فقط ، يختلفون في الحكم عليه ، بين مشكّك في الصحّة ، كأبي حيّان ، يقول : « إنْ صحّ » والالوسي : « أُجيب : لا نسلّم صحّة هذا الحديث » ، وبين قائل بوضعه ، كابن الجوزي ، إذ يقول : « هذا من موضوعات الرافضة ، وبين منكر لأصل وجوده في تفاسيرهم كابن روزبهان.

* فأوّل ما في هذه الكلمات : إنّها ناظرة إلى حديث ابن عبّاس ، فلاحظ زاد المسير ، والبحر المحيط ، وميزان الاعتدال ، والتحفة الإثنا عشريّة ، حيث اقتصروا فيها على رواية ابن عبّاس ، محاولةً منهم ـ بعد فرض كونه ضعيفاً ـ للطعن في أصل الحديث ... وهذا الأُسلوب من أبي الفرج ابن الجوزي ـ خاصّةً ـ معروف .. ولذا لا يعبأ المحقّقون بحكمه على الأحاديث بالوضع إلاّ أن يثبت عندهم ذلك بدليلٍ قطعي .. ومن هنا نرى أنّ أبا حيّان ـ مثلاً ـ يكتفي بالتشكيك في الصحة ولا يجرأ على الحكم بالضعف ، فضلاً عن الوضع.

* ثمّ إنّهم ما ذكروا أيّ دليلٍ على ضعف سند الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، فضلاً عن كونه موضوعاً ، ومن الواضح أنّ مجرّد الدعوى لا يكفي لردّ أيّ حديثٍ من الأحاديث مطلقاً.

٣٢٨

أمّا كونه من روايات الثعلبي في تفسيره ، أو الديلمي في الفردوس ، لوجود الموضوعات الكثيرة فيهما ، فلا يكفي دليلاً على سقوط الحديث ، كما لا يكفي دليلاً على ثبوته.

والذي يظهر من الذهبي في ميزان الإعتدال حيث أورد الحديث بترجمة « الحسن بن الحسين العرني » أنّ سبب الضعف كون هذا الرجل في طريقه ، لكنّه لمّا رأى أنّ الطبري يرويه بسنده عنه عن معاذ بن مسلم ، عدل من ذلك قائلاً « معاذ نكرة ، فلعلّ الآفة منه »!!

لكنّ « الحسن بن الحسين العرني » قد وثّقه الذهبي تبعاً للحاكم (١) فصحّ الحديث وبطل ما صنعه في ( الميزان ) ، وأما « معاذ » فليس بنكرةٍ كما عبّر هنا ، ولا بمجهول كما عبّر بترجمته ، بل هو معرفة حتى عنده كما ستعرف.

وبعد ، فإنّ الاقتصار على سند واحدٍ للحديث ، أو نقله عن كتاب واحدٍ من الكتب ، ثمّ ردّ أصل الحديث وتكذيبه من الأساس ، خيانة للدين ، وتلبيس للحقيقة ، وتضييع للحقّ ، وتخديع للقارئ ...!!

* وسواء صحّ الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، أو لم يصحّ ، بل حتّى لو لم يصحّ عن ابن عبّاس شيء في الباب ، ففي رواية الصحابة الآخرين كفاية لذوي الألباب.

بل تكفي الرواية فيه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فأمّا رواية عبّاد بن عبدالله الأسدي عنه عليه‌السلام ، فأخرجها الحاكم في المستدرك وصحّحها ، وهي :

عن « أبي عمرو ابن السمّاك » المتوفّى سنة ٣٤٤ ، وصفه الذهبي بـ

__________________

(١) المستدرك وتلخيصه ٣ / ٢١١.

٣٢٩

« الشيخ الإمام المحدّث ، المكثر الصادق ، مسند العراق ... » (١).

عن « عبدالرحمن بن محمّد الحارثي » الملقّب بـ « كُرْبُزان » ، المتوفّى سنة ٢٣١ ، وصفه الذهبي بـ « المحدِّث المعمّر البقيّة » ثمّ نقل عن ابن أبي حاتم قوله : « كتبت عنه مع أبي ، تكلّموا فيه ، وسألت أبي عنه فقال : شيخ ». قال : « وقال الدارقطني : ليس بالقوي » (٢) ؛ ومن هنا أورده في ميزان الإعتدال.

لكنْ تعقّبه الحافظ ابن حجر بقوله : « وذكره ابن حبّان في ( الثقات ) وقال : حدّثنا عنه ابنه محمّد بن عبدالرحمن بالبصرة ، وقال إبراهيم بن محمّد : كان موسى بن هارون حسن الرأي فيه. وحدّث أيضاً عن : معاذ بن هشام ، وقريش ابن أنس ، ووهب بن جرير.

وعنه : ابن صاعد ، وابن مخلد ، والصفّار ، وأبو بكر الشافعي ، وآخرون.

وقال ابن الأعرابي : مات في ذي الحجّة سنة ٢٧١.

وقال مسلمة بن قاسم : ثقة مشهور » (١).

قلت :

فالرجل ثقة ، لا سيّما وأنّه شيخ أبي حاتم الرازي ، وقد سأله عنه ابنه فلم يقدح فيه ، بل قال : « شيخ » وقد نصّ الذهبي نفسه على أنّ أبا حاتم متعنّت في الرجال (٢) مضافاً إلى توثيق ابن هارون والحاكم ومسلمة وابن حبّان وغيرهم ، ورواية جماعةٍ من الأئمّة عنه ، ورضاهم إيّاه ، فلا أثر لقول الدارقطني : « ليس بقوي ».

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٥ / ٤٤٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٣٨.

(٣) لسان الميزان ٣ / ٤٣١.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٤٧.

٣٣٠

عن « حسين بن حسن الأشقر » وهذا الرجل قد ترجمنا له في مباحث آية المودّة وغيرها ، وأثبتنا وثاقته وصدقه عن : أحمد بن حنبل ، والنسائي ، ويحيى بن معين ، وابن حبّان ، وإنّما ذنبه الوحيد عند الذهبي ومَن على مذهبه كونه من الشيعة ، وقد تقرّر أنّ التشيّع غير مضرٍّ بالوثاقة ، كما في مقدّمة فتح الباري في شرح البخاري وغيره.

عن « منصور بن أبي الأسود » قال الحافظ : « صدوق ، رمي بالتشيّع » واضعاً عليه علامة : أبي داود ، والترمذي ، والنسائي (١).

عن « الأعمش » سليمان بن مهران ، المتوفّى سنة ١٤٧ أو ١٤٨ ، قال الحافظ : « ثقة حافظ » وهو من رجال الصحاح الستّة (٢).

عن « المنهال بن عمرو » وهو من رجال البخاري والأربعة. قال الحافظ : « صدوق ، ربّما وهم » (٣).

عن « عبّاد بن عبدالله الأسدي » وهو من أعلام التابعين ، وقد روى القوم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « خير الناس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم » (٤) وعلى هذا الأساس قالوا بعدالة التابعين كالصحابة.

وقد أخرج النسائي عن عبّاد في خصائص علي عليه‌السلام من سننه ، وقد قالوا بأنّ للنسائي شرطاً في الصحيح أشدّ من شرط البخاري ومسلم (٥) ، إلاّ أنّ غير واحدٍ من القوم تكلّموا في الرجل لروايته عن عليٍّ عليه‌السلام

__________________

(١) تقريب التهذيب ٢ / ٢٧٥.

(٢) تقريب التهذيب ١ / ٣٣١.

(٣) تقريب التهذيب ٢ / ٢٧٨.

(٤) جامع الأصول ٨ / ٥٤٧ في فضائل الصحابة.

(٥) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٧٠٠.

٣٣١

بعض فضائله كقوله : « أنا الصدّيق الأكبر » (١).

فالحقّ : صحّة هذا الحديث كما قال الحاكم ، وقول الذهبي في تلخيصه بكذبه باطل.

وأمّا رواية عبدخير ، عنه عليه‌السلام ، فهي عن مسند أحمد ، وقد حكم الحافظ الهيثمي بأنّ رجالها ثقات ... وقد عرفتَ ـ من ترجمة رجالها ـ كونهم ثقات عند الكلّ ، فكان على القوم نقل هذه الرواية ـ قبل غيرها من الروايات ـ في ذيل الآية المباركة ، وتفسيرها بها ، لا بقول زيد وعمرو من المفسرين بآرائهم ، لكنّهم لم يفعلوا هذا ، لما في قلوبهم من المرض ، توصّلاً لِما أشرنا إليه من الغرض!!

نعم ، وجدنا ابن كثير يذكره بتفسير الآية ، فهو بعد أنْ ذكر الحديث عن ابن عبّاس برواية ابن جرير الطبري ، قال : « في هذا الحديث نكارة شديدة »!! رواه عن ابن أبي حاتم بسنده عن عبدخير عن عليٍّ ، وهو السند الوارد في مسند أحمد ، وأضاف ابن كثير : « قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عبّاس ـ في إحدى الروايات ـ وعن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ نحو ذلك ».

وقد كان على ابن كثير ـ الذي قال عن حديث الطبري ما قال بغير حقّ ـ أنْ يعترف بصحّة هذا الحديث ويجعله الأصل في تفسير الآية ، لكنّه لم يفعل هذا ، لما بين جنبيه من الروح الأُمويّة!!

ثمّ جاء بعض المتقولين في عصرنا فأورد كلام ابن كثير بعد رواية الطبري واعتمده ، موهماً اقتصار ابن كثير على تلك الرواية ، مع أنّه عقّبها برواية ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن عبدخير ، ولم يتكلّم عليها بشيء ، وسكوته دليلٌ على قبوله ، وإلاّ لتكلّم عليها كما صنع بالنسبة إلى رواية ابن جرير.

__________________

(١) لاحظ : هامش تهذيب الكمال ١٤ / ١٣٩.

٣٣٢

فهكذا يريد المتقوّلون أن يردّوا على كتب أصحابنا ويبطلوا أدلّتنا!!

وتلخّص : أنّ للحديث أسانيد صحيحة متعدّدة من طرق أهل السنّة ، وفيها ما اعترف الأئمّة بصحّته.

إذاً لا مجال لأيّة مناقشة فيه من هذه الناحية ، والحديث ـ مع وروده من طرق أصحابنا عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ـ مقطوع بصدوره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

تنبيهات

الأوّل : إنه قد ظهر ممّا حققناه صحّة هذا الحديث بطرق عديدة ، فقول ابن تيميّة : « إنّ هذا كذب موضوع باتّفاق أهل العلم بالحديث ، فيجب تكذيبه ورده » هو الكذب والباطل ، ولكنّ ابن تيميّة معروف ـ لدى أهل العلم بالحديث ـ بتعمده للكذب في أمثال هذا الموضع ، اللهمّ إلاّ أن يكون مقصوده من « أهل العلم بالحديث » نفسه وبعض من حوله!!

الثاني : لا يخفى أنّ حديثنا هذا غير مدرج أصلاً في ( كتاب الموضوعات ) لابن الجوزي ، ولا في غيره ممّا بأيدينا من الكتب المؤلّفة في الأحاديث الموضوعة ، كما أنّا لم نجده في كتابه ( العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ).

ومن هنا أيضاً يمكن القول ببطلان حكمه على الحديث بالوضع في ( تفسيره ) ، اللهمّ إلاّ أن يكون مقصوده خصوص حديث ابن عبّاس الذي ذكره ، فَيَرِدُ عليه ما تقدّم من أنّ الاقتصار على طريق غير معتبر ـ بزعمه ـ مع وجود طرق أُخرى له صحيحة ، غير جائز ، لا سيّما في تفسير الآيات القرآنيّة ، فكيف لو ذُكر الطريق غير المعتبر ثمّ رُمي أصل الحديث بالوضع؟!!

٣٣٣

الثالث : إنّ قول البعض ـ في ردّ رواية الثعلبي ـ بأنّ « الثعلبي حاطب ليل » جاء تقليداً لابن تيميّة ، فإنّه الذي رماه بذلك في كتاب منهاج السنة ، وقد قدّمنا سابقاً مصادر ترجمة الثعلبي والثناء عليه ، من أوثق كتب القوم.

وإنّ كلامه حول سند رواية الطبري يشتمل على تعصّب وجهلٍ كثير ، وفيما يلي توضيح ذلك :

١ ـ لقد اقتصر في « عطاء بن السائب » على كلام أبي حاتم ، ومع ذلك ففيه التصريح بكونه صدوقاً ، وكذلك نصّ غير واحدٍ من الأئمّة على صدقه وثقته ، حتّى قال أحمد : « ثقة ثقة ، رجل صالح » نعم ذكروا أنّه اختلط في آخر عمره ، ويكفي أنّه قد أخرج له البخاري والباقون سوى مسلم (١).

٢ ـ جاء في تفسير الطبري : « حدّثنا معاذ بن مسلم ، حدّثنا الهروي ، عن عطاء بن السائب » وهذا غلط من النسخة ، بل الصحيح هو : حدّثنا معاذ بن مسلم الهراء ، وهو يروي عن عطاء بلا واسطة ، كما لا يخفى على من راجع أسانيد الحديث في الفصل الأوّل.

٣ ـ ومعاذ بن مسلم ، قال الذهبي في ( الميزان ) : « معاذ بن مسلم ، عن شرحبيل بن السمط. مجهول. وله عن عطاء بن السائب خبر باطل سقناه في الحسن بن الحسين » (٢).

قلت :

قد ذكرناه في الفصل الثالث ، ولا يخفى أنّ كلام الذهبي في الموضعين ممّا يشهد بروايته عن عطاء بلا واسطة.

__________________

(١) لاحظ الكلمات في حقه في : تهذيب الكمال ٢٠ / ٨٦.

(٢) ميزان الاعتدال ٦ / ١٣٢.

٣٣٤

فالذهبي يقول في ( الميزان ) « مجهول » و « نكرة » لكنّه في ( سير أعلام النبلاء ) يترجم لمعاذ قائلاً : « معاذ بن مسلم شيخ النحو ، أبو مسلم الكوفي الهرّاء ، مولى محمّد بن كعب القرظي ، روى عن عطاء بن السائب وغيره ، وما هو بمعتمد في الحديث ، وقد نقلت عنه حروف في القراءات ، أخذ عنه الكسائي ، ويقال إنّه صنّف في العربية ، ولم يظهر ذلك ، وكان شيعيّاً ، معمّراً ... وكان معاذ صديقاً للكميت الشاعر ، يقال عاش تسعين عاماً ، وتوفّي سنة ١٨٧ ، وله شعر قليل. والهرّاء هو الذي يبيع الثياب الهروية ، ولولا هذه الكلمة السائرة لما عرفنا هذا الرجل ، وقلّ ما روى » (١).

قلت :

فالرجل ما هو بمجهول ، إلاّ أنّهم يحاولون ردّ فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذا من طرائقهم ، وإذ عرفه الذهبي قال هذه المرّة : « وما هو بمعتمد في الحديث » لغير سبب إلاّ أنّه « كان شيعيّاً ». نعم هو من رواة الشيعة وثقاتهم كما في كتبهم ، والتشيّع غير قادح كما تقرّر غير مرّة.

٤ ـ وكما ناقض الذهبي نفسه في « معاذ » فقد ناقض نفسه في « الحسن ابن الحسين العرني » ، فقد وثّقه في ( تلخيص المستدرك ) ، كما تقدّم في الفصل الثالث.

٥ ـ و « أحمد بن يحيى الصوفي » شيخ الطبري وابن عقدة ، لا ذكر له في ( الميزان ) وليس « الكوفي الأحول » بل جاء بنفس العنوان عند ابن أبي حاتم مع التوثيق الصريح (٢).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٨ / ٤٨٢.

(٢) الجرح والتعديل ١ / ٨١.

٣٣٥

فتلخّص : صحة حديث الطبري في تفسيره ، فتبصّر واغتنم هذا التحقيق ، وبالله التوفيق.

( فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) (١).

هذا تمام الكلام في الجهة الأُولى.

فلننقل إلى الجهة الثانية ...

٢ ـ مناقشاتهم في الدلالة

ولنا هنا مواقف مع ابن تيميّة ، وأبي حيّان ، وابن روزبهان ، والدهلوي ، والآلوسي.

* أمّا أبو حيّان فقال :

« وإنْ صحّ ما روي عن ابن عبّاس ممّا ذكرناه في صدر هذا الآية ، فإنّما جعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليّ بن أبي طالب مثالاً من علماء الأُمّة وهداتها ، فكأنّه قال : أنت يا عليّ هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر ... ».

قلت :

وهذا تأويل باردٌ جدّاً ، على أنّه لماذا جعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً مثالاً من علماء الأُمّة وهداتها ولم يجعل غيره؟! ولو أراد رسول الله ذلك لَما جعل أحداً مثالاً ، بل قال : أنا المنذر وعلماء أُمّتي هداة ، أو قال : أنا المنذر وأصحابي كلّهم هداة ، كما عارض البعض هذا الحديث بحديث : أصحابي

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ : ٧٨.

٣٣٦

كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، كما سيأتي.

وعلى الجملة : فقد كان أبو حيّان أجل من أن يقول هذا الكلام ، لكنّ كلّ السعي هو إنّكار الخصوصيّة الثابتة لأمير المؤمنين عليه‌السلام من هذا الحديث « ليدخل أبو بكر وعمر .. » كما قال!!

ولذا قال الآلوسي بعد نقله : « وظاهره : أنّه لم يَحمل تقديم المعمول في خبر ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما على الحصر الحقيقي ، وحينئذٍ لا مانع من القول بكثرة من يُهتدى به » ثمّ أضاف : « ويؤيّد عدم الحصر ما جاء عندنا من قوله صلّى الله عليه وسلّم : اقتدوا باللذين من بعدي ... ».

ولكن أنّى يمكن صرف الحديث عن ظاهره بارتكاب التأويل بلا أيّ دليلٍ؟!

وأما الحديث الذي ذكره فسيأتي الكلام عليه.

* وأمّا ابن روزبهان فقال :

« لو صحّ دلّ على أنّ عليّاً هادٍ ، وهو مسلَّم ، وكذا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هداة ، لقوله صلّى الله عليه وسلّم : أصحابي كالنجوم ... ».

قلت :

سيأتي الكلام على حديث النجوم ببعض التفصيل.

* وأما الدهلوي فقال :

« لا دلالة فيها على إمامة الأمير ونفي الإمامة عن غيره أصلاً قطعاً ، لأنّ كون الشخص هادياً لا يلازم إمامته ... ».

٣٣٧

قلت :

يتلخّص كلامه في نفي الدلالة على الإمامة بنفي الملازمة بينها وبين الهداية ، وسيتّضح الجواب عن ذلك.

* وأما الالوسي فقال :

« وليس في الآية دلالة على ما تضمّنه بوجهٍ من الوجوه ، على أنّ قصارى ما فيه كونه كرّم الله تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وذلك لا يستدعي إلاّ إثبات مرتبة الإرشاد ، وهو أمر ، والخلافة التي نقول بها أمر ، ولا تلازم بينهما عندنا ».

قلت :

هذا هو الوجه الذي قدّمه على غيره في الجواب ، ممّا يظهر منه اعتماده عليه ، وحاصله : نفي الملازمة ، وهو ما أجاب به الدهلوي.

ثمّ نقل عن بعضهم وجهاً آخر فقال : « وقال بعضهم : إنْ صحّ الخبر يلزم القول بصحّة خلافة الثلاثة ، حيث دلّ على أنّه كرّم الله تعالى وجهه على الحقّ في ما يأتي ويذر ، وأنّه الذي يُهتدى به ، وهو قد بايع أُولئك الخلفاء طوعاً ... ».

لكنّه لم يؤيّد هذا الوجه بوجه ، لعلمه بابتناء ذلك على دعوى أنّه بايع القوم طوعاً ، وأنّه مدحهم وأثنى عليهم خيراً ، ولم يطعن في خلافتهم ، وهذا كلّه أوّل الكلام ، وأصل النزاع والخصام ...

ثمّ أورد تأويل أبي حيّان ، وأيّده بحديث الإقتداء بالشيخين!

ثمّ أبطله بقوله : « وأنا أظنّك لا تلتفت إلى التأويل ، ولا تعبأ بما قيل ، وتكتفي بمنع صحّة الخبر ، وتقول : ليس في الآية ممّا يدلّ عليه عين ولا أثر ».

٣٣٨

قلت :

أمّا تأويل أبي حيّان ، فقد تكلّمنا عليه.

وأمّا تأييده بحديث الإقتداء ، فسيتّضح بطلانه ، بالبحث عن سند الحديث المذكور ، ببعض التفصيل.

وبعد :

فإنّ الحديث الشريف صحيح ثابت بأسانيد عديدة .. فلا مجال للمناقشة في سنده ، وأمّا المناقشات المذكورة فتتلخّص في نقاط :

١ ـ التأويل ، وهذا باطل ، « وأنا أظنّك لا تلتفت إلى التأويل ، ولا تعبأ بما قيل » كما قال الآلوسي.

٢ ـ الإعتراف بظاهر الحديث ووجوب الأخذ به ، وأنّه ينبغي الاقتداء بمولانا أمير المؤمنين والجري على سننه ، وذلك يستلزم القول بصحّة خلافة الثلاثة ، لأنّه بايعهم طوعاً.

ولكن كونه بايع طوعاً أوّل الكلام كما هو معلوم ، ولو كان ذلك ثابتاً لم يبق أيّ خلاف ونزاع ، ولَما ارتكب القوم أنواع التمحّلات والتأويلات وغير ذلك ، لصرف الحديث عن ظاهره.

٣ ـ إنّه لا ملازمة بين « الهداية » و « الإمامة » ، فتلك أمر وهذه أمر آخر ، وهذا ما سيتبيّن الجواب عنه لدى التحقيق في كلام ابن تيميّة.

٤ ـ المعارضة بحديث : « أصحابي كالنجوم ... » وحديث : « اقتدوا باللذين مِن بعدي ... » وفي الفصل الرابع الجواب عن ذلك.

٣٣٩

* وأمّا ابن تيمية :

فهو أكثر القوم إطناباً في الكلام في هذا المقام ، فقد ذكر وجوهاً ...

والجواب عن الوجهين الأوّل والثاني منهما : إن هذا الحديث صحيح كما عرفت ، وأنّ رواته من كبار أئمّة الحديث كثيرون ، وفيهم من ينصُّ على صحّته ، فما ذكره هو الكذب.

وعن الثالث والرابع : إنّه سوء فهم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الهادي لعليّ عليه‌السلام وللأُمّة كلّها ، لكنّ عليّاً عليه‌السلام هو الهادي للأمّة من بعده ، وهذا صريح قول النبيّ : « بك يهتدي المهتدون من بعدي ».

وعن الثامن : إنّ الآية الكريمة تدلّ على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالنظر إلى الحديث الوارد في تفسيرها ، فإذا فَسر الحديث الصحيح الآيةَ ، كانت الآية من جملة الأدلّة من الكتاب على الإمامة.

وعن السابع : بما سيجيء من أنّ حديث النجوم باطل حتّى عند ابن تيميّة ، فقد ناقض نفسه باستدلاله به هنا!

وأمّا نفي الملازمة بين « الهداية » و « الإمامة » في هذا الوجه ـ السابع ـ وفي كلام الدهلوي وغيره ، فلا يجدي ، لما سنذكره في معنى الحديث والمراد من كون أمير المؤمنين عليه‌السلام هادياً ..

وذلك هو الجواب عن سؤاله ـ في الوجه السادس ـ : « كيف يُجعل عليٌّ هادياً لكلّ قومٍ من الأوّلين والآخرين؟! ».

وعن تكذيبه ـ في الوجه الخامس ـ « أنّ كلّ من اهتدى من أُمّة محمّد فبه اهتدى » ..

٣٤٠