نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وليته لم يذكر الأقاويل الأُخرى ، فإنّها كلّها هواجس نفسانيّة وإلقاءات شيطانيّة ، لا يجوز إيرادها بتفسير الآيات القرآنية.

لكن يظهر منه الإعتماد على هذه الأقوال!! حين ينفي بها الإجماع على أنّ المراد من ( أَنْفُسَنا ) هو علي عليه‌السلام ، ليبطل استدلال الشيخ الحمصي بالآية على أفضلية الإمام على سائر الأنبياء ، كما سيأتي.

* وقال القاضي الإيجي وشارحه الجرجاني :

ولهم ـ أي للشيعة ومن وافقهم ـ فيه أي ـ في بيان أفضليّة علي ـ مسلكان :

الأوّل : ما يدلّ عليه ـ أي على كونه أفضل ـ إجمالاً ، وهو وجوه : الأوّل : آية المباهلة ، وهي قوله تعالى : ( تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) لم يرد به نفس النبي ، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به عليٌّ ، دلت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل إنه عليه‌السلام دعا عليّاً إلى ذلك المقام ، وليس نفس عليّ نفس محمّد حقيقة ، فالمراد المساواة في الفضل والكمال ، فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجةً في الباقي ، فيساوي النبيّ في كلّ فضيلةٍ سوى النبوّة ، فيكون أفضل من الأُمّة.

وقد يمنع : أنّ المراد بـ ( أَنْفُسَنا ) عليٌّ وحده ، بل جميع قراباته وخدمه النازلون عرفاً منزلة نفسه عليه‌السلام داخلون فيه ، تدل عليه صيغة الجمع » (١).

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٧.

٢٨١

أقول :

لا يخفى اعترافهما بدلالة الآية على الأفضليّة ، وبكون عليّ في المباهلة ، « دلّت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل » وبدلالة ( أَنْفُسَنا ) على « المساواة ».

غير أنّهما زعما دخول غيره معه في ذلك ، لكنّها قالا « وقد يمنع » وكأنّهما ملتفتان إلى بطلان ما زعماه ، خصوصاً كون المراد « خدمه » بالإضافة إلى « جميع قراباته » ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُخرج معه حتّى عمّه ، فكيف يكون المراد « جميع قراباته وخدمه »؟!!

* وقال ابن روزبهان :

« كان عادة أرباب المباهلة أنْ يجمعوا أهل بيتهم وقراباتهم لتشمل البهلة سائر أصحابهم ، فجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوّلاًده ونساءه ، والمراد بالأنفس هاهنا : الرجال ، كأنه أمر بأن يجمع نساءه وأوّلاًده ورجال أهل بيته ، فكان النساء فاطمة ، والأولاد الحسن والحسين ، والرجال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليّ.

وأمّا دعوى المساواة التي ذكرها فهي باطلة قطعاً ، وبطلانهّا من ضروريات الدين ، لأنّ غير النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأُمّة لا يساوي النبيّ أصلاً ، ومن ادّعى هذا فهو خارج عن الدّين ، وكيف يمكن المساواة والنبيّ نبيُّ مرسل خاتم الأنبياء أفضل أُولي العزم ، وهذه الصفات كلّها مفقودة في عليّ نعم ، لأمير المؤمنين علي في هذه الآية فضيلة عظيمة وهي مسلّمة ، ولكنْ لا تصير دالّةً على النصّ بإمامته » (١).

__________________

(١) إبطال الباطل ـ مخطوط. راجع : إحقاق الحق ٣ / ٦٢.

٢٨٢

أقول :

وفي كلامه مطالب ثلاثة :

الأوّل : إنّ ما صنعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما كان جرياً على عادة أرباب المباهلة ...

وهذا كلام النواصب في الجواب عن هذه الآية ، كما نصّ عليه صاحب « التحفة الاثنا عشرية » ، ويرد عليه ما تقدّم من أنّه لو كان كذلك فلماذا لم يخرج العبّاس وبنيه وأمثالهم من الأقرباء؟ لكنّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل على أنّ للمقام خصوصيةً ولمن دعاهم مراتب عند الله تعالى ، وليس جرياً على عادة العرب في مباهلة البعض مع البعض.

والثاني : إنّ غير النبيّ من الأُمّة لا يساوي النبيّ أصلاً.

وقد تقدّم الجواب عنه عند الكلام مع ابن تيميّة.

والثالث : إنّ لأمير المؤمنين في هذه الآية فضيلة عظيمة ، وهي مسلّمة.

قلت : هي للأربعة كلّهم لكنّ عليّاً أفضلهم ، فهو الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قوله : لكن لا تصير دالة على النصّ بإمامته.

قلت : إنّ الآية تدلّ على المساواة بينه وبين النبيّ في الكمالات الذاتيّة ، ولا أقلّ من كونها دالّةً على فضيلة عظيمة ـ باعترافه ـ غير حاصلة لخصومه ، فهو الأفضل ، فهو الإمام دون غيره بعد رسول الله.

وتدلّ على المساواة بينهما في العصمة وتدلّ على كونه مثله في الأولويّة بالتصرّف.

فهو الإمام بعده وليس غيره.

٢٨٣

* وقال عبدالعزيز الدهلوي ما تعريبه :

« ومنها آية المباهلة ، وطريق تمسّك الشيعة بهذه الآية هو : أنّه لمّا نزلت ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ .. ) إلى آخرها ، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بيته ومعه عليٌّ وفاطمة وحسن وحسين ، فالمراد من ( أَبْناءَنا ) الحسن والحسين ، ومن ( أَنْفُسَنا ) الأمير ، وإذا صار نفس الرسول ـ وظاهرٌ أنّ المعنى الحقيقي لكونه نفسه محال ـ فالمراد هو المساوي ، ومن كان مساويا لنبيّ عصره كان بالضرورة أفضل وأولى بالتصرّف من غيره ، لأن المساوي للأفضل الأولى بالتصرّف أفضل وأولى بالتصرّف ، فيكون إماماً ، إذ لا معنى للإمام إلاّ الأفضل الأولى بالتصرّف.

هذا بيان وجه الإستدلال ، ولا يخفى أنّه بهذا التقريب غير موجود في كلام أكثر علماء الشيعة ، فلهذه الرسالة الحق عليهم من جهة تقريرها وتهذيبها لأكثر أدلّتهم ، ومَن شكّ في ذلك فلينظر إلى كتبهم ليجد كلماتهم متشتّتة مضطربة قاصرة عن إفادة مقصدهم.

وهذه الآية في الأصل من جملة دلائل أهل السنّة في مقابلة النواصب ، وذلك لأنّ أخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمير وأُولئك الأجلّة معه ، وتخصيصهم بذلك دون غيرهم يحتاج إلى مرجّح ، وهو لا يخلو عن أمرين :

فإمّا لكونهم أعزّةً عليه ، وحينئذٍ يكون إخراجهم للمباهلة ـ وفيها بحسب الظاهر خطر ـ المهلكة ، موجباً لقوّة وثوق المخالفين بصدق نبوّته وصحّة ما يخبر به عن عيسى وخلقته ، إذ العاقل ما لم يكن جازماً بصدق دعواه لا يعرض أعزّته إلى الهلاك والإستئصال.

وهذا الوجه مختار أكثر أهل السنّة والشيعة ، وهو الذي ارتضاه عبدالله

٢٨٤

المشهدي في إظهار الحقّ ، فدلّت الآية على كون هؤلاء الأشخاص أعزّةً على رسول الله ، وأنبياء الله مبرّأون عن الحبّ والبغض النفسانيّين ، فليس ذلك إلاّلدينهم وتقواهم وصلاحهم ، فبطل مذهب النواصب القائلين بخلاف ذلك.

وإمّا لكي يشاركوه في الدعاء على كفّار نجران ، ويعينوه بالتأمين على دعائه عليهم فيستجاب بسرعة ، كما يقول أكثر الشيعة وذكره عبدالله المشهدي أيضاً ، فتدلّ الآية ـ بناءً عليه كذلك ـ على علوّ مرتبتهم في الدّين وثبوت استجابة دعائهم عند الله.

وفي هذا أيضاً ردّ على النواصب.

وقد قدح النواصب في كلا الوجهين وقالوا بأنّ إخراجهم لم يكن لشيءٍ منهما ، إنّما كان لإلزام الخصم بما هو مسلّم الثبوت عنده ، إذ كان مسلما عند المخالفين ـ وهم الكفّار ـ أنّ البهلة لا تعتبر إلاّبحضور الأولاد والختن ، والحَلف على هلاكهم ، فلذا أخرج النبيّ أولاده وصهره معه ليلزمهم بذلك.

وظاهرٌ أنّ الأقارب والأولاد ـ كيفما كانوا ـ يكونون أعزّةً على الإنسان في اعتقاد الناس وإنْ لم يكونوا كذلك عند الإنسان نفسه ، يدلّ على ذلك أنّه لو كان هذا النوع من المباهلة حقّاً عنده صلّى الله عليه وسلّم لكان سائغاً في الشريعة ، والحال أنّه ممنوع فيها ، فظهر أنّ ما صنعه إنّما كان إسكاتاً للخصم.

وعلى هذا القياس يسقط الوجه الثاني أيضاً ، فإنّ هلاك وفد نجران لم يكن من أهمّ المهمّات ، فقد مرّت عليه حوادث كانت أشدّ وأشقّ عليه من هذه القضيّة ، ولم يستعنْ في شيء منها في الدعاء بهؤلاء ، على أنّ من المتّفق عليه استجابة دعاء النبيّ في مقابلته مع الكفّار ، وإلاّ يلزم تكذيبه ونقض الغرض من بعثته.

فهذا كلام النواصب ، وقد أبطله ـ بفضل الله تعالى ـ أهل السنّة بما لا مزيد

٢٨٥

عليه كما هو مقرّر في محلّه ، ولا نتعرّض له خوفاً من الإطالة.

وعلى الجملة ، فإنّ آية المباهلة هي في الأصل ردّ على النواصب ، لكنّ الشيعة يتمسّكون بها في مقابلة أهل السنّة ، وفي تمسّكهم بها وجوه من الإشكال :

أمّا أوّلاً : فلأنّا لا نسلّم أنّ المراد بـ ( أَنْفُسَنا ) هو الأمير ، بل المراد نفسه الشريفة ، وقول علمائهم في إبطال هذا الاحتمال بأنّ الشخص لا يدعو نفسه غير مسموع ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث « دعته نفسه إلى كذا » و « دعوت نفسي إلى كذا » ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) (١) و « أمرت نفسي » و « شاورت نفسي » إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء. فيكون حاصل ( نَدْعُ أَنْفُسَنا ) : نحضر أنفسنا.

وأيضاً : فلو قررنا الأمير من قبل النبي مصداقاً لقوله ( أَنْفُسَنا ) فمن نقرره من قبل الكفّار مع أنّهم مشتركون في صيغة ( نَدْعُ ) ، إذ لا معنى لدعوة النبيّ إياهم وأبناءهم بعد قوله : ( تَعالَوْا ).

فظهر أن الأمير داخل في ( أَبْناءَنا ) ـ كما أنّ الحسنين غير داخلين في الأبناء حقيقةً وكان دخولهما حُكماً ـ لأنّ العرف يعدّ الختن ابناً ، من غير ريبةٍ في ذلك.

وأيضاً : فقد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملّة ومن ذلك قوله تعالى : ( وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ) أي : أهل دينهم .. ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) .. ( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) ، فلمّا كان للأمير اتّصال بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النسب والقرابة والمصاهرة واتّحاد في الدين والملّة ، وقد كثرت معاشرته والأُلْفة معه حتّى قال : « عليٌّ منّي وأنا من عليّ « كان التعبير عنه بالنفس غير بعيد ، فلا تلزم

٢٨٦

المساواة كما لا تلزم في الآيات المذكورة.

وأما ثانياً : فلو كان المراد مساواته في جميع الصفات ، يلزم الاشتراك في النبوّة والخاتميّة والبعثة إلى كافّة الخلق ، والاختصاص بزيادة النكاح فوق الأربع ، والدرجة الرفيعة في القيامة ، والشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، ونزول الوحي ، وغير ذلك من الأحكام المختصّة بالنبيّ ، وهو باطل بالإجماع.

ولو كان المراد المساواة في البعض ، لم يحصل الغرض ، لأنّ المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرّف لا تجعل صاحبها أفضل وأولى بالتصرّف ، وهو ظاهر جداً.

وأيضاً : فإنّ الآية لو دلّت على إمامة الأمير لزم كونه إماماً في زمن النبيّ وهو باطل بالإتّفاق ، فإنْ قيّد بوقتٍ دون وقت ـ مع أنّه لا دليل عليه في اللفظ ـ لم يكن مفيداً للمدّعى ، لأنّ أهل السنّة أيضاً يثبتون إمامته في وقت من الأوقات » (١).

أقول :

وفي كلامه مطالب :

١ ـ دعوى أن التقريب الذي ذكره للاستدلال بالآية ، غير وارد في أكثر كتب الشيعة ، قال : « وكذلك الأدلّة الأُخرى غالباً ، ... ».

وأنت ترى كذب هذه الدعوى بمراجعتك لوجه الاستدلال في بحثنا هذا ، إذْ تجد العبارة مذكورة في كتب أصحابنا ، إمّا باللفظ وإمّا بما يؤدّي معناه ، فلا نطيل.

__________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ٢٠٦ ـ ٢٠٧. وقد ذكرنا كلامه بطوله لئلاّ يظنّ ظانٌّ أنّا أسقطنا منه شيئاً ممّا له دخل في البحث مع الشيعة حول الآية المباركة.

٢٨٧

٢ ـ نسبة المناقشة في دلالة الآية المباركة بما ذكره إلى النواصب ، وأنّ أهل السنّة يدافعون عن أهل البيت في قبال أولئك ...

وقد وجدنا ما عزاه إلى النواصب في كلام ابن تيميّة وابن روزبهان ، في ردّهما على العلاّمة الحلّي ، فالحمد لله الذي كشف عن حقيقة حالهم بما أجراه على لسانهم ...

٣ ـ عدم التسليم بأنّ المراد من ( أَنْفُسَنا ) هو « علي » بل المعنى : « نحضر أنفسنا » ، واستشهد ـ في الردّ على قول الإماميّة بأنّ الشخص لا يدعو نفسه ـ بعبارات شائعة في كلام العرب في القديم والحديث كما قال.

ونحن لا نناقشه في المعاني المجازيّة لتلك العبارات ، ونكتفي بالقول ـ مضافاً إلى اعتراف غير واحد من أئمّة القوم بأنّ الإنسان الداعي إنّما يدعو غيره لا نفسه (١) ـ بأنّ الأحاديث القطعيّة عند الفريقين دلّت على أنّ المراد من ( أَنْفُسَنا ) هو عليٌّ عليه‌السلام ، فما ذكره يرجع في الحقيقة إلى عدم التسليم بتلك الأحاديث وتكذيب رواتها ومخرّجيها ، وهذا ما لا يمكنه الإلتزام به.

٤ ـ إدخال عليّ عليه‌السلام في ( أَبْناءَنا ) ..!!

وفيه : أنّه مخالف للنصوص.

ولا يخفى أنّه محاولة لإخراج الآية عن الدلالة على كون عليّ نفس النبيّ ، لعلمه بالدلالة حينئذٍ على المساواة ، وإلاّ فإدخاله في ( أَبْناءَنا ) أيضاً اعترافٌ بأفضليّته!!

واستشهاده بالآيات مردود بما عرفت في الكلام مع ابن تيميّة.

على أنّه اعترف بحديث « عليٌّ منّي وأنا من عليّ » وهو ممّا لا يعترف به ابن تيمية وسائر النواصب.

__________________

(١) لاحظ : شيخ زادة على البيضاوي ١ / ٦٣٤.

٢٨٨

٥ ـ ردّه على المساواة بأنّه : إنْ كان المراد المساواة في جميع الصفات ، يلزم المساواة بين عليّ والنبيّ في النبوّة والرسالة والخاتمية والبعثة إلى الخلق كافّة ونزول الوحي ... وإنْ كان المراد المساواة في بعض الصفات فلا يفيد المدّعى ...

قلنا : المراد هو الأوّل ، إلاّ النبوّة ، والأُمور التي ذكرها من الخاتميّة والبعثة ... كلّها من شؤون النبوّة ...

فالآية دالّة على حصول جميع الكمالات الموجودة في النبيّ في شخص عليّ ، عدا النبوّة ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعليّ : « يا علي! ما سألت الله شيئاً إلاّسألت لك مثله ، ولا سألت الله شيئاً إلاّ أعطانيه ، غير إنّه قيل لي : أنّه لا نبي بعدك » (١).

٦ ـ وبذلك يظهر أنّه عليه‌السلام كان واجداً لحقيقة الإمامة ـ وهو وجوب الطاعة المطلقة ، والأولويّة التامّة بالنسبة للأُمّة ـ في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أنّه كان تابعاً للنبيّ مطيعاً له ، إطاعة وانقياداً لم يحدّثنا التاريخ به عن غيره على الإطلاق.

فسقط قوله أخيراً : « فإنّ الآية لو دلّت على إمامة الأمير ... ».

* والالوسي :

انتحل كلام الدهلوي ، بلا زيادة أو نقصان ، كغيره من موارد المسائل الاعتقادية المهمّة التي طرحها في تفسيره ، وجوابه جوابه ، فلا نكرّر.

__________________

(١) أخرجه جماعة ، منهم النسائي في الخصائص : ح ١٤٦ وح ١٤٧.

٢٨٩

* وقال الشيخ محمّد عبده :

« إنّ الروايات متّفقة على أنّ النبيّ صلى عليه وسلّم اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديها ، ويحملون كلمة ( نِساءَنا ) على فاطمة ، وكلمة ( أَنْفُسَنا ) على علي فقط.

ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا ، حتّى راجت على كثيرٍ من أهل السنّة ، ولكنّ واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية ، فإنّ كلمة ( نِساءَنا ) لا يقولها العربي ويريد بها بنته ، لا سيّما إذا كان له أزواج ، ولا يفهم هذا من لغتهم ، وأبعد من ذلك أنْ يراد بـ ( أَنْفُسَنا ) عليّ ـ عليه الرضوان ـ.

ثمّ إنّ وفد نجران الّذين قالوا إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم » (١).

أقول :

وفي هذا الكلام إقرارٌ ، وادّعاءٌ ، ومناقشة عن عناد.

أمّا الإقرار ، فقوله : « إنّ الروايات متّفقة ... » فالحمد لله على أن بلغت الروايات في القضيّة من الكثرة والقوّة حداً لا يجد مثل هذا الرجل بُدّاً من أن يعترف بالواقع والحقيقة.

لكنّه لمّا رأى أن هذا الإقرار يستلزم الإلتزام بنتيجة الآية المباركة والروايات الواردة فيها ، وهذا ما لا تطيقه نفسه!! عاد فزعم أمراً لا يرتضيه عاقل فضلاً عن فاضل!

__________________

(١) تفسير المنار ٣ / ٣٢٢.

٢٩٠

أمّا الادعاء ، فقال : « مصادر هذه الروايات الشيعة ... وقد اجتهدوا في ترويجها ... ».

لكنّه يعلم ـ كغيره ـ بكذب هذه الدعوى ، فمصادر هذه الروايات القطعيّة ـ وقد عرفت بعضها ـ ليست شيعيّة. ولمّا كانت دلالتها واضحة « والمقصد منها معروف » ، عمد إلى المناقشة بحسب اللغة ، وزعم أنّ العربي لا يتكلّم هكذا.

وما قاله محض استبعاد ولا وجه له إلاّ العناد! لأنّا لا نحتمل أن يكون هذا الرجل جاهلاً بأن لفظ « النساء » يطلق على غير الأزواج كما في القرآن الكريم وغيره ، أو يكون جاهلاً بأنّ أحداً لم يدّع استعمال اللفظ المذكور في خصوص « فاطمة » وأنّ أحداً لم يدّع استعمال ( أَنْفُسَنا ) في « عليٍّ » عليه‌السلام.

إنّ هذا الرجل يعلم بأنّ الروايات الصحيحة واردة من طرق القوم أنفسهم ، والاستدلال قائم على أساسها ، إذ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عليّاً فقط المصداق لـ ( أَنْفُسَنا ) وجَعَلَ فاطمة فقط المصداق لـ ( نِساءَنا ) وقد كان له أقرباء كثيرون وأصحاب لا يحصون ... كما كان له أزواج عدّة ، والنساء في عشيرته وقومه كثرة.

فلا بُدّ وأنْ يكون ما فعله هو من جهة أفضليّة عليٍّ عليه‌السلام على غيره من أفراد الأُمة ، وهذا هو المقصود.

تكميل

وأمّا تفضيله ـ بالآية ـ على سائر الأنبياء عليهم‌السلام ـ كما عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي ـ فهذا هو الذي انتقده الفخر الرازي ، وتبعه النيسابوري ، وأبو حيّان الأندلسي :

٢٩١

* قال الرازي ـ بعد أن ذكر موجز القصة ، ودلالة الآية على أن الحسنين ابنا رسول الله ـ :

« كان في الريّ رجل يقال له : محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلّم الإثني عشرية (١) وكان يزعم أنّ عليّاً رضي‌الله‌عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد عليه‌السلام ، قال : والذي يدلّ عليه قوله تعالى : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) وليس المراد بقوله ( أَنْفُسَنا ) نفس محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد ، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الإستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوّة وفي حقّ الفضل ، لقيام الدلائل على أنّ محمّداً عليه‌السلام كان نبيّاً وما كان عليّ كذلك ، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّداً عليه‌السلام كان أفضل من عليّ ، فيبقى فيما وراءه معمولاً به. ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّداً عليه‌السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء.

فهذا وجه الإستدلال بظاهر هذه الآية.

ثمّ قال : ويؤيّد الاستدلال بهذه الآية : الحديث المقبول عند الموافق والمخالف ، وهو قوله عليه‌السلام : من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلّته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى

__________________

(١) وهو صاحب كتاب « المنقذ من التقليد » ، وفي بعض المصادر أنّ الفخر الرازي قرأعليه ، توفّي في أوائل القرن السابع ، كما في ترجمته بمقدّمة كتابه المذكور ، طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم.

٢٩٢

علي بن أبي طالب.

فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرّقاً فيهم ، وذلك يدلّ على أنّ عليّاً رضي‌الله‌عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

وأمّا سائر الشيعة ، فقد كانوا ـ قديماً وحديثاً ـ يستدلّون بهذه الآية على أنّ عليّاً رضي‌الله‌عنه مثل نفس محمّد عليه‌السلام إلاّما خصّه الدليل ، وكان نفس محمّد أفضل من الصحابة ، فوجب أن يكون نفس عليّ أفضل من سائر الصحابة.

هذا تقرير كلام الشيعة.

والجواب : إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً عليه‌السلام أفضل من عليّ ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ ، وأجمعوا على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً ، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حق محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم‌السلام ». إنتهى (١).

* وكذا قال النيسابوري ، وهو ملخّص كلام الرازي ، على عادته ، وقد تقدّم نصّ ما قال.

* وقال أبو حيّان ، بعد أن ذكر كلام الزمخشري في الآية المباركة : « ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به محمّد (٢) بن علي الحمصي .. » فذكر الإستدلال ، ثمّ قال : « وأجاب الرازي : بأنّ الإجماع منعقد على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أفضل ممّن ليس بنبيّ ، وعليٍّ لم يكن نبيّاً ، فلزم القطع بأنّه مخصوص في حقّ جميع الأنبياء ».

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ / ٨١.

(٢) كذا ، والصحيح : محمود.

٢٩٣

قال : « وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه :

منها قوله : ( إنّ الإنسان لا يدعو نفسه ) بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني. وهذا يسمّيه أبو علي بالتجريد.

ومنها قوله : ( وأجمعوا على أنّ الذي هو غيره هو عليّ ) ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سبقت في المعني بقوله : ( أَنْفُسَنا ).

ومنها قوله : ( فيكون نفسه مثل نفسه ) ولا يلزم المماثلة أنّ تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيءٍ ما ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلّمون من أنّ المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغةً ، فعلى هذا تكفي المماثلة في صفةٍ واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا.

وأمّا الحديث الذي استدلّ به فموضوع لا أصل له » (١).

أقول :

ويبدو أنّ الرازي هنا وكذا النيسابوري أكثر إنصافاً للحقّ من أبي حيّان ، لأنّهما لم يناقشا أصلاً في دلالة الآية المباركة والحديث القطعي على أفضليّة عليّ عليه‌السلام على سائر الصحابة.

أمّا في الإستدلال بها على أفضليّته على سائر الأنبياء ، فلم يناقشا بشيء من مقدماته ، إلاّ أنّهما أجابا بدعوى الإجماع من جميع المسلمين ـ قبل ظهور الشيخ الحمصي ـ على أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم.

وحينئذٍ ، يكفي في ردّهما نفي هذا الإجماع ، فإنّ الإماميّة ـ قبل الشيخ

__________________

(١) البحر المحيط ٢ / ٤٨٠.

٢٩٤

الحمصي وبعده ـ قائلون بأفضليّة عليّ والأئمّة من ولده ، على جميع الأنبياء عدا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستدلّون لذلك بوجوهٍ من الكتاب والسنّة ، أمّا من الكتاب فالآية المباركة ، وأمّا من السنّة فالحديث الذي ذكره الحمصي ...

وقد عرفت أنّ الرازي والنيسابوري لم يناقشا فيهما.

ومن متقدّمي الإماميّة القائلين بأفضليّة أمير المؤمنين على سائر الأنبياء هو : الشيخ المفيد ، المتوفّى سنة ٤١٣ ، وله في ذلك رسالة ، استدلّ فيها بآية المباهلة ، واستهلّ كلامه بقوله : « فاستدلّ به من حكم لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بأنّه أفضل من سالف الأنبياء عليهم‌السلام وكافّة الناس سوى نبيّ الهدى محمّد عليه وآله السلام بأنْ قال ... » وهو صريحٌ في أنّ هذا قول المتقدّمين عليه (١).

فظهر سقوط جواب الرازي ومن تبعه.

لكنّ أبا حيّان نسب إلى الرازي القول بفساد استدلال الحمصي من وجوه ـ ولعلّه نقل هذا من بعض مصنّفات الرازي غير التفسير ـ فذكر ثلاثة وجوه :

أمّا الأوّل : فبطلانهّ ظاهر من غضون بحثنا ، على أنّ الرازي قرّره ولم يشكل عليه ، فإنْ كان ما ذكره أبو حيّان من الرازي حقّاً فقد ناقض نفسه.

وأمّا الثاني : فكذلك ، لأنّها أقوال لا يُعبأ بها ، إذ الموجود في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، وخصائص النسائي ، ومسند أحمد ، ومستدرك الحاكم ... وغيرها ... أنّ الذي هو غيره هو عليٌّ لا سواه ... وهذا هو القول المتّفق عليه بين العامّة والخاصّة ، وهم قد ادّعوا الإجماع ـ من السلف والخلف

__________________

(١) تفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام على سائر الصحابة. رسالة مطبوعة في المجلّد السابع من موسوعة مصنفات الشيخ المفيد.

٢٩٥

ـ على أنّ صحيحي البخاري ومسلم أصح الكتب بعد القرآن ، ومنهم مَن ذهب إلى أنّ صحيح مسلم هو الأصحّ منهما.

وأمّا الثالث : فيكفي في الردّ عليه ما ذكره الرازي في تقرير كلام الشيعة في الاستدلال بالآية المباركة ، حيث قال : « وذلك يقتضي الإستواء من جميع الوجوه ... » فإن كان ما ذكره أبو حيّان من الرازي حقّاً فقد ناقض نفسه.

على أنّه إذا كان « تكفي المماثلة في صفةٍ واحدة ، وهي كونه من بني هاشم » فلماذا التخصيص بعليّ منهم دون غيره؟!

بقي حُكمه بوضع الحديث الذي استدلّ به الحمصي ، وهذا حكم لا يصدر إلاّمن جاهل بالأحاديث والآثار ، أو من معاند متعصّب ، لأنّه حديث متّفق عليه بين المسلمين ، ومن رواته من أهل السنّة : عبدالرزاق بن همّام ، وأحمد بن حنبل ، وأبو حاتم الرازي ، والحاكم النيسابوري ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، والمحبّ الطبري ، وابن الصبّاغ المالكي ، وابن المغازلي الشافعي ... (١).

هذا تمام الكلام على آية المباهلة. وبالله التوفيق.

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

__________________

(١) وقد بحثنا عن أسانيده وأوضحنا وجوه دلالاته في الجزء التاسع عشر من أجزاء كتابنا.

٢٩٦

قوله تعالى

« إنّما أنت منذر ولكلّ قومٍ هاد »

٢٩٧
٢٩٨

هذه الآية أيضاً استدل بها أصحابنا على إمامة أمير المؤمنين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

وتوضيح ذلك في فصول :

٢٩٩

الفصل الأوّل

نصوص الحديث ورواته في كتب السُنّة

لقد أخرج جماعة كبيرة من كبار الأئمّة والحفّاظ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية المباركة : أنا المنذر وعليٌّ الهادي ، بالأسانيد المتكثّرة ، في أشهر الكتب المعتبرة ، عن طريق عدّة من الصحابة.

رواته من الصحابة

وقد كان من رواته من الصحابة ، الّذين وصلنا الحديث عنهم :

١ ـ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢ ـ عبدالله بن العبّاس.

٣ ـ عبدالله بن مسعود.

٤ ـ جابر بن عبدالله الأنصاري.

٥ ـ بريدة الأسلمي.

٦ ـ أبو برزة الأسلمي.

٧ ـ يعلى بن مرة.

٨ ـ أبو هريرة.

٩ ـ سعد بن معاذ.

٣٠٠