نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

أحدهما : إنّ موضوع المباهلة ليتميّز المحقّ من المبطل ، وذلك لا يصحّ أنْ يُفعل إلاّبمن هو مأمون الباطن ، مقطوعاً على صحّة عقيدته ، أفضل الناس عند الله.

والثاني : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله مثل نفسه بقوله : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ... ) (١).

* وقال الإربلي : « ففي هذه القضيّة بيان لفضل عليّ عليه‌السلام ، وظهور معجز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ النصارى علموا أنّهم متى باهلوه حلّ بهم العذاب ، فقبلوا الصلح ودخلوا تحت الهدنة ، وإنّ الله تعالى أبان أنّ عليّاً هو نفس رسول الله كاشفاً بذلك عن بلوغه نهاية الفضل ، ومساواته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكمال والعصمة من الآثام ، وإنّ الله جعله وزوجته وولديه ـ مع تقارب سنّهما ـ حجّةً لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبرهاناً على دينه ، ونصّ على الحكم بأنّ الحسن والحسين أبناؤه ، وأنّ فاطمة عليها‌السلام نساؤه المتوجّه إليهنّ الذِكر والخطاب في الدّعاء إلى المباهلة والاحتجاج ، وهذا فضل لم يشاركهم فيه أحد من الأمّة ولا قاربهم » (٢).

* وقال العلاّمة الحلّي : « أجمع المفسّرون على أن ( أَبْناءَنا ) إشارة إلى الحسن والحسين ، و ( أَنْفُسَنا ) إشارة إلى عليّ عليه‌السلام ، فجعله الله نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد المساواة ، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف أكمل وأولى بالتصرّف ، وهذه الآية أدلّ دليلٍ على علوّ رتبة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنّه تعالى حكم بالمساواة لنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه تعالى عينه في استعانة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ٢ / ٤٨٥.

(٢) كشف الغمة في معرفة الأئمّة ١ / ٢٣٣.

٢٦١

في الدعاء ، وأي فضيلةٍ أعظم من أن يأمر الله نبيّه بأنْ يستعين به على الدعاء إليه والتوسّل به؟! ولمن حصلت هذه المرتبة؟! » (١).

أقول :

وعلى هذا الغرار كلمات غيرهم من علمائنا الكبار في مختلف الأعصار ... فإنّهم اسدلّوا على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بطائفتين من الأدلّة ، الأُولى هي النصوص ، والثانية هي الدالّة على الأفضليّة ، والأفضليّة مستلزمة للإمامة ، وهو المطلوب.

وخلاصة الاستدلال بالآية هو :

١ ـ إنّ الآية المباركة نصٌّ في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنّها تدلّ على المساواة بين النبيّ وبينه عليه‌السلام ، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف ، أكمل وأولى بالتصرّف.

٢ ـ إنّ قضية المباهلة وما كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قولاً وفعلاً ـ تدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وذلك لوجوه منها :

أوّلاً : إنّ هذه القضيّة تدلّ على أن عليّاً وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام ، أحبّ الناس إلى رسول الله ، والأحبيّة تستلزم الأفضليّة.

قال البيضاوي : « أي يدع كلّ منّا ومنكم نفسه وأعزّة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ... » (٢).

فقال الشهاب الخفاجي في حاشيته : « ألصقهم بقلبه ، أي : أحبّهم وأقربهم إليه ».

__________________

(١) نهج الحقّ وكشف الصدق : ١٧٧.

(٢) تفسير البيضاوي بحاشية الشهاب ٣ / ٣٢.

٢٦٢

وقال : « قوله : وإنّما قدمهم ... ، يعني : أنّهم أعزّ من نفسه ، ولذا يجعلها فداءً لهم ، فلذا قدّم ذكرهم اهتماماً به. وأمّا فضل آل الله والرسول فالنهار لا يحتاج إلى دليل » (١).

وكذا ، قال الخطيب الشربيني (٢) ، والشيخ سليمان الجمل (٣) ، وغيرهما.

وقال القاري : « فنزله منزلة نفسه لما بينهما من القرابة والأخوة » (٤).

وثانياً : دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل البيت ، لما أخرجهم للمباهلة : « إذا أنا دعوت فأمّنوا ».

قال أُسقفهم : « إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من جباله لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة » (٥).

فإنّ ذلك يدلّ على دخل لهم في ثبوت نبوّته وصدق كلامه ، وفي إذلال الخصوم وهلاكهم لو باهلوا ... فكان لهم الأثر الكبير والسهم الجزيل في نصرة الدين ورسول ربّ العالمين ، ولا ريب أنّ من كان له هذا الشأن في مباهلة الأنبياء كان أفضل ممّن ليس له ذلك.

قال القاساني : « إنّ لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً سببه اتّصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إيّاهم به ، وهو المؤثّر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا في الهيئات الواردة

__________________

(١) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ٣ / ٣٢.

(٢) السراج المنير في تفسير القرآن ١ / ٢٢٢.

(٣) الجمل على الجلالين ١ / ٢٨٢.

(٤) المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٨٩.

(٥) الكشّاف ١ / ٣٦٩ ، تفسير الخازن ١ / ٢٤٢ ، السراج المنير في تفسير القرآن ١ / ٢٢٢ ، المراغي ٣ / ١٧٥ ، وغيرهم ممّن تقدّم أو تأخّر.

٢٦٣

عليه ، كالغضب ، والحزن ، والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرّك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشريّة منه كانفعال حواسّنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتّصل نَفسٌ قُدسيٌّ به كان تأثيرها في العالم عند التوجّه الاتصالي تأثير ما يتّصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانيّة منه بما أراد.

ألم تَر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه‌السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية؟ » (١).

أقول :

فكان أهل البيت عليهم‌السلام شركاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا التأثير العظيم ، وهذه مرتبة لم يبلغ عشر معشارها غيرهم من الأقرباء والأصحاب.

وعلى الجملة ، فإنّ المباهلة تدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأفضل هو المتعيّن للإمامة بالاتّفاق من المسلمين ، كما اعترف به حتّى مثل ابن تيميّة (٢).

ونتيجة الاستدلال بالآية المباركة وما فعله النبي وقاله ، هو أنّ الله عزّوجلّ أمر رسوله بأن يسمّي عليّاً نفسه ، كي يبيّن للناس أنّ عليّاً هو الذي يتلوه ويقوم مقامه في الإمامة الكبرى والولاية العامّة ، لأنّ غير الواجد لهذه المناصب لا يأمر الله ورسوله بأن يسمّيه نفسه.

هذا ، وفي الآية دلالة على أن « الحسنين » ابنا رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) تفسير القاسمي ٢ / ٨٥٧.

(٢) نصّ عليه في مواضع من منهاجه ، انظر مثلاً : ٦ / ٤٧٥ و ٨ / ٢٢٨.

٢٦٤

وآله وسلّم ، وهذا ما نصّ عليه غير واحدٍ من أكابر القوم (١).

وقد جاء في الكتب أن عليّاً عليه‌السلام كان الكاتب لكتاب الصلح (٢) وأنّه توجّه بعد ذلك إلى نجران بأمر النبي لجمع الصّدقات ممّن أسلم منهم وأخذ الجزية ممّن بقي منهم على دينه (٣).

ثمّ إن أصحابنا يعضّدون دلالة الآية الكريمة على المساواة بعدّةٍ من الروايات :

كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريدة بن الحصيب عندما شكا عليّاً عليه‌السلام : « يا بريدة! لا تبغض عليّاً فإنّه منّي وأنا منه » ولعموم المسلمين في تلك القصّة : « عليّ منّي وأنا من عليّ ، وهو وليّكم من بعدي » (٤).

وقوله وقد سئل عن بعض أصحابه ، فقيل : فعليّ؟! قال : « إنّما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي » (٥).

وقوله : « خُلِقت أنا وعليٌّ من نورٍ واحد ».

وقوله : « خُلِقت أنا وعليٌّ من شجرةٍ واحدة » (٦).

وقوله ـ في جواب قول جبرئيل في أُحد : يا محمّد! إنّ هذه لهي المواساة ـ : « يا جبرئيل ، إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما » (٧).

__________________

(١) تفسير الرازي وغيره من التفاسير ، بتفسير الآية.

(٢) سنن البيهقي ١٠ / ١٢٠ ، وغيره.

(٣) شرح المواهب اللدنية ٤ / ٤٣.

(٤) هذا حديث الولاية ، وقد بحثنا عنه بالتفصيل سنداً ودلالةً في الجزء الخامس عشر من كتابنا.

(٥) كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : ١٥٥.

(٦) حديث النور ، وحديث الشجرة ، بحثنا عنهما بالتفصيل سنداً ودلالةً في الجزء الخامس من كتابنا.

(٧) مسند أحمد ٤ / ٤٣٧ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١ ، تاريخ الطبري ٣ / ١٧ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٦٣ ومصادر أُخرى في التاريخ والحديث.

٢٦٥

أقول :

وستأتي أحاديث أُخر فيما بعد ، إن شاء الله.

وممّا يُستدلّ به أيضاً : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة بضعة منّي ... » حيث استدلّ به غير واحدٍ من أئمّة القوم بأفضليّة فاطمة على أبي بكر وعمر ، لكونها بضعةً من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أفضل منهما بالإجماع (١) ، فإنّ عليّاً عليه‌السلام أفضل منها بالإجماع كذلك.

ثمّ إنّ غير واحدٍ من أعلام أهل السنّة اعترف بدلالة القصّة على فضيلةٍ فائقة لأهل البيت عليهم‌السلام.

قال الزمخشري : « وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام » (٢).

وقال ابن روزبهان : « لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام في هذه الآية فضيلة عظيمة وهي مسلمة ، ولكن لا تصير دالة على النصّ بإمامته » (٣).

أقول :

فلا أقلّ من الدلالة على الأفضليّة ، لأنّ هذه الفضيلة غير حاصلة لغيره ، فهو أفضل الصحابة ، والأفضليّة تستلزم الإمامة.

ومن هنا نرى الفخر الرازي لا يقدح في دلالة الآية على أفضليّة علي عليّ سائر الصحابة ، وإنّما يناقش الشيخ الحمصي في استدلاله بها على

__________________

(١) فتح الباري ٧ / ١٣٢ ، فيض القدير ٤ / ٤٢١ ، المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٣٤٨.

(٢) الكشّاف ١ / ٣٧٠.

(٣) إبطال الباطل ـ مع إحقاق الحق ـ ٣ / ٦٣.

٢٦٦

أفضليته على سائر الأنبياء ، وسيأتي كلامه في الفصل الخامس.

وتبعه النيسابوري وهذه عبارته : « أي : يَدْعُ كلٌّ منّا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة ، وإنّما يعل إتيانه بنفسه من قرينة ذِكر النفس ومن إحضار من هم أعزّ من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أنّ الإنسان لا يدعو نفسه. ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ ) : ثمّ نتباهل ...

وفي الآية دلالة على أنّ الحسن والحسين ـ وهما ابنت البنت ـ يصحّ أن يقال : إنّهما ابنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم وعد أنْ يدعو أبناءه ثمّ جاء بهما.

وقد تمسّك الشيعة قديماً وحديثاً بها في أنّ عليّاً أفضل من سائر الصحابة ، لأنّها دلّت على أنّ نفس علي مثل نفس محمّد إلاّفي ما خصّه الدليل.

وكان في الريّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ـ وكان متكلّم الاثني عشرية ـ يزعم أنّ عليّاً أفضل من سائر الأنبياء سوى محمّد. قال : وذلك أنّه ليس المراد بقوله : ( وَأَنْفُسَنا ) نفس محمّد ، لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، فالمراد غيره ، وأجمعوا على أنّ الغير كان عليّ بن أبي طالب ...

وأُجيب بأنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ. وأجمعوا على أنّ عليّاً عليه‌السلام ما كان نبيّاً ...

وأمّا فضل أصحاب الكساء فلا شكّ في دلالة الآية على ذلك ، ولهذا ضمّهم إلى نفسه ، بل قدّمهم في الذكر ... » (١).

__________________

(١) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري ـ ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥.

٢٦٧

الفصل الرابع

في دفع شبهات المخالفين

وتلخص الكلام في الفصل السابق في أن الآية المباركة دالّة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إنْ لم يكن بالنصّ فبالدلالة على العصمة على الأفضليّة للأحبيّة والأقربيّة وغيرهما من الوجوه ... ولم يكن هناك أيّ مجالٍ للطعن في سند الحديث أو التلاعب بمتنه ...

فلننظر في كلمات المخالفين في مرحلة الدلالة :

* أما إمام المعتزلة ، فقد قال :

« دليل آخر لهم : وربما تعلّقوا بآية المباهلة وأنّها لمّا نزلت جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وأنّ ذلك يدلّ على أنّه الأفضل ، وذلك يقتضي أنّه بالإمامة أحقّ ، ولا بدّ من أن يكون هو المراد بقوله : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) ، ولا يجوز أن يجعله من نفسه إلاّوهو يتلوه في الفضل.

وهذا مثل الأوّل في أنّه كلام في التفضيل ، ونحن نبيّن أنّ الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل.

وفي شيوخنا من ذكر عن أصحاب الآثار أنّ عليّاً عليه‌السلام لم يكن في المباهلة.

قال شيخنا أبو هاشم : إنّما خصّص صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تقرّب

٢٦٨

منه في النسب ولم يقصد الإبانة عن الفضل ، ودلّ على ذلك بأنّه عليه‌السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهما‌السلام مع صغرهما لمِا اختصّا به من قرب النسب ، وقوله : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) يدلّ على هذا المعنى ، لأنّه أراد قرب القرابة ، كما يقال في الرجل يقرب في النسب من القوم : أنّه من أنفسهم.

ولا ينكر أن يدلّ ذلك على لطف محله من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشدة محبّته له وفضله ، وإنّما أنكّرنا أن يدلّ ذلك على أنّه الأفضل أو على الإمامة ... » (١).

أقول :

ويتلخّص هذا الكلام في أُمور :

الأول : إنّ الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل.

وهذا ـ في الواقع ـ تسليمٌ باستدلال الإماميّة بالآية على أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكون الإمامة في من ليس بأفضل لم يرتضه حتّى مثل ابن تيمية!

والثاني : إن عليّاً لم يكن في المباهلة.

وهذا أيضاً دليل على تمامية استدلال الإماميّة ، وإلاّ لم يلتجئوا إلى هذه الدعوى ، كما التجأ بعضهم ـ كالفخر الرازي ـ في الجواب عن حديث الغدير ، بأنّ عليّاً لم يكن في حجّة الوداع!

والثالث : إنه لم يكن القصد إلى الإبانة عن الفضل ، بل أراد قرب القرابة.

وهذا باطلٌ ، لأنّه لو أراد ذلك فقط ، لأخرج غيرهم من أقربائه كالعبّاس ، وهذا ما تنبه إليه ابن تيمية فأجاب بأنّ العبّاس لم يكن من السابقين الأوّلين ،

__________________

(١) المغني في الإمامة : ٢٠ القسم ١ / ١٤٢.

٢٦٩

فاعترف ـ من حديث يدري أو لا يدري ـ بالحقّ.

هذا ، ولا يخفى أنّ معتمد الأشاعرة في المناقشة هو هذا الوجه الأخير ، وبهذا يظهر أنّ القوم عيال على المعتزلة ، وكم له من نظير!!

* وقال ابن تيمية (١) :

« أمّا أخذه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة ، فحديث صحيح ، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص ، قال في حديث طويل : « لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي ».

ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضليّة.

وقوله : ( قد جعل الله نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والإتّحاد محال ، فبقي المساواة له ، وله الولاية العامة ، فكذا لمساويه ).

قلنا : لا نسلّم أنّه لم يبق إلا المساواة ، ولا دليل على ذلك ، بل حمله على ذلك ممتنع ، لأنّ أحداً لا يساوي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، لا عليّاً ولا غيره.

وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة ، قال تعالى في قصّة الإفك : ( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين وقد قال في قصة بني إسرائيل : ( فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ) أي : يقتل بعضكم بعضاً ، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين ، ولا أنْ يكون من عبدالعجل مساوياً لمن لم يعبده.

__________________

(١) أوردنا كلامه بطوله ، ليظهر أنّ غيره تبع له ، لئلاّ يظن ظان أنّا تركنا منه شيئاً له تأثير في البحث!

٢٧٠

وكذلك قد قيل في قوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٣) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، وإنْ كانوا غير متساويين.

وقال تعالى : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٤) أي ، لا يلمز بعضكم بعضا فيطعن عليه ويعيبه ، وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن ، مع أنّهم غير متساوين لا في الأحكام ولا في الفضيلة ، ولا الظالم كالمظلوم ، ولا الإمام كالمأموم.

ومن هذا الباب قوله تعالى : ( ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (٥) أي : يقتل بعضكم بعضاً.

وإذا كان اللفظ في قوله : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) كاللفظ في قوله : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) .. ( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) ونحو ذلك ، مع أنّ التساوي هنا ليس بواجب ، بل ممتنع ، فكذلك هناك وأشدّ.

بل هذا اللفظ يدلّ على المجانسة والمشابهة ، والتجانس والمشابهة يكون بالإشتراك في بعض الأُمور ، كالإشتراك في الإيمان ، فالمؤمنون إخوة في الإيمان ، وهو المراد بقوله : ( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) وقوله : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ).

وقد يكون بالاشتراك في الدين ، وإنْ كان فيهم المنافق ، كاشتراك المسلمين في الإسلام الظاهر ، وإنْ كان مع ذلك الاشتراك في النسب فهو أوكد ، وقوم موسى كانوا ( أَنْفُسَنا ) بهذا الاعتبار.

قوله تعالى : ( تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) أي : رجالنا ورجالكم ، أي : الرجال الّذين هم من جنسنا في الدين والنسب ، والرجال الّذين هم من جنسكم ، والمراد التجانس في القرابة فقط ؛

٢٧١

لأنّه قال : ( أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ) فذكر الأولاد وذكر النساء والرجال ، فعُلم أنّه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة ، ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء ، ودعا فاطمة من النساء ، ودعا عليّاً من رجاله ، ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء ، وهم الّذين أدار عليهم الكساء.

والمباهلة إنّما تحصل بالأقربين إليه ، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود ، فإنّ المراد أنّهم يدعون الأقربين كما يدعو هو الأقرب إليه.

والنفوس تحنو على أقاربها ما لا تحنوا على غيرهم ، وكانوا يعلمون أنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ويعلمون أنّهم إن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم ، واجتمع خوفهم على أنفسهم وعلى أقاربهم ، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم وإلا فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه ، والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقي أقاربه في نعمةٍ ومال ، وهذا موجود كثير ، فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين ، فلهذا دعا هؤلاء.

وآية المباهلة نزلت سنة عشر ، لمّا قدم وفد نجران ، ولم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بقي من أعمامه إلاّ العبّاس ، والعبّاس لم يكن من السابقين الأوّلين ، ولا كان له به اختصاص كعليّ.

وأمّا بنو عمّه فلم يكن فيهم مثل عليٍّ ، وكان جعفر قد قُتل قبل ذلك ، فإنّ المباهلة كانت لمّا قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر ، وجعفر قُتل بمؤتة سنة ثمان ، فتعين عليّ رضي‌الله‌عنه.

ولكونه تعيّن للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه ، لا يوجب أن يكون مساوياً للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في شيء من الأشياء ، بل ولا أنْ يكون

٢٧٢

أفضل من سائر الصحابة مطلقاً ، بل له بالمباهلة نوع فضيلة ، وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين ، ليست من خصائص الإمامة ، فإنّ خصائص الإمامة لا تثبت للنساء ، ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة ، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة.

وأمّا قول الرافضي : « لو كان غير هؤلاء مساوياً لهم أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بآخذهم معه لأنّه في مواضع الحاجة ». فيقال في الجواب : لم يكن المقصود إجابة الدعاء ، فإنّ دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده كافٍ ، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يُستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلّهم ودعا بهم ، كما كان يستسقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين ، وكان يقول : وهل تُنصرون أو تُرزقون إلاّبضعفائكم؟! بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم!

ومن المعلوم أنّ هؤلاء وإن كانوا مجابين ، فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة ، لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاء لإجابة دعائه ، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل!

ونحن نعلم بالاضطرار أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة ، لكانوا أعظم الناس استجابةً لأمره ، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء ، لكن لم يأمره الله سبحانه بأخذهم معه ، لأنّ ذلك لا يحصل به المقصود.

فإنّ المقصود أن أُولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً ، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الّذين هم أقرب الناس إليهم ، فلو دعا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب ، ولم يكن يشتدّ عليه بنزول البهلة بأُولئك الأجانب ، كما يشتدّ عليهم نزولها بالأقربين إليهم ، فإنّ طبع البشر يخاف على

٢٧٣

أقربيه ما لا يخاف على الأجانب ، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم.

والناس عند المقابلة تقول كلّ طائفة للُاخرى : ارهنوا عندنا أبناءكم ونساءكم ، فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبيّاً لم يرضَ أولئك ، كما أنّه لو دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم الأجانب لم يرض أولئك المقابلون له ، ولا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله.

فقد تبيّن أنّ الآية لا دلالة فيها أصلاً على مطلوب الرافضيّ.

لكنّه ـ وأمثاله ممن في قلبه زيغ ـ كالنصارى الّذين يتعلقون بالألفاظ المجملة ويدعون النصوص الصريحة ، ثمّ قدحه في خيار الأُمّة بزعمه الكاذب ، حيث زعم أنّ المراد بالأنفس المساوون ، وهو خلاف المستعمل في لغة العرب.

وممّا يبيّن ذلك أنّ قوله : ( نِساءَنا ) يختصّ بفاطمة ، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك ، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلاّفاطمة ، فإنّ رقيّة وام كلثوم وزينب كنّ قد توفّين قبل ذلك.

فكذلك ( أَنْفُسَنا ) ليس مختصّاً بعليّ ، بل هذه صيغة جمع ، كما أنّ ( نِساءَنا ) صيغة جمع ، وكذلك ( أَبْناءَنا ) صيغة جمع ، وإنّما دعا حسناً وحسيناً لأنّه لم يكن ممّن ينسب إليه بالبنوّة سواهما ، فإنّ إبراهيم إن كان موجوداً إذ ذاك فهو طفل لا يُدعى ، فإنّ إبراهيم هو ابن مارية القبطيّة التي أهداها له المقوقس صاحب مصر ، وأهدى له البغلة ومارية وسيرين ، فأعطى سيرين لحسّان بن ثابت ، وتسرّى مارية فولدت له إبراهيم ، وعاش بضعة عشر شهراً ومات ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : إنّ له مرضعاً في الجنّة تتم

٢٧٤

رضاعته ، وكان إهداء المقوقس بعد الحديبيّة بل بعد حنين » (١).

أقول :

كان هذا نص كلام ابن تيميّة في مسألة المباهلة ، وقد جاء فيه :

١ ـ الاعتراف بصحة الحديث.

وفيه ردّ على المشكّكين في صحته وثبوته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ الإعتراف باختصاص القضيّة بالأربعة الأطهار.

وفيه ردّ على المنحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام ، المحرّفين للحديث بنقص « عليّ » منهم أو زيادة غيرهم عليهم!!

٣ ـ الإعتراف بأنّهم هم الّذين أدار عليهم الكساء.

وفيه ردّ على من زعم دخول غيرهم في آية التطهير ، بل فيه دلالة على تناقض ابن تيميّة ، لزعمه ـ في موضع من منهاجه ، دخول الأزواج أخذاً بالسياق ، كما تقدّم في مبحث تلك الآية.

٤ ـ الإعتراف بأنّ في المباهلة نوع فضيلة لعلي.

وفيه ردٌّ على من يحاول إنّكار ذلك.

ثمّ إنّ ابن تيمية ينكر دلالة الحديث على الإمامة مطلقاً بكلام مضطرب مشتمل على التهافت ، وعلى جواب ـ قال الدهلوي عنه ـ : هو من كلام النواصب!!

* فأوّل شيء قاله هو : إنّ أحداً لا يساوي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

__________________

(١) منهاج السنة ٧ / ١٢٢ ـ ١٣٠.

٢٧٥

ونحن أيضاً نقول : إنّ أحداً لا يساويه لولا الآية والأحاديث القطعيّة الواردة عنه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليٌّ منّي وأنا من عليّ ، وهو وليّكم بعدي » (١) وقوله ـ في قصة البراءة ـ : « لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل مني » (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لوفد ثقيف ـ : « لَتُسلِمنّ أو لأبعثنّ عليكم رجلاً مني ـ أو قال : نفسي ـ ليضربنّ أعناقكم وليسبين ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم » قال عمر : فوالله ما تمنّيت الإمارة إلاّيومئذ ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول : هو هذا ، فالتفت إلى علي فأخذ بيده وقال : « هو هذا ، هو هذا » (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزّلاً إيّاه منزلة نفسه : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » فاستشرف له أبو بكر وعمر وغيرهما ، كلّ يقول : أنا هو؟ قال : لا ، ثمّ قال : « وكنْ خاصف النعل » وكان قد أعطى عليّاً نعله يخصفها (٤).

إلى غير ذلك من الأحاديث ، وقد سبق ذكر بعضها أيضاً.

فإذا كان هذا قول الله وكلام الرسول ، فماذا نفعل نحن؟!

* ثمّ إنّه أنكر دلالة لفظ « الأنفس » على « المساواة » في لغة العرب ،

__________________

(١) هذا حديث الولاية ، وهو من أصحّ الأحاديث وأثبتها ، وقد بحثنا عنه سنداً ودلالةًفي الجزء الخامس عشر من أجزاء كتابنا.

(٢) وهذا أيضاً من أصحّ الأحاديث وأثبتها ، راجع : مسند أحمد ١ / ٣ ، ١٥١ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٢٩٤ ح ٣٧١٩ ، والخصائص للنسائي : ٦٨ ح ٧٢ ، والمستدرك على الصحيحين ، وراجع التفاسير في سورة البراءة.

(٣) راجع : الإستيعاب ٣ / ١١٠٩ ، ترجمة أمير المؤمنين.

(٤) أخرجه أحمد ٣ / ٣٣ ، والحاكم ٣ / ١٣٢ ح ٤٦٢١ ، والنسائي في الخصائص ١١٢ ح ١٥٠ ، وابن عبدالبر وابن حجر وابن الأثير بترجمته ، وكذا غيرهم.

٢٧٦

فقال بأنّ المراد منه في الآية هو من يتّصل بالقرابة واستشهد لذلك بآيات من القرآن.

لكنْ ماذا يقول ابن تيميّة في الآيات التي وقع فيها المقابلة بين « النفس » و « الأقرباء » كما في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ) (١) وقوله : ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ ) (٢) فكذلك آية المباهلة.

غير أنّ « النفس » في الآيتين المذكورتين مستعملة في نفس الإنسان على وجه الحقيقة ، أمّا في آية المباهلة فهي مستعملة ـ لتعذّر الحقيقة ـ على وجه المجاز لمن نُزِّل بمنزلة النفس ، وهو عليّ عليه‌السلام ، للحديث القطعي الوارد في القضيّة.

* ثمّ إنّه أكّد كون أخذ الأربعة الأطهار عليهم‌السلام لمجرّد القرابة ، بإنّكار الاستعانة بهم في الدعاء ، فقال : « لم يكن المقصود إجابة الدعاء ، فإنّ دعاء النبي وحده كافٍ »!

لكنّه اجتهاد في مقابلة النصّ ، فقد روى القوم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم : « إذا أنا دعوت فأمّنوا » (٣) ، وأنّه قد عرف أُسقف نجران ذلك حيث قال : « إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أنْ يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » أو : « لو سألوا الله أنْ يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » (٤).

* ثمّ قال ابن تيميّة : « لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه ، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل ... فإنّ المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم.

__________________

(١) سورة التحريم ٦٦ : ٦.

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ١٥ ، وسورة الشورى ٤٢ : ٤٥.

(٣) تقدّم ذكر بعض مصادره.

(٤) الكشّاف ، الرازي ، البيضاوي وغيرهم ، بتفسير الآية.

٢٧٧

وذا كلام النواصب ... كما نص عليه الدهلوي في عباراته الآتية.

وحاصل كلامه : أنّه إنّما دعاهم لكونهم أقرباءه فقط ، على ما كان عليه المتعارف في المباهلة ، فلا مزيّة لمن دعاه أبداً ، فلا دلالة في الآية على مطلوب الشيعة أصلاً ، لكنّهم كالنصارى ...!

لكنّه يعلم بوجود الكثيرين من أقربائه ـ من الرجال والنساء ـ وعلى رأسهم عمه العبّاس ، فلو كان التعبير بالنفس لمجرّد القرابة لدعا العبّاس وأوّلاًده وغيرهم من بني هاشم!

فيناقض نفسه ويرجع إلى الإعتراف بمزيّةٍ لمن دعاهم ، وأنّ المقام ليس مقام مجرّد القرابة ...!! انظر إلى كلامه :

« ولم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بقي من أعمامه إلاّ العباس ، والعباس لم يكن من السابقين الأوّلين ، ولا كان له به اختصاص كعليّ ، وأمّا بنو عمّه فلم يكن فيهم مثل عليّ ... فتعين عليٌّ رضي‌الله‌عنه ، وكونه تعيّن للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه لا يوجب ... بل له بالمباهلة نوع فضيلة ... ».

إذن!! لا بدّ في المباهلة من أن يكون المباهَل به صاحب مقامٍ يمتاز به من غيره ، ويقدّمه على من سواه ، وقد ثبت ذلك لعليّ عليه‌السلام بحيث ناسب أنْ يأمر الله ورسوله بأنْ يعبّر عنه لأجله بأنّه نفسه ، وهذا هو المقصود من الإستدلال بالآية المباركة ، وبه يثبت المطلوب.

فانظر كيف اضطربت كلمات الرجل وناقض نفسه!!

* غير أنّه بعد الاعتراف بالفضيلة تأبى نفسه السكوت عليها ، وإذْ لا يمكنه دعوى مشاركة زيد وعمر وبكر ...!! معه فيها كما زعم ذلك في غير موضع من كتابه فيقول :

٢٧٨

« وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين ... ».

وهكذا قال ـ في موضعٍ من كتابه ـ حول آية التطهير لمّا لم يجد بُدّاً من الإعتراف باختصاصها بأهل البيت ...

لكنّه غفل أو تغافل أن هذه المشاركة لا تضرّ باستدلال الشيعة بل تنفع ، إذ تكون الآية من جملة الدلائل القطعيّة على أفضليّة بضعة النبيّ فاطمة وولديه الحسنين عليهم‌السلام من سائر الصحابة عدا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ كما دل على ذلك حديث : « فاطمة بضعة مني ... » وقد بينّا ذلك سابقاً ـ فعليّ هو الإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالآية المباركة والحديث القطعي الوارد في شأن نزولها.

* وقال أبو حيّان :

( نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ).

أي : يدع كلٌّ مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أنّ الدعاء والمباهلة بين المخاطب بـ « قل » وبين من حاجّه ، وفُسّر على هذا الوجه ( الأبناء ) بالحسن والحسين ، وبنساءه فاطمة ، والأنفس بعليّ. قاله الشعبي. ويدلّ على أنّ ذلك مختصٌّ بالنبيّ مع من حاجّه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقّاص ، قال : لما نزلت هذه الآية ( تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : اللهمّ هؤلاء أهلي.

وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ( نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ) على الجمع ، ولمّا دعاهم دعا بأهله الّذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجاران على المباهلة وجاءوا لها لأمر النبيّ صلّى الله

٢٧٩

عليه وسلّم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلتهم.

وقيل : المراد بـ ( أَنْفُسَنا ) الإخوان. قاله ابن قتيبة. قال تعالى : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي : إخوانكم.

وقيل : أهل دينه. قاله أبو سليمان الدمشقي.

وقيل : الأزواج.

وقيل : أراد القرابة القريبة. ذكرها علي بن أحمد النيسابوري.

قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين إبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وقال أبو أحمد ابن علاّن : كانا إذ ذاك مكلَّفين ، لأنّ المباهلة عنده لا تصحّ إلاّمن مكلّف.

وقد طوّل المفسّرون بما رووا في قصّة المباهلة ، ومضمونها : أنّه دعاهم إلى المباهلة وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعلي إلى الميعاد ، وأنّهم كفّوا عن ذلك ورضوا بالإقامة على دينهم ، وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنّهم إن باهلوا عُذّبوا وأخبر هو صلّى الله عليه وسلّم أنّهم إنْ باهلوا عُذّبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحّة نبوّته.

قال الزمخشري : فإنْ قلت ... » (١).

أقول :

لعلّ تقديمه حديث مسلم عن سعدٍ في أنّ المراد من ( أَنْفُسَنا ) هو عليٌّ عليه‌السلام ... يدلّ على ارتضائه لهذا المعنى ... لكنّ الحديث جاء في الكتاب محرّفاً بحذف « عليّ »!!

__________________

(١) البحر المحيط ٢ / ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

٢٨٠