نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وقال ابن تيميّة في مواضع من كتابه بعدم جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل (٤).

وقال محبّ الدين الطبري : « قولنا : لا ينعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل » (٥).

وكذا قال غيرهم ... ولا حاجة إلى ذكر كلماتهم.

وإلى هذا الوجه أشار العلاّمة الحلّي في كلامه السابق.

وقال المحقّق نصير الدين الطوسي في أدلّة أفضليّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ووجوب المحبّة ».

فقال العلاّمة بشرحه : « هذا وجه تاسع عشر وتقريره : إنّ عليّاً عليه‌السلام كان محبته ومودّته واجبة دون غيره من الصحابة ، فيكون أفضل منهم. وبيان المقدّمة الأُولى : إنّه من أولي القربى ، فتكون مودّته واجبة ، لقوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٣).

٤ ـ وجوب المحبّة المطلقة يستلزم العصمة

وأيضاً : فإنّ إطلاق الأمر بمودّتهم دليل على عصمتهم ، وإذا ثبتت العصمة ثبتت الإمامة ، وهذا واضح.

أمّا أنّ إطلاق الأمر بمودّتهم ـ الدالّ على الإطاعة المطلقة ـ دليل على عصمتهم ، فيكفي فيه كلام الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٤).

__________________

(١) منهاج السنة ٣ / ٢٧٧. الطبعة القديمة.

(٢) الرياض النضرة ـ باب خلافة أبي بكر ـ ١ / ٢١٦.

(٣) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣١٠.

(٤) سورة النساء ٤ : ٥٩.

٢٠١

فإنّه قال :

« إنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ وأنْ يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنّه محال. فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ ( أُولي الأمر ) المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً » (١).

فهذا محلّ الشاهد من كلامه ، وأمّا من « أولي الأمر » الّذين أُمرنا بإطاعتهم؟ فذاك بحث آخر ..

وعلى الجملة ، فوجوب الإطاعة والاتباع على الإطلاق ـ المستفاد من وجوب المحبّة المطلقة ـ مستلزم للعصمة.

وقد ذكر هذا الوجه غير واحدٍ من علمائنا :

قال البياضي العاملي رحمه‌الله : « جعل الله أجر رسالة نبيّه في مودّة أهله في قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ).

قالوا : المراد القربى في الطاعات ، أي : في طاعة أهل القربى.

قلنا : الأصل عدم الإضمار ، ولو سلّم ، فلا يتصوّر إطلاق الأمر بمودّتهم إلاّمع عصمتهم.

قالوا : المخاطب بذلك الكفّار ، يعني : راقبوا نسبي منكم ، يعني القرشيّة.

قلنا : الكفّار لا تعتقد للنبيّ أجراً حتّى تُخاطب بذلك.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ / ١٤٤.

٢٠٢

على أنّ الأخبار المتّفق عليها تنافي الوجهين ، ففي صحيح البخاري ... » (١).

وقال السيّد الشبّر : « وجوب المودّة يستلزم وجوب الطاعة ، لأنّ المودّة إنّما تجب مع العصمة ، إذ مع وقوع الخطأ منهم يجب ترك مودّتهم كما قال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (٢). وغيرهم عليهم‌السلام ليس بمعصوم اتّفاقاً ، فعليٌّ وولداه الأئمّة » (٣).

دحض الشبهات المثارة على دلالة الآية على الإمامة

أقول :

وهذا كلام السيّد الشهيد التستري في الردّ على ابن روزبهان ، الذي أشكل على العلاّمة الحلّي ...

* قال ابن روزبهان : « ونحن نقول : إنّ مودّته مواجبة على كل المسلمين ، والمودّة تكون مع الطاعة ، ولا كلّ مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى ».

فأجاب السيّد رحمه‌الله : « وأمّا ما ذكره من أنّه لا يدلّ على خلافة عليّ عليه‌السلام ، فجهالة صِرفة أو تجاهل محض! لظهور دلالة الآية على أنّ مودّة عليّ عليه‌السلام واجبة بمقتضى الآية ، حيث جعل الله تعالى أجر الإرسال إلى ما يستحقّ به الثواب الدائم مودّة ذوي القربى ، وإنّما يجب ذلك مع عصمتهم ، إذ

__________________

(١) الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم ١ / ١٨٨.

(٢) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢.

(٣) حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين ١ / ٢٧٠.

٢٠٣

مع وقوع الخطأ عنهم يجب ترك مودّتهم لقوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) الآية. وغير عليٍّ ليس بمعصوم بالإتّفاق ، فتعين أن يكون هو الإمام.

وقد روى ابن حجر في الباب الحادي عشر من صواعقه عن إمامه الشافعي شعراً في وجوب ذلك برغم أنف الناصب ، وهو قوله :

يا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنكّم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

على أنّ إقامة الشيعة للدليل على إمامة عليّ عليه‌السلام على أهل السنّة غير واجب بل تبرّعي ، لاتفاق أهل السنّة معهم على إمامته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غاية الأمر أنّهم ينفون الواسطة وأهل السنّة يثبتونها ، والدليل على المثبت دون النافي ، كما تقرّر في موضعه ، إلاّ أن يرتكبوا خرق الإجماع بإنّكار إمامته مطلقاً ، فحينئذٍ يجب على الشيعة إقامة الدليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل » (١).

وقال الشيخ المظفّر في جواب ابن روزبهان بعد كلام له : « فيتعيّن أن يكون المراد بالآية : الأربعة الأطاهر ، وهي تدلّ على أفضليّتهم وعصمتهم وأنّهم صفوة الله سبحانه ، إذ لو لم يكونوا كذلك لم تجب مودّتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودّتهم بتلك المنزلة التي ما مثلها منزلة ، لكونها أجراً للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حقّ يشبهه.

ولذا لم يجعل الله المودّة لأقارب نوح وهود أجراً لتبليغهما ، بل قال لنوح : « قل ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ ) وقال لهود : « قل ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ).

__________________

(١) إحقاق الحقّ ـ في الردّ على ابن روزبهان ـ ٣ / ٢٣.

٢٠٤

فتنحصر الإمامة بقربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لا تصحّ إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لا سيّما بهذا الفضل الباهر ، مضافاً إلى ما ذكره المصنّف ـ رحمه‌الله ـ من أنّ وجوب المودّة مطلقاً يستلزم وجوب الطاعة مطلقاً ، ضرورة أنّ العصيان ينافي الودّ المطلق ، ووجوب الطاعة مطلقاً يستلزم العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم بالإجماع ، فتنحصر الإمامة بهم ، ولا سيّما مع وجوب طاعتهم على جميع الأُمّة.

وقد فهم دلالة الآية على الإمامة الصحابة ، ولذا اتّهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضهم فقالوا : ما يريد إلاّ أنْ يحثّنا على قرابته بعده ، كما سمعته من بعض الروايات السابقة (١) وكلّ ذي فهم يعرفها من الآية الشريفة ، إلاّ أنّ القوم أبوا أنْ يقرّوا بالحقّ ويؤدّوا أجر الرسالة ، فإذا صدرت من أحدهم كلمة طيّبة لم تدعه العصبيّة حتّى يناقضها ... » (٢).

* وبالتأمّل في الوجوه التي ذكرناها وما نصّ عليه علماؤنا ، يظهر الجواب عن كلام السعد التفتازاني حيث ذكر في مباحث الأفضلية قائلاً :

« القائلون بأفضليّة عليّ رضي‌الله‌عنه تمسّكوا بالكتاب والسنّة والمعقول. أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) الآية ... وقوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قال سعيد بن جبير : لمّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الّذين نودّهم؟ قال : عليٌّ وفاطمة وولداها. ولا يخفى أنّ من وجبت محبّته بحكم نصّ الكتاب كان أفضل. وكذا من ثبتت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل ، مع التعبير عنه ـ

__________________

(١) المعجم الكبير ١٢ / ٢٦ ، وغيره.

(٢) دلائل الصدق لنهج الحق ٢ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٢٠٥

بـ « صالح المؤمنين » وذلك قوله تعالى : ( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ). فعن ابن عبّاس ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنّ المراد به عليٌّ ... ».

قال : « والجواب : إنّه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتّصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات ، إلاّ أنّه لا يدلّ على الأفضليّة ـ بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله ـ بعد ما ثبت من الإتّفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضليّة أبي بكر ثمّ عمر ، والاعتراف من عليٍّ بذلك!

على أنّ في ما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصّل ، مثل : إنّ المراد بأنفسنا نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما يقال : دعوت نفسي إلى كذا. وأنّ وجوب المحبّة وثبوت النصرة على تقدير تحقّقه في حق عليٍّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ فلا اختصاص به » (١).

أقول :

قد عرفت أنّ الآية المباركة تدلّ على وجوب محبّة علي عليه‌السلام ، ووجوب المحبّة المطلقة يدلّ على أنّه الأحبّ عند الله ورسوله ، والأحبّيّة دالّة على الأفضلية.

وأيضاً : وجوب المحبّة المطلقة يستلزم العصمة وهي شرط الإمامة.

وأمّا دعوى أفضليّة أبي بكر وعمر فأوّل الكلام ... كدعوى عدم الإختصاص بعليٍّ عليه‌السلام ، لقيام الإجماع على عدم عصمة أبي بكر وعمر ...

* وقد اضطرب ابن تيميّة في هذا المقام ، فقال : « إنّا نسلّم أنّ عليّاً تجب مودّته وموالاته بدون الإستدلال بهذه الآية ، لكنْ ليس في وجوب موالاته

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ / ٢٩٥ ـ ٢٩٩.

٢٠٦

ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة والفضيلة. وأمّا قوله : والثلاثة لا تجب مودّتهم ، فممنوع ، بل يجب أيضاً مودّتهم وموالاتهم ، فإنّه قد ثبت أنّ الله يحبّهم ، ومن كان يحبّه الله وجب علينا أنْ نحبّه ، فإنّ الحبّ في الله والبغض في الله واجب ، وهو أوثق عرى الإيمان ، وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتّقين ، وقد أوجب الله موالاتهم ، بل قد ثبت أنّ الله رضي عنهم ورضوا عنه بنصّ القرآن ، وكلّ من رضي‌الله‌عنه فإنّه يحبّه ، والله يحبّ المتّقين والمحسنين والمقسطين والصابرين ... » (١).

فإنّ الرجل قد خصم نفسه باعترافه بوجوب محبّة : المتّقين والمحسنين والمقسطين والصابرين ... بل مطلق المؤمنين ... فإنّ أحداً لا ينكر شيئاً من ذلك ، ومن يقول بأنّ المؤمن ـ إذا كان مؤمناً حقاً ـ لا يجب أن نحبّه لا سيّما إذا كان مع ذلك من أهل التقوى والإحسان والصبر؟!

لكنّ الكلام في المحبّة المطلقة ، وفي الأحبيّة عند الله ورسوله ، المستلزمة للأفضلية وللعصمة ووجوب الطاعة ... هذه الأمور التي لم يقل أحدٌ بوجودها في غير عليٍّ عليه‌السلام ، لا سيّما العصمة ، إذ قام الإجماع على عدمها في غيره.

ثمّ إنّ ابن تيميّة شرع يستدلّ ببعض الأخبار التي يروونها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أنّ أحبّ الناس إليه عائشة!! قيل : فمن الرجال؟ قال : أبوها! وأنّ عمر قال لأبي بكر في السقيفة : أنت سيّدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول الله!!

وكل عاقل يفهم ما في الاستدلال بمثل هذه الأخبار!!

* ولقد أحسن الآلوسي حيث لم يستدلّ بشيء من أخبارهم في هذا

__________________

(١) منهاج السنة ٧ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

٢٠٧

البحث ، فإنّه قد انتحل كلام عبدالعزيز الدهلوي واعتمده في الجواب عن استدلال الإماميّة ، إلاّ أنّه بتر كلامه ولم يأت به إلى الآخر! وهو ما سنشير إليه :

قال الآلوسي : « ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة عليّ كرّم تعالى وجهه ، قال : عليٌّ كرم الله تعالى وجهه واجب المحبّة ، وكلّ واجب المحبّة واجب الطاعة ، وكلّ واجب الطاعة صاحب الإمامة. ينتج : عليٌّ رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة. وجعلوا الآية دليل الصغرى.

ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث :

أمّا أوّلاً : فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتمّ إلاّعلى القول بأنّ معناها : لا أسألكم عليه أجراً إلاّ أن تودّوا قرابتي وتحبّوا أهل بيتي. وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول. وقيل في هذا المعنى : إنّه لا يناسب شأن النبوّة لِما فيه من التهمة ، فإنّ أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئاً ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم. وأيضاً : فيه منافاة ما لقوله تعالى : ( وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ).

وأما ثانياً : فلأنّا لا نسلّم أنّ كلّ واجب المحبّة واجب الطاعة ، فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الإعتقادات : إنّ الإماميّة أجمعوا على وجوب محبّة العلويّة ، مع أنّه لا يجب طاعة كلّ منهم.

وأمّا ثالثاً : فلأنّا لا نسلّم أنّ كلّ واجب الطاعة صاحب الإمامة ، أي الزعامة الكبرى ، وإلاّ لكان كلّ نبيّ في زمنه صاحب ذلك ، ونصّ : ( إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ) يأبى ذلك.

وأمّا رابعاً : فلأنّ الآية تقتضي أن تكون الصغرى : أهل البيت واجبوا الطاعة ، ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا تنتج النتيجة التي ذكروها ، ولو سلّمت جميع مقدماتها ، بل تنتج : أهل البيت صاحبوا الإمامة ، وهم لا يقولون بعمومه.

٢٠٨

إلى غير ذلك من الأبحاث. فتأمّل ولا تغفل » (١).

أقول :

هذا كلّه كلام الدهلوي بعينه! وقد جاء بعده في « التحفة الاثنا عشرية » الاستدلال بأحاديث.

* قال الدهلوي : « روى أبو طاهر السلفي في مشيخته عن أنس ، قال : قال رسول الله : حبّ أبي بكر وشكره واجب على كلّ أُمّتي.

وروى ابن عساكر عنه نحوه. ومن طريق آخر عن سهل بن سعد الساعدي.

وأخرج الحافظ عمر بن محمّد بن خضر الملاّ في سيرته عن النبيّ أنّه قال : إنّ الله تعالى فرض عليكم حبّ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ كما فرض عليكم الصلاة والصوم والحجّ.

وروى ابن عديّ ، عن أنس ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، أنّه قال : حب أبي بكر وعمر إيمان ، وبغضهما نفاق.

وروى ابن عساكر ، عن جابر : أنّ النبي قال : حبّ أبي بكر وعمر من الإيمان ، وبغضهما كفر.

وروى الترمذي أنّه أتي بجنازة إلى رسول الله فلم يصلّ عليه وقال : إنّه كان يبغض عثمان فأبغضه الله ».

ثمّ إنّه التفت إلى عدم جوز إلزام الإماميّة بما اختصّ أهل السنّة بروايته ، فأجاب قائلاً ، « إنّه وإنْ كانت هذه الأخبار في كتب أهل السنّة فقط ، لكنْ لمّا كان الشيعة يقصدون إلزام أهل السنّة برواياتهم ، فإنّه لا بد من لحاظ جميع

__________________

(١) روح المعاني ٢٩ / ٣٣.

٢٠٩

روايات أهل السنة ، ولا يصح إلزامهم برواية منها.

وإنْ ضيّقوا على أهل السنّة ، أمكن إثبات وجوب محبّة الخلفاء الثلاثة من كتاب الله وأقوال العترة ، فقوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) نزل ـ بالإجماع ـ في حق المقاتلين للمرتدّين ، وقد كان الثلاثة أئمّة هؤلاء المقاتلين ، ومن أحبّه الله وجبت محبّته. وعلى هذا القياس »!

هذا آخر كلام الدهلوي (١).

أقول :

إنّ من الواضح عدم جواز إلزام الخصم إلاّبما يرويه خاصّةً ، أو ما اتّفق الطرفان على روايته ، هذا إذا كان الخبر المستدلُّ به معتبراً عند المستدلّ ، فإنّ لم يكن الخبر معتبراً حتّى عند المستدلّ به فكيف يجوز له إلزام الطرف الآخر به؟!

ليت الدهلوي استدلّ ـ كابن تيميّة ـ بكتابَي البخاري ومسلم المعروفَين بالصحيحين ، فإنّ الأحاديث التي استدلّ بها كلّها باطلة سنداً ، وهذا هو السرّ في إعراض الآلوسي عنها وإسقاطه لها.

إنّ أحسن هذه الأحاديث ما أخرجه الترمذي في كتابه ـ وهو يعدّ أحد الصحاح الستّة ـ من امتناع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة على الجنازة ، قال الترمذي :

« حدّثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي وغير واحد ، قالوا : حدّثنا عثمان ابن زفر ، حدّثنا محمّد بن زياد ، عن محمّد بن عجلان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : أُتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجنازة رجلٍ يصلّي عليه فلم

__________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ٢٠٥.

٢١٠

يصلّ عليه ، فقيل : يا رسول الله! ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا؟! قال : إنّه كان يبغض عثمان فأبغضه الله »!

لكنّ هذا الحديث ساقط سنداً حتّى عند راويه الترمذي! قال :

« هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّمن هذا الوجه ، ومحمّد بن زياد صاحب ميمون بن مهران ضعيف في الحديث جدّاً » (١).

ثمّ إنّ الجوزي أورده في ( الموضوعات ) بطريقين ، وقال : « الطريقان على محمّد بن زياد. قال أحمد بن حنبل : هو كذّاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيى : كذّاب خبيث. وقال السعدي والدارقطني : كذّاب. وقال البخاري والنسائي والفلاّس وأبو حاتم : متروك الحديث. وقال ابن حبّان : كان يضع الحديث على الثقات ، لا يحلّ ذكره في الكتب إلاّعلى وجه القدح فيه » (٢).

فيظهر أنّ الترمذي حيث قال : « ضعيف جداً » لم يقل الحق كما هو حقه!!

وظهر أنّ الحقّ مع الآلوسي حيث ترك الإستدلال به وهو أحسن ما ذكر الدهلوي ، فالعجب من الدهلوي كيف يستدلّ بحديثٍ هذه حاله ، ويريد إلزام الشيعة به ، وفي مسألةٍ أصوليّة؟!

ولو وجدتُ مجالا لبيّنت حال بقيّة هذه الأحاديث ، لكنْ لا حاجة إلى ذلك بعد معرفة حال أحسنها سنداً!!

فلنعُد إلى الوجوه التي وافق فيها الآلوسي الدهلوي وأخذها منه ، فنقول :

أمّا الأوّل : فجوابه : إنّ الصغرى تامّة كما تقدّم بالتفصيل ، وقلنا بأنّ طلب الأجر إنّما هو بناءً على اتّصال الإستثناء ، وقد عرفت حقيقة هذا الأجر وعوده

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ / ٥٨٨.

(٢) الموضوعات ٢ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٢١١

إلى المسلمين أنفسهم ، فلا شبهة ولا تهمة. وأمّا بناءً على انقطاع الإستثناء فلا إشكال أصلاً.

وأما الثاني : فإنّ الإمامية أجمعت على وجوب محبّة العلويّة ، بل كلّ مؤمنٍ من المؤمنين ، ولكنّ الآية المباركة دالّة على وجوب المحبّة المطلقة لعليّ والزهراء والحسنين ، فلا نقض ، ولذا لم يقل أحد منهم بوجوب محبّة غير الأربعة وسائر المعصومين محبّةً مطلقة ... والكلام في المحبّة المطلقة لا مطلق المحبّة ، فما ذكراه جهل أو تجاهل!

وأمّا الثالث : فيظهر جوابه ممّا ذكرناه ، فإنّا نريد المحبّة المطلقة المستلزمة للعصمة ، فأينما كانت ، كانت الإمامة الكبرى ، وأينما لم تكن ، لم تكن!

وأمّا الرابع : فيظهر جوابه ممّا ذكرنا أيضاً.

* بقي أنْ نذكر الوجه في تفسير « الحسنة » في قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) بـ « المودّة » ... فنقول :

هذا التفسير ورد عن الأئمّة الأطهار من أهل البيت ، كالحسن السبط الزكيّ عليه‌السلام في خطبته التي رواها الحاكم وغيره ، وورد أيضاً في غير واحدٍ من تفاسير أهل السنّة ، عن ابن عبّاس والسدّي وغيرهما ، قال القرطبي : « قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) أي : يكتسب ، وأصل القرف الكسب ، يقال ... قال ابن عبّاس : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) : المودّة لآل محمّد صلى الله عليه وسلّم ، ( نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) أي : تضاعف له الحسنة بعشر فصاعداً ، ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) قال قتادة : غفور للذنوب شكور للحسنات. وقال السدّي : غفور لذنوب آل محمّد عليه‌السلام شكور لحسناتهم » (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٦ / ٢٤.

٢١٢

وقال أبو حيّان : « وعن ابن عبّاس والسدّي : أنّها المودّة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وقال السدّي : غفور لذنوب آل محمّد عليه‌السلام شكور لحسناتهم » (١).

وقال الآلوسي : « روي ذلك عن ابن عبّاس والسدي » (٢).

وهذا القدر كاف ، وهو للقلب السليم شاف ، وللمطلب واف.

وصلّى الله عليه سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين الأشراف.

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٥١٦.

(٢) روح المعاني ٢٥ / ٣٣.

٢١٣
٢١٤

آية المباهلة

٢١٥
٢١٦

قوله تعالى

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ )

وهذه هي الآية المعروفة بآية المباهلة.

استدل بها أصحابنا على إمامة علي أمير المؤمنين وأهل البيت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبيان ذلك في فصول :

٢١٧

الفصل الأوّل

في نزول الآية في أهل البيت عليهم‌السلام

قال الله عزّوجلّ : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ) (١).

وقد خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المباهلة بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام.

ذكر من رواه من الصحابة والتابعين

وروي هذا الخبر عن جماعةٍ من أعلام الصحابة والتابعين ، نذكر هنا من جاءت الرواية عنه في كتب غير الإمامية ، منهم :

١ ـ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

٢ ـ عبدالله بن العباس.

٣ ـ جابر بن عبدالله الأنصاري.

٤ ـ سعد بن أبي وقّاص.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٥٩ ـ ٦٣.

٢١٨

٥ ـ عثمان بن عفان.

٦ ـ سعيد بن زيد.

٧ ـ طلحة بن عبيد الله.

٨ ـ الزبير بن العوام.

٩ ـ عبدالرحمن بن عوف.

١٠ ـ البراء بن عازب.

١١ ـ حذيفة بن اليمان.

١٢ ـ أبو سعيد الخدري.

١٣ ـ أبو الطفيل الليثي.

١٤ ـ جدّ سلمة بن عبديشوع.

١٥ ـ أُمّ سلمة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٦ ـ زيد بن علي بن الحسين عليهما‌السلام.

١٧ ـ علباء بن أحمر اليشكري.

١٨ ـ الشعبي.

١٩ ـ الحسن البصري.

٢٠ ـ مقاتل.

٢١ ـ الكلبي.

٢٢ ـ السدي.

٢٣ ـ قتادة.

٢٤ ـ مجاهد.

أمّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد ناشد القوم في الشورى بنزول الآية فيه .. وسيأتي الخبر قريباً.

٢١٩

وأمّا عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعيد بن زيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، فقد أقرّوا لعليّ عليه‌السلام في ذلك.

كما روى سعد الخبر ، وكان ممّا به اعتذر عن سبّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما في صحيح الأثر ... وسيأتي نصّه.

وأمّا أبو الطفيل فهو راوي خبر المناشدة.

وأمّا الآخرون ... فستأتي نصوص الأخبار في رواياتهم.

ومن رواته من كبار الأئمّة في الحديث والتفسير

وقد اتّفقت كتب الحديث والتفسير والكلام على رواية حديث المباهلة ، إمّا بالأسانيد ، وإمّا بإرساله إرسال المسلّمات ، من أشهرهم :

١ ـ سعيد بن منصور ، المتوفّى سنة ٢٢٧.

٢ ـ أبو بكر عبدالله بن أبي شيبة ، المتوفّى سنة ٢٣٥.

٣ ـ أحمد بن حنبل ، المتوفّى سنة ٢٤١.

٤ ـ عبد بن حُميد ، المتوفّى سنة ٢٤٩.

٥ ـ مسلم بن الحجاج ، المتوفّى سنة ٢٦١.

٦ ـ أبو زيد عمر بن شبّة البصري ، المتوفّى سنة ٢٦٢.

٧ ـ محمّد بن عيسى الترمذي ، المتوفّى سنة ٢٧٩.

٨ ـ أحمد بن شعيب النسائي ، المتوفّى سنة ٣٠٣.

٩ ـ محمّد بن جرير الطبري ، المتوفّى سنة ٣١٠.

١٠ ـ أبو بكر ابن المنذر النيسابوري ، المتوفّى سنة ٣١٨.

١١ ـ أبو بكر الجصّاص ، المتوفّى سنة ٣٧٠.

١٢ ـ أبو عبدالله الحاكم النيسابوري ، المتوفّى سنة ٤٠٥.

٢٢٠