نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٢٠

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وأمّا أنّ الخطاب للمسلمين ، فلوجوهٍ ، منها : السياق ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول :

( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ).

فقد جاءت الآية المباركة بعد قوله تعالى : ( ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ).

فإنّ قلت :

فبعدها : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ... )؟!

قلت :

ليس المراد من ذلك المشركين ، بل المراد هم المسلمون ظاهراً المنافقون باطناً ، يدلّ على ذلك قوله بعده : ( هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) فالخطاب ليس للمشركين ، ولم تستعمل « التوبة » في القرآن إلاّفي العصاة من المسلمين.

فإنّ قلت :

فقد كان في المسلمين في مكّة منافقون؟!

١٦١

قلت :

نعم ، فراجع ( سورة المنافقون ) و ( سورة المدّثّر ) وما قاله المفسرون (١).

وعلى هذا ، فقد كان الواجب على المسلمين عامّة « مودّة » أقرباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فهل ـ يا تُرى ـ أُمروا حينذاك بمودّة أعمامه وبني عمومته؟!

أمّا المشركون منهم ... فلا ، قطعاً ... وأمّا المؤمنون منهم وقت نزول الآية أو بعده ... فأولئك لم يكن لهم أيّ دورٍ يُذكر في مكّةٍ ...

بل المراد « عليٌّ » عليه‌السلام ، فإنّه الذي كان المشركون يبغضونه ويعادونه ، والمنافقون يحسدونه ويعاندونه ، والمؤمنون يحبونه ويوادّونه.

ولا يخفى ما تدلّ عليه كلمتا « المودّة » و « يقترف ».

ثمّ إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سئل ـ في المدينة ـ عن المراد من « القربى » في الآية المباركة قال : « عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين ».

٢ ـ الرسول لا يسأل أجراً

إنّ الرسول من قِبَل الله سبحانه وتعالى لا يسأل الناس أجراً على تبليغ الرسالة إليهم أصلاً ، وإنّما أجره على الله ، وهكذا كان الأنبياء السابقون :

قال نوح لقومه : ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما

__________________

(١) يراجع بهذا الصدد : تفاسير الفريقين ، خاصّة في سورة المدثّر ، المكّيّة عند الجميع ، ويلاحظ اضطراب كلمات أبناء العامّة وتناقضها ، في محاولات يائسة لصرف الآيات الدالّة على ذلك عن ظواهرها ، فراراً من الإجابة عن السؤال بـ « من هم إذا؟ »!!

أمّا الشيعة ... فقد عرفوا المنافقين منذ اليوم الأول ... وللتفصيل مكان آخر ، ولو وجدنا متسعا لوضعنا في هذه المسألة القرآنية التاريخية المهمة جداً رسالة مفردة ، وبالله التوفيق.

١٦٢

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ) (١).

وقال هود : ( يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٢).

وقال صالح : ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ) (٣).

ومن هنا أصرّ بعضهم على أنّ الإستثناء منقطع ، وجوّز بعضهم ـ كالزمخشري وجماعة ـ أن يكون متّصلاً وأن يكون منقطعاً.

أقول :

ونبيّنا أيضاً كذلك كما جاء في آياتٍ عديدة ، منها :

( ... قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) (٤).

( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٥).

( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٦).

وقد أجاب المفسّرون من الفريقين عن هذه الشبهة بأكثر من وجه ، وفي

__________________

(١) سورة الشعراء ٢٦ : ١٠٧ ـ ١٠٩.

(٢) سورة هود ١١ : ٥١.

(٣) سورة الشعراء ٢٦ : ١٤٣ ـ ١٤٥.

(٤) سورة الأنعام ٦ : ٩٠.

(٥) سورة سبأ ٣٤ : ٤٧.

(٦) سورة الفرقان ٢٥ : ٥٧.

١٦٣

تفسيريّ الخازن والخطيب الشربيني منها وجهان ...

ولكنْ يظهر ـ بالدقّة ـ أنّ الآيات في الباب بالنسبة إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أربعة أنحاء :

١ ـ ما اشتمل على عدم سؤال الأجر.

٢ ـ ما اشتمل على سؤال الأجر ، لكنّهم « لكم ».

٣ ـ ما اشتمل على عدم سؤال الأجر ، وطلب « اتّخاذ السبيل إلى الله » عن اختيار.

٤ ـ ما اشتمل على سؤال الأجر ، وهو « المودّة في القربى ».

وأيّ تنافٍ بين هذه الآيات؟! يا منصفون!

إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسأل الناس أجراً ، إنّما يريد منهم أنْ يتّخذوا سبيلاً إلى الله ، وهو ما لا يتحقّق إلاّبمودّة أهل البيت ، وهو لهم ... ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام : « نحن السبيل » (١) ... نعم هم السبل ، وخاصّة « إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً ، وتظاهرت الفتن ، وتقطّعت السبل ... » (٢).

فإذن ... هم .. السبيل ... وهذا معنى هذه الآية في محكم التنزيل ، ولا يخفى لوازم هذا الدليل ، فافهم واغتنم ، و ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... ) وحسبنا الله ونعم الوكيل.

٣ ـ لما ذا لم يقل : إلاّ المودّة للقربى؟

وطَرْحُ هذه الشبهة من مثل الدهلوي غير بعيد ، لكنّه من مثل ابن تيميّة الذي يدّعي العربيّة عجيب!! وليته راجع كلام أهل الفنّ :

__________________

(١) فرائد السمطين ، عنه في ينافع المودّة : ٢٢.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٦٥.

١٦٤

قال الزمخشري : « يجوز أن يكون استثناء متّصلاً ، أي : لا أسألكم أجراً إلاّهذا ، وهو أن تودّوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ، لأنّ قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة.

ويجوز أن يكون منقطعاً ، أي : لا أسألكم أجراً قطّ ، ولكنّني أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم.

فإنّ قلت : هلاّ قيل : إلاّمودّة القربى ، أو : إلاّ المودّة للقربى؟ وما معنى قوله : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )؟

قلت : جُعلوا مكاناً للمودّة ومقرّاً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوىً وحبٌّ شديد. تريد : أحبّهم وهم مكان حبّي ومحلّه ، وليست « في » بصلةٍ للمودّة كاللام إذا قلت : إلاّ المودّة للقربى ، إنّما هي متعلقة بمحذوفٍ تعلّق الظرف به في قولك : المال في الكيس. وتقديره :

إلاّ المودّة ثابتة في القربى ومتمكّنة فيها. والقربى مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى قرابة ، والمراد : في أهل القربى. وروي أنّها لمّا نزلت قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : عليٌّ وفاطمة وابناهما.

ويدلّ عليه ما روي عن عليّ رضي‌الله‌عنه : شكوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسد الناس لي ، فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذرّيّتنا خلف أزواجنا! » (١).

وأجاب الفخر الرازي بأن قال : « جُعلوا مكاناً للمودّة ومقرّاً لها ، كقولك : لي في آل فلانٍ مودّة ، ولي فيهم هوىً وحبّ شديد. تريد أُحبهم وهم مكان

__________________

(١) الكشّاف في تفسير القرآن ٤ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

١٦٥

حبّي ومحلّه » (١).

وكذا أبو حيّان واستحسنه (٢).

وقال النيسابوري : « ثمّ أمر الله رسوله بأنْ يقول : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ ) على هذا التبليغ ( أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ ) الكائنة ( فِي الْقُرْبى ) جُعلوا مكاناً للمودّة ومقرّاً لها ، ولهذا لم يقل : مودّة القربى ، أو : المودّة للقربى ، وهي مصدر بمعنى القرابة ، أي : في أهل القربى ، وفي حقّهم » (٢).

وقال أبو السعود بعد أنْ جعل الاستثناء متصلا : « وقيل : الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم أجراً قطّ ولكن أسألكم المودّة.

و ( فِي الْقُرْبى ) حال منها. أي : المودّة ثابتة في القربى متمكنة في أهلها أو في حقّ القرابة. والقربى مصدر كالزلفى ، بمعنى القرابة. روي : أنّها لمّا نزلت قيل : يا رسول الله ، من قرابتك ... » (٣).

وراجع أيضاً تفاسير : البيضاوي والنسفي والشربيني ، وغيرهم.

٤ ـ المعارضة

وهذه هي الشبهة الأخيرة ، وهي تتوقّف على اعتبار ما أخرج أحمد وغيره عن طاووس عن ابن عبّاس ، والجواب عنها بالتفصيل في الفصل الرابع ..

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٧.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٥١٦.

(٣) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري ـ ٢٥ / ٣٣.

(٤) تفسير أبي السعود ٨ / ٣٠.

١٦٦

الفصل الرابع

الأخبار والأقوال

قد ظهر إلى الآن أن نزول الآية المباركة في « أهل البيت » هو المتبادر من لفظها ، وأنّ القول بذلك مستند إلى أدلّة معتبرة في كتب السنّة ، وأنّه محكيٌّ عن أئمّة أهل البيت : أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو أعلم الأصحاب بكتاب الله بالإجماع ، والحسن السبط عليه‌السلام ، والحسين الشهيد عليه‌السلام ، والإمام السجاد علي بن الحسين عليه‌السلام ، والإمام الباقر عليه‌السلام ، والإمام الصادق عليه‌السلام.

ورواه عدّة من كبار الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال به ابن عبّاس ، في ما رواه عنه سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي وغيرهم ، بل أرسله عنه أبو حيان إرسال المسلَّم ، وسنذكر عبارته.

وهو قول : سعيد بن جبير ، وعمرو بن شعيب ، والسدّي ، وجماعة.

أدلّة وشواهد أُخرى للقول بنزول الآية في أهل البيت

وقد ذكر هذا القول غير واحدٍ من المفسّرين وغيرهم فلم يردّوه.

بل لم يرجّحوا عليه غيره ، بل ذكروا له أدلّة وشواهد ومؤيّدات ، من الأخبار والروايات.

* كالزمخشري ، فإنّه ذكر هذا القول ، وروى فيه الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قيل : يا رسول الله ، مَن قرابتك ... « قال : « ويدلّ عليه ما

١٦٧

روي عن عليّ .. » الحديث ، وقد تقدّم ، ثمّ قال بعده :

« وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم : حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعةً إلى أحدٍ من ولد عبدالمطّلب ولم يجازه عليها فأنا أُجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة.

وروي : إنّ الأنصار قالوا : فعلنا وفعلنا ... » الحديث ، وقد تقدّم.

قال : « وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : مَنْ مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفُّ إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة » (١).

* والرازي حيث قال : « روى الكلبي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا قدم المدينة ، كانت تعروه نوائب وحقوق ، وليس في يده سعة ، فقال الأنصار : إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أُختكم وجاركم في بلدكم ، فاجمعوا له طائفةً من أموالكم ، ففعلوا ، ثمّ أتوه به فردّه عليهم ، فنزل قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) أي على الإيمان إلاّ أنْ تودّوا أقاربي ، فحثّهم على مودّة أقاربه ».

ثمّ إنّه أورد الرواية عن الزمخشري قائلاً ، « نقل صاحب الكشّاف عن

__________________

(١) الكشّاف في تفسير القرآن ٤ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

١٦٨

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : من مات على حب آل محمّد ... » إلى آخره. ثمّ قال :

« وأنا أقول : آل محمّد هم الّذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ التعلّقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل.

وأيضاً : اختلف الناس في الآل ، فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم أُمته. فإنّ حملناه على القرابة فهم الآل ، وإنْ حملناه على الأمّة الّذين قبلوا دعوته فهم أيضاً الآل ، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل ، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه.

وروى صاحب الكشّاف : إنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : عليٌّ وفاطمة وابناهما. فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ.

وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شكّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يحبّ فاطمة عليها‌السلام ، قال صلّى الله عليه وسلّم : فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما يؤذيها. وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله أنّه كان يحب عليّاً والحسن والحسين. وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمّة مثله لقوله : ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله سبحانه : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).

١٦٩

الثالث : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جُعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة ، وهو قوله : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وارحم محمّداً وآل محمّد. وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الال ، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب. وقال الشافعي رضي‌الله‌عنه :

يا راكباً قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (١)

* وذكر النيسابوري محصّل كلام الرازي قائلاً : « ولا ريب أنّ هذا فخر عظيم ، وشرف تامّ ، ويؤيّده ما روي ... » (٢).

* وقال القرطبي : « وقيل : ( الْقُرْبى ) قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، أي : لا أسألكم أجراً إلاّ أنْ تودّوا قرابتي وأهل بيتي ، كما أمر بإعظامهم ذوي القربى. وهذا قول عليّ بن حسين وعمرو بن شعيب والسدّي. وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : لمّا أنزل الله عزّ وجلّ ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الّذين نودّهم؟ قال : عليٌّ وفاطمة وأبناؤهما. ويدلّ عليه أيضاً ما روي عن عليّ رضي‌الله‌عنه قال : شكوت إلى النبيّ حسد الناس ... وعن النبيّ : حرمت الجنّة ...

وكفى قبحاً بقول من يقول : إنّ التقرّب إلى الله بطاعته ومودة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته منسوخ ، وقد قال النبيّ : من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله زوّار قبره الملائكة

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٦.

(٢) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري ـ ٢٥ / ٣٣.

١٧٠

والرحمة (١) ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس اليوم من رحمة الله ، ومن مات على بغض آل محمّد لم يرح رائحة الجنة ، ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي.

قلت : وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا ، فقال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... » فذكره ... (٢).

* وقال الخطيب الشربيني : « فقيل : هم فاطمة وعلي وابناهما. وفيهم نزل : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣).

* وقال الآلوسي : « وقيل : عليٌّ وفاطمة ووُلدها رضي الله تعالى عنهم ، وروي ذلك مرفوعاً : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، من طريق ابن جبير عن ابن عبّاس ، قال : لما نزلت هذه الآية ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ ) إلى آخره. قالوا : يا رسول الله ... وقد تقدّم.

إلاّ أنّه روي عن جماعة من أهل البيت ما يؤيّد ذلك ... ».

فروى خبر ابن جرير عن أبي الديلم « لمّا جيء بعليّ بن الحسين .. » وخبر زاذان عن عليّ عليه‌السلام ... وأورد قول الكميت الشاعر والهيتي أحد أقاربه ... وقد تقدّم ذلك كلّه. ثمّ روى حديث الثقلين ، ثمّ قال :

« وأخرج الترمذي وحسّنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشّعب ، عن ابن عبّاس ، قال : قال عليه الصلاة والسلام : أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة ، وأحبّوني لحبّ الله تعالى ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي.

__________________

(١) كذا.

(٢) تفسير القرطبي ١٦ / ٢٣.

(٣) السراج المنير ٣ / ٥٣٧ ـ ٥٣٨.

١٧١

وأخرج ابن حبّان والحاكم ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى عليه وسلّم : والذي نفسي بيده ، لا يبغضنا أهل البيت رجل إلاّ أدخله الله تعالى النار. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة من الأخبار ، وفي بعضها يدلّ على عموم القربى وشمولها لبني عبدالمطّلب :

أخرج أحمد والترمذي ـ وصححه ـ والنسائي ، عن المطّلب بن ربيعة ، قال : دخل العبّاس على رسول الله صلى عليه وسلّم فقال : إنّا لنخرج فنرى قريشاً تحدّث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله ودرّ عرق بين عينيه ، ثمّ قال : والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتّى يحبّكم لله تعالى ولقرابتي.

وهذا ظاهر إنْ خصّ ( الْقُرْبى ) بالمؤمنين منهم ، وإلاّ فقيل : إنّ الحكم منسوخ. وفيه نظر. والحقّ وجوب محبّة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث إنّهم قرابته كيف كانوا ، وما أحسن ما قيل :

داريتُ أهلك في هواك وهم عِدى

ولأجل عين ألفُ عين تكرمُ

وكلّما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودّة أشدّ ، فمودّة العلويّين ألزم من محبّة العبّاسيّين على القول بعموم ( الْقُرْبى ) ، وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضاً باعتبار تفاوت الجهات والإعتبارات ، وآثار تلك المودّة التعظيم والإحترام والقيام بأداء الحقوق أتمّ قيام ، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتّى عَدّوا من الفرض السلوك في هاتيك المسالك ، وأنا أقول قول الشافعي الشافي العيّ :

يا راكبا قف بالمحصب من منى ... » الأبيات (١).

__________________

(١) روح المعاني ٢٥ / ٣١ ـ ٣٢.

١٧٢

أقول :

هذا هو القول الأوّل ، وهو الحقّ ، أعني نزول الآية المباركة في خصوص : عليٌّ وفاطمة والحسنين ، وعلى فرض التنزّل وشمولها لجميع قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما ورد في خصوص أهل البيت يخصّصها.

فهذا هو القول الأوّل.

الردّ على الأقوال الأُخرى

وفي مقابله أقوال :

أحدها : إنّ المراد من ( الْقُرْبى ) القرابة التي بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين قريش « فقال : إلاّ أن تصِلوا ما بيني وبينكم من القرابة ».

والثاني : إنّ المراد من ( الْقُرْبى ) هو القرب والتقرّب إلى الله ، أي : إلاّ أن تودّوا إلى الله في ما يقرّبكم إليه من التودّد إليه بالعمل الصالح.

والثالث : إنّ المراد من ( الْقُرْبى ) هو « الأقرباء » ولكن لا أقرباء النبيّ مطلقاً ، بل المعنى : إلاّ أن تودّوا قرابتكم وتصِلوا أرحامكم.

والرابع : إنّ الآية منسوخة بقوله تعالى : ( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (١).

أقول :

أمّا القول الأخير فقد ردّه الكلّ ، حتى نصّ بعضهم على قبحه ، وقد بيّنّا أن لا منافاة بين الآيتين أصلاً ، بل إحداهما مؤكّدة لمعنى الأُخرى.

__________________

(١) سورة سبأ ٣٤ : ٤٧.

١٧٣

وأمّا الذي قبله ، فلا ينبغي أن يُذكر في الأقاويل ، لأنّه قولٌ بلا دليل ، ولذا لم يعبأ به أهل التفسير والتأويل.

وأمّا القول بأنّ المراد هو « التقرّب » فقد حكي عن الحسن البصري (١) وظاهر العيني اختياره له (٢). واستدلّ له في ( فتح الباري ) بما أخرجه أحمد من طريق مجاهد عن ابن عبّاس أيضاً : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : « قل لا أسألكم عليه أجرا على ما جئتكم به من البيّنات والهدى إلاّ أن تقرّبوا إلى الله بطاعته ».

لكن قال ابن حجر : « وفي إسناده ضعف » (٣).

وهو مردود أيضاً بأنّه خلاف المتبادر من الآية ، وأنّ النصوص على خلافه ... وهو خلاف الذوق السليم.

وأمّا القول الأوّل من هذه الأقوال ، فهو الذي اقتصر عليه ابن تيميّة ، فلم يذكر غيره ، واختاره ابن حجر ، ورجّحه الشوكاني ... والدليل عليه ما أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم ، عن طاووس عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، وقد تقدّم في أوّل أخبار المسألة.

ويقع الكلام على هذا الخبر في جهتين :

الجهة الأُولى : جهة السند

فإنّ مدار الخبر على « شعبة بن الحجّاج » وقد كان هذا الرجل ممّن يكذب ويضع على أهل البيت ، فقد ذكر الشريف المرتضى رحمه‌الله (٤) أنّه روى

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ / ١٦٥ ، فتح الباري ٨ / ٤٥٨ وغيرهما.

(٢) عمدة القاري ١٩ / ١٥٧.

(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٨ / ٤٥٨.

(٤) الشافي في الإمامة ٤ / ١١٦.

١٧٤

عن جعفر بن محمّد أنّه كان يتولّى الشيخين! فمن يضع مثل هذا لا يستبعد منه أن يضع على ابن عبّاس في نزول الآية.

ثمّ إنّ الراوي عن شعبة عند أحمد « يحيى بن عبّاد الضبعي البصري » قال الخطيب : « نزل بغداد وحدّث بها عن شعبة ... روى عنه أحمد بن حنبل ... » (١).

وقد أورد ابن حجر هذا الرجل فيمن تُكلّم فيه من رجال البخاري ، فنقل عن الساجي أنّه ضعيف ، وعن ابن معين أنّه ليس بذاك وإنْ صدّقه (٢).

وروى الخطيب بإسناده عن ابن المديني ، قال : سمعت أبي يقول : يحيى ابن عبّاد ليس ممن أُحدّث عنه ، وبشّار الخفّاف أمثل منه.

وبإسناده عن يحيى بن معين : لم يكن بذاك ، قد سمع وكان صدوقاً ، وقد أتيناه ، فأخرج كتاباً ، فإذا هو لا يحسن أن يقرأه ، فانصرفنا عنه.

وبإسناده عن الساجي : ضعيف ، حدّث عنه أهل بغداد. سمعت الحسن بن محمّد الزعفراني يحدّث عنه عن الشعبي وغيره ، لم يحدّث عنه أحد من أصحابنا بالبصرة ، لا بندار ولا ابن المثّنى.

وقد أورده الذهبي في ميزانه مقتصراً على تضعيف الساجي (٣).

والراوي عن شعبة عند البخاري « محمّد بن جعفر ـ غندر » وقد أدرجه ابن حجر فيمن تُكلّم فيه ، بمناسبة قول أبي حاتم : « يُكتب حديثه عن غير شعبة ويُحتجّ به » (٤) ، وبهذه المناسبة أيضاً أورده الذهبي في ميزانه (٥).

والراوي عنه : « محمّد بن بشّار » وهو أيضاً ممن تكلّم فيه غير واحدٍ من

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٤ / ١٤٤.

(٢) مقدمة فتح الباري : ٤٥٢.

(٣) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٨٧.

(٤) مقدّمة فتح الباري : ٤٣٧.

(٥) ميزان الاعتدال ٣ / ٥٠٢.

١٧٥

أئمّتهم ، وأدرجه ابن حجر فيمن تُكلّم ، فيه فذكر تضعيف الفلاّس ، وأنّ يحيى بن معين كان يستضعفه ، وعن أبي داود : لولا سلامة فيه لتُرك حديثه (١).

لكن في ميزان الإعتدال : « كذّبه الفلاس » وروى عن الدورقي : « كنّا عند يحيى بن معين فجرى ذكر بندار ، فرأيت يحيى لا يعبأ به ويستضعفه » قال : « ورأيت القواريري لا يرضاه » « وكان صاحب حمام » (٢).

أقول :

لقد كان هذا حال عمدة أسانيد حديث طاووس عن ابن عبّاس ، والإنصاف أنّه لا يصلح للاحتجاج فضلاً عن المعارضة ، على أنّ كلام الحاكم في كتاب التفسير صريح في رواية البخاري ومسلم هذا الحديث عن طريق طاووس عن ابن عبّاس باللفظ الدالّ على القول الحقّ ، وهذا نصّ كلامه : « إنّما اتّفقا في تفسير هذه الآية على حديث عبدالملك بن ميسرة الزرّاد عن طاووس عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، أنّه في قربى آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وأرسل ذلك أبو حيّان عن ابن عبّاس إرسال المسلّم ، فإنّه بعد أنْ ذكر القول الحقّ قال : « وقال بهذا المعنى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيراً ، وهو قول ابن جبير والسدّي وعمرو ابن شعيب. وعلى هذا التأويل قال ابن عبّاس : قيل : يا رسول الله ، مَن قرابتك الّذين أُمرنا بمودّتهم؟ فقال : عليٌّ وفاطمة وابناهما » (٣).

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٤٣٧.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ٤٩٠.

(٣) البحر المحيط ٧ / ٥١٦.

١٧٦

والجهة الثانية : في فقه الحديث

وفيه :

أوّلاً : إنّ من غير المعقول أن يخاطب الله ورسوله المشركين بطلب الأجر على أداء الرسالة ، فإنّ المشركين كافرون ومكذّبون لأصل هذه الرسالة ، فكيف يطلب منهم الأجر؟!

وثانياً : إنّ هذه الآية مدنيّة ، وقد ذُكرت في سبب نزولها روايات تتعلّق بالأنصار.

وثالثاً : على فرض كونها مكّيّة ، فالخطاب إنّما هو للمسلمين لا للمشركين كما بيّنّا.

وبعد ، فلو تنزّلنا وجوّزنا الأخذ سنداً ودلالةً بما جاء في المسند وكتابَي البخاري ومسلم عن طاووس عن ابن عبّاس ، فلا ريب في كونه نصّاً في ذهاب سعيد بن جبير إلى القول الحقّ.

وأمّا رأي ابن عبّاس فمتعارض ، والتعارض يؤدي إلى التساقط ، فلا يبقى دليل للقول بأنّ المراد هو « القرابة » بين النبيّ وقريش ، لأنّ المفروض أنْ لا دليل عليه إلاّهذا الخبر.

لكنّ الصحيح أنّ ابن عبّاس ـ وهو من أهل البيت وتلميذهم ـ لا يخالف قولهم ، وقد عرفت أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ينصّ على نزول الآية فيهم ، وكذا الإمام السجّاد ... ولم يناقش أحد في سند الخبرين ، وكذا الإمامان السبطان والإمامان الصادقان ... فكيف يخالفهم ابن عبّاس في الرأي؟!

لكن قد تمادى بعض القوم في التزوير والتعصب ، فوضعوا على لسان ابن عبّاس أشياء ، ونسبوا إليه المخالفة لأمير المؤمنين عليه‌السلام في قضايا ،

١٧٧

منها قضية المتعة ، حتى وضعوا حديثاً في أنّ عليّاً عليه‌السلام كان يقول بحرمة المتعة ، فبلغه أنّ ابن عبّاس يقول بحلّيّتها ، فخاطبه بقوله : إنّك رجل تائه »! ومع ذلك لم يرجع ابن عبّاس عن القول بالحلّيّة (١)!

ولهذا نظائر لا نطيل المقام بذكرها ...

والمقصود أنّ القوم لمّا رأوا رواية غير واحدٍ من الصحابة ـ وبأسانيد معتبرة ـ نزول الآية المباركة في « أهل البيت » ووجدوا أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام مجمعين على هذا القول ... حاولوا أوّلاً تضعيف تلك الأخبار ، ثمّ وضع شئ في مقابلها عن واحدٍ من علماء أهل البيت ليعارضوها به ، وليلقوا الخلاف بينهم بزعمهم ... ثمّ يأتي مثل ابن تيمية ـ ومن تبعه ـ فيستدلّ بالحديث الموضوع ، ويكذّب الحديث الصحيح المتّفق عليه بين المسلمين.

تنبيهان

الأوّل

قد تنبّه الفخر الرازي إلى أنّ ما ذكره في ذيل الآية من الأدلّة على وجوب محبّة أهل البيت وإطاعتهم واحترامهم ، وحرمة بغضهم وعدائهم ... يتنافى مع القول بإمامة الشيخين وتعظيم الصحابة قاطبةً ... ولا سيّما بالنظر إلى ما كان من القوم بالنسبة إلى أهل البيت وصدر منهم تجاههم ، فحاول أن يتدارك ذلك فقال :

« قوله : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) فيه منصب عظيم للصحابة!! لأنّه تعالى قال : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ). فكلّ من أطاع الله كان مقرّباً عند الله تعالى ، فدخل تحت قوله : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )!

__________________

(١) راجع : رسالتنا في المتعتين ، في كتابنا ( الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كتب السنّة ).

١٧٨

والحاصل : إنّ هذه الآية تدل على وجوب حبّ آل رسول الله وحبّ أصحابه ، وهذا المنصب لا يسلم إلاّعلى قول أصحابنا أهل السنّة والجماعة الّذين جمعوا بين حبّ العترة والصحابة.

وسمعت بعض المذكّرين قال : إنّه صلّى الله عليه وسلّم قال : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا. وقال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات ، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين : أحدهما : السفينة الخالية عن العيوب والثقب. والثاني : الكواكب الظاهرة الطالعة النيّرة ، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً. فكذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمّد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة ، فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة » (١)!!

وكذلك النيسابوري ، فإنّه قال : « قال بعض المذكّرين : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق. وعنه صلّى الله عليه وسلّم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. فنحن نركب سفينة حبّ آل محمّد ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة ، أعني آثار الصحابة ، لنتخلّص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ، ومن أمواج الشبهة والضلالة » (٢)!!

وكذلك الآلوسي ، فإنّه قال مثله وقد استظرف ما حكاه الرازي ، قال الآلوسي بعد ما تقدم نقله عنه في وجوب محبّة أهل البيت ومتابعتهم وحرمة

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ / ١٦٦.

(٢) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري ـ ٢٥ / ٣٥.

١٧٩

بغضهم ومخالفتهم :

« ومع هذا ، لا أعدّ الخروج عمّا يعتقده أكابر أهل السنّة في الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ديناً ، وأرى حبّهم فرضاً عليّ مبيناً ، فقد أوجبه أيضاً الشارع ، وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين ... » (١).

أقول :

لقد أحسن النيسابوري والآلوسي إذ لم يتّبعا الفخر الرازي في ما ذكره في صدر كلامه ، فإنّي لم أفهم وجه ارتباط مطلبه بآية المودّة ... على أنّ فيه مواضع للنظر ، منها : استدلاله بقوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) والحال أن الآية فسّرت في كتب الفريقين في هذه الأُمّة بعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وأمّا الحكاية الظريفة عن بعض المذكرين ، فإنّ من سوء حظّ هذا المذكِّر ـ وهؤلاء المذكَّرين!! ـ تنصيص عشراتٍ من الأئمّة المعتمدين على بطلان حديث النجوم ووضعه وسقوطه كما سيأتي.

الثاني :

قال الرازي ـ في الوجوه الدالّة على اختصاص الأربعة الأطهار بمزيد التعظيم ـ : « الثالث : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله : اللهمّ صلّ ... » وقد تعقّب بعض علمائنا هذا

__________________

(١) روح المعاني ٢٤ / ٣٢.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٠٢ وسيأتي البحث عن هذه الآية بالتفصيل.

١٨٠