نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٢

دحض مزاعم الدّهلوي

لإثبات مساواة الثلاثة للأنبياء

٣٦١
٣٦٢

ثمّ إنّ ( الدهلوي ) ذكر أنّ تفضيل الإمام عليه‌السلام على الثلاثة عن طريق المساواة للأنبياء في صفاتهم بالحديث الشريف ، يتوقّف على عدم مساواة الثلاثة لهم كذلك ، فاستنكر هذا النفي ، وتشبّث بأشياء واهيةٍ لإثبات المساواة ، حتّى لا تثبت الأفضليّة للإمام عليه‌السلام ، ونحن نذكر كلماته ونفنّدها بالتفصيل :

قوله :

الرابع : إنّ تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين للأنبياء في الصفات المذكورة أو في مثلها.

أقول :

لقد أثبتنا دلالة الحديث على أنّ الإمام أفضل من الأنبياء عليه وعليهم‌السلام ، فلا حاجة إلى إثبات دلالته على أفضليته من الثلاثة ، الذين لا سبيل إلى إثبات مساواتهم لهم.

وقد مرّ عليك ، أنّ أبا بكر لمّا سمع هذا الكلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استغرب ثمّ قال : بخ بخ لك يا أبا الحسن ، وأين مثلك يا أبا الحسن!

و ( الدهلوي ) نفسه يعترف بعدم اعتقاد أهل السنّة ذلك في حق الشيخين ..

وإن شئت الوقوف على حلم عمر ، فراجع حديث قصّته مع أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ( البخاري ) و ( المشكاة ). وإنْ شئت الوقوف على

٣٦٣

شجاعة الشيخين فراجع أحاديث وقعة خيبر وغيرها في ( كنز العمّال ) ، وإن شئت الوقوف على علمهما وتقواهما ، فراجع كتاب ( تشييد المطاعن ).

قوله :

ودون هذا النفي خرط القتاد.

أقول :

قد ثبت ـ والحمد لله أنّ هذا النفي صحيح باعتراف المخاطب ، وأنّ زعم مساواة الشيخين للأنبياء دونه خرط القتاد.

قوله :

ولو تتبّعنا الأحاديث الدالّة على تشبيه الشيخين بالأنبياء ، لبلغت مبلغاً لم يثبت مثله لمعاصريهما.

خبر واحد موضوع

أقول :

يكذِّب هذا الزعم إعتراف أبي بكر بعدم وجود مثيل للإمام عليه‌السلام ، ثمّ إنّ على ( الدهلوي ) :

أولاً : أنْ يثبت للشيخين أكثر من تسعين خصلة من خصال الأنبياء ، كما ثبت لعلي بالحديث.

وثانياً : أن يذكر حديثاً واحداً يعارض به حديث اعتراف أبي بكر المذكور ، وأنّى له بذلك.

٣٦٤

وثالثاً : أنْ يذكر وجه الاحتجاج بموضوعات طائفته في مقابلة الشيعة الإماميّة.

ومن العجيب أنّ ( الدهلوي ) يدّعي وجود الأحاديث الكثيرة ، مع أنّه لم يذكر إلاّحديثاً واحداً قد عرفت مدى دلالته ، وليته ذكر حديثاً واحداً اشتمل على الخصال الخمس المذكورة للشيخين ، ولو من كتب قومه ، ليعارض به حديث التشبيه.

نعم هناك حديث واحد اعترفوا بوضعه ، قال السيوطي في ( ذيل الموضوعات ) :

« ابن عساكر : أخبرنا أبو محمّد الأكفاني ، حدّثنا عبدالعزيز بن أحمد ، أنا إسحاق بن إبراهيم بن محمّد القرميني ، حدّثنا عمر بن علي بن سعيد ، حدّثنا يوسف بن الحسن البغدادي ، ثنا محمّد بن القاسم ، حدّثنا أبو يعلى أحمد بن علي ابن المثنّى ، حدّثنا محمّد بن بكار ، حدّثنا أبي ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من أحبّ أن ينظر إلى إبراهيم في خلّته ، فلينظر إلى أبي بكر في سماحته ، ومن أحبّ أن ينظر إلى نوح في شدّته ، فلينظر إلى عمر بن الخطّاب في شجاعته ، ومن أحبّ أن ينظر إلى إدريس في رفعته ، فلينظر إلى عثمان في رحمته ، ومن أحب أن ينظر إلى يحيى بن زكريّا في عبادته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب في طهارته.

قال ابن عساكر : هذا حديث شاذ بمرّة. وفي إسناده غير واحد مجهول ».

٣٦٥

نسبة باطلة إلى الصّوفية

قوله :

ولهذا ذكر المحقّقون من أهل التصوف أن الشيخين كانا حاملين لكمالات النبوة ، وكان الأمير حاملا لكمالات الولاية.

أقول :

لا يخفى على أهل العلم : أنّ الغرض المهم ( للدهلوي ) هو الحطّ من قدر الإمام عليه‌السلام وشأنه ، وذكر اختصاص الإمام عليه‌السلام بالكمالات الولوية ـ خلافاً لوالده ـ ليس إلاّلتخديع العوام وتغريرهم.

إنّ أهل الفضل يعلمون بأنّ الشيخ فريد الدين العطّار النيسابوري ـ وهو من مشايخ الصوفية ـ ضمّن معنى حديث التشبيه ، في شعرٍ له ، وأنّ الحكيم السّنائي قد شبّه الإمام عليه‌السلام بنوحٍ ، في شعر له كذلك.

وأيضاً ، فإنّ بعض أكابر الصوفية ـ كالسيّد علي الهمداني ، وأمير ملاّ ـ يروون حديث التشبيه ، بل لقد روى السيّد علي الهمداني حديثاً فيه : إنً الإمام عليه‌السلام قد جمع تسعين خصلة من خصال الأنبياء لم تجمع في غيره.

وأيضاً ، فإنّ أبا نعيم الحافظ الإصفهاني ـ وهو من أئمّة الصوفيّة كما هو معلوم ـ ممّن أخرج بإسناده حديث التشبيه ، وكذا الطالقاني.

فمن الغريب نسبة ( الدهلوي ) هذا الكلام إلى المحقّقين من الصوفيّة ، من غير أنْ يذكر اسم لقائل ، وهؤلاء مشايخ الصوفية وأئمّتهم قد رووا حديث التشبيه وأثبتوه.

٣٦٦

عدم حجيّة أقوال أهل السنّة على الإماميّة

ولمّا ثبت وتحقّق جمع الإمام عليه‌السلام للكمالات النبويّة ، من العلم ، والحلم ، والتقوى ، والزهد ، والشجاعة ، وغيرها ، برواية أكابر علماء أهل السنّة وأئمّة مشايخ الصوفية منهم ، فإنّا لا نصغي إلى ما قاله ( الدهلوي ) من عند نفسه ، مع عزوه إلى محقّقي الصوفية.

ثمّ إنّه لا يجوز إلزام الإماميّة بأقوال أحد من أهل السنّة ، مفسراً كان أو محدّثاً ، أو متكلّماً أو فقيهاً ، صوفيّاً أو عارفاً ، وذلك :

أوّلاً : لأنّه إذا كانت أقوال أهل السنّة حجة على الإمامية ، فلا بدّ من أن تكون أقوال الشيعة حجة على أهل السنّة كذلك.

وثانياً : لأنّ احتجاج ( الدهلوي ) بشيء من أقاويل أهل طائفته ، يخالف التزامه في أوّل كتابه ( التحفة ) من نقل أقوال الشيعة ورواياتهم ، لإلزامهم بها.

وثالثاً : لأنّه صرّح في ديباجة كتابه ( التحفة ) بأنّ لكلّ فرقة أنْ لا تثق بأحاديث الفرقة الأخرى ، فلا بدّ من إلزام كلّ فرقة بأحاديث نفس تلك الفرقة المروية في كتبها ، بل في خصوص الكتب المعتبرة عندهم منها.

ورابعاً : لتصريح والده في كتاب ( قرة العينين ) بعدم جواز إلزام الشيعة الإمامية والزيدية ، بأحاديث أهل السنّة ، حتّى أحاديث الصحيحين.

وخامساً : لتصريح تلميذه رشيد الدين الدهلوي ، بأنّ من حقّ كلّ فرقة أن تقدح في أحاديث الفرقة التي ينتمي إليها الخصم ، ولا تسلّم بها.

فبناءً على هذا كلّه ، لا يجوز الاحتجاج بأقاويل الصوفيّة من أهل السنّة في مقام البحث والمناظرة مع الشيعة الإماميّة.

وعلى هذا الأساس أيضاً ، لا مناص لأهل السنّة من قبول الأحاديث التي يتمسّك بها الإماميّة لإثبات مطلوبهم ، محتجّين بإخراج علماء أهل السنّة

٣٦٧

لها في كتبهم المعتمدة ، كحديث الطير ، وحديث الولاية ، وحديث أنا مدينة العلم ، وحديث التشبيه ، وأمثالها ... ومن هنا يظهر أنّ من لا يقبل هذه الأحاديث ويردّها ، ( كالدهلوي ) والكابلي ، وابن حجر المكّي ، وابن تيميّة ، وأمثالهم ، يخالف القواعد المقررة للبحث والمناظرة ، من غير مجوّز لذلك ، فليس إلاّ التعصّب الشديد ، والتعنّت المقيت ، نعوذ بالله منه.

دعوى صدور وظائف الأنبياء من الشيخين وبطلانها

قوله :

ومن ثمة ، صدر من الشيخين الأمور التي تصدر من الأنبياء ، كالجهاد مع الكفار ...

أقول :

إن أراد من جهاد الشيخين ، جهادهما في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالواقع أنّه لم يكن منهما إلاّ الفرار المخزي ، كما لا يخفى على المطّلع بأخبار خيبر ، وحنين ، واحد ، بل ذلك كلّه مشهور ولا حاجة إلى بيانه.

وإن أراد ما كان من الفتح في زمانهما ـ فمع غضّ النظر عن وقوع الفتح في زمن الثالث ، بل زمن معاوية ، فيثبت لهما ما يدّعي ثبوته للشيخين ، بل ليزيد بن معاوية ومن بعده من السّلاطين ، لوقوع الفتوح في زمانهم ـ نقول : بأنّ الفتح لا يدلّ على غرضه ، وذلك لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر ». وقوله : « إنّ الله يؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم » وقوله : « إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله » أخرج ذلك البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وغيرهم.

٣٦٨

قال الشيخ عبدالرؤوف المناوي في ( فيض القدير ) :

« إنّ الله ليؤيد الدين. أي الدين المحمّدي ، بدليل قوله في الخبر الآتي : إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر ، واللاّم للعهد ، والمعهود الرجل المذكور ، أو للجنس.

ولا يعارضه خبر مسلم الآتي : إنّا لا نستعين بمشرك. إذ هو خاص بذلك الوقت ، وحجة النسخ شهود صفوان بن أميّة حنيناً مشركاً.

قال ابن المنير : فلا يتخيّل في إمام أو سلطانٍ فاجر إذا حمى بيضة الإسلام أنّه مطروح في الدّين لفجوره ، فيجوز الخروج عليه وخلعه ، لأنّ الله تعالى قد يؤيّد دينه وفجوره على نفسه ، فيجب الصّبر عليه وطاعته في غير إثم ، ومنه جوّزوا الدّعاء للسّلطان بالنّصر والتأييد مع جوره.

قاله لمّا رآى في غزوة خيبر رجلاً يدّعي الإسلام يقاتل شديداً ، هذا من أهل النّار ، فخرج وقتل نفسه من شدّة وجعه ، فذكره.

أو المراد الفاسق المجاهد في سبيل الله.

طب عن عمر بن النّعمان بن مقرن بضمّ الميم وفتح القاف وشدّة الواو بالنّون ، المزني ، قال ابن عبدالبر : له صحبة ، وأبوه من جملة الصّحابة ، قتل النّعمان شهيداً بوقعة نهاوند ، سنة إحدى وعشرين ، ولمّا جاء نعيه خرج عمر فنعاه على المنبر وبكى.

وظاهر صنيع المصنّف أنّ هذا لا يوجد مخرجاً في الصّحيحين ، ولا أحدهما ، وهو ذهول شنيع وسهو عجيب ، فقد قال الحافظ العراقي : إنّه متّفق عليه من حديث أبي هريرة ، بلفظ : إنّ الله تعالى يؤيد هذا الدّين بالرجل الفاجر وقال المناوي : رواه البخاري في القدر وغزوة خيبر ، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة مطولا قال :

شهدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنيناً فقال لرجل ممّن يدّعي

٣٦٩

الإسلام : هذا من أهل النّار ، فلمّا حضر القتال قاتل قتالاً شديداً ، فأصابته جراحة ، فقيل : يا رسول الله الرّجل الّذي قتل آنفاً إنّه من أهل النار ، قاتل اليوم قتالاً شديداً ، وقد مات فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : في النّار ، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم كذلك إذ قيل إنّه لم يمت لكن به جرحاً شديداً ، فلمّا كان اللّيل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه ، فاخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال : الله أكبر ، أشهد أنّي عبدالله ورسوله ، ثمّ أمر بلالاً فنادى في النّاس أنّه لا يدخل الجنّة إلاّنفس مسلمة ، وإنّ الله يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر.

وممّن رواه التّرمذي في العلل عن أنس مرفوعاً ، ثمّ ذكر أنّه سئل عنه البخاري فقال : حديث حسن حدّثناه محمّد بن المثنّى انتهى.

فعزو المصنّف الحديث للطبراني وحده لا يرتضيه المحدّثون فضلاً عمّن يدّعي الإجتهاد » (١).

وقال : « إنّ الله ليؤيّد ، يقوّي وينصر ، من الأيد وهو القوة ، كأنّه يأخذ معه بيده في الشّيء الّذي يقوى فيه ، وذكر اليد مبالغة في تحقّق الوقوع الإسلام برجال ما هم من أهله ، أي من أهل الدّين لكونهم كفّاراً أو منافقين أو فجّاراً ، على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل ، يكون سبباً لكفّ القوي عن الضّعيف ، إبقاءً لهذا الوجود على هذا النظام على الحد الّذي حدّه.

وهذا يحتمل أنّه أراد به رجالاً في زمنه ، ويحتمل أنّه أخبر بما سيكون ، فيكون من معجزاته ، فإنّه إخبار عن غيب وقع.

والأوّل هو الملائم للسّبب الآتي ، وقد يقال الأقرب الثّاني ، لأنّ العبرة بعموم اللّفظ.

طب عن عمرو بن العاص ، قال الهيثمي وفيه : عبدالرّحمان بن زياد بن

__________________

(١) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٢ / ٢٥٩.

٣٧٠

أنعم ، هو ضعيف بغير كذب فيه » (١).

وقال الصالحي : « قال محمّد بن عمر : ذكر للنّبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلاً كان بحنين قاتل قتالاً شديداً حتّى اشتدّت به الجراح ، فقال : إنّه من أهل النّار ، فارتاب بعض النّاس من ذلك ، ووقع في بعضهم ما الله تعالى به أعلم ، فلمّا آذته جراحته أخذ مشقصاً من كنانته فانتحر به ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه بلالاً نادى : ألا لا يدخل الجنّة إلاّمؤمن ، إنّ الله تعالى يؤيد هذا الدّين بالرّجل الفاجر » (٢).

وقال ابن حزم في ( المحلّى ) : « وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّه ينصر هذا الدّين بقوم لا خلاق لهم ، كما أنا عبدالله بن ربيع ، نا محمّد بن معاوية ، نا أحمد بن شعيب ، أخبرني عمران بن بكار بن راشد أبو اليمان ، أخبرنا شعيب هو ابن أبي حمزة ، عن الزّهري ، أخبرني سعيد بن المسيّب أنّ أبا هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ الله يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر.

ونا عبدالله بن ربيع ، نا محمّد بن معاوية ، نا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمّد بن سهل بن عسكر ، نا عبدالرزّاق ، أخبرنا رباح بن زيد ، عن معمر بن راشد ، عن أيّوب السّختياني ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله ليؤيّد هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم ».

وقال الغزالي : « فإن قلت : في الرّخصة في المناظرة فائدة ، وهي ترغيب النّاس في طلب العلم ، إذ لولا حبّ الرّياسة لا ندرس العلم ، فقد صدقت فيما ذكرته من وجه ، ولكنّه غير مفيد ، إذ لولا الوعد بالكرة والصولجان واللّعب بالعصافير ما رغب الصّبيان في المكتب ، وذلك لا يدلّ على أن الرغبة فيه

__________________

(١) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٢ / ٢٥٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٥ / ٣٣٣.

٣٧١

محمودة ، ولولا حُبّ الرياسة لا ندرس العلم لا يدلّ ذلك على أنّ طالب الرّياسة ناج من الفتن ، بل هو من الّذين قال فيهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : إنّ الله تعالى يؤيّد هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم ، قال صلّى الله عليه وسلّم : إنّ الله تعالى يؤيّد هذا الديّن بالرّجل الفاجر.

فطالب الرياسة في نفسه هالك ، وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدّنيا ، وذلك فيمن كان حاله في ظاهر الأمر حال علماء السّلف ، ولكنّه يضمر قصد الجاه ، ومثاله مثال الشّمع الّذي يحترق في نفسه ويستضئ به غيره ، فصلاح غيره في هلاكه ، وأمّا إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النّار المحرقة تأكل نفسها وغيرها.

فالعلماء ثلاثة ، إمّا مهلك نفسه وغيره ، وهم المصرّحون بطلب الدّنيا والمقبلون عليها ، وإمّا مسعد نفسه وغيره ، وهم الدَّاعون إلى الله عزّوجلّ المعرضون عن الدّنيا ظاهراً وباطناً ، وإمّا مهلك نفسه ومسعد غيره ، وهو الّذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدّنيا في ظاهره وقصده في البواطن إقبال الخلق وإقامة الجاه الخ » (١).

بل لقد زعم ( الدهلوي ) في كتاب ( التحفة ) أنّ مجرَّد وقوع الفتح في خيبر على يد علي عليه‌السلام ، لا يوجب له فضيلةً وعظمة (٢).

فإذا كان فتح خيبر لا يوجب فضيلةً لعلي ، فهل يكون في فتح الشام في عصر الشيخين فضيلة لهما؟

وقال الواقدي :

« لقد بلغني أنّ أبا بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه كان يخرج كلّ يوم إلى ظاهر

__________________

(١) إحياء العلوم ٤ / ٤٣٣.

(٢) التحفة الإثنا عشرية : ٢١٦.

٣٧٢

المدينة يتجسّس الأخبار ، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه عبدالرّحمان بن حميد الجمحي ، فلمّا أشرف عليهم تسابقت إليه الصّحابة وقالوا : من أين؟ فقال : من الشّام ، فبشّروا الصدّيق بذلك ، وأنّ الله قد نصر المسلمين ، فسجد لله شكراً ، فأقبل عبدالرّحمان وقال : السّلام عليك يا خليفة رسول الله ، إرفع رأسك فقد أقرّ الله عينك بالمسلمين ، فرفع أبو بكر رضي‌الله‌عنه رأسه وسلّم إليه الكتاب ، وكان بخط أبي عبيدة رضي‌الله‌عنه ، فقرأ أبو بكر الكتاب سرّاً ، فلمّا فهم ما فيه قرأه على النّاس جهراً ، وتزاحم النّاس وشاع الخبر في المدينة. قال : فأتى النّاس يهرعون إلى باب المسجد ، فقرأه أبو بكر رضي‌الله‌عنه ثالثةً.

قال : وتسامع النّاس من أهل المدينة بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من الأموال ، فتبايعوا للخروج رغبة في الثّواب وسكنى الشام.

وبلغت الأخبار إلى أهل مكّة ، فأقبل المدينة من أهل مكّة عظماؤهم وأكابرهم بالخيل والحديد والبأس الشّديد ، على أوائلهم أبو سفيان صخر بن حرب ، والعيداق بن هاشم ، ونظراؤهم ، فأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام ، ذكّره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشّام وقال لأبي بكر : إنّ هؤلاء القوم لنا في قلوبهم طرائد وحقائد ، والحمد لله الّذي كانت كلمة الله هي العليا وكلمتهم هي السّفلى ، وهم على كفر ، وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ، ونحن نقول إذ ذاك : ليس مع الله آلهة اخرى ، وهم يقولون إنّ معه آلهة اخرى ، فلمّا أن أعزّ الله ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفاً للسّيف ، ولمّا سمعوا أنّ جند الله قد نصروا على الرّوم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ، ليقاسموا السابقين المهاجرين والأنصار ، والصّواب أن لا ننفذهم. فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إنّي لا أخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً.

قال : وبلغ أهل مكّة ما تكلّم به عمر ، فأقبلوا بأجمعهم إلى أبي بكر

٣٧٣

الصدّيق رضي‌الله‌عنه إلى المسجد ، فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين ، وما أظهرهم على المشركين ، وعليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عن يمينه وعمر بن الخطّاب عن يساره ، والنّاس حوله ، فأقبلت قريش إلى أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، فسلّموا عليه وجلسوا بين يديه ، وتقاولوا من يكون أوّلهم كلاماً.

فكان أوّل من تكلّم أبو سفيان صخر بن حرب ، أقبل على عمر بن الخطاب وقال : يا عمر قد كنت لنا مبغضا في الجاهليّة وقالياً وكنت تحدّ علينا ونحد عليك ، فلمّا هدانا الله إلى الإسلام هدم لك ما في قلوبنا ، لأنّ الإيمان هدم الشرك والبغيضة والكياد ، وأنت تعلم بعد اليوم تشنانا وتبغّضنا ، ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النّسب؟ فما هذه العداوة منك إلينا يا بن الخطّاب قديماّ وحديثاّ؟ إمّا أن تغسل ما بقلبك لنا من الحقد والتباغض ، وإنّا نعلم أنّك أفضل منّا وأسبق في الإيمان والجهاد ، ونحن بذلك عارفون وله غير منكرين.

فسكت عمر بن الخطّاب واستحيى حتّى كلّله العرق ثمّ قال : وأيم الله ما أردت بقولي إلاّ انفصال الشرّ وحقن الدّماء ، لأنّ حميّة الجاهليّة في رؤوسكم وأنتم تطاولون في نسبتكم على من سبقكم في الإسلام. فقال أبو سفيان : أنا اشهدكم واشهد خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّي قد حبست نفسي في سبيل الله ، وكذلك تكلّم سادات مكّة ، فرضي الإمام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وقال أبو بكر : اللهمّ بلّغهم أفضل ما يؤمنون ، وآجرهم بأحسن ما يعملون ، وارزقهم النّصر على عدوّهم ولا تمكّنهم من نواصيهم » (١).

فإذا كان خروج الصحابة من مكة إلى المدينة للاستيذان وذهابهم إلى

__________________

(١) فتوح الشام ١ / ٦١ مع اختلاف في بعض الأسامي والألفاظ.

٣٧٤

الجهاد ، غير مقبول لدى عمر بن الخطاب ، فكيف يكون جهودهم وفتحهم مقبولاً لدى الإمامية؟

هذا كلّه بالنسبة إلى جهاد الشيخين.

وأمّا دعوى قيامهما بترويج أحكام الشرع ، وإصلاح أمور الأمّة ، فبغضّ النّظر عن إخراجه ثالثهما من البحث ـ كان الأحرى ( بالدهلوي ) أنْ لا يتطرّق إلى مثل هذا ، لأنّ لازم هذا الكلام سلب ما ذكر عن علي عليه‌السلام ، وكلّ ذلك ينافي الواقع ويصادم الحقيقة ، فإنّ رجوع الشيخين وبالأخص الثاني منهما ـ إلى علي عليه‌السلام في المعضلات ، والمسائل المشكلة ، ممّا اشتهر وأذعن به المخالفون ، فكثيراً ما قال عمر بن الخطاب : « لولا علي لهلك عمر » وطالما قال : « قضية ولا أبا حسن لها » ولقد شاع عنه وذاع قوله : « أعوذ بالله من معضلةٍ ليس لها أبو الحسن ».

هذا ، على أنّ الشيعة الإمامية لا تعتقد بخلافتهما. وهذا يقتضي أنّ كلّما قام به الشيخان من جهادٍ وترويج وإصلاح ، كما يدّعي ( الدهلوي ) ، كان تصرّفاً غير جائز لا يُستحقُّ المدحُ عليه.

قوله :

وظهر من الأمير ما يتعلّق بالأولياء ، من تعليم الطريقة ...

أقول :

نقل ( الدهلوي ) هذا عن بعض الصوفيّة ، إلاّ أنّه زعم وجوده في الروايات ، كي لا يرد عليه أنّه خالف والده الّذي فضّل الشيخين في ( قرّة العينين ) في تعليم الطريقة ، والحثّ على المثل الخلقية الكريمة ، وترهيب الناس عن الصّفات الرّديئة السيّئة.

٣٧٥

الإستدلال على وجود الملكات بالأفعال الصادرة عنها

قوله :

وفي حكم العقل أنّه يستدلُّ على وجود الملكات النفسانيّة بصدور الأفعال المختصة بتلك الملكات.

أقول :

هذا صحيح ، فلننظر إلى الأفعال الصادرة عن الشيخين ، لنهتدي بها إلى الملكات النفسانيّة الموجودة فيهما ، فهل صدرت منهما أفعال الأنبياء كي يستدلّ على وجود الملكات النبوية فيهما؟ إن كان ( الدهلوي ) يدّعي ذلك فعليه الإثبات ، ودونه خرط القتاد.

قوله :

فمثلاً : يستدل من ثبات الشخص في مختلف المعارك في مقابلة الأقران ووقع الرماح والسيوف على شجاعته النفسانيّة.

أقول :

نعم ، ولكن قد علم الكلّ عدم ثبات الشيخين ـ والثالث ـ في المعارك والغزوات ، وقد أصبح فرارهما من القضايا الضروريّة الّتي علم بها حتّى ربّات الخدور فضلاً عن الرجال ، بل تضرب بفرارهما عن ميادين القتال الأمثال على مدى الأجيال ...

٣٧٦

قوله :

وكذلك الحال في الحب والبغض والخوف والرجاء وغيرهما ...

أقول :

نعم ، لقد قاما بأعمال تكشف عن حقائق أحوالهما ، ودلَّت قضاياهم مع أهل بيت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بغضهما له ولهم ، وحبّهما للجاه والرئاسة الدنيويّة ...

إلاّ أنّ ما ذكره ( الدهلوي ) هنا يتنافى مع قوله في بعض المواضع الأخرى بأنّ العزم والنيّة من الأمور القلبيّة ، فلا يمكن لأحدٍ أن يطّلع على ذلك سوى الله عزّوجلّ ...

قال هذا في الجواب عن أحد مطاعن عمر بن الخطّاب ... ألا وهو جلبه للنار لإحراق باب دار فاطمة الزهراء سلام الله عليها ... فحمل ( الدهلوي ) فعلة عمر هذه على محض التّهديد ، وأنّه لم يكن لينفّذ ما قاله ...

لكنّ الصحيح ما ذكره هنا ، فإنّ النداء بالنار ، وجمع الناس على باب الدّار ، وغير ذلك من القرائن والآثار ... ينبىء عن عزمه الباطني وقصده الواقعي ...

قوله :

فمن هذا الطريق أيضاً يتوصل إلى الكمالات الباطنية في الأشخاص ليعرف أنّها من جنس كمالات الأنبياء أو من جنس كمالات الأولياء.

٣٧٧

أقول :

هذا أيضاً ينافي ما ذكره في مواضع عديدة ، وهو الّذي أشرنا إليه قريباً.

الاستدلال بحديث صحيح مع حمله على معنى باطل

قوله :

وقد دلَّ على هذه التفرقة حديث رواه الشيعة في كتبهم ، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم ...

أقول :

دعوى دلالة هذا الحديث الشريف على التفريق بين من حمل الصفات النبوية الباطنية ، ومن حمل الصفات الولويّة الباطنيّة ، في غاية الوهن والسقوط ، لوضوح دلالة الحديث على عكس هذه الدعوى ، فإنّ مفاد هذا الحديث هو المساواة بين حرب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحرب مولانا علي عليه‌السلام ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبّه حرب علي حربه ، وقد تقدّم أنّ التشبيه يفيد المساواة.

فحاصل معنى الحديث هو : إنّه كما أنّ حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر ، فكذلك حرب علي كفر ، وكما أنّ النبيّ قاتل لإعلاء كلمة الله ، فعلي كذلك قاتل لإعلاء كلمة الله ، فمن حارب عليّاً فهو كافر كمن حارب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فيكون الإمام عليه‌السلام حائزاً للكمالات النبويّة ، وأنّه قام بما قام به النبيّ ، فناسب أنْ يكون زمن خلافته قطعة من زمن نبوة النبي.

٣٧٨

ولقد اعترف رشيد الدين الدهلوي في ( الإيضاح ) بأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إنّما خاض الحروب ، وقاتل أشدّ القتال ، لإعلاء كلمة الله ودينه ، وفي سبيل الله سبحانه وتعالى.

قوله :

لأنّ مقاتلات الشيخين كانت كلّها على تنزيل القرآن ...

أقول :

ثبّت العرش ثمّ انقش ...

فإنّ كون مقاتلات الشيخين على تنزيل القرآن فرع لوقوعها منهما ، وقد علم الكلّ من غير خلاف بأنّه لم يكن منهما على عصر النبيّ إلاّ الهزيمة والفرار ، وأمّا بعده ، فلم يرو حضور أحد منهما ـ وكذا ثالثهما ـ حرباً من الحروب ، ولا شهدا واقعةً من الوقائع ، فضلاً عن الجهاد والقتال.

وإذا كان مجرّد الإعداد ، وحثّ الناس على الجهاد ... جهاداً ومقاتلةً ونصرة للدين ، وترويجاً للإسلام ... فقد مرَّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ الله لينصر هذا الدين ولو بالرجل الكافر.

ولقد بُين في محلّه من هذه الموسوعة ، أنّ قتال الخلفاء ـ على فرض ثبوته ووقوعه ـ لم يكن لا على التنزيل ولا على التأويل ، وذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه النسائي والحاكم وغيرهما :

« إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله.

فقال أبو بكر : هو أنا يا رسول الله؟

قال صلّى الله عليه وسلّم : لا.

٣٧٩

فقال عمر : هو أنا يا رسول الله؟

فقال : لا.

ولكنْ خاصف النعل » (١).

فلو كان قتالهما ـ على فرض كونه ـ على تنزيل القرآن أو تأويله ، لما قال في جوابهما : لا.

إنّ المقاتلة على التأويل ـ كما قاتل هو على التنزيل ـ مختصّة بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، الّذي كان يخصف نعل النبيّ في ذلك الوقت ، مع أنّه عليه‌السلام لم يسأل النبيّ كما سألاه.

قوله :

فكأنّ عهدهما من بقية زمان النبوّة.

أقول :

هذا تنزّل من ( الدهلوي ) عما ادّعاه من كون الشيخين حاملين لصفات النبوّة ، وإن لم يرد التنزّل عن ذلك بقوله « فكأنّما ... » ، بل أراد المساواة ، فقد سبق منه إنكار فهم المساواة من التشبيه.

ولقد كان الأحرى ( بالدهلوي ) أنْ يثبت أوّلاً : وقوع مقاتلات من الشيخين على تنزيل القرآن ، وبرضىً من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يقول : إنّ زمان الشيخين امتداد لزمان النبي.

ولو كان مجرّد وقوع الفتح في عصر أحدٍ دليلاً لأنّ يكون زمانه امتداداً لزمان النبيّ وعصر النبوّة ، كان اللازم أن يكون زمن معاوية ويزيد ، ومن بعدهما

__________________

(١) الخصائص : ١٣١ ، المستدرك ٣ / ١٣٢ ، مسند أحمد ٣ / ٣٣ ، مصادر أخرى كثيرة.

٣٨٠