نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٢

في النوع التاسع عشر ، من الباب الحادي عشر ، من كتابه ( التحفة ) ، فانظر بماذا يصف كبار العلماء ، ومهرة الفنون ، وأساطين العلوم!!

التشبيه للمساواة في كلام ( الدهلوي ) نفسه

بل إنّ ما ذكره من الطعن في الذين يفهمون « المساواة » من « التشبيه » من العلماء وغيرهم لينطبق على نفسه ، فقد علمتَ أنّ ( الدهلوي ) نفسه قد فهم « المساواة » من « التشبيه » في مقامات عديدة ، بل في نفس هذا الكلام الّذي وصف فيه من فهم ذلك بما وصف ، فقد جاء فيه « النوع التاسع عشر : ـ جعل تشبيه شيء بشيء موجباً للمساواة بين المشبّه والمشبّه به. وهذا من أوهام الصبيان الصّغار لا الصبيان المميّزين ، وقد وقع هذا الوهم من الشيعة بكثرةٍ ، مثل أنّهم يقولون بأنّ حضرة الأمير قد شبه بالأنبياء أولي العزم في الزهد والتقى والحلم ... ».

فترى أنّه في نفس هذا الكلام يأتي بتشبيه ، ويريد منه « المساواة » قطعاً ، حيث يقول : « مثل أنّهم يقولون ... » ، فإنّ كلمة « مثل » موضوعة للتشبيه ، وهو يذكر بهذه الكلمة موضعاً من مواضع الوهم الواقعة من الشيعة بحسب زعمه.

بل إنّه استعمل « التشبيه » وأراد به « المساواة » و « المطابقة » في مواضع من كلامه ـ في نفس هذا المقام ـ في الجواب عن دلالة حديث التشبيه ، ألا ترى إلى كلامه في الوجه الرابع حيث يقول : « والتشبيه كما يكون بأدواة التشبيه المتعارفة ، مثل : الكاف ، وكأنّ ومثل ، ونحو ، كذلك يكون بهذا الأسلوب ، كما تقرر في علم البيان ، : من أراد أن ينظر إلى القمر ليلة البدر ، فلينظر إلى وجه فلان ».

ففي هذه العبارة استعمل التشبيه وأراد منه المطابقة في ثلاثة مواضع :

٣٤١

الأول : قوله : كما يكون ... فإنّ هذا من ألفاظ التشبيه ، ولا ريب أنّه يريد المطابقة ، لا كتشبيه الترب بالمسك ...

والثاني : قوله : مثل الكاف وكأنَّ ...

والثالث : قوله : كما تقرّر في علم البيان ...

وأنت إذا تأمّلت في سائر كلامه وقفت على مواضع أخرى.

عدم جواز حمل ألفاظ النبيّ على الكلام الركيك

قوله :

وقد راج واشتهر في الأشعار التشبيه ...

أقول :

إنّ هذا تعصّب جاء من جرّاء متابعة ( الكابلي ) وتقليده على غير بصيرة ، أفيقاس كلام أشرف الخلائق من الأوّلين والآخرين بأشعار الشعراء وتمثيلاتهم الخرافية الجزافية؟!

إنّ مفاد هذا الكلام هو أنْ لا يكون أيّ وجه للشبه بين أمير المؤمنين والأنبياء في صفاتهم ، فضلاً عن المساواة ، والعياذ بالله ...

ولو جاز ما ذكره هذا الرجل ، لجاز أن يقال في حقّ أحدٍ من الناس ولو كان عارياً حتّى عن الإسلام : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه فلينظر إلى فلان ...

لكن لا ريب في أنّ قياس كلام أفضل البشر ، بتشبيه الترب بالمسك والحصى بالدرر ، تعصّب قبيح أو جهل فضيح ، فلو لم يدلّ حديث التشبيه على إثبات تلك الصفات لأمير المؤمنين ، للحق كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٤٢

بالكلام الركيك والفارغ ، وذلك غير جائز.

قال أبو حامد الغزالي : « مسألة ـ قال القاضي : حمل كلام الشارع على ما يلحق بالكلام الرث محال ، ومن هذا الفن قول أصحابنا في قوله تعالى : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) مكسورة اللام ، لقرب الجوار ، ردّاً على الشيعة ، إذ قالوا : الواجب فيه المسح ، وهو كقوله : ( وَحُورٌ عِينٌ ) وكقول العرب : جحر ضب خرب ، وكقول الشاعر :

كأن ثبيراً في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

معناه : مزمل به ، لأنّه من نعت الكبير ، وهو مرفوع ، لكن كسر لقرب الجوار.

وليس الأمر كما ظنّوه في هذه المواضع ، بل سببه : إنّ الرفع أبين من الكسر ، فاستثقلوا الانتقال من حركةٍ خفيفةٍ إلى ثقيلة ، فوالوا بين الكسرتين.

وأمّا النصب في قوله : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) فنصب في المعنى ، والنصب أخف الحركات ، والإنتقال إليه أولى من الجمع بين الكسرتين الثقيلتين بالنسبة إلى النصب ، فلم يبق لقرب الجوار معنى ، إلاّمراعاة التسجيع والتقفية ، وذلك لا يليق بالقرآن ، نعم حسن النظم محبوب من الفصيح ، إذا لم يخل بالمقصود. فأمّا الإخلال بالمعنى واتباع التقفية ، فمن ركيك الكلام » (١).

ولو لم يدلّ التشبيه في الحديث على المساواة ، وجاز حمل تشبيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشبيه الترب بالمسك ونحوه ، جاز أنْ يقال في حقّ شيخ من شيوخ ( الدهلوي ) أو تلميذٍ من تلامذته : إنّه مثل إبليس ، أو يقال في حقّ ( الدهلوي ) نفسه أو والده : « إنّه مثل أبي لهب « مثل أبي جهل » أو يقال ذلك في حقّ كبار أهل السنّة ، أو في حقّ الخلفاء الثلاثة وأعوانهم ...

__________________

(١) المنخول في علم الأصول : ٢٠١ ـ ٢٠٣.

٣٤٣

النّقض بما وضعوه في حقّ الشيخين

وإذا كان تشبيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتشبيه التراب بالمسك والحصى باللؤلؤ والياقوت ، فقد بطلت مساعي أسلاف ( الدهلوي ) الوضّاعين وجهود مشايخه المفترين ، في اختراع فضائل فيها تشبيه الشيخين بالأنبياء ، وذهبت أدراج الرياح ، وكانت هباءً منثوراً ، فالعجب من هذا الرجل كيف يحتُّ بمثل هذه الأحاديث ويدّعي كثرتها كما سيأتي؟! إذ من الجائز أنْ تكون تلك التشبيهات ـ بعد تسليم أسانيدها ـ من قبيل تشبيه التراب بالمسك والحصى باللؤلؤ والياقوت ، فكما لا مناسبة أصلاً بين المسك والثرى ، ولا مماثلة بين اللؤلؤ والحصى ، فكذلك حال الشيخين بالنسبة إلى الأنبياء ، على نبيّنا وآله وعليهم آلاف التحيّة والثنا ، فأين الثريا من الثرى ، وأين الدرّ من الحصى؟!

قوله :

قال الشاعر :

أرى بارقاً بالأبرق الفرد يومض

فيكشف جلباب الدجى ثمّ يغمض

كأن سليمى من أعاليه أشرفت

تمدّ لنا كفّاً خضيباً وتقبض

أقول :

قد عرفت عدم جواز هذا القياس بين كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصومين ، وأشعار الشعراء المتشدّقين ... لكنّه ينسج على منوال ( الكابلي ) ويقلّده على غير هدى وبصيرة ...

٣٤٤

دحض المعارضة

بما وضعوه في تشبيه الشيخين بالأنبياء

٣٤٥
٣٤٦

قوله :

وقد روي في الأحاديث الصحيحة لأهل السنّة : تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى ، وتشبيه عمر بنوح ، وتشبيه أبي ذر بعيسى ...

أقول :

هذه المعارضة باطلة ، فإنّ الاحتجاج بأحاديث أهل السنّة في مقابلة الإماميّة لا يصغى إليه ، لمخالفته لقانون المناظرة ، أمّا الإماميّة فإنّهم يحتجّون بأحاديث أهل السنّة في الردّ عليهم ، من باب الإلزام ، طبقاً لقانون المناظرة.

واستدلال أهل السنّة بأحاديثهم في مقابلة الإماميّة ، يشبه استدلال أهل الكتاب بكتبهم الموضوعة المكذوبة أو المحرّفة ، في الدفاع عن دينهم والجواب على مطاعن المسلمين وإشكالاتهم في مذاهبهم وعقائدهم.

ولعلّ من هنا لم يحتجّ ( الكابلي ) بتلك الأحاديث المزعومة في مقام الجواب على حديث التشبيه ...

فهذه الفقرة من كلام ( الدهلوي ) في هذا المقام غير مأخوذ من كلام ( الكابلي ) ، بل أخذ ذلك من كلام والده ولي الله الدهلوي في كتابه ( قرة العينين ) حيث قال في الجواب على استدلالات الشيح نصير الدين الطوسي رحمه‌الله في ( التجريد ) :

« ومساواة الأنبياء. إعلم أنّه عليه‌السلام قد شبّه الصحابة في أحاديث كثيرة بالأنبياء ، والغرض من هذا التشبيه هو الإشارة إلى وجود وصف من

٣٤٧

أوصاف المشبه به في المشبه ، كتشبيه أبي ذر بعيسى في الزهد ، وتشبيه الصديق بعيسى في الرفق بالأمة ، وتشبيه الفاروق بنوح في الشدة على الأمة ، وتشبيه أبي موسى بداود في حسن الصوت.

عن عبدالله بن مسعود في قصة استشارة النبيّ أبا بكر في أسارى بدر ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ما تقولون في هؤلاء؟ إنّ هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم. قال نوح : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) وقال موسى : ( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ) الآية. وقال إبراهيم : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وقال عيسى : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أخرجه الحاكم.

وعن أبي موسى : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : يا أبا موسى ، لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود. متفق عليه.

وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم ـ يعني في الزهد ـ أخرجه الترمذي.

وفي الاستيعاب : روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال : أبو ذر في أمّتي شبه عيسى بن مريم في زهده.

وروي : من سرّه أنْ ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم ، فلينظر إلى أبي ذر. أخرجه أبو عمر ».

هذا كلام والد ( الدهلوي ) ، وهذه هي الأحاديث ، وقد أخذ الولد هذا الكلام وتصرّف فيه من جهاتٍ :

١ ـ زعم الوالد تشبيه الصحابة في أحاديث كثيرة بالأنبياء. و ( الدهلوي )

٣٤٨

زعم تشبيه الشيخين بهم في أحاديث كثيرة.

٢ ـ لم يدَّع الوالد صحة هذه الأحاديث بصراحة. و ( الدهلوي ) ادّعى صحّة الأحاديث الكثيرة التي شبّه فيها الشيخان بالأنبياء.

٣ ـ لم يدّع الوالد تصحيح الحاكم حديث ابن مسعود ، لكن ( الدهلوي ) زعم ذلك أيضاً.

فهذه تصرّفات ( الدهلوي ) في كلام والده ، وإنّما أخذ كلام والده هنا ، لأنّ ( الكابلي ) لم يتعرَّض لهذه الأحاديث في هذا المقام ، كما أشرنا من قبل ، فكلمات ( الدهلوي ) ومناقشاته مع الإماميّة ملفّقة من كلمات ( الكابلي ) ووالده شاه ولي الله الدهلوي.

وليته لم يتعرّض لهذه الأحاديث تبعاً للكابلي ، لكنّه الجهل والتعصّب ، وذلك لأنّه قد أجاب عن حديث التشبيه بأنّه تشبيه محض ، كما يشبّه التراب بالمسك ، والحصى بالدر والياقوت ، فلو سلّمنا صحّة هذه الأحاديث سنداً ، لكفى في الجواب عنها كلام ( الدهلوي ) نفسه ، فاستناده إليها تبعاً لوالده في مقابلة الشيعة الإمامية سفاهة منهما على حدّ تعبير ( الدهلوي ) نفسه وشيخه.

قوله :

ولكنْ لما كان لأهل السنّة حظ من العقل من الله لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلاً ...

أقول :

صريح هذا الكلام : أنّ دعوى المساواة بين الشيخين والأنبياء سفاهة وقلّة عقل ، فكيف يدّعي ذلك في نفس الوقت؟ وهل هذا إلاّتناقض وتهافت في

٣٤٩

كلامٍ واحد؟ وهذا من خصائص ( الدهلوي ) إذ تراه يطعن في شيء ، ثمّ يستند إليه ويحتج به ، وإن وجد هذا في كلام غيره من علمائهم فقليل ...

أضف إلى ذلك ، أنّ تلك الفرقة لو رزقت شيئاً من العقل ، لما جوّزت صدور القبائح من الله ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولَما نَفَت الحسن والقبح العقليّين.

ولَما ذهبت إلى الجبر.

ولما أثبتت وقوع العبث من الله العزيز الحكيم.

ولما قالت بصدور التكليف بما لا يطاق من الله العظيم.

ولَما اعتقدت الصوفية منهم الإتّحاد بين الله وخلقه.

إلى غير ذلك من آرائهم الفاسدة ، ومقالاتهم الباطلة.

قوله :

بل إن محط إشارة التشبيه في هذا القسم من الكلمات وجود وصف في هذا الشخص من الأوصاف المختصة بذاك النبيّ ، وإن لم يكن بمرتبته.

أقول :

هذا إعتراف بسقوط دعوى مساواة الشيخين للأنبياء في الصفات المذكورة في الأحاديث المزعومة.

قوله :

عن عبدالله بن مسعود ... أخرجه الحاكم وصحّحه.

٣٥٠

أقول :

هنا وجوه من النظر :

الوجه الأوّل : نقل هذا الحديث عن الحاكم يدلُّ على الاعتماد على روايته ، وإذا كان مقبولاً ، فلماذا يبطل ( الدهلوي ) حديث الطير ، وحديث الولاية ، وحديث مدينة العلم ، مع إخراج الحاكم لها ، لا سيّما الأخير ، إذ صحّحه بعد أنْ أخرجه؟! فهل يختص توثيق الحاكم والاعتماد عليه بفضائل الشيخين ، وأمثالهما ، ويسقط عن الاعتبار في فضائل أمير المؤمنين؟!

الوجه الثاني : إنّ الحاكم من رواة حديث التشبيه كما عرفت ، و ( الدّهلوي ) يبالغ في إبطال هذا الحديث ، حتّى أنّه يلتجأ إلى معارضته بالروايات الموضوعة.

أفيجوز أنْ نعتمد على الحاكم في باب فضائل الشيخين ، ولا نعتمد عليه في باب فضائل الأمير؟! لماذا هذا التفريق؟ لا سيّما مع موافقة عبدالرزاق الصنعاني ، وأحمد ، وغيرهما ، معه في إخراج حديث التشبيه ، وعدم موافقتهما معه في رواية هذا الحديث المزعوم ...

الوجه الثالث : لم يدّع والد الدهلوي تصحيح الحاكم لهذا الحديث ، لكن ولده أضاف تصحيح الحاكم من غير دليلٍ ولا شاهد له على ذلك ، ولو كان صادقاً لذكر والده ذلك.

الوجه الرابع : أين تشبيه الشيخين بالأنبياء في هذا الحديث؟ بل لا يشتمل الحديث على مدح لهما أصلاً ، كما لا يخفى.

الوجه الخامس : إنّه لم يشبَّه الشيخان في هذا الحديث بالأنبياء في شيء من صفاتهم الكمالية ، كالعلم والفهم والتقوى ... والدعاء على الكافرين أو

٣٥١

الاستغفار لهم ، لا يقتضي المساواة بين الأنبياء وغيرهم ، فالحديث على فرض صحّته لا يعارض حديث التشبيه أبداً.

ثمّ إنّ بعض الوضّاعين أضاف إلى الحديث جملةً تفيد بعض الشّبه ، إلاّ أنّه ـ بعد تسليم سنده ـ لا يصلح للمعارضة كذلك ، فقد نصّ ابن تيميّة على أنّه يفيد الشبه في الشدة في الله واللين في الله فقط ، ولا يفيد المماثلة في كلّ شيء ، وهذا نصّ عبارته :

« وقول القائل : هذا بمنزلة هذا ، وهذا مثل هذا ، هو كتشبيه الشيء بالشيء ، وتشبيه الشيء بالشيء بحسب ما دلّ عليه السياق لا يقتضي المساواة في كلّ شيء ، ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث الأسارى ، لمّا استشار أبا بكر ، فأشار بالفداء ، واستشار عمر فأشار بالقتل. قال : ساخبركم عن صاحبيكم ، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ومثل عيسى إذ قال : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) ومثل موسى إذ قال : ( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ).

فقوله لهذا : مثلك مثل إبراهيم وعيسى ، ولهذا مثلك مثل نوح وموسى ، أعظم من قوله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، فإنّ نوحاً وإبراهيم وعيسى أعظم من هارون ، وقد جعل هذين مثلهم ، ولم يرو أنهما مثلهم في كل شيء ، لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله » (١).

هذا كلام ابن تيميّة في جواب حديث : « أنت منّي بمنزلة هارون من

__________________

(١) منهاج السنة ٧ / ٣٣٠.

٣٥٢

موسى » وهو صريح فيما قلناه ، فلا يليق هذا الحديث ـ إن صح ـ للمعارضة.

لكن لا يخفى عليك اشتمال هذا الكلام على كذبةٍ ، وهي أنّه نسب هذا الحديث أي الصحيحين ، والحال أنّه لا أثر له فيهما ولا عين. وكأنّ الغرض من هذه النسبة المكذوبة جعل التساوي بين هذا الحديث ، وحديث المنزلة المخرج في الصحيحين ... على أنّه لو سلّم ، فقد ثبت عموم حديث المنزلة ، أما هذا الحديث فهو لا يفيد المماثلة إلاّفي الشدّة واللين كما اعترف هو بذلك. فلا يصلح هذا الحديث للمعارضة مع حديث المنزلة ، فلا تغفل.

قوله :

وعن أبي موسى : لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود. رواه البخاري ومسلم.

أقول :

إنّ عمر بن الخطاب لم يقبل من أبي موسى الأشعري حديثه في مسألة الاستيذان ـ يتعلَّق بأمرٍ من المندوبات الشرعيّة ـ كما هو صريح البخاري في ( صحيحه ) ، فكيف تقبل الإمامية حديثه في فضل نفسه؟!

على أنّ كونه واجداً لمزمارٍ من مزامير آل داود لا يعارض حديث التشبيه ، وهل أنّ حسن الصوت كالعلم والحلم والتقى ... من الصفات الكمالية؟!

قوله :

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سرّه أنْ ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم ، فلينظر إلى أبي ذر. كذا في الإستيعاب.

٣٥٣

ورواه الترمذي بلفظٍ آخر قال : ما أظلّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر شبه عيسى بن مريم. يعني : في الزهد.

أقول :

هذا الحديث غير ثابت من طرق الإمامية ، فلا يصلح لأنّ يعارض به حديث التشبيه الّذي رواه الفريقان. فهذا أولاً.

وثانياً : إنّ صاحب الاستيعاب يروي حديث الولاية بسندٍ صحيح ، و ( الدهلوي ) لا يلتفت إلى روايته ، ويدّعي بطلانه ، تبعاً لبعض المتعصّبين ، فكيف يعتمد على روايته هنا؟!

وأيضاً : روى صاحب الإستيعاب حديث الطير ، في كتابه ( بهجة المجالس ) ، و ( الدهلوي ) لم يعبأ بروايته.

وثالثاً : الترمذي من رواة حديث الولاية وحديث الطير ، فكيف لا يعبأ بروايته للحديثين ، ويعتمد على روايته لهذا الحديث؟

ورابعاً : لا ريب في أنّ عثمان قد ظلم أبا ذر ، وأساء معاملته ، ونفاه إلى الربذة ـ مع ما وصف عثمان من قبل أهل السنّة باللّين والرأفة ، ورقّة القلب ، ورغم ما ورد في مدح أبي ذر من الأحاديث ، كما في ( كنز العمال ) وغيره ـ فماذا يقولون في حقّ عثمان؟ وبمَ يصحّحون أفعاله تلك؟

٣٥٤

شبهات الدّهلوي

حول دلالة الحديث على الأفضليّة

وإستلزامها للإمامة

٣٥٥
٣٥٦

قوله :

الثالث : إنّ المساواة بالأفضل في صفةٍ لا تكون موجبةً لأفضليّة المساوي ، لأنّ ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل.

أقول :

إنّ مماثلة أمير المؤمنين عليه‌السلام للأنبياء المذكورين في الحديث ومساواته لهم في صفاتهم ، تدلُّ على أنّه عليه‌السلام يساوي كلّ واحد من الأنبياء في صفته ، ويكون أفضل منهم ، لجمعه للصفات المتفرّقة فيهم ، على غرار ما تقدّم من الاحتجاج بالآية الكريمة على أفضليّة نبيّنا من جميع الأنبياء عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.

ولمّا كان كلّ واحدٍ من هؤلاء الأنبياء أفضل من الثلاثة ، بالإجماع المحقّق بين جميع المسلمين ، فإنّ المساوي للأفضل يكون أفضل بالضّرورة. فأمير المؤمنين عليه‌السلام أفضل من الثلاثة ـ ولا يخفى ما في قولنا : أفضل من الثلاثة من المسامحة ـ ، وعليه يندفع جميع شبهات ( الدّهلوي ) حول دلالة الحديث على أفضليّته منهم ، وللزيادة في التوضيح والبيان ، نذكر الوجوه الاتية :

١ ـ دلالته على الأفضليّة على غرار دلالة الآية على أفضليّة النبيّ

إنّ منع دلالة مساواة الأفضل ـ بعد تسليم المساواة بين الإمام والأنبياء في صفاتهم بالحديث ـ على أفضليّة الإمام عليه‌السلام من الثلاثة ، في غاية

٣٥٧

الوهن والسقوط ، لما تقدّم عن الرازي من احتجاج العلماء بقوله تعالى :

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) على أفضليّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء المذكورين في الآية ، وملخص الاحتجاج هو جامعيّة النبيّ للصّفات المتفرّقة في أولئك الأنبياء ، ولا ريب في أنّ الجامع لها أفضل من جميعهم ، لأنّ كلّ واحدٍ منهم حصل على واحدة منها أو ثنتين ، وهذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحده حصل على جميعها.

فإذا كان جمع الصفات المتفرقة في الأنبياء دليلاً على الأفضلية منهم ، فقد جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ كما في حديث التشبيه ـ جميع صفات الأنبياء المذكورين في الحديث كذلك ، فيكون أفضل منهم بنفس الطريق في الاحتجاج ـ إلاّنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو الأفضل بإجماع المسلمين ـ وإذا كان أفضل من الأنبياء فهو أفضل من الثلاثة ، بالأولوية القطعية.

٢ ـ اعتراف ابن روزبهان

ودلالة الحديث على المطلوب ـ كما ذكرنا ـ أصبحت من الوضوح بحيث التجأ الفضل بن روزبهان إلى الاعتراف بها ، ولم يتجاسر على ما تفوّه به ( الدهلوي ) على ما هو من التعصب والعناد ، ومن هنا تعرف إلى أيّ درجة من الحقد والعناد للحق وأهله وصل ( الدهلوي ).

٣ ـ الحديث نص في الأعلميّة

ثمّ إنّ حديث التشبيه نصٌّ في أعلميّة علي عليه‌السلام من الثلاثة وغيرهم ، لأنّه قد ساوى آدم عليه‌السلام في العلم ، والأعلم أفضل بالضرورة ، والمساوي للأفضل أفضل قطعاً.

٣٥٨

وأيضاً : فإنّه أتقى من الثلاثة ، لأنّه قد ساوى نوحاً في تقواه ، ونوح أتقى منهم بالضرورة ، والأتقى أفضل لقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١) والمساوي للأفضل أفضل.

وكذا الكلام في كونه « أعبد » و « أحلم » و « أشد بطشاً ».

٤ ـ جامعية علي لأشرف الصّفات

ثمّ إنّ العلم والحلم والعبادة والتقوى والشجاعة ، هي أشرف الصفات الحسنة ، وهي تجمع جميع الخصال الحميدة ، وقد كان علي عليه‌السلام حائزاً لجميعها في أعلى مراتبها ، فهو جامع لجميع الصفات الشّريفة في أعلى مراتبها ، ومن كان كذلك ، كان أفضل من جميع الخلائق ـ عدا نبيّنا كما تقدم ـ فضلاً عن الثلاثة.

٥ ـ جمعه لتسعين خصلة من خصال الأنبياء

بل إنّه عليه‌السلام قد جمع تسعين خصلة من خصال الأنبياء عليهم‌السلام ، كما في رواية السيّد علي الهمداني المتقدمة في الكتاب ، فأين من لم يحصل على خصلة من خصال الأنبياء من الّذي جمع تسعين؟! وأين الصّفة التي يدّعيها ( الدهلوي ) في الثلاثة ليكونوا أفضل بها من الإمام؟! فليثبت ( الدهلوي ) ذلك ، ودونه خرط القتاد.

٦ ـ إتّصاف الثلاثة بأضداد هذه الصفات

بل إنّ الثلاثة كانوا متّصفين بأضداد هذه الصفات الجليلة ، كما لا يخفى على من راجع الكتب المصنّفة في بيان هذا الشأن ، ككتاب ( تشييد المطاعن ) وغيره.

٣٥٩

أفلا يكون المساوي للأنبياء في صفاتهم الجميلة ، أفضل ممّن اتّصف بأضدادها ، فضلاً عن الاتصاف بشيء منها؟!

قوله :

وأيضاً : ليست الأفضليّة موجبة للزعامة الكبرى.

أقول :

إنّ من الأصول الأخلاقيّة المتّبعة أن لا يكذِّب الخلف سلفه ، فكيف بتكذيب الولد لوالده!

لقد كان الأحرى بالرّجل أنْ لا يكذّب أباه ، الأب الّذي وصفه هو بكونه معجزةً من معاجز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

لقد أثبت شاه ولي الله الدهلوي في كتابه ( إزالة الخفا ) ـ الّذي طالما اعتمد عليه ( الدهلوي ) أيضاً ـ أنّ الأفضلية تستلزم الزعامة الكبرى والخلافة العظمى ، واستدلّ لذلك بالكتاب والسنّة والآثار عن الصحابة ، فراجع كلامه هناك.

قوله :

كما مرّ غير مرة.

أقول :

نعم مرّ إثبات استلزام الأفضليّة للإمامة غير مرّة.

٣٦٠