نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٢

وإسماعيل كان صاحب الصدق.

ويونس كان صاحب التضرع.

فثبت أنّه تعالى إنما ذكر كل واحدٍ من هؤلاء الأنبياء ، لأنّ الغالب عليه كان خصلة معيّنة من خصال المدح والشرف.

ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر الكلّ ، أمر محمّداً عليه الصلاة والسّلام بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكان التقدير كأنَّه تعالى أمر محمّداً صلّى الله عليه وسلّم أنْ يجمع من خصال العبوديّة والطاعة كلّ الصّفات التي كانت متفرّقة فيهم بأجمعهم.

ولمّا أمره الله تعالى بذلك امتنع أنْ يقال أنّه قصّر في تحصيلها ، فثبت أنّه حصّلها.

ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنّه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرّقاً فيهم بأسرهم.

ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إنّه أفضل منهم بكليّتهم. والله أعلم » (١).

أقول :

وبنفس هذا التقرير الّذي ذكره العلماء ، للإحتجاج بالآية الكريمة على أفضلية نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سائر الأنبياء ... نحتجّ بحديث التشبيه على أفضلية سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأنبياء ، فلا يبقى أيّ ريبٍ في دلالة حديث التشبيه على مذهب الشيعة.

بل الأمر هنا أوضح من هناك ، لأنّه إذا كان الأمر بالإقتداء بهدى الأنبياء السابقين عليهم‌السلام دالاًّ على أفضليّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ / ٦٩ ـ ٧١.

٣٠١

إثبات صفات الأنبياء السابقين لأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ الأمر الّذي يدلّ على الحديث بصراحة ـ يدلّ على أفضلية الإمام عليه‌السلام منهم ، بالأولويّة.

على أنّ الاحتجاج بالآية ، كان يتوقّف على مقدّمات ، أحدها : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا امر بالاقتداء ، امتنع أن يقال إنّه ترك الاقتداء. والثاني : إن المراد من هدى الأنبياء السابقين هو جميع الخصال الخاصة بكل واحد منهم. والثالث : إن الاقتداء لا يمنع كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من الأنبياء السابقين.

أمّا في حديث : من أراد أن ينظر إلى آدم ... فلا حاجة إلى شيء من المقدّمات ، بل إنّ الحديث يثبت صفات الأنبياء السابقين للإمام بلا مقدّمة ، إذ ليس فيه أمر بالاقتداء حتّى يحتاج إلى مقدّمة أنّه قد أطاع هذا الأمر قطعاً ، وقد ذكر في الحديث صفات الأنبياء بصراحةٍ وهي ـ في بعض الألفاظ ـ « العلم ، والحلم ، والعبادة ، والتقوى ، والبطش » وليس فيه لفظ « الهدى » حتّى يحتاج إلى مقدّمة يذكر فيها أنّ المراد من الهدى هو الصفات ... كما أنّه لا حاجة هنا إلى القول بأنّ الاقتداء لا ينافي الأفضلية ، إذ لا أمر بالاقتداء هنا.

فظهر ، أنّ دلالة هذا الحديث على مساواة صفات الإمام عليه‌السلام لصفات الأنبياء السابقين عليه‌السلام ، أوضح من دلالة الأمر بالاقتداء على ذلك.

وقد ذكر النيسابوري أيضاً الاحتجاج المذكور بالآية على أفضلية نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكر أقوال العلماء في تفسير « الهدى » ثمّ كلام القاضي وما قيل في الجواب عن الوجوه التي ذكرها القاضي ، فصرّح :

« بأنّه يلزم أن يكون منصبه أجلا من منصبهم ، لأنّه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيهم ، كالشكر في داود

٣٠٢

وسليمان ، والصبر في أيوب ، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى ، والصّدق في إسماعيل ، والتضرّع في يونس ، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون. ولهذا قال : لو كان موسى حيّاً لما وسعه إلاّ اتّباعي » (١).

* وقال الخطيب الشربيني بعد ذكر الاحتجاج :

« فثبت بهذا البيان أنّه صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء ، لما اجتمع فيه من الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم » (٢).

٣ ـ الإستدلال على ضوء كلام الفخر الرازي

وإذا كان الأمر بالاقتداء دالاًّ على وجود جميع صفات الأنبياء السابقين في وجود نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يكون دالاًّ على أفضليّته منهم من جهة كونه جامعاً بوحده لتلك الصّفات المتفرقة بينهم ... فلا أقل من دلالة حديث التشبيه على أفضليّة الإمام عليه‌السلام منهم بهذا البيان ، فيكون الحديث دالاًّ على الأفضليّة بنفس المقدّمات التي ذكرت في الاحتجاج بالآية على الأفضلية ، بعد التنزّل عمّا أثبتناه في الوجه السابق من الإستدلال بلا توقفٍ على المقدّمات.

فيكون الحاصل حينئذٍ دلالة حديث التشبيه على أفضليّة الإمام عليه‌السلام من الأنبياء السابقين ، لاستجماعه ما تفرق فيهم من الخصال ، وإذا كان أفضل من الأنبياء الخمسة المذكورين ، ثبت أفضليته من جميع الأنبياء ـ سوى خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالإجماع المركّب.

بل لقد جاء في بعض ألفاظ حديث التشبيه ثبوت صفات يعقوب و

__________________

(١) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري ٧ / ١٨٥.

(٢) السراج المنير ١ / ٤٣٥.

٣٠٣

يوسف وأيّوب ويونس عليهم‌السلام ، وهيبة إسرافيل ، ورتبة ميكائيل ، وجلالة جبرائيل ... لسيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٤ ـ في علي تسعون خِصلة لم تجمع في غيره

وروى السيّد علي الهمداني ـ من مشايخ والد ( الدهلوي ) ـ في كتابه الّذي عدّه رشيد الدّين الدهلوي في كتب أهل السنّة المؤلَّفة في مناقب أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام :

« عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من أراد أنْ ينظر إلى إسرافيل في هيبته ، وإلى ميكائيل في رتبته ، وإلى جبرئيل في جلالته ، وإلى آدم في علمه ، وإلى نوح في حسنه ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيّوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في سنته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمّد في جسمه وخلقه ، فلينظر إلى علي. فإنّ فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء ، جمعها الله فيه ولم تجمع في أحد غيره.

وعدَّد جميع ذلك في جواهر الأخبار » (١).

أقول :

وليس هذا الحديث مجرد تشبيه ، بل هو جار مجرى الحقيقة ، واستجماعه لتلك الصفات ، مع عدم اجتماعها في أحدٍ غيره ، نصٌّ في الأفضليّة.

__________________

(١) مودّة القربى ، ينابيع المودّة ٢ / ٣٠٦ الطبعة المحقّقة.

٣٠٤

٥ ـ دلالة الحديث في كلام ابن روزبهان

وقد صرّح المتعصّب العنيد الفضل ابن روزبهان بدلالة حديث التشبيه على الأفضليّة ، فدلالته على مذهب الإماميّة تامة عنده ، إلاّ أنّه يردّه بالرمي بالوضع وهذا نصّ كلامه :

« وأثر الوضع على هذا الحديث ظاهر ، ولا شكّ أنّه منكر ، مع ما نسب إلى البيهقي ، لأنّهم يوهم أنّ علي بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الأنبياء ، وهذا باطل ، فإنّ غير النبيّ لا يكون أفضل من النبيّ.

وأمّا أنّه موهم لهذا المعنى ، لأنّه جمع فيه من الفضائل ما تفرّق في الأنبياء ، والجامع للفضائل أفضل ممّن تفرق فيهم الفضائل.

وأمثال هذا من موضوعات الغلاة » (١).

أقول :

انظر إلى تعصّب هؤلاء القوم ، فمنهم من يعترف بدلالة الحديث على مذهب الشيعة ، فيردّه بالوضع والبطلان ، كابن روزبهان ، ومنهم من ينكر دلالته ، كالكابلي و ( الدهلوي ) ، فهم يتكاذبون فيما بينهم ، إلاّ أنّ غرضهم إسقاط الحديث عن الصلاحيّة لاحتجاج الشيعة به على مذهبهم الحقّ ، وإنْ لزم ما لزم ...

وأمّا إبطال ابن روزبهان أفضليّة الإمام عليه‌السلام من هؤلاء الأنبياء ، من جهة أنّه ليس بنبيّ ، وغير النّبيّ لا يكون أفضل من النبيّ ... فيبطله آية المباهلة والأحاديث الواردة في ذيلها ، وكذا غيرها من الأحاديث الصّريحة في

__________________

(١) إبطال الباطل. انظر : دلائل الصدق ٢ / ٥١٨.

٣٠٥

أنّ عليّاً نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ورد في توسّل آدم عليه‌السلام به (١) وأن الأنبياء بعثوا على ولايته (٢) وحديث « خلقت أنا وعلي من نور واحدٍ قبل أنْ يخلق آدم ... » (٣) ، وغير هذه الأحاديث.

فظهر دلالة هذا الحديث على الأفضليّة ، فيتمّ احتجاج الشيعة به ، ويسقط مناقشة ( الدهلوي ).

٦ ـ بيان محمّد بن إسماعيل الأمير لحديث التشبيه

وللعلاّمة النحرير محمّد بن إسماعيل الأمير بيانٌ لطيف ، وتقرير متين ، لحديث التشبيه ، يتّضح به طريق احتجاج الشيعة ، ويتأيّد به أسلوب استدلالهم ، وهذا نصُّ عبارته :

« فائدة ـ قد شبّهه عليه‌السلام بخمسة من الأنبياء ، كما قال المحب الطبري رحمه‌الله ما لفظه : ذكر تشبيه علي رضي‌الله‌عنه بخمسةٍ من الأنبياء : عن أبي الحمراء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى في بطشه ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. أخرجه أبو الخير الحاكمي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أنْ ينظر إلى إبراهيم في حلمه ، وإلى نوح في حكمه ، وإلى

__________________

(١) انظر ما رووا بتفسير قوله تعالى : ( فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات ) الدرّ المنثور ١ / ٦١٤٧.

(٢) انظر ما رووه بتفسير قوله تعالى : ( واسأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق ٤٢ / ٢٤١ وسنفصل الكلام فيه في الجزء اللاحق من كتابنا.

(٣) انظر الجزء الخامس من كتابنا.

٣٠٦

يوسف في جماله ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. أخرجه الملاّ في سيرته. إنتهى.

قلت : فقد شبّهه صلّى الله عليه وسلّم بهؤلاء الخمسة الرسل ، في اكتسابه للخصال الشريفة من خصالهم.

فمن آدم أبي البشر العلم ، فإنّ الله تعالى خصّه بأنّه علّمه الأسماء كلّها ، ثمّ أبان فضله بذلك ونوّه بعلمه ، حيث عرض على الملائكة أسماء المسمّيات ، وطلب منهم تعالى إنباءهم بأسمائها فعجزوا ، وطلب من آدم عليه‌السلام إنبائهم ، فأنبأهم عليه‌السلام بها. فهذه فضيلة من أشرف فضائل آدم عليه‌السلام التي شرف بها بين الملأ الأعلى.

وشبّهه بنوح عليه‌السلام في فهمه ، لأنّه أمره الله تعالى بصنعة الفلك ، وفيها من دقائق الإحكام والإتقان ما لا تحصره الأقلام ، ولا يدركه الأفهام ، وكانت لم تعرف ، ولا اهتدى إليها فكر قبل ذلك ، وكان فيها ما كان من الإتقان ، واليوت التي جوّفها له ولمن معه ، والأنعام والوحوش والسباع ، واختلافها طولاً وعرضاً ، فإنّها كجؤجؤ الطائر ، وقد جعل الله الحمل فيها من آياته ، حيث قال : *( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) وعدّ الامتنان بها في الذكر في عدّةٍ من الآيات ، وناهيك أنّه قرن إجراءه تعالى لها مع خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، فالمراد فهمه ما ألهمه من صنعتها ، ولذلك جعل صنعتها مقيَّدة ( بِأَعْيُنِنا ) في قوله : ( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ) وقوله في الحديث « في حكمه » أي في حكمه الناشي عن حكمه وقوته وصحّته ، ويحتمل أن يكون المراد فهمه العام في صنعة الفلك وغيره ، ممّا فهمه عن الله تعالى وأمره.

وشبّهه بالخليل في حلمه ، وهو من أشرف الصفات ، ولذلك قيل : مانعت

٣٠٧

الله الأنبياء بأقلّ ما نعتهم بالحلم ، وذلك لعزّة وجوده ، ولقد نعت الله به إبراهيم عليه‌السلام بقوله تعالى : ( إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) ( إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) ومن مجادلته عن لوط فقال : ( إِنَّ فِيها لُوطاً ) في عدة من الآيات. ومن حلمه عليه‌السلام الّذي تخفّ عنه رواسي الجبال : امتثاله لأمر الله تعالى بذبح ولده عليهما‌السلام ، وإضجاعه ، وكتفه له ، وإمرار المدية على حلقه ، لولا منع الله لها أن تقطع ، فلهذا وصفه الله ووصف ولده بالحلم.

وشبّهه صلّى الله عليه وسلّم بيحيى بن زكريا عليهما‌السلام في زهده ، ويحيى عليه‌السلام هو علم الزهادة في أبناء آدم ، من تأخّر منهم ومن تقدّم ، وقد ملئت الكتب باليسير من صفات زهده.

وشبّهه صلّى الله عليه وسلّم بكليم الله في بطشه ، وكان موسى شديد البطش ، وناهيك أنّه ذكر القبطي فقضى عليه ، وأراد البطش بالآخر ، وهو في بلد فرعون ، وتحت يده بنو إسرائيل أرقّاء في يد فرعون ، وكان القبط أهل الصولة والشوكة والدولة.

وشبّهه في الحديث الآخر بيوسف في جماله ، ويوسف في جماله شمس لا يزيدها الوصف إلاّخفاءً ، فهي أظهر من أنْ تظهر. وقد سبق صفة أمير المؤمنين : وإنّ عنقه كأنّه إبريق فضة ، وإنّه كان أغيد ، وغير ذلك من الصفات الحسنة.

إذا عرفت هذا ، فهذه شرائف الصفات : الحلم ، والعلم ، والفهم ، والزهادة ، والبطش ، والحسن.

ثمّ إنّه حاز أكمل كلّ واحدة مها ، فإنّ علم الرسل أكمل العلوم ، وحلمهم أكمل الحلم ، وفهمهم أتمّ فهم ، وزهادتهم أبلغ زهادة ، وبطشهم أقوى بطش.

فناهيك من رجل كمّله الله بهذه الصفات ، وأخبر نبيه صلّى الله عليه

٣٠٨

وسلّم أنّه حازها ، وشابه أكمل من اتّصف بها ، وإنّ من أراد أن ينظر من كان متّصفاً بها من أولئك الرسل الأعلّين ، ويشاهده كأنّه حي ، نظر إلى هذا المتّصف بها ، لذلك قيل :

يدلّ لمعنى واحد كلّ فاخر

وقد جمع الرحمن فيك المعاليا

ولو أردنا سرد ما فاض عن الوصي من ثمرات هذه الصّفات ، وما انفجر عنه من بحور هذه الكلمات ، لخرجنا عن قصدنا من بيان معنى الأبيات ، والاختصار له في هذه الكلمات ، ويأتي في غضون صفاته ما يدلّ على كمالاته ، وقد شبَّه صلّى الله عليه وسلّم بعضاً من الصحابة ببعضٍ من الرسل في بعض الصفات ، ولم يجمع لأحدٍ خمسة من الأنبياء ولا ثلاثة ، ولا جاء في حقّ أحدٍ بهذه العبارة ، أعني : من أراد أن ينظر ... الخ ، الدالة على كمال تمكّن تلك الصفة في وصيّه » انتهى (١).

أقول :

هذا كلام هذا المحقّق الكبير في معنى هذا الحديث الشّهير ، وقد أحسن في البيان وأجمل في التقرير ، وبما ذكره يتّضح وجه احتجاج الشيعة ، ويظهر مدى تعصّب ( الدهلوي ) الّذي زعم أنّ مفاد الحديث هو التشبيه المحض ، كتشبيه التراب والحصى بالدّر والياقوت ، وأمثال ذلك من التشبيهات الادعائيّة ، والتمثيلات الإغراقيّة.

هذا ، ولا تغفل عن كلمات ابن طلحة ، والكنجي ، وشهاب الدين أحمد ، في بيان معنى حديث التشبيه ، فإنّها تفيد ما تذهب إليه الإماميّة كعبارة محمّد ابن إسماعيل المزبورة ...

__________________

(١) الروضة الندية ـ شرح التحفة العلوية.

٣٠٩

٧ ـ إعتراف أبي بكر بدلالة الحديث

فإن لم يقبل الخصم شيئاً من الوجوه المذكورة ، فقد اشتمل بعض ألفاظ الحديث على اعتراف أبي بكر بدلالة حديث التشبيه على مساواة الإمام أمير المؤمنين مع هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام في الصّفات ، وأفضليته منهم ... ففي كتاب المناقب للخوارزمي :

« أخبرني شهردار هذا إجازة ، [ قال : ] أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبدالله ابن عبدوس الهمداني إجازة ، عن الشريف أبي طالب المفضل بن محمّد بن طاهر الجعفري بإصبهان ، عن الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك الإصبهاني ، [ قال : ] حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم ، [ قال : ] حدّثنا الحسن بن علي بن الحسين السلوي ، [ قال : ] حدّثني سويد بن مسعر بن يحيى بن حجاج النهدي حدّثنا أبي ، حدّثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور صاحب راية علي ، قال :

بلغنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان في جمع من أصحابه فقال :

اريكم آدم في علمه ، ونوحاً في فهمه ، وإبراهيم في حكمته.

فلم يكن بأسرع من أنْ طلع علي.

فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أقست رجلاً بثلاثة من الرسل! بخ بخ لهذا الرجل ، من هو يا رسول الله؟

قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : ألا تعرفه يا أبا بكر؟!

قال : الله ورسوله أعلم.

قال : أبو الحسن علي بن أبي طالب.

قال أبو بكر : بخ بخ لك يا أبا الحسن. وأين مثلك يا أبا الحسن! » (١).

__________________

(١) مناقب علي بن أبي طالب : ٤٤ ـ ٤٥.

٣١٠

وفي ( توضيح الدلائل ) : « عن الحارث الأعور صاحب راية أمير المؤمنين كرّم الله وجهه قال : بلغنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبارك وسلّم كان في جمع من الصحابة ، فقال :

أريكم آدم في علمه ونوحاً في فهمه ، وإبراهيم في حلمه.

فلم يكن بأسرع من أن طلع علي كرّم الله تعالى وجهه.

قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : يا رسول الله : قست رجلاً بثلاثةٍ من الرسل ، بخ بخ لهذا ، من هو يا رسول الله؟!

قال النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم : يا أبا بكر ، ألا تعرفه؟

قال : الله ورسوله أعلم.

قال صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم : أبو الحسن علي بن أبي طالب.

قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : بخ بخ لك يا أبا الحسن.

ورواه الصالحاني ، وفي إسناده أبو سليمان الحافظ » (١).

ففي هذا الحديث : إعتراف صريح من أبي بكر بأنّ حديث التشبيه يدلُّ على المساواة بين الإمام عليه‌السلام وهؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قرّر ما ذكره أبو بكر ، وتقريره حجّة.

وإنّما قلنا بأنّ أبا بكر فهم المساواة من الحديث ، لأنّه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قست رجلاً بثلاثةٍ من الرسل » ومعنى « قست » : أي : « ساويت » لأنّ قياس أحدٍ بغيره هو بمعنى : التسوية بين الشخصين :

قال الشريف الجرجاني : « القياس في اللغة عبارة عن التقدير ، يقال :

__________________

(١) توضيح الدلائل على تصحيح الفضائل ـ مخطوط.

٣١١

قست النعل بالنّعل ، إذا قدّرته وسوّيته ، وهو عبارة عن ردّ الشيء إلى نظيره » (١).

وقال الجوهري : « قست الشيء بغيره وعلى غيره ، أقيس قيساً وقياساً ، فانقاس ، إذا قدّرته على مثاله. وفيه لغة اخرى : قسته أقوسه قوساً وقياساً ، ولا يقال : أقسته ، والمقدار مقياس ، وقايست بين الأمرين مقايسةً وقياساً ، ويقال أيضاً : قايست فلاناً إذا جاريته في القياس ، وهو كقياس الشيء بغيره ، أي : يقيسه بغيره ، ويقتاس بأبيه اقتياساً ، أي : يسلك سبيله ويقتدى به » (٢).

وفي ( الصحاح ) أيضاً : « قست الشيء بالشيء : قدّرته على مثاله » (٣).

وفي ( القاموس ) : « قاسه بغيره وعليه ، يقيسه قيساً وقياساً واقتاسه ، قدّره على مثاله ، فانقاس ، والمقدار : المقياس » (٤).

وقال ابن الأثير : « منه حديث أبي الدرداء : خير نسائكم التي تدخل قيسا وتخرج ميساً. يريد : أنّها إذا مشت قاست بعض خطاها ببعض ، فلم تفعل فعل الخرقاء ولم تبطئ ، ولكنّها تمشي مشياً وسطاً معتدلاً ، فكان خطاها متساوية » (٥).

فالعجب من ( الدهلوي ) كيف يحمل الحديث على التشبيه؟ وهل هذا إلاّ ردّ على أبي بكر وتسفيه؟ بل لقد سفّه بصراحةٍ ـ كما سيأتي من كلامه ـ كلّ من فهم المساواة من هذا الحديث ... فهذا تسفيه صريح لأبي بكر.

كما أنّ ( للدهلوي ) في الباب الحادي عشر من كتابه ( التحفة ) كلاماً مفاده إخراج أبي بكر من الصّبيان المميّزين ، ودخلوه في غير المميّزين ...

__________________

(١) التعريفات : ٧٨.

(٢) الصحاح : قوس.

(٣) الصحاح : قيس.

(٤) القاموس : قيس.

(٥) النهاية : قيس.

٣١٢

وأنت تعلم عدم أهليّة من كان في « كمال السّفاهة » ومن « الصبيان غير المميزين » للخلافة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لا خلاف ولا ريب بين المسلمين في اشتراط العقل والبلوغ في الخليفة ...

وهذا إشكال قويّ لا مفرّ ( للدهلوي ) وأنصاره منه.

ثمّ إنّ قول أبي بكر « من مثلك يا أبا الحسن! » ظاهر في أنّه قد جعل هذه المساواة في الحديث دليلاً على نفي مماثلة أحدٍ مع الإمام عليه‌السلام ، وهذا دليل آخر على الأفضلية ، لا سيّما بالنظر إلى تقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتوهّم عدم دلالة المساواة على الأفضليّة باطل جداً.

٨ ـ ابن تيميّة : الأشبه بالنبيّ أفضل وهو يخلفه

قال المتعصب العنيد ابن تيميّة : « فلأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أفضل الخلق ، وكلّ من كان به أشبه فهو أفضل ممّن لم يكن كذلك ، والخلافة كانت خلافة نبوة ، لم يكن ملكاً ، فمن خلف النبيّ وقام مقام النبيّ كان أشبه به ، ومن كان أشبه بالنبيّ كان أفضل ، فالذي يخلفه أشبه من عن غيره ، والأشبه به أفضل ، فالّذي يخلفه أفضل » (١).

فنقول : إنّ قوله : « من كان أشبه بالنّبيّ كان أفضل » كبرى مقبولة مسلمة ، إذ لا ريب ولا كلام ، في أنّ النبيّ أفضل الخلق ، والأشبه بالأفضل هو الأفضل ... وحديث التّشبيه يعيّن المصداق الحقيقي لتلك الواقعيّة المسلّمة ، فأمير المؤمنين عليه‌السلام أشبه الخلق بالأنبياء السّابقين الذين لا ريب أيضاً في أفضليّتهم من الثلاثة ، وكلّ من كان أشبه بهم فهو أفضل ، فأمير المؤمنين عليه‌السلام أفضل من الثلاثة وغيرهم.

__________________

(١) منهاج السنة ٨ / ٢٢٨.

٣١٣

وأيضاً : ظاهر قوله : « فمن خلف النبيّ ... » هو أن ابن تيمية يستدلّ بخلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام مقامه ، على أنّ من قام مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشبه به ، فهو الأفضل من غيره ، لكن دلالة حديث : « من أراد أن ينظر ... » على الأشبهيّة أقوى من دلالة مجرَّد الخلافة غير المنصوصة ـ مبنيّة على الظن الّذي لا يغني من الحق شيئاً ، أما أشبهيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهي ثابتة بالنص الصريح المعتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأين الظن غير المعتبر من النصّ الصريح المعتبر؟!

وإنّما قلنا « الخلافة غير المنصوصة » من جهة أنّ ( الدهلوي ) وغيره يعترفون بعدم النصّ على خلافة الثلاثة ، ولذا لا يترتّب على إثبات أشبهيّة الخلافة المنصوصة أيُّ أثر وفائدة لهم ، فلا ريب في أنّ ابن تيميّة يريد غير المنصوصة.

ومع غض النظر عمّا ذكرنا ، نقول : لو ثبت أشبهيّة من قام مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصٍّ أو دليلٍ عقلي ، فإنّ غاية ذلك التساوي بين تلك الأشبهيّة ، مع أشبهيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام الثابتة بالحديث الشريف ، وهذه المساواة أيضاً وافية بمطلوب الإماميّة ، لأنّ كلّ وجه أفاد أنّ أشبهيّة الخليفة بالنبيّ تستلزم أفضلية من غيره ، فهو نفسه يفيد استلزام أشبهيّة الإمام عليه‌السلام أفضليّته له من جميع أفراد الأمّة بعد النبيّ.

وأيضاً : إذا كانت أشبهيّة الخليفة شرطاً للخلافة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لزم أنْ يكون الخليفة معصوماً مثل النبيّ ، وبما أنّ الثلاثة فاقدون للعصمة ، فإنّ خلافتهم عن النبيّ تكون منتفية.

٣١٤

٩ ـ تشبيه غير المعصوم بالمعصوم غير جائز

إنّ حديث التشبيه بين الإمام عليه‌السلام والأنبياء ، يدلّ على العصمة والأفضليّة ، وإلاّ لما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ... وممّا يوضّح هذا كلام السبكي بترجمة أبي داود ، حيث قال :

« قال شيخنا الذهبي : تفقّه أبو داود بأحمد بن حنبل ، ولازمهُ مدةً. قال : وكان يشبه به ، كما كان أحمد يشبه بشيخه وكيع ، وكان وكيع يشبه بشيخه سفيان ، وكان سفيان يشبّه بشيخه منصور ، وكان منصور يشبَّه بشيخه إبراهيم ، وكان إبراهيم يشبَّه بشيخه علقمة ، وكان علقمة يشبَّه بشيخه عبدالله بن مسعود رضي‌الله‌عنه.

قال شيخنا الذهبي : وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : إنّه كان يشبّه عبدالله بن مسعود بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هديه ودلّه.

قلت : أمّا أنا فمن ابن مسعود أسكت ، ولا أستطيع أنْ اشبّه أحداً برسول الله في شيء من الأشياء ، ولا أستحسنه ، ولا أجوّزه ، وغاية ما تسمح نفسي به أن أقول : وكان عبدالله يقتدي برسول الله فيما ينتهي إليه قدرته وموهبته من الله عزّجل ، لا في كلّ ما كان رسول الله ، فإنّ ذلك ليس لابن مسعود ، ولا للصدّيق ، ولا لمن اتّخذه الله خليلاً ، حشرنا الله في زمرتهم » (١).

فأنت ترى تاج الدّين السبكي لا يجوّز تشبيه ابن مسعود ـ مع ما يذكرون له من الفضائل والمناقب الكثيرة كما في ( كنز العمّال ) وغيره ـ ولا أبي بكر بن أبي قحافة ، بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فلو لم يكن سيّدنا أمير

__________________

(١) طبقات الشافعية ٢ / ٢٩٦.

٣١٥

المؤمنين عليه الصلاة والسلام معصوماً وأفضل الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يشبهه النّبيّ بالأنبياء السابقين عليهم‌السلام في تلك الصفات الجليلة ، لأنه مع عدم العصمة والأفضليّة غير جائز قطعاً.

فثبت دلالة تشبيه الإمام عليه‌السلام بالأنبياء في صفاتهم على العصمة والأفضليّة.

ومن المعلوم أنّه لو جاز حمل تشبيه الإمام عليه‌السلام بالأنبياء عليهم‌السلام على التشبيهات الشعريّة المجازيّة ، لجاز تشبيه ابن مسعود بل الأوّل فكيف الثاني والثالث ... بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... بلا مضائقة ولا توقّف ...

وإذا كان السبكي يأبى عن تشبيه ابن مسعود بل الأوّل وغيره بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... كيف يجرأ ( الدّهلوي ) على أنْ ينسب التشبيه الفارغ المجازي إلى نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلامه الثابت صدوره منه؟!

وأيضاً : يفيد كلام السبكي بطلان دعوى مساواة الثلاثة مع الأنبياء في الصفات ، إذ لو كان يساوونهم أو يشابهونهم في تلك الصّفات ، لما امتنع السبكي من تشبيه الأول منهم بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأيضاً : عدم جواز تشبيه الأول بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يوضّح بطلان الأحاديث المزعومة والموضوعة في تشبيه الشيخين بالأنبياء.

وأيضاً : يظهر منه فساد دعوى حمل الشيخين لكمالات الأنبياء عليهم‌السلام.

٣١٦

١٠ ـ تحريم القاضي وغيره تشبيه بعض أحوال غير النّبي بالنّبي

وحرّم القاضي عياض تشبيه غير النّبيّ بالنّبيّ ، بل تشبيه بعض أحوال غير النبيّ بالنبيّ ، تحريماً أكيداً ، يستوجب الحبس والتعزير ، وأقام على ذلك وجوهاً عديدة ، واستشهد بشواهد من التأريخ والأثر ، ومن أقوال المتقدّمين وأفعالهم ، وإليك النصّ الكامل لكلامه في ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى ) ، في الباب الأول ، في بيان ما هو في حقّه سبّ أو نقص من تعريض أو نصّ :

« فصل : الوجه الخامس ـ أنْ لا يقصد نقصاً ، ولا يذكر عيباً ، ولا سبّاً ، ولكنّه ينزع بذكر بعض أوصافه ، ويستشهد ببعض أحواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره ، أو على التشبيه به ، أو عند هضيمة نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسّي وطريق التحقيق ، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره ، أو سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيّه ( ص ) ، أو قصد الهزل والتبذير ، بقوله كقول القائل : إن قيل فيَّ السوء فقد قيل في النبيّ. أو : إن كذّبت فقد كذّب الأنبياء. أو : إن أذنبت فقد أذنبوا. أو : أنا أسلم من ألسنة الناس ولم تسلم منهم أنبياء الله ورسله. أو : قد صبرت كما صبر أولوا العزم من الرسل ، أو كصبر أيّوب ، أو قد صبر نبيّ الله من عداه ، وحلم على أكثر ممّا صبرت ، وكقول المتنبّي :

أنا في امّة تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول ، المتساهلين في الكلام ، كقول المعرّي :

كنت موسى وافته بنت شعيب

غير أنّ ليس فيكما من فقير

على أنّ آخر البيت شديد عند تدبّره ، وداخل في باب الإزراء والتحقير

٣١٧

بموسى عليه‌السلام ، وتفضيل حال غيره عليه ، وكذلك قوله :

لولا انقطاع الوحي بعد محمّد

فلنا محمّد عن أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلاّ أنّه

لم يأته برسالة جبريل

فصدر البيت الثاني من هذا الفضل شديد ، لتشبيهه غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في فضله بالنّبيّ ، والعجز محتمل لوجهين ، أحدهما : إنّ هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر استغناؤه عنها ، وهذه أشد ، ونحو منه قول الآخر :

وإذا ما رفعت راياته

صفّقت بين جناحي جبرين

وقول الآخر من أهل العصر :

فرّ من الخلد واستجار بنا

فصبَّر الله قلب رضوان

وكقول حسّان المصيصي ، من شعراء الأندلس ، في محمّد بن عبّاد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون :

كأنّ أبا بكر أبو بكر الرضا

وحسّان حسّان وأنت محمّد

إلى أمثال هذا.

وإنّما أكثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ، ولتساهل كثيرٍ من الناس في ولوج هذا الباب الضّنك ، واستخفافهم فادح هذا العبء ، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، وكلامهم منه بما ليس لهم به علم ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ) لا سيّما الشعراء ، وأشدّهم فيه تصريحاً ، وللسانه تسريحاً ابن هاني الأندلسي ، وابن سليمان المعرّي ، بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا إلى حدّ الإستخفاف والنقص وصريح الكفر ، وقد اجتنبنا عنه.

وغرضنا الآن الكلام في هذا الفصل الّذي سقنا أمثلته ، فإنّ هذه كلّها وإن

٣١٨

لم يتضمّن شيئاً ، ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصاً ، ولست أعني عجزي بيتي المعرّي ، ولا قصد قائلها إزراء وغضّاً ، فما وقّر النبوّة ، ولا عظّم الرّسالة ، ولا عزّر حرمة الإصطفاء ، ولا عَزّر حظوة الكرامة ، حتّى شبه من شبّه في كرامة نالها ، أو معرة قصد الإنتفاء منها ، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصفه لتحسين كلامه ، بمن عظّم الله خطره وشرّف قدره ، وألزم توقيره وبرّه ، ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده.

فحقّ هذا ـ إنْ درأ عنه القتل ـ الأدب والسّجن ، وقوّة تعزيره بحسب شنعة مقاله ، ومقتضى قبح ما نطق به ، ومألوف عادته لمثله أو ندوره أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه.

ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممّن جاء ، وقد أنكر الرشيد على أبي نؤاس قوله :

فإن يك يأتي سحر فرعون فيكم

فإنّ عصى موسى بكفّ خصيب

وقال له : يا ابن اللخناء : أنت المستهزئ بعصى موسى ، وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته. وذكر اليقتيبي : أنّ ممّا أخذ عليه أيضاً وكفّر فيه أو قارب ، قوله في محمّد الأمين ، وتشبيهه إيّاه بالنبيّ :

تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها

خلقاً وخلقاً كما قدّ الشراكان

وقد أنكروا أيضاً عليه قوله :

كيف لا يدنيك من أمل

من رسول الله من نفره

لأنّ حق الرسول ، وموجب تعظيمه وإنافة منزلته ، أنْ يضاف إليه ولا يضاف هو لغيره.

فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا.

وعلى هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه‌الله

٣١٩

وأصحابه ، ففي النوادر من رواية يحيى بن أبي مريم عنه في رجلٍ عيّر رجلاً بالفقر ، فقال : تعيّرني بالفقر وقد رعى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الغنم؟ فقال مالك : قد عرّض بذكر النبيّ في غير موضعه ، أرى أنْ يؤدّب.

قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا.

وقال عمر بن عبدالعزيز لرجل : انظر لنا كاتباً يكون أبوه عربيّاً. فقال كاتب له : قد كان أبو النبيّ كافراً. فقال : جعلت هذا مثلاً!! فعزله فقال : لا تكتب لي أبدا.

وقد كره سحنون أنْ يصلّى على النبيّ عند التعجب ، إلاّعلى طريق الثواب والإحتساب ، توقيراً له وتعظيماً ، كما أمرنا الله.

وسئل القابسي عن رجلٍ قال لرجل قبيح الوجه : كأنّه وجه نكير ، ولرجل عبوس : كأنّه وجه ملك الغضبان. فقال : أيّ شيء أراد بهذا؟! ونكير أحد فتّاني القبر ، وهما ملكان ، فما الّذي أراد؟! أروعٌ دخل عليه حين رآه من وجهه؟ أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه؟ فإن كان هذا فهو شديد ، لأنّه جرى مجرى التحقير والتهوين ، فهو أشد عقوبةً ، وليس فيه تصريح بالسبّ للملك ، وإنّما السبّ واقع على المخاطب ، وفي الأدب بالسوء والسجن نكال للسفهاء. قال : وأمّا ذكر مالك خازن النار فقد جفا الّذي ذكره عندما أنكر من عبوس الاوخر ، إلاّ أن يكون المعبّس له يد فيرهب بعبسه ، فيشبّهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ، ولزومه في صفته صفة مالك الملك المطيع لربّه في فعله ، فيقول : كأنّه لله يغضب غضب مالك ، فيكون أخف. وما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا ، ولو كان أثنى على العبوس بعبسه ، واحتجّ بصفة مالك كان أشد ، ويعاقب العقوبة الشديدة ، وليس في هذا ذم للملك ، ولو قصد ذمه لقتل.

٣٢٠