نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٢

أقول :

مراد ( الدهلوي ) من لفظ ( الامتياز ) هو ( التّمييز ) ، والقول بأنّ هؤلاء ميّزوا الأحاديث بعضها عن بعضٍ ، يضره ولا ينفعه ، لوجود الأحاديث الكثيرة التي نقلها هؤلاء المتأخرون ـ كالمتقدمين عليهم ـ تؤيِّد الشيعة وتثبت مطلوبهم ...

ألا ترى أنّ السخاوي الحافظ ، أورد حديث ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) في كتابه ( المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة ) وذهب إلى القول بصحّته ، واستشهد بكلام الحافظ العلائي في تصحيحه ، خلافاً لمن اقتدى به ( الدهلوي ) وذهب إلى بطلانه ، فإذا كان السخاوي قد ميَّز الحسان من غيرها ـ كما يقول هنا ـ فقد سقط وبَطَل ما ذكر هناك.

وأيضاً ، إذا كان السيوطي من نقّاد الحديث ، وأنّه قد جمع في ( الدرّ المنثور ) الأحاديث الحسان لغيرها ـ كما تفيد عبارته هذه ـ ، فإنّ كتابه ( الدر المنثور ) يشتمل على كثير من الأحاديث المؤيدة لمذهب الإماميّة ، والمبطلة لمزاعم مخالفيهم ، كما لا يخفى على من لاحظ مثلاً ما ذكره السيوطي في الآية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) والآية : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) وفي تفسير سورة البراءة ... وغيرها ...

وأمّا ابن الجوزي ، فالسبب في جعله من نقّاد الحديث والمميّزين لحقّه من باطله ، هو ـ والعياذ بالله إبطاله لكثيرٍ من مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والتي أوردها هذا الرجل في ( الموضوعات ) مثل : حديث الطير ، وحديث أنا مدينة العلم ...

لكن ( الدهلوي ) لن يتحقّق غرضه من نقل آراء ابن الجوزي في مناقب

٢٨١

الإمام مع وصفه بما وصفه ، لثبوت صحّة الحديثين المذكورين وغيرهما ، بتصريح كبار أئمّة أهل السنّة على ذلك ، ولأنّ كبار علماء القوم في علم الحديث ينصون على اشتمال كتاب ( الموضوعات لابن الجوزي ) على الصحاح والحسان من الأحاديث ، بل قيل باشتمال الكتاب المذكور على ستمائة حديث غير موضوع ، ومنها أحاديث أخرجها الشيخان وغيرهما من أرباب الصحاح والمسانيد والسنن ...

ومن هنا ترى المحقّقين من أهل السنّة ، لا يعتبرون بكلام ابن الجوزي وبحكمه بالوضع في كثيرٍ على طائفةٍ من الأحاديث ...

وإذا كان ابن الجوزي من نقّاد الحديث ... فقد أورد في كتاب ( الموضوعات ) طائفةً كبيرة من مناقب الشّيخين وغيرهما ، وصرّح بأنّه قد ترك ذكر أحاديث كثيرة شائعة على ألسنة العوام وهي من الموضوعات ، وأنّ من الأحاديث التي أدرجها في كتابه المذكور هو : « ما صبَّ الله في صدري شيئاً إلاّوصببته في صدر أبي بكر » وحديث : « إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتي بجنازة رجلٍ ، فلم يصلِّ عليه ، فقيل له : يا رسول الله ، ما رأيناك تركت الصّلاة على أحدٍ إلاّهذا! قال : إنّه كان يبغض عثمان ... » وحديث « المنام » الّذي وضعوه على ابن عباس ، الّذي جاء فيه عن النبيّ : « إنّ عثمان بن عفان أصبح عروساً في الجنّة وقد دعيت إلى عرسه » ...

لقد أدرج ابن الجوزي الناقد للحديث ـ كما ذكر ( الدهلوي ) هنا ـ هذه الأحاديث ، في كتابه في ( الموضوعات ) ، لكنّ ( الدهلوي ) تمسّك بهذه الأباطيل والموضوعات في كتابه ( التحفة ) في مقابلة الشيعة!! ...

هذا ، والجدير بالذكر أنّ ( الدهلوي ) قد أخذ كلّ ما ذكره حول الديلمي والخطيب وابن عساكر ... وحول السخاوي وابن الجوزي والسّيوطي ... أخذ

٢٨٢

كلّ ذلك من عبارة والده في ( قرّة العينين ) ، مع تصرّفات له فيها ، كإسقاطه اسم ( الحاكم ) من طبقة البخاري ومسلم والترمذي ...

ولعلّ السبب في هذا الإسقاط هو تصحيح الحاكم لجملة من الأحاديث ، كحديث الولاية ، وحديث الطير ، وحديث مدينة العلم ... فلهذا حذف اسمه ، لأنّ الاعتراف بكونه من نقدة الحديث ـ كالبخاري ومسلم ـ ينافي السّعي في إبطال هذه الأحاديث وردّها!!

قوله :

وقد نصَّ أولئك الجامعون لتلك الأحاديث ...

أقول :

يعني : إنّه قد صرَّح أولئك الجامعون للأحاديث ، في مقدّمات جوامعهم ، بأنّهم قد جمعوا تلك الأحاديث في كتبهم ، مع اشتمالها على الموضوعات والضعاف أيضاً ، حتّى يميّزوا في مرحلةٍ أخرى بعضها عن بعض ، ويستخرجوا من بينها الحسان ...

ودعوى تصريح القوم بذلك ، لا أساس لها من الصحّة ، بل لم يجرأ عليها الكابلي أيضاً ، فهي من خصائص ( الدهلوي ).

ويظهر بطلان هذه الدعوى ، من كلام الديلمي في خطبة كتاب ( الفردوس ) فإنّه قد شنّع الديلمي بشدّة على رواة القصص والمكذوبات.

ويظهر بطلانها أيضاً ، من احتجاج الكابلي بما أخرجه الديلمي وابن عساكر ، في المواضع المختلفة ، من كتابه ( الصواقع ).

بل ( الدهلوي ) نفسه ، يحتجّ بأحاديث هؤلاء العلماء والحفاظ ، إلاّ أنّه

٢٨٣

يعمد إلى توهين كتبهم وإسقاط أخبارهم عن الإعتبار ، لأجل الردّ على الشيعة ، ولغرض التفوّق عليهم في البحث ...

فإنْ كان ما ذكره ( الدهلوي ) حول هؤلاء صحيحاً ، وما قاله عن كتبهم حقّاً ، وقع التكاذب والتناقض بينه وبين تلك المدائح الجليلة من كبار العلماء في حقّهم.

وقد تقدّم سابقاً ذكر بعض ما قيل في كتاب الفردوس.

الثناء على مصنّفات الخطيب

وهذه كلمات من أعلام القوم في مدح تصانيف الخطيب البغدادي :

١ ـ قال ابن جزلة ـ في كلام له حول علم الحديث : « قد صنّف الناس في ذلك ، ومعرفة الرجال ، وأكثروا وعنوا وبالغوا ، وميّزوا الثقة من المتّهم ، والضعيف من القوي ، وما أعظم فائدته وأحمد موقعه ، لكثرة ما دسَّ الملحدة والزنادقة من الأحاديث الموضوعة البشعة المنفرّة ، التي فسد بسماعها خلق من الناس ، واعتقد الغر عند سماعها أنّها من قول صاحب الشرع ، فهلك وتسرّع إلى الكذب ، ومال إلى الخلاعة ، نعوذ بالله من الشقاء والبلاء.

وهذا الكتاب الّذي صنّفه الشيخ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ، الحافظ البغدادي رحمه‌الله ، وسمّاه ( تاريخ بغداد ) ، كتاب جليل في هذا العلم ، نفيس ، قد تعب فيه ، وسهر ، وأطال الزمان ، والله تعالى يثيبه ويحسن إليه ، إلاّ أنّه طويل ، وللإطالة آفات ، أقربها الملل ، والملل داعية الترك ، وقد استخرت الله تعالى واختصرته ، ... » (١).

٢ ـ السمعاني : بترجمة الخطيب : « صنّف قريباً من مائة مصنَّف ، صارت

__________________

(١) مختار تاريخ بغداد لابن جزلة البغدادي ـ مخطوط.

٢٨٤

عمدةً لأصحاب الحديث ، منها التاريخ الكبير لمدينة السلام بغداد » (١).

٣ ـ ابن خلّكان : « أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن يحيى بن مهدي ابن ثابت البغدادي ، المعروف بالخطيب ، صاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنّفات المفيدة. كان من الحفّاظ المتقنين والعلماء المتبحّرين.

ولو لم يكن له سوى ( التاريخ ) لكفاه ، فإنّه يدلّ على اطّلاع عظيم » (٢).

٤ ـ الذهبي : « قال الحافظ ابن عساكر : سمعت الحسين بن محمّد يحكي عن ابن خيرون أو غيره : إنّ الخطيب ذكر أنّه لمّا حجّ ، شرب من ماء زمزم ثلاث شربات ، وسأل الله تعالى ثلاث حاجات ، أن يحدّث ( تاريخ بغداد ) بها ، وأنْ يملي الحديث بجامع المنصور ، وأن يدفن عند بشر الحافي. فقضيت له الثلاث » (٣).

وقال الذهبي أيضاً : « قال غيث الأرمنازي ، قال مكي الرّميلي : كنت نائماً ببغداد ، في ربيع الأول سنة ثلاث وستّين وأربعمائة ، فرأيت كأنّا اجتمعنا عند أبي بكر الخطيب في منزله ، لقراءة التأريخ على العادة ، فكأنّ الخطيب جالس ، والشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي عن يمينه ، وعن يمين نصر رجل لم أعرفه ، فسألت عنه فقيل : هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، جاء يسمع التاريخ ، فقلت في نفسي : هذه جلالة أبي بكر ، إذ يحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وقلت : هذا ردّ لقول من يعيب التاريخ ، ويذكر أنّ فيه تحاملاً على أقوام » (٤).

٥ ـ السّبكي : « قال أبو الفرج الإسفرائني ، وأسنده عنه الحافظ ابن

__________________

(١) الأنساب ٥ / ١٥١.

(٢) وفيات الأعيان ١ / ٩٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة الخطيب ١٨ / ٢٧٩.

(٤) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة الخطيب ١٨ / ٢٨٨ ، تذكرة الحفاظ ٣ / ١١٤٥.

٢٨٥

عساكر في التبيين ، قال أبو القاسم مكي بن عبدالسلام المقدسي : كنت نائماً في منزل الشيخ أبي الحسن الزعفراني ببغداد ، فرأيت في المنام عند السحر ، كأنّا اجتمعنا عند الخطيب لقراءة التاريخ في منزله على العادة ، وكأنّ الخطيب جالس وعن يمينه الشيخ نصر المقدسي ، وعن يمين الفقيه نصر رجل لا أعرفه ، فقلت : من هذا الّذي لم تجر عادته بالحضور معنا! فقيل لي : هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، جاء يسمع التاريخ ، فقلت في نفسي : هذه جلالة الشيخ أبي بكر ، إذ حضر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ، وقلت في نفسي : هذا أيضاً رد لمن يعيب التاريخ ، ويذكر أن فيه تحاملاً على أقوام ، وشغلني التفكّر في هذا عن النهوض إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسؤاله عن أشياء كنت قد قلت في نفسي أسأله عنها ، فانتبهت في الحال ولم أُكلّمه صلّى الله عليه وسلّم » (١).

٦ ـ الذهبي : « أنشدني أبو الحسين الحافظ ، أنشدنا جعفر بن منير ، أنشدنا السلفي لنفسه :

تصانيف ابن ثابت الخطيب

ألذّ من الصبا الغضّ الرطيب

تراها إذ رواها من حواها

رياضاً للفتى اليقظ اللبيب

ويأخذ حسن ما قد ضاع منها

بقلب الحافظ الفطن الأريب

وأيّة راحة ونعيم عيش

يوازي كتبها بل أيّ طيب

رواها السّمعاني في تاريخه عن يحيى بن سعدون عن السّلفي » (٢).

والعجيب ، أنّ ( الدهلوي ) نفسه يكثر من الثناء على ( تاريخ بغداد ) وغيره من مصنّفات الخطيب ، فقد ذكر في ( بستان المحدثين ) : « أنّ مصنّفات الخطيب

__________________

(١) طبقات الشافعية ٤ / ٣٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة الخطيب ١٨ / ٢٩٢.

٢٨٦

تزيد على ستّين كتاباً ، منها تاريخ بغداد والكفاية ... وغير ذلك من التصانيف المفيدة التي هي بضاعة المحدثين وعروتهم في فنهم » ثمّ أورد أشعار الحافظ أبي طاهر السّلفي المذكورة ، وذكر شرب الخطيب من ماء زمزم ، والمنام الّذي تقدّم عن الذهبي وغيره ...

الثناء على مصنّفات ابن عساكر

وأمّا تصانيف الحافظ ابن عساكر :

١ ـ فقد قال ابن خلّكان : « وصنّف التصانيف المفيدة ، وخرّج التخاريج ، وكان حسن الكلام على الأحاديث ، محفوظاً في الجمع والتاليف ، صنّف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلّدة ، أتى فيه بالعجائب ، وهو على نسق تاريخ بغداد. قال شيخنا الحافظ العلاّمة أبو محمّد عبدالعظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع ـ وقد جرى ذكر هذا التاريخ ، وأخرج لي منه مجلّداً ، وطال الحديث في أمره واستعظامه ـ ما أظنّ هذا الرجل إلاّعزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل نفسه ، وشرع في الجمع من ذلك الوقت ، وإلاّ فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبّه. ولقد قال الحق ، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتّى يضع مثله!

وهذا الّذي ظهر له هو الّذي أختاره ، وما صحّ له إلاّبعد مسوّدات لا يكاد ينضبط حصرها ، وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة » (١).

٢ ـ اليافعي : « وقال بعض العلماء بالحديث والتاريخ : ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله ، وبلغ فيه إلى الذروة العليا ، ومن تصفّح تاريخه علم منزلة

__________________

(١) وفيات الأعيان ٣ / ٣٠٩.

٢٨٧

الرجل في الحفظ. قلت : بل من تأمّل تصانيفه ومن حيث الجملة ، علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم ، وفضائل تحتها من المنافع والمحاسن كلّ طائل » (١).

٣ ـ السبكي : « له تاريخ الشام في ثمانين مجلّدة وأكثر ، أبان فيه عمّا لم يكتمه غيره وإنّما عجز عنه ، ومن طالع هذا الكتاب عرف إلى أيّ مرتبة وصل هذا الإمام ، واستقلّ الثريا وما رضي بدر التمام ، وله : الأطراف ، وتبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبو الحسن الأشعري ، وعدّة تصانيف وتخاريج ، وفوائد ما الحفّاظ إليها إلاّمحاويج ، ومجالس أملاها من صدره يخرّ لها البخاري ويسلم بمسلم ولا يرتدا ، أو يعمل في الرحلة إليها هزّل المهاري » (٢).

قوله :

فمع العلم بواقع حال تلك الكتب كما صرّح به أصحابها ، كيف يجوز الاحتجاج بتلك الأحاديث.

أقول :

لم نقف على كلام لأصحاب تلك الكتب يفيد ما نسب إليها ، ولا على كلامٍ لغير أصحابها يتضمّن تلك النسبة ... بل وجدناهم ـ على العكس ممّا زعم ( الدّهلوي ) ـ يمدحون ( الفردوس ) و ( تاريخ بغداد ) و ( تاريخ دمشق ) ، كما وجدناهم يستدلّون بأخبار هذه الكتب ويعتمدون عليها ، بل وجدنا ( الدهلوي ) نفسه يثني على كتب الخطيب في ( بستان المحدثين ) ويستدل بروايات الديلمي وابن عساكر في كتابه ( التحفة ).

__________________

(١) مرآة الجنان ٣ / ٣٩٣.

(٢) طبقات الشافعية ٧ / ٢٥١.

٢٨٨

فلماذا لا يجوز للشيعة الاحتجاج بأحاديث هؤلاء الأعاظم ، من حفاظ أهل السنّة؟

قوله :

ولهذا ، فقد نقل صاحب جامع الأصول أنّ الخطيب قد روى أحاديث الشيعة عن الشريف المرتضى ...

أقول :

أمّا أوّلاً : فإنّه لم يذكر الموضع الّذي نقل عنه هذا الكلام لكي نراجعه.

وأمّا ثانياً : مجرد رواية الخطيب لأحاديث الشيعة عن السيّد المرتضى ، لا يوجب القدح في كتابه ( تاريخ بغداد ) وغيره ، لجواز أنّه قد كتب أحاديث الشيعة في بياض يخصّها ، ولم يدرجها في كتاب ( تاريخ بغداد ) المقبول لدى أساطين العلماء ، فلا مانع من الاحتجاج بروايات التاريخ ونحوه من الكتب السائرة ، كما اتّفق ( للدهلوي ) في الباب الحادي عشر من كتابه ، تقليداً للكابلي.

وأمّا ثالثاً : إنّ ما ذكره يدلُّ على جلالة قدر السيّد المرتضى رحمه‌الله.

وبذلك أيضاً يظهر ما في تهجين ( الدهلوي ) للسيّد المذكور في باب النبوّة من كتابه ( التحفة ).

قوله :

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث ليس من تلك الأحاديث أيضاً ، فإنّه لا وجود له في شيء من كتب أهل السنّة ، ولو بطريقٍ ضعيف.

٢٨٩

أقول :

لقد كرر ( الدهلوي ) هذه المزعمة المكذوبة مرةً أخرى ... سبحانك هذا بهتان عظيم ... لكنّك قد عرفت وجود هذا الحديث الشريف في :

كتاب السنّة. لابن شاهين البغدادي.

وتاريخ نيسابور. للحاكم النيسابوري.

والإبانة. لابن بطة العكبري.

وفضائل الصحابة. لأبي نعيم الأصبهاني.

وفضائل الصحابة. لأبي بكر البيهقي.

ومناقب علي بن أبي طالب. لابن المغازلي الواسطي.

وفردوس الأخبار. لشيرويه بن شهردار الديلمي.

وزين الفتى في تفسير سورة هل أتى. للعاصمي.

والخصائص العلوية. لأبي الفتح النطنزي.

ومسند الفردوس. لشهردار بن شيرويه الديلمي.

وكتاب مناقب علي بن أبي طالب. للخطيب الخوارزمي.

ومعجم الأدباء. لياقوت الحموي.

ووسيلة المتعبّدين. لملا عمر.

ومطالب السئول. لابن طلحة النّصيبي.

وكفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب. للكنجي.

والرياض النضرة. وذخائر العقبى. لمحب الدين الطبري.

والمودة في القربى. للسيّد علي الهمداني.

وتوضيح الدلائل. للسيّد شهاب الدين أحمد.

٢٩٠

وهداية السعداء. لشهاب الدين الهندي.

والفصول المهمة. لابن الصبّاغ المالكي.

والفواتح ـ شرح ديوان أمير المؤمنين. للحسين الميبدي.

ونزهة المجالس. للصفوري.

والإكتفاء. لإبراهيم الوصابي اليمني.

والأربعين. لجمال الدين المحدّث الشيرازي.

ووسيلة المال. لأحمد بن الفضل المكي.

وسير الأقطاب. للشيخ الله ديا.

ومفتاح النجا. لميرزا محمّد البدخشاني.

ومعارج العلى. لمحمّد صدر العالم.

والروضة النديّة. لمحمّد بن إسماعيل اليماني.

وغيرها من كتب أهل السنّة.

فما هذا الجحود والإنكار؟

ولماذا لا يحتفل هذا الرّجل بمؤاخذة المطّلعين على كتب الأخبار؟

لقد ظهر وجود هذا الحديث الشريف في كتب أهل السنّة ظهور الشّمس في رابعة النهار ، فلا أثر لإنكار المنكرين وجحد الجاحدين.

والحمد لله رب العالمين.

٢٩١
٢٩٢

دلالة

حديث التشبيه

٢٩٣
٢٩٤

قد عرفت أنّ هذا الحديث من أخبار أهل السنّة في طائفةٍ من مصادرهم المعتبرة ، وأنّ مناقشات ( الدّهلوي ) حول سنده والكتب التي أخرجته لا أساس لها من الصحّة ...

ثمّ شرع في المناقشة في دلالة الحديث ، وسيتّضح للقارئ الكريم سقوط جميع مناقشاته في هذه الناحية كذلك :

قوله :

الثاني : إنّ ما ذكر محض تشبيه لبعض صفات الأمير ببعض صفات أولئك الأنبياء.

من وجوه دلالة الحديث على المساواة

أقول :

إنّ نفي دلالة هذا الحديث الشريف على مساواة أمير المؤمنين عليه‌السلام للأنبياء الكرام المذكورين في الصفات المذكورة في الحديث ، وحمل الحديث على مجرَّد التشبيه بين الطرفين ... مكابرة واضحة لكلّ عارفٍ بأساليب الكلام ... ولمزيد البيان والوضوح نذكر الوجوه الاتية :

١ ـ إفادة هذا التركيب للعينيّة

إنَّ أصل هذا التركيب ـ أعني : من أراد أنْ ينظر ... يفيد عينيّة ما يراد

٢٩٥

النظر إليه لما أمر بالنظر إليه ، فهو مثل : من أراد أنْ ينظر إلى أفضل رجل في البلد فلينظر إلى فلان ، ولا ريب أنه لا مساغ للتشبيه في مثل هذا الكلام ، بأنْ يكون المراد : إنّ من أمر بالنظر إليه مشابه للأفضل من في البلد ، وليس الأفضل حقيقة.

إنّه لا مساغ لأنْ يراد ذلك ، أو يدّعي كونه المراد ، في مثل الكلام المذكور ، بل المراد كون هذا الشخص هو الأفضل حقيقةً.

إلاّ أنّه لمّا كانت العينيّة في الحديث الشريف متعذّرة ، فلا مناص من حمله على أقرب الامور أي العينيّة ، وهو المساواة ، فيكون المعنى : من أراد أنْ ينظر إلى آدم ويلحظ علمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب ، فإنّه الّذي يماثله ويساويه في العلم ، بمعنى أنّ جميع العلوم الحاصلة لآدم عليه‌السلام حاصلة لعلي عليه‌السلام.

وهكذا في باقي الصفات المذكورة في الحديث.

فظهر ، أنّ المراد هو المساواة ، وإلاّ لسقط الكلام النبوي عن البلاغة اللائقة به.

ويشهد بما ذكرنا : ما جاء في كلام المحبّي بترجمة عيسى بن محمّد المغربي صاحب ( مقاليد الأسانيد ) حيث قال : « وكان للناس فيه اعتقاد عظيم ، حتّى أنّ العارف بالله السيّد محمّد بن باعلوي كان يقول في شأنه : إنّه زرّوق زمانه. وكان السيّد عمر باعلوي يقول : من أراد أن ينظر إلى شخص لا يشك في ولايته فلينظر إليه. وكفى بذلك فخراً له ، ومن يشهد له خزيمة » (١).

فإنّ ظاهر كلام باعلوي في حقّ عيسى المغربي هو ما ذكرناه ، إذ لو كان مفاده التشبيه فقط ـ نظير تشبيه الحصى باللؤلؤ مثلاً ـ لما دلّ على الولاية الثابتة

__________________

(١) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ٣ / ٢٤٠.

٢٩٦

القطعية للمغربي ، ولم يكن لقول المحبّي : « وكفى بذلك فخراً له ومن شهد له خزيمة » وجه أصلاً.

٢ ـ المتبادر من التشبيه هو المساواة

إنّ المتبادر من التشبيه في قولك : زيد كعمرو في العلم أو الحسن أو المال ... هو المساواة بينهما في تلك الامور ، ولا يشك في ذلك إلاّ المنكر للواضحات ، الدافع للبديهيّات ... فلو فرضنا تقدير حرف التشبيه في هذا الحديث الشريف ـ دون لفظ « مساو » ـ لأفاد المساواة كذلك ، بحكم التبادر المذكور ، بلا صارف ومانع عنه.

ويوضّح هذا التبادر : صحّة سلب التشبيه في صورة عدم المساواة بين الطرفين ، فإذا لم يكن زيد مساوياً لعمرو في الحسن مثلاً ، صحّ أن يقال : زيد ليس كعمرو في الحسن ، ولو لم يكن التشبيه دليلاً على المساواة ، لما صحّ سلب التشبيه في حال عدم المساواة.

وأيضاً : ترى العلماء يقولون في بحوثهم حول الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك ... يقولون : كذا في الآية الكريمة ، وكذا في الحديث الشريف ... فإنْ احتجّوا بحديثٍ من الأحاديث قالوا : كذا ذكره مسلم ، وكذا أخرجه البخاري ... وإذا دار بحثهم حول بعض الفروع الفقهيّة قالوا : كذا قال الشّافعي ، أو كذا قال أبو حنيفة ... وهكذا ما لا يحصى كثرةً ...

ولا ريب في أنّهم يريدون التساوي والمساواة ، وهو المتبادر منه إلى ذهن السامعين ، فلولا المطابقة التامّة لعرّض القائل نفسه للمؤاخذة والإعتراض الشديد.

فظهر ضرورة حمل التشبيه على المساواة في أمثال هذه العبارات ...

٢٩٧

هكذا المشابهة بين الإمام عليه‌السلام والأنبياء ، في الصفات المذكورة في الحديث الشريف ... فإنّه يجب حملها على المطابقة التامّة ، والمماثلة الكاملة ، والمساواة الدّقيقة ... ولا يجوز غير ذلك أبداً.

أفضلية نبيّنا من سائر الأنبياء في القرآن

ولقد استدل كبار العلماء بالآية الآمرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإقتداء بهدى الأنبياء ، على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين ... فكذلك هذا الحديث الدالّ على وجود صفات الأنبياء عليهم‌السلام في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّه يدلّ على أفضليّته منهم ، وإذا ثبتت أفضليّته عليه‌السلام من الأنبياء الكرام ، فما ظنّك بثبوت أفضليّته من الثلاثة الحائزين لصفات تتحيّر فيها الأفهام!!

ولنذكر أوّلاً الآية الكريمة ، ثمّ نتبعها بكلمات بعض المفسّرين في بيان وجه الإستدلال بها على ما أشرنا إليه ، فالاية هي :

( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا

٢٩٨

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ) (١).

قال الرازي بتفسير ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) :

« في الآية مسائل : المسألة الأولى ـ لا شبهة في أنّ قوله ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) هم الذين تقدّم ذكرهم من الأنبياء ، ولا شك في أنّ قوله ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) أمر لمحمّد عليه الصلاة والسّلام. وإنّما الكلام في تعيين الشيء الّذي أمر الله محمّداً أن يقتدي فيه بهم.

فمن الناس من قال : المراد إنّه يقتدي بهم في الأمر الّذي أجمعوا عليه ، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كلّ ما لا يليق به في الذات والصّفات والأفعال وسائر العقليّات. وقال آخرون : المراد الإقتداء بهم في شرائعهم ، إلاّما خصّه الدليل ، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلاً على أنّ شرع من قبلنا يلزمنا. وقال آخرون : إنّه تعالى إنّما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ، ليبين أنّهم كانوا محترزين عن الشرك ، مجاهدين بإبطاله ، بدليل أنّه ختم الآية بقوله : ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ثمّ أكّد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) ثمّ قال في هذه الآية : ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد ، وتحمّل سفاهات الجهال في هذا الباب. وقال آخرون : اللفظ مطلق ، فهو محمول على الكلّ إلاّ ما خصه الدليل المنفصل.

قال القاضي : يبعد حمل الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم‌السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه :

أحدها ـ إنّ شرائعهم مختلفة متناقضة ، فلا يصح مع تناقضها أنْ يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الايات ٨٣ ـ ٩٠.

٢٩٩

وثانيها : إنّ الهدى عبارة عن الدليل ، دون نفس العمل ، وإذا ثبت هذا فنقول : دليل إثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات ، لا في غير تلك الأوقات ، فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم بوجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط ، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كلّ الأوقات؟

وثالثها : إنّ كونه عليه الصلاة والسلام متّبعاً لهم في شرائعهم ، يوجب أنْ يكون منصبه أقل من منصبهم ، وذلك باطل بالاجماع.

فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الإقتداء بهم في شرائعهم.

والجواب عن ... الثالث : إنّه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم ، بل يوجب كونه أعلى مرتبةً من الكلِّ ، على ما سيجئ تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى. فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا.

المسألة الثانية : ـ إحتجّ العلماء بهذه الآية على أنّ رسولنا صلّى الله عليه وسلّم أفضل من جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، وتقريره هو :

أنّا بيّنا أنّ خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقة فيهم بأجمعهم :

فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة.

وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء.

ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين.

وموسى عليه‌السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة ، والمعجزات الظاهرة.

وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، كانوا أصحاب الزهد.

٣٠٠