نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٢

نقابها ، فتوجّهت تلقاء مدين تشريحه ، ووجّهت مطايا الفكر إلى توضيحه ، جاعلاً إيّاه سدى الأبحاث ، ملحماً له بما في السبعة بل وبما في الثلاث ، فما وافق الاستاذ غيره خليناه وسبيله فمرحباً بالوفاق ، وما خالفه أشرنا إليه في دقيقه وجليله ، إمّا بالكساد أو النفاق ... واكتفيت في أسماء الشراح السبعة بما اشتهروا به ، اختصاراً ، لا حطّاً لمراتبهم العليّة واحتقاراً ، ومن لم يعظِّم غيره لا يعظَّم ... ».

فترى « البابرتي » يثني على العلاّمة الحلّي وكتابه ، وإن كان ما ذكر أقلّ قليل من مناقب جنابه ... و « البابرتي » المذكور من مشاهير علماء القوم ومحقّقيهم الأعلام ، وإليك جملاً من الثناء عليه :

ترجمة البابرتي مادح العلاّمة

١ ـ السّيوطي : « أكمل الدين محمّد بن محمّد بن محمود البابرتي ، علاّمة المتأخّرين وخاتمة المحقّقين ، برع وساد ، ودرّس وأفاد ، وصنّف شرح الهداية ، وشرح المشارق ، وشرح المنار ، وشرح البزدوي ، وشرح مختصر ابن الحاجب ، وشرح تلخيص المعاني والبيان ، وشرح ألفية ابن معطي ، وحاشية على الكشاف ، وغير ذلك. وولي مشيخة الشيخونية أوّل ما فتحت ، وعرض عليه القضاء فأبى.

مات في رمضان سنة ٧٨٦ » (١).

٢ ـ أيضاً : « وكان : علاّمة ، فاضلاً ، ذا فنون ، وافر العقل ، قويَّ النفس ، عظيم الهيبة ، مهاباً » (٢).

__________________

(١) حسن المحاضرة ١ / ٤٧١.

(٢) بغية الوعاة ١ / ٢٣٩.

٢٦١

٣ ـ الداودي : « أخذ عن أبي حيان والإصفهاني ، وسمع الحديث من الدلاصي وابن عبدالهادي ، وقرره شيخون في مشيخة مدرسته ، وعظم عنده جدّاً وعند من بعده ، بحيث كان الظاهر برقوق يجيء إلى شبّاك الشيخونية فيكلّمه وهو راكب ، وينتظره حتّى يخرج فيركب معه ، وكان علاّمة فاضلاً ... » (١).

٤ ـ القاري ، ذكره في ( الأثمار الجنية في طبقات الحنفيّة ).

٥ ـ وكذا كمال باشا زاده في ( طبقات الحنفية ).

[ ٢ ] وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر بترجمة العلاّمة الحلّي رحمه‌الله : « ولد في سنة بضع وأربعين وستمائة ، ولازم النصير الطوسي مدّة ، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها ، وصنّف في الأصول والحكمة ، وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة ، وكان رأس الشيعة في الحلّة ، وشهرت تصانيفه ، وتخرج به جماعة ، وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن ، في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه ، وصنف في فقه الإماميّة ، وكان قيّماً بذلك داعية إليه ، وله كتاب في الإمامة ردّ عليه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمّى بالردّ على الرافضي ، وقد أطنب فيه وأسهب وأجاد في الردّ ، إلاّ أنّه تحامل في مواضع عديدة ، وردّ أحاديث موجودة وإنْ كانت ضعيفة بأنّها مختلقة ... » (٢).

[ ٣ ] ـ وابن روزبهان المتعصب العنيد ، يصف العلاّمة في ديباجة كتابه في الردّ عليه بـ « المولى الفاضل ... ».

__________________

(١) طبقات المفسرين ٢ / ٢٥١.

(٢) الدرر الكامنة بأعلام المائة الثامنة ٢ / ٧١.

٢٦٢

قوله :

ولا يتأتّى إلزام أهل السنّة بالافتراء ...

أقول :

نعم لا يجوز إلزام أحدٍ بشيء مفترىً عليه وإنْ لم يكن متشرّعاً بشريعةٍ من الشرائع ، بل وإن كان ملحداً ...

لكنْ لمّا كان الإفتراء والكذب ـ كسائر القبائح والفواحش ـ من فعل الله عند أهل السنّة ـ تعالى الله عما يقول الظّالمون علوّاً كبيراً ـ فأيّ مانعٍ من إلزام أهل السنّة بفعل الله؟

وأيضاً : فما أكثر محاولة ( الدهلوي ) إلزام أهل الحق بالمفتريات والأكاذيب ، فيا ليته ما يقوله هنا في تلك المواضع ، وارتدع عن ذلك ...

على أنَّ بعض الكرّاميّة وبعض المتصوّفة من أهل السنّة يبيحون وضع الأحاديث على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لغرض الترهيب والترغيب بزعمهم ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : « والحامل للواضع على الوضع ، إمّا عدم الدين كالزنادقة ، أو غلبة الجهل كبعض المتعبدين ، أو فرط العصبية كبعض المقلّدين ، أو اتّباع هوى بعض الرؤساء ، أو الإغراب لقصد الاشتهار. وكلّ ذلك حرام بإجماع من يعتدّ به ، إلاّ أنّ بعض الكرامية وبعض المتصوّفة نقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب ، وهو خطأ من قائله ، نشأ عن جهل ، لأنّ الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية ، واتّفقوا على أنّ تعمّد الكذب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكبائر » (١).

__________________

(١) نزهة النظر ـ شرح نخبة الفكر : ٤٤٥ بشرح القاري.

٢٦٣

وقال السّيوطي : « والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع ، أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد ، وضعوه حسبةً ، أي إحتساباً للأجر عند الله ، في زعمهم الفاسد ، فقبلت موضوعاتهم ثقةً بهم وركوناً إليهم ، لما نسبوا إليه من الزهد والصّلاح ... » (١).

نموذج من أكاذيب ( الدّهلوي )

وأمّا أكاذيب ( الدهلوي ) ، فذكر جميعها أو أكثرها ولو إجمالاً يفضي إلى التطويل ، ويوجب الخروج عن البحث ، ويمكنك الوقوف على جملة منها في غضون مجلّدات كتابنا ، ونكتفي هنا بنقل كلام له في الباب الحادي عشر من ( التحفة ) ، يشتمل على عدّة أكاذيب ، قال ( الدهلوي ) :

« ثم لمّا تأمّلنا وجدنا أنّ رؤساء أهل السنّة قد أخذوا علومهم ـ فقهاً واصولا وسلوكاً ، بل وتفسيراً وحديثاً ـ من أهل البيت ، واشتهروا بتتلمذهم عليهم ، وقد كان أهل البيت يلاطفونهم وينبسطون إليهم دائماً ، بل لقد بشّروهم ، وهذا المعنى كلّه مذكور في كتب الإماميّة ، وقد اعترف أكابر علمائهم لمّا رأوا عدم إمكان إخفائه بثبوته وصحّته.

واعترف ابن المطهّر الحلّي في نهج الحق ومنهج الكرامة ، بأنّ أبا حنيفة ومالكاً قد أخذا من الصادق ، والشافعي تلميذ مالك ، وأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي ... وأيضاً ، فقد تتلمذ أبو حنيفة على الباقر وزيد الشهيد.

والشيعة يعتقدون في عصر غيبة الإمام بوجوب إطاعة مجتهديهم ، فكيف لا يكون مذهب المجتهد الّذي حضر على الأئمّة وفاز بإجازة الاجتهاد والإفتاء منهم أولى بالإتباع؟.

__________________

(١) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ١ / ٢٣٨.

٢٦٤

لقد أجاز الباقر وزيد الشهيد والصادق أبا حنيفة في الفتوى ، باعتراف الشيخ الحلّي ، فهو جامع لشرائط الاجتهاد بنصٍ من الإمام ، فمن ردّ عليه فقد ردَّ على إمامه المعصوم ، وهو كفر ، خصوصاً في زمن الغيبة ، فمذهب هذا المجتهد أولى بالأخذ والاتباع من مذهب ابن بابويه وابن عقيل وابن المعلّم.

فإن لم تكن أخبار أهل السنّة في هذا الباب مقبولة عندهم ، فلا محيص لهم عن قبول أخبارهم : روى أبو المحاسن الحسن بن علي ، بإسناده إلى أبي البختري ، قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبدالله عليه‌السلام ، فلمّا نظر إليه الصادق قال : كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي بعد ما اندرست ، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف ، وغياثاً لكلّ مهموم ، بك يسلك المتحيِّرون إذا وقفوا ، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا ، ذلك من الله العون والتوفيق ، حتّى يسلك الربّانيون بك الطريق.

وروى الإماميّة بأجمعهم أنّه لمّا دخل أبو حنيفة على خليفة وقته أبي جعفر المنصور العباسي ، وكان عنده عيسى بن موسى ، فقال عيسى : يا أمير المؤمنين هذا عالم الدنيا اليوم ، فقال المنصور : يا نعمان ممّن أخذت العلوم؟ قال : عن أصحاب علي عن علي ، وعن أصحاب عبدالله بن عباس عن ابن عباس. فقال المنصور : لقد استوثقت من نفسك يا فتى.

وفي كتب الإماميّة أيضاً : إن أبا حنيفة كان جالساً في المسجد الحرام ، وحوله زحام كثير من كلّ الآفاق ، قد اجتمعوا يسألونه من كلّ جانب فيجيبهم ، وكانت المسائل في كمه فيخرجها فيناولها ، فوقف عليه الإمام أبو عبدالله ، ففطن به أبو حنيفة فقام. ثم قال : يا ابن رسول الله ، لو شعرت بك أوّلاً ما وقفت ، لا أراني الله جالساً وأنت قائم. فقال له أبو عبدالله : إجلس أبا حنيفة وأجب الناس ، فعلى هذا أدركت آبائي.

٢٦٥

وهذان الخبران موجودان في شرح التجريد لابن المطهّر الحلّي ، في مسألة تفضيل حضرة الأمير.

فإنْ وسوس شيطان الشيعة فقالوا : إذا كان أبو حنيفة وأمثاله من مجتهدي أهل السنّة تلامذة حضرات الأئمّة ، فلماذا أفتوا على خلافهم في مسائل كثيرة؟ فأقول : إنّ جواب هذا مذكور في مجالس المؤمنين للقاضي نور الله التستري ، فإنّه قال : كان ابن عباس تلميذ حضرة الأمير ، وكان قد بلغ مرتبة الاجتهاد ، وكان يجتهد في محضر من حضرة الأمير ، ويخالفه في بعض المسائل ، فلا يعترض عليه حضرة الأمير في ذلك ».

أقول :

إنّ هذا الكلام الّذي ذكره ( الدهلوي ) حسبةً ، يشتمل على أكاذيب غريبة وافتراءات عجيبة :

فأوّلها : ما نسبه إلى كتب الإماميّة من اعتراف أكابرهم بملاطفة أهل البيت لأئمّة أهل السنّة ، في الفقه والأصول والعقائد والسلوك والتفسير والحديث ، لا سيّما دعوى كون ذلك على الدوام ، وثبوته عند الإماميّة بطرق صحيحة.

والثاني : ما نسبه إلى كتب الإمامية من انبساط الأئمّة عليهم‌السلام في حق أئمّة أهل السنّة ، لا سيما دعوى كونه على الدوام ، وثبوت ذلك عند أكابر الإمامية وتصحيحهم له.

والثالث : ما نسبه إلى كتب الإماميّة من أن الأئمّة عليهم‌السلام بشّروا أئمّة أهل السنّة ، وأنّ أكابر علماء الإماميّة يعترفون بذلك وبصحّته.

ولا ريب في أنّ دعوى صحّة وثبوت ملاطفات الأئمّة عليهم‌السلام ،

٢٦٦

وانبساطهم لأئمّة أهل السنّة ، وذلك على الدوام والاستمرار ، وأيضاً ، دعوى بشارتهم لهم ... في كتب الإماميّة ... كلّ ذلك كذب وافتراء.

والرابع : ما نسبه إلى العلاّمة الحلّي في ( نهج الحق ) من الاعتراف بإجازة الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام وزيد الشهيد أبا حنيفة بالإفتاء. والغريب أنّه ينسب هذا إلى العلاّمة كذباً ، ومع ذلك يقصد إثبات كذب العلاّمة في نقل حديث التشبيه ، أعاذنا الله من الوقاحة والضلالة.

والخامس : دعوى أنّ ما حكاه أبو المحاسن حسن بن علي بإسناده عن أبي البحتري ... من روايات الإماميّة ... فإنّها كذب محض ... والأصل في هذه الأكذوبة هو أبو المؤيّد الخوارزمي صاحب ( جامع مسانيد أبي حنيفة ) ، رواها بطريق أخطب خوارزم ، وقد أخذ الكابلي الرواية من ( جامع المسانيد ) ، لكنّه حذف السند حتّى أبي المحاسن ، وأسقط السند من أبي المحاسن إلى أبي البختري ، وإليك نصّ ما جاء في ( جامع مسانيد أبي حنيفة ) حيث قال :

« وأخبرني سيّد الوعّاظ إسماعيل بن محمّد الحجي بخوارزم إجازة قال : أخبرني الصّدر العلاّمة صدر الأئمّة أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي قال : أخبرني الإمام أبو المحاسن الحسن بن علي في كتابه ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الزاهد الصفار ، ثنا أبو علي الحسن بن علي الصفار ، أنا أبو نصر محمّد ابن مسلم ، أنا أبو عبدالله محمّد بن عمر ، أنا الأستاد أبو محمّد عبدالله بن محمّد ابن يعقوب الحارثي البخاري ، بإسناده إلى أبي البحتري قال :

دخل أبو حنيفة على جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه ، فلمّا نظر إليه جعفر قال : كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنّة جدّي صلّى الله عليه وسلّم بعد ما اندرست ، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف ، وغياثاً لكلّ مهموم ، بك يسلك المتحيرون إذا وقفوا ، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا ، فلك من الله العون

٢٦٧

والتوفيق ، حتّى يسلك الربّانيون بك الطريق » (١).

وهذه عبارة الكابلي في ( الصواقع ) :

« روى أبو المحاسن الحسن بن علي ، بإسناده إلى أبي البختري قال : دخل أبو حنيفة على جعفر بن محمّد الصادق ، قال : كأنّي أنظر إليك وأنت تحيي سنة جدّي بعد ما اندرست ، وتكون مفزعاً لكلّ ملهوف ، وغياثاً لكلّ مهموم ، بك يسلك المتحيّرون إذا وقفوا وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيّروا ، فلك من الله العون والتوفيق حتّى يسلك الربانيون بك الطريق ».

والسادس : نسبة ما حكاه من مدح عيسى بن موسى لأبي حنيفة ، والكلام الّذي جرى بينه وبين المنصور ، إلى جميع الإماميّة ... وقد ذكر هذه الرواية النووي في ( تهذيب الأسماء واللغات ) باختلافٍ يسير.

على أنّه لا علاقة لهذه الرواية بمطلوبه ، وهو كون أبي حنيفة مقبولاً لدى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا يثبت منها مدح من أحدٍ منهم لأبي حنيفة.

والسّابع : نسبة الرواية المتضمّنة لأمر الإمام الصادق عليه‌السلام أبا حنيفة بأنْ يجلس ويجيب الناس ، إلى كتب الإماميّة ، فإنّها كذب محض ، والكابلي ذكر هذه الرواية ـ ورواية دخول أبي حنيفة على المنصور المتقدمة ـ فلم يجرأ على نسبتها إلى الإماميّة.

والثامن : نسبة كلتا الروايتين إلى شرح التجريد للعلاّمة الحلّي.

والتاسع : قوله : هما مذكوران في شرح التجريد للعلاّمة الحلّي في مسألة تفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وهذا من أعاجيب الأكاذيب ، كيف ينسب روايتين إلى كتابٍ ، ويعيّن

__________________

(١) جامع مسانيد أبي حنيفة ١ / ١٩.

٢٦٨

موضعهما منه ، وهذه نسخ كتاب شرح التجريد للعلاّمة منتشرة في كلّ مكان ، فليلاحظ مبحث التفضيل منه بكلّ إمعانٍ وتدبّر ...

والعاشر : ما نسبه إلى كتاب ( مجالس المؤمنين ) من اجتهاد ابن عباس في محضر أمير المؤمنين ، وإذن الإمام له في ذلك ، وأنّه ربّما كان يخالف الإمام ... كذب وافتراء ...

ولمخاطبنا ( الدهلوي ) في خصوص حديث ( التشبيه ) أكاذيب :

١ ـ زعم فساد مبادي الإستدلال بحديث التشبيه ومقدّماته ، من الرأس إلى القدم.

٢ ـ نفي كون هذا الحديث من روايات أهل السنّة.

٣ ـ إنّه لا أثر لهذا الحديث في كتب البيهقي.

٤ ـ إنّ القاعدة المقرّرة لدى أهل السنّة هي عدم جواز الاحتجاج بحديث لم يخرجه أحد من أئمّة الحديث ، في كتاب التزم فيه بالصحّة ، كالبخاري ومسلم ، وسائر أصحاب الصحاح ، أو لم ينص مخرجه أو غيره من المحدّثين الثقات على صحّته بالخصوص.

٥ ـ إنّ الديلمي والخطيب وابن عساكر جمعوا الأحاديث بطريق البياض ، لكي ينظروا فيها ، لكنّهم لم يوفّقوا لهذا الأمر المهم ، لقلّة الفرص وقصر الأعمار.

٦ ـ إنّهم ـ يعني الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم ـ صرّحوا بالغرض المذكور في مقدّمات جوامعهم.

٧ ـ إنّ هذا الحديث ليس من الأحاديث المروية في كتابٍ من كتب أهل السنّة ولو بطريقٍ ضعيف.

٨ ـ إنّ هذا الحديث تشبيه محض ...

٢٦٩

٩ ـ إنّ استفادة التساوي بين المشبّه والمشبه به ، من غاية السفاهة.

١٠ ـ إنّ الأفضليّة لا تستلزم الزعامة الكبرى.

١١ ـ إنّه دون نفي مساواة الخلفاء الثلاثة للأنبياء في الصفات المذكورة أو مثلها ، خرط القتاد.

١٢ ـ إنّه لو تفحّص في كتب أهل السنّة ، لعُثر على أحاديث كثيرة دالّة على التشبيه بالأنبياء في حقّ الشيخين ، بحيث لم يثبت ذلك في حقّ أحدٍ من معاصريهم.

١٣ ـ إنّ الإمامة الباقية في أولاد الوصيّ ، التي كان كلٌّ منهم خلفاً للآخر فيها ، هي القطبية والإرشاد ...

١٤ ـ إنّه لم يرو عن الأئمّة الأطهار إلزام كافّة الخلائق بأمر الإمامة.

هذا ، وقد عرفت أنّ هذا الحديث ( حديث التشبيه ) موجود في كتب أهل السنّة ، وفي كتب البيهقي ، وأنّ جماعة كبيرة من مشاهير أئمّتهم رووه وأثبتوه ، وأنّ ممّن اعترف به والد ( الدهلوي ).

فظهر كذب ( الدهلوي ) في كلّ موردٍ من هذه الموارد ، بل ظهر تجاسره على تكذيب هذه الكثرة من علماء طائفته ، لا سيما والده.

قوله :

مع أنّ القاعدة المقرّرة عند أهل السنّة : أنّ كلّ حديث رواه بعض أئمّة الحديث في كتابٍ غير ملتزم فيه بالصحّة ...

أقول :

كأن ( الدّهلوي ) تنبّه من نومته وغفلته!! إنّه بعد أنْ نفى كون الحديث من

٢٧٠

روايات البيهقي وغيره من أهل السنّة ، عاد فذكر هذه القاعدة ، لئلاّ يفتضح وينكشف جهله أو تجاهله ... لكنّ ذكر هذه القاعدة المزعومة هنا ، يوجب الطّعن في هذا الجم الغفير من أعلام المحدثين ، الّذين أخرجوا هذا الحديث في كتبهم أو أثبتوه أو أرسلوه إرسال المسلَّمات ...

والأصل في دعوى وجود هذه القاعدة هو الكابلي ، لكنّ ( الدهلوي ) زاد في طنبور الكابلي نغمةً ، فنسب هذه القاعدة إلى أهل السنّة ، وجعلها قاعدةً مقرّرة بينهم ... وهذا نص عبارة الكابلي :

« السادس ـ ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

فإنّه أوجب مساواته للأنبياء في صفاتهم ، والأنبياء أفضل من غيرهم ، فكان علي أفضل من غيرهم.

وهو باطل ، لأنّه ليس من أحاديث أهل السنّة ، وقد أورده ابن المطهّر الحلّي في كتبه ، وعزى روايته تارة إلى البيهقي وأخرى إلى البغوي ، ولم يوجد في كتبهما ، والحلّي لا يصدق أثره. ولأنّ الخبر الّذي رواه بعض أئمّة الحديث في كتابٍ لم يلتزم صحّة جميع ما أورده فيه ، ولم يصرّح بصحته هو أو غيره من المحدّثين ، لا يحتجّ به ».

الحديث الصحيح حجّة وإن لم يخرَّج في صحيح

وكلام ( الدهلوي ) هذا باطل بوجوه :

الأول : لا ريب في وجود الأحاديث قبل البخاري ومسلم وسائر أرباب الكتب الموسومة بالصّحاح ، وقد كانت دائرةً بين العلماء ، يستندون إليها

٢٧١

ويحتجّون بها ، ولم يكن الاحتجاج بها موقوفاً على تنصيص أحد على الصحة ، بل كلّ حديثٍ جمع شروط الاعتبار والحجية ، فهو حجة. فدعوى « إن كل خبرٍ لم يكن في كتابٍ التزم فيه بالصحّة أو لم يصرَّح بصحّته لا يحتج به » ، لا وجه لها من الصحّة ، ويبطلها عمل العلماء السابقين من الفقهاء والمحدثين.

الثاني : مقتضى هذه القاعدة سقوط كلّ حديثٍ جامع لشرائط الحجيّة لم يخرَّج في كتابٍ التزم فيه بالصحّة ، ولم ينص على صحّته أحد من المحدّثين ، عن درجة الاعتبار ، وعدم صلوحه للاحتجاج والاستناد. وهذا باطل ، لأنّ الملاك صحّة الحديث بحسب القواعد والموازين المقرّرة ، فكلّ حديث وثّق رجاله وجمع شرائط الصحّة جاز الاحتجاج به ، وإن لم يروه أحد ممّن التزم بالصحّة ، وإن لم يصرّح بصحّته أحد من المحدّثين.

الثالث : مقتضى هذا الكلام عدم قابليّة الحديث « الحسن » للاحتجاج به ، وإن صرَّح بحسنه أئمّة الحديث. والحال أنّ « الحسن » يحتج به.

الحديث الحسن يحتج به

الرابع : إنّ الحديث الجامع لشروط « الحسن » يحتجّ به ، وإن لم يصرّح أحد من أئمّة الحديث بحسنه ... وقد نصّ على هذا أكابر المحقّقين من أهل السنّة ، بل عن الخطابي أنّ مدار أكثر الحديث على الحديث الحسن : فهذه القاعدة المزعومة من الكابلي و ( الدهلوي ) توجب ضياع أكثر أحاديث أهل السنّة ، فهماً كمن بنى قصرا وهدم مصراً.

وإليك بعض الكلمات الصّريحة في حجيّة الحديث « الحسن » :

قال الزين العراقي :

« والحسن المعروف مخرجاً وقد

اشتهرت رجاله بذاك حد

٢٧٢

حمدٌ وقال الترمذي ما سلم

من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

بكذبٍ ولم يكن فرداً ورد

قلت وقد حسّن بعض ما انفرد

وقيل ما ضعف قريب محتمل

فيه وما بكلّ ذا حد حصل

إختلف أقوال أئمّة الحديث في حدّ الحديث الحسن ، فقال أبو سليمان الخطّابي ـ وهو حمد المذكور في أوّل البيت الثاني ـ الحسن ما عرف مخرّجه واشتهر رجاله ، وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الّذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء ».

قال :

« والفقهاء كلّهم تستعمله

والعلماء الجلّ منهم تقبله

وهو بأقسام الصحيح ملحق

حجيّةً وإن يكن لا يلحق

البيت الأول مأخوذ من كلام الخطابي ، وقد تقدم نقله عنه ، إلاّ أنّه قال : عامة الفقهاء. وعامّة الشيء مطلقاً بإزاء معظم الشيء وبإزاء جميعه ، والظاهر أن الخطابي أراد الكلّ ، ولو أراد الأكثر لما فرّق بين العلماء والفقهاء. وقوله : حجية. نصب على التمييز ، أي الحسن ملحق بأقسام الصحيح في الاحتجاج به ، وإن كان دونه في الرتبة » (١).

وقال ابن حجر العسقلاني : « وخبر الآحاد بنقل عدل تامّ الضبط ، متّصل السند ، غير معلّل ولا شاذ ، هو الصحيح لذاته. وهذا أوّل تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع ، لأنّه إمّا أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا ، الأول : الصحيح لذاته ، والثاني : إن وجد فيه ما يجبر ذلك القصور ، ككثرة الطرق ، فهو الصحيح أيضاً. لكنْ لا لذاته ، وحيث لا جبر ، فهو الحسن لذاته ، وإنْ قامت

__________________

(١) شرح ألفية الحديث للعراقي وراجع أيضاً : فتح المغيث في شرح الألفية سخاوي : ١ / ٧١.

٢٧٣

قرينة ترجّح جانب قبول ما يتوقف فيه ، فهو الحسن أيضاً ، لكنْ لا لذاته » (١).

وقال ابن حجر أيضاً بعد شرح تعريف الصحيح : « فإنْ خف الضبط ، أي قل ، يقال خفّ القوم خفوفاً قلّوا ، والمراد مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح ، فهو الحسن لذاته ، لا لشيء خارج ، وهو الذي يكون حسنه بسبب الاعتضاد نحو الحديث المستور إذا تعدّدت طرقه ، وخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف. وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في الاحتجاج به ، وإن كان دونه ، ومشابه له في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض » (٢).

وقال محمّد بن محمّد بن علي الفارسي ـ في ( جواهر الأصول ) ـ : « الحسن حجّة كالصّحيح وإن كان دونه ، ولهذا أدرجه بعض أهل الحديث فيه ولم يفرده ».

وقال جلال الدين السيوطي بعد أن ذكر الحديث الحسن وتعريفه : « قال البدر ابن جماعة : وأيضاً فيه دور ، لأنّه عرفه بصلاحيّته للعمل به ، وذلك يتوقّف على معرفة كونه حسناً.

قلت : ليس قوله : ويعمل به من تمام الحدّ ، بل زائد عليه لإفادة أن يجب العمل به كالصحيح ، ويدلّ على ذلك أنّه فصله من الحدّ حيث قال : وما فيه ضعف قريب محتمل فهو الحديث الحسن ، ويصلح البناء عليه والعمل به » (٣).

وقال السيوطي أيضاً : « ثمّ الحسن كالصحيح في الاحتجاج به وإنْ كان دونه في القوّة ، ولهذا أدرجه طائفة في نوع الصحيح ، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة ، مع قولهم بأنّه دون الصحيح المبيَّن أوّلاً. ولا بدع في الإحتجاج

__________________

(١) نزهة النظر ـ شرح نخبة الفكر : ٢٤٣ بشرح القاري.

(٢) المصدر : ٢٩١.

(٣) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ / ١٢٢.

٢٧٤

بحديثٍ له طريقان لو انفرد كلّ منهما لم يكن حجةً ، كما في المرسل إذا ورد من وجهٍ آخر مسنداً لوافقه مرسل آخر بشرطه كما سيجيء. قاله ابن الصلاح وقال في الإقتراح : ما قيل من أنّ الحسن يحتج به ، فيه إشكال ، لأنّ ثمّ أوصافاً يجب معها قبول الرواية إذا وجدت ، فإن كان هذا المسمّى بالحسن ممّا وجد فيه أقلّ الدرجات التي يجب معها القبول ، فهو صحيح ، وإن لم يوجد لم يجز الاحتجاج به وإن سمي حسناً. أللهمّ إلاّ أن يرد هذا إلى أمر اصطلاحي ، بأنْ يقال : إن هذه الصفات لها مراتب ودرجات ، فأعلاها وأوسطها يسمّى صحيحاً ، وأدناها يسمّى حسناً ، وحينئذٍ يرجع الأمر في ذلك إلى الاصطلاح ويكون الكلّ صحيحاً في الحقيقة » (١).

وقال السيوطي بعد ذكر الحديث الصحيح : « فإنْ خفّ الضبط ـ أي قل ـ مع وجود بقية الشروط ، فحسن ، وهو يشارك الصحيح في الاحتجاج به ، وإن كان دونه وأمّا تفاوته ، فأعلاه ما قيل بصحته ، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ومحمّد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر ... » (٢).

وفي هذه الكلمات غنىً وكفاية.

الخامس : إنّ الحديث الضعيف إذا تعدّدت طرقه ، ارتقى إلى درجة الاحتجاج به ، كما بيّناه في مجلّد ( حديث الولاية ). فراجع. فلا وجه لنفي جواز الاحتجاج به في هذه الحالة.

ثمّ لا يخفى أنّ الكابلي و ( الدهلوي ) ـ اللذين اخترعا هذه القاعدة ـ قد غفلا أو تغافلا عن قاعدتهما هذه في موارد كثيرة ، فاحتجّا بأخبار غير مروية فيما التزم فيه بالصحّة من الكتب ، وبأخبار لم يصرّح أحد من أئمّة الحديث

__________________

(١) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ / ١٢٨.

(٢) إتمام الدراية لقراء النقاية : ٥٥ ط هامش مفتاح العلوم.

٢٧٥

بصحّتها ، فاحتجّا بهكذا أخبار ـ بالرغم من القاعدة التي زعم ( الدهلوي ) تقررها لدى أهل السنّة ـ لأجل مقابلة الشيعة الإماميّة بها!! وهل هذا إلاّتناقض وتهافت!!

والأشنع من ذلك : احتجاجهما بأخبار نصّ أئمّتهم في الحديث والرجال على وضعها واختلاقها ... أمّا إذا كان البحث في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلا يأخذان بهذه القاعدة المرفوضة التي ذكراها هنا ، فيكذّبان ـ مثلاً ـ حديث الولاية ، وحديث الطير ، وحديث مدينة العلم ... هذه الأحاديث التي صرّح أئمّة الحديث بصحّتها ، فجاز الاحتجاج بها ووجب قبولها ـ بحسب القاعدة المذكورة ـ.

فظهر بطلان هذه القاعدة المصنوعة ، من كلمات الكابلي و ( الدهلوي ) طرداً وعكساً ، وذلك من العجب العجاب المحيِّر للألباب.

رأي الدهلوي في كتب الدّيلمي والخطيب وابن عساكر

قوله :

وذلك لأنّ جماعة من المحدّثين من أهل السنّة في الطبقات المتأخّرة ، كالديلمي والخطيب وابن عساكر ، لمّا رأوا ...

أقول :

هذا التعليل العليل من زيادات ( الدهلوي ) على الكابلي ، وهو مردود بوجوه :

الأوّل : إنّه لا علاقة له بالدّعوى أصلاً ، لأنّ الدعوى هي : إن كلّ حديثٍ ليس في كتابٍ التزم فيه بالصحّة ، ولم يصرّح أحد من أئمّة الحديث بصحّته ، لا

٢٧٦

يحتجّ به. وأيّ مناسبة بين هذه الدّعوى وبين ما ذكره من أنّ هؤلاء المحدّثين المتأخّرين جمعوا في مجاميعهم الحديثيّة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة والمقلوبة الأسانيد والمتون ...؟

فلا يستلزم ثبوت الثاني ثبوت الأول ، ولا انتفاؤه يستلزم انتفائه ... فإنْ كان ما ذكره بالنسبة إلى كتب هؤلاء المحدّثين حقاً ، لم يستلزم ذلك حصر الاحتجاج بالأحاديث المخرجة في الكتب الملتزم فيها بالصحّة ، أو الأحاديث المنصوص على صحّتها بالخصوص ، وإن لم يكن ما ذكره في حقّها حقّاً ، لم يلزم عدم الحصر المذكور ... وهذا بيّن جدّاً.

الثاني : ظاهر هذا الدليل اعتبار كتب الطبقة المتقدّمة على من ذكرهم ، وأن أحاديثهم يحتج بها. وقد عرفت

رواية عبدالرزاق (٢١١)

وأحمد بن حنبل (٢٤١)

وأبي حاتم (٢٧٧)

وابن شاهين (٣٨٥)

وابن بطة (٣٨٧)

والحاكم (٤٠٥)

وابن مردويه (٤١٠)

وأبي نعيم (٤٣٠)

والبيهقي (٤٥٨)

لحديث التشبيه.

وهؤلاء كلّهم متقدّمون على الديلمي والخطيب وابن عساكر ، لأنّ تاريخ وفاة آخرهم ـ وهو البيهقي ـ سنة (٤٥٨). وتاريخ وفاة الديلمي سنة (٥٠٩) وابن عساكر سنة (٥٧١).

٢٧٧

فيكون حديث التشبيه بهذا البيان ، قابلاً للاحتجاج والاستدلال.

وإذا كان هذا حال كتب الديلمي والخطيب وابن عساكر في رأي ( الدهلوي ) ، فكيف يستند إلى بعض أخبار الديلمي ـ بتقليد من الكابلي ـ عند الجواب على المطعن العاشر من مطاعن عثمان ، ممّا هو مكذوب قطعاً؟! ويستند إلى بعض خرافات الديلمي في فضل عثمان ، لا سيّما مع تنصيص بعض أكابرهم على كونه موضوعاً؟!

وإذا كان ما ذكره هو حال كتب ابن عساكر ، فلماذا يستند إلى حديثٍ موضوع ، يرويه ابن عساكر في وجوب حبّ أبي بكر وشكره؟ ويحتجّ بالحديث الموضوع : « حبّ أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما نفاق » عن ابن عساكر ، في جواب عن آية المودّة ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )!!

الثالث : ظاهر هذا الكلام ، أنّ الأحاديث الحسان صالحة للاحتجاج كالأحاديث الصّحاح ، ولو لم تكن قابلةً لذلك ، لم يكن وجه لعناية المتقدّمين بضبط الأحاديث الحسان وجمعها كالصّحاح ... لكنّه أفاد سابقاً بعدم حجيّة الأحاديث الحسان ... وهذا تهافت صريح.

الرّابع : ظاهر قوله : « لميّزوا الموضوعات من الحسان لغيرها » أنّ أحاديث المتأخّرين هي بين موضوعاتٍ وبين حسانٍ لغيرها ، مع العلم بأنّ الأحاديث الضعيفة ـ التي يشتمل عليها كتب المتأخّرين ـ أعمّ من الحسان لغيرها والضعاف غير الحسان لغيرها التي لم تصل حدّ الوضع ، فما وجه ترك القسم الثالث ، وهو الأحاديث الضعيفة غير الحسان لغيرها وغير الموضوعات؟!

الخامس : إنّ رواية الأحاديث الموضوعة حرام بالإجماع ، فإثبات رواية الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم للموضوعات مع علمهم بذلك ،

٢٧٨

هو في الحقيقة تفسيق لهؤلاء الأساطين.

السادس : قال السمعاني في ( ذيل تاريخ بغداد ) : « والخطيب في درجة القدماء من الحفّاظ والأئمّة الكبار كيحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وأحمد بن أبي خيثمة ، وطبقتهم ، وكان علاّمة العصر ، اكتسى به هذا الشأن غضارة وبهجةً ونضارة » (١).

وهذا الكلام يبطل ما ذكره ( الدهلوي ) من جعل الخطيب من المحدّثين المتأخّرين المخلّطين ، فلا تغفل.

قوله :

إلاّ أنّه لقلّة الفرصة عندهم وقصر أعمارهم ، لم يتمكّنوا من ذلك ...

أقول :

نعم ، لقد صرف ( الدهلوي ) عمره الطويل في طلب الشهرة وتحصيل الجاه ، وتخديع العوام ، فلم تبق له فرصة لأنْ يلقي نظرة ثانية على كتابه المنتحل من خرافات الكابلي ، فيميز بها الموضوعات الصريحة والمكذوبات الفضيحة ، من الكلمات المليحة والإفادات الصحيحة ...

لكن المتأخّرين عنه ـ خصوصاً تلميذه الرشيد الدّهلوي ـ حاولوا الاحتراز عن الخطّ الّذي مشى عليه ( الدهلوي ) ، كيلا يتورّطوا كما تورّط ، ولا يقعوا في الهوة السحيقة التي وقع فيها ، إلاّ أنّ لكلّ منهم توهّمات غريبة وأكذوبات ظاهرة ، كما لا يخفى على من نظر في الأجوبة والردود المكتوبة على مؤلَّفاتهم.

__________________

(١) أنظر : الوافي بالوفيات ٧ / ١٩٤.

٢٧٩

وبعد ، فإنّ كلمات أعلام القوم في وصف الديلمي والخطيب وابن عساكر وكتبهم الحديثية ، لتكشف عن بطلان ما ذكره ( الدهلوي ) ، من ذلك قول الحافظ الذهبي في ترجمة الخطيب :

« قد كان رئيس الرؤساء تقدّم إلى الخطباء والوعّاظ أن لا يرووا حديثاً حتّى يعرضوه عليه ، فما صحّحه رووه وما ردّه لم يذكروه » (١).

وقد أورد ( الدهلوي ) أيضاً هذا المطلب بترجمة الخطيب من كتابه ( بستان المحدثين ).

فهل يعقل أنْ يكون للخطيب فرصة النظر في الأحاديث التي يعرضها عليه الخطباء والوعّاظ وغيرهم من علماء عصره ومحدّثي وقته ، حتّى لا يرووا للناس الأحاديث الموضوعة والأشياء الباطلة ، ثمّ يترك مؤلّفاته مشتملةً على الموضوعات والمكذوبات ، من غير إفراز لها عن الأحاديث الصحيحة والمعتبرة ، فيكون مصداقاً لقوله عزّوجلّ : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقوله ( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ )؟!

رأي الدهلوي في كتب ابن الجوزي والسّخاوي والسّيوطي

قوله :

ثمّ جاء من بعدهم ، فميّز الموضوعات عن غيرها ، كما فعل ابن الجوزي في كتابه ( الموضوعات ) والسخاوي الّذي جمع الحسان لغيرها في كتابه ( المقاصد الحسنة ) وكذلك السيوطي ...

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٨٠ ، تذكرة الحفاظ ٣ / ١١٤١.

٢٨٠