نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٨

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٨

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

وفي عباراته قوّة وفصَاحة وسلاسة ، تعشقها الأسماع وتلتذّ بها القلوب : ولكلامه وقع في الأذهان ، قلّ أنْ يمعن في مطالعته من له فهم ، فيبقى على التقليد بعد ذلك.

وقد أكثر الحط على المعتزلة في بعض المسائل الكلاميّة ، وعلى الأشعرية في بعضٍ آخر ، وعلى الصوفية في غالب مسائلهم ، وعلى الفقهاء في كثير من تفريعاتهم ، وعلى المحدّثين في بعض غلوّهم.

وقد كان قد ألزم نفسه سلوك مسلك الصحابة ، وعدم التعويل على التقليد لأهل العلم في جميع الفنون » (١).

__________________

(١) البدر الطالع ١ / ٢٠٠.

٦١
٦٢

وجوه الجواب عن :

الإستدلال بموت هارون قبل موسى

على نفي خلافة الأمير بعد النبي

٦٣
٦٤

قوله.

وأيضاً ، فالأمير مشبَّه بهارون ، ومعلوم أن هارون كان خليفة موسى في حياته وعَند غيبته ، والخليفة بعد وفاة موسى يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ، فعلي خليفة النبي في حياته وعند غيبته ، لا بعد وفاته ، بل الخليفة بعد وفاته غيره : وهذا مقتضيى تمام التشبيه.

أقول :

هذا الإستدلال باطل بوجوه.

١ ـ إعترافه سابقاً بدلالة الحديث على الإمامة

لقد اعترف ( الدهلوي ) في أول كلامه على هذا الحديث بدلالته على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ... حيث قال : « أصل هذا الحديث أيضاً دليل لأهل السنّة على إثبات فضيلة الأمير وصحة إمامته في وقتها ».

إذن ، يدل هذا الحديث عند أهل السنّة باعترافه ـ على إمامة أمير المؤمنين بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فما ذكره هنا من سلب دلالته على إمامته بعده مطلقاً يناقض ما تقدم منه : أللهم إلاّيقال بأنّه يعترف بدلالته عليه عند أهل السنّة ، وهو ليس منهم بل هو من رؤساء فرق النواصب!

وأيضاً :

صريح كلامه ـ بعد عبارته السابقة حيث قال : « لأنه يستفاد من هذا

٦٥

الحديث استحقاقه الإمامة » ـ دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ... فما ذكره هنا تقوّل يبطله هذا الكلام السابق منه كذلك.

وأيضاً :

نسبته القدح في دلالة الحديث على إمامة الامير وخلافته إلى النواصب ، وزعمه أن أهل السنّة يردّون على قدح النواصب بأجوبةٍ قاطعة ... صريح في أنّ القدح في دلالته على الإمامة غير مرضي عند أهل السنّة ، وهو ليس إلاّمن النّواصب ... لكنه في هذا المقام يقيم الدليل على صحة قدح النواصب ... وهذا من أعجب العجائب!

وهذا بعض الوجوه التي يُردّ بها كلام ( الدهلوي ) في هذا المقام ، استناداً إلى كلماته السابقة في الجواب عن الحديث.

وحاصل ذلك : أنه إنْ كان ( الدهلوي ) من أهل السنّة ، فقد اعترف بقولهم بدلالة الحديث على الإمامة ردّاً على النواصب ، وإنْ أصرّ على نفي دلالته على ذلك ، فهو خارج عن أهل السنّة ومعدود من النواصب بل رؤسائهم ...

٢ ـ إعترافه لاحقاً بدلالة الحديث على الإمامة

وكما اعترف بدلالة الحديث على الإمامة في غير موضع من بحثه حول الحديث ، ونسب ذلك إلى أهل السنّة خلافاً للنواصب ... فقد اعترف به في الباب الحادي عشر من كتابه ، في بيان الأوهام ، حيث قال : « النوع التاسع : أخذ القوة مكان الفعل : كقولهم : إنّ الأمير كان إماماً في حال حياة النبي ، لقول : أنت بمنزلة هارون من موسى : فلو لم يكن إماماً بعده لزم عزله وعزل الإمام غير جائز.

والحال أن الأمير كان لدى حضور النبي إماماً بالقوّة لا إماماً بالفعل ... » (١).

__________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ٣٥٠.

٦٦

فهو ـ إذاً ـ يعترف بدلالة الحديث على الإمامة : وأين هذا الكلام ممّا ذكره في هذا المقام؟ وهل هذا إلاّتناقض يا أولية الأحلام!

٣ ـ إعترافات تلميذه الرشيد بدلالة الحديث

وكما اعترف ( الدهلوي ) بدلالة الحديث على الإمامة والخلافة ، كذلك تلميذه رشيد الدين الدّهلوي ... إعترف في غير موضع بدلالة الحديث على ذلك ، من ذلك قوله في ( إيضاح لطافة المقال ) : « إن هذا الحديث بنظر أهل من جملة الأحاديث الدالّة على فضائل باهرة لأمير المؤمنين ، بل هو دليل على صحة خلافة ذاك الإمام ، لكنْ من غير أن يدل على نفي الخلافة عن الغير ، كما صرّح به صاحب التحفة حيث قال ... ».

وحاصل الوجوه المستخرجة من كلام الرشيد الدهلوي هو الإعتراف بدلالة الحديث على الإمامة والخلافة ، وأن هذا هو مذهب السنّة ، وقد نقل كلمات الدهلوي في ( التحفة ) شاهداً على ما ذكره واعترف به ... قال : « ومعاذ الله من إنكار دلالة هذا الخبر على أصل الخلافة ».

هذا ، ولا يخفى أن دلالة الحديث على الإمامة ، هذه الدلالة التي اعترفوا بها ، مطلقة غير مقيدة بقيد ، فتقييدهم إمامته عليه‌السلام بالمرتبة الرابعة جاءت بدليل منفصل مزعوم من قِبل القوم ، وذاك بحث آخر ...

٤ ـ إعترافات والده بدلالة الحديث على الإمامة

واعترف ـ بحمد الله وفضله ـ والد ( الدهلوي ) أيضاً بدلالة الحديث على الإمامة والخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... في كتابيه ( إزالة الخفا ) و ( قرّة العينين ).

٦٧

قال : « حاصل الحديث : إن موسى إستخلف هارون على بني إسرائيل لدى غيبته بخروجه إلى الطور ، فكان هارون قد جمع بين ثلاثة خصال : كان خليفة موسى من بين أهل بيته ، وكان خليفته بعد غيبته ، وكان نبياً : ولمّا استخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرتضى في غزوة تبوك شابه المرتضى هارون في دون الثالثة وهي النبوّة : وهذا المعنى لا علاقة له بالخلافة الكبرى التي تكون بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم » (١).

إذاً ، فقد شابه الأمير هارون عليهما‌السلام في الخلافة ، ولا دلالة للتشبيه المذكور في الحديث على سلب الخلافة عنه عليه‌السلام.

٥ ـ اعتراف الكابلي بدلالة الحديث على الإمامة

والكابلي أيضاً ـ وهو الذي انتحل ( الدهلوي ) كتابه وتبعه في أباطيله وتعصّباته ـ معترف بدلالة الحديث ... وهذا نص كلامه في ( الصواقع ).

« ولأن منزلة هارون من موسى كانت منحصرة في أمرين : الإستخلاف مدّة غيبته ، وشركته في النبوّة : ولما استثنى منهما الثانية بقيت الاولى ».

وتلخص.

إن ( الدهلوي ) ووالده ، وكذا شيخ ( الدهلوي ) وتلميذه ... كلّهم يعترفون مرةً بعد اخرى ... بدلالة الحديث على الإمامة للأمير عليه‌السلام ...

فدعوى أنه لا يدل إلاّعلى نفي خلافته ، كذب صريح وافتراء فضيح ...

__________________

(١) ازالة الخفا ، قرة العينين : مبحث حديث المنزلة.

٦٨

٦ ـ كلام شرّاح الحديث وعلماء الكلام (*)

وكلمات المحققين من شرّاح الحديث ، شواهد أخرى على كذب دعوى دلالة الحديث على نفي الخلافة والإمامة عن الأمير عليه‌السلام ...

فإنهم بين مصرّح بدلالته على الإمامة والخلافة ، وبين مصرّح بدلالته على فضيلةٍ لمولانا الأمير ... وإليك نصوص عبارات جملةٍ منهم.

فضل الله التوربشتي.

« فقال يا رسول الله ، زعم المنافقون كذا : فقال : كذبوا إنّما خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أما ترضى ـ يا علي ـ أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى : يأوّل قول الله سبحانه : ( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) » (١).

وقال أيضاً.

« وإنما يستدل بهذا الحديث على قرب منزلته واختصاصه بالمؤاخاة من قبل الرسول » (٣).

ونقله القاري ايضاً (٤).

إذن ، ليس مدلول الحديث نفي الخلافة ...

__________________

(*) ولا يخفى أنّ كلّ كلمةٍ من هذه الكلمات تعد وجهاً مستقلاًّ على بطلان ما ادعاه الدهلوي ، إلاّ أنّا وضعناها تحت عنوان واحد.

(١) أنظر : المرقاة في شرح المشكاة : ١٠ / ٤٥٤.

(٢) شرح المصابيح ـ مخطوط.

(٣) المرقاة ١٠ / ٤٥٤.

٦٩

شمس الدين الخلخالي :

« إنما يدل على قربه واختصاصه بما لا يباشر ألاّ بنفسه في أهله ، وإنما اختص بذلك ، لأنه يكون بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفان : القرابة والصحبة : فلهذا اختاره دون غيره » (١).

مظهر الدين الزيداني.

« وإنما يستدل به على قربه واختصاصه بما لا يباشر إلاّبنفسه صلّى الله عليه وسلّم : وإنما اختص بذلك لأنه بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفان : القرابة والصحبة ، فلهذا اختاره لذلك دون غيره » (٢).

محب الدين الطبري.

« ولا إشعار في ذلك بما بعد الوفاة ، لا بنفي ولا بإثبات » (٣).

فعنده لا إشعار في الحديث بالخلافة بعد الوفاة ، لا بنفي ولا بإثبات ، فدعوى دلالته على النفي باطلة قطعاً ...

قال : « لا يقال : عدم استخلاف موسى هارون بعد وفاته إنما كان لفقد هارون عليه‌السلام حينئذٍ ولو كان حيّاً ما استخلف ـ والله أعلم ـ غيره ، بخلاف علي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وإنما يتم وليكم ان لو كان هارون حيّاً عند وفاته واستخلف غيره.

لأنّا نقول : الكلام معكم في تبيين أن المراد بهذا القول الإستخلاف في

__________________

(١) شرح المصابيح ـ مخطوط.

(٢) المفاتيح ـ شرح المصابيح ـ مخطوط.

(٣) الرياض النضرة ١ / ٢٢٤.

٧٠

حال الحياة ، فكان التنزيل بمنزلة هارون من موسى ، ومنزلة هارون من موسى في الإستخلاف لم تتحقّق إلاّفي حال الحياة ، فثبت أن المراد به ما تحقق ، لا أمر آخر وراء ذلك ، وإنما يتمّ متعلّقكم منه لو حصل استخلاف هارون بعد وفاة موسى » (١).

وصريح هذه العبارة : أن المراد من الحديث هو الإستخلاف حال الحياة ، فما ادّعاه ( الدهلوي ) يكون من الأمر الآخر الذي نفاه الطبري.

أبو شكور الحنفي.

« وأما قوله : أما ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، أراد به القرابة والخلافة غير النبوّة » (١).

إذن ، لم يرد به نفي الخلافة.

عبد الرؤف المناوي.

« علي منّي بمنزلة هارون من أخيه موسى : يعني : متّصل بي ونازل منزلة هارون من أخيه حين خلّفه في قومه : إلاّ أنّه لا نبي بعدي ، ينزل بشرع ناسخ ، نفى الإتّصال به من جهة النبوّة ، فبقى من جهة الخلافة ، لأنها تليها في الرتبة ... » (٢).

فالحديث مثبت للخلافة لا ناف لها ... كما زعم ( الدهلوي ) وادّعى.

__________________

(١) الرياض النضرة ١ / ٢٢٤.

(٢) التمهيد في بيان التوحيد.

(٣) التيسير في شرح الجامع الصغير.

٧١

ابن تيميّة.

« وكذلك هنا ، إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق ، وهو استخلافه في مغيبه ، كما استخلف موسى هارون » (١).

إذاً لا يدل الحديث إلاّعلى ما يدل عليه سياقه وهو الإستخلاف ... فكيف يدّعى دلالته على نفيها؟!

قال : « وقول القائل : هذا بمنزلة هذا ، وهذا مثل هذا ، هو كتشبيه الشيء بالشيء ، وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق ، ولا يقتضي المساواة في كل شيء » (٢).

ابن حجر المكي.

« وعلى التنزل ، فلا عموم له في المنازل ، بل المراد ما دلّ عليه ظاهر الحديث : إن عليّاً خليفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة غيبة بتبوك ، كما كان هارون خليفةً عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة » (٣).

فأين هذا الذي يقوله ابن حجر ممّا يدّعيه ( الدهلوي )؟

وقال : « ... فعلم مما تقرّر : إنه ليس المراد من الحديث ، مع كونه أحاداً لا يقاوم الإجماع ، إلاّ إثبات بعض المنازل الكائنة لهارون من موسى ، وسياق الحديث وسببه يبيّنان ذلك البعض ، لما مرّ أنّه إنما قاله لعلي حين استخلفه ، فقال علي ـ كما في الصحيح ـ : أخلفني في النساء والصبيان؟ كأنه استنقص تركه وراءه : فقال له : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى : يعني حيث

__________________

(١) منهاج السنة ٧ / ٣٣١.

(٢) منهاج السنة ٧ / ٣٣٠.

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٩.

٧٢

استخلفه عند توجّهه إلى الطور إذ قال له ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) (١).

ابن طلحة الشافعي.

« إعلم بصّرك الله تعالى بخفايا الأسرار وغوامض الحكم : إنّ رسول الله لمّا وصف عليّاً بكونه منه بمنزلة هارون من موسى ، فلابدّ في كشف سرّه من بيان المنزلة التي كانت لهارون من موسى عليهما‌السلام ، فأقول : قد نطق القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأنّ موسى دعا ربّه عزّ وجلّ : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) وإنّ الله أجابه إلى مسئوله ، وأجناه من شجرة ثمرة سؤله ، فقال عزّ وجلّ : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) وقال في سورة أخرى : ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ) وقال في سورة أخرى : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ).

فظهر أنّ منزلة هارون من موسى كونه وزيراً له ، والوزير مشتق من أحد معانٍ ثلاثة : أحدها الوزر بكسر الواو وإسكان الزاي وهو الثقل لكونه وزيراً له يحمل عنه أثقاله ويخفّفها عنه : والمعنى الثاني من الوزر بفتح الواو والزاء وهو المرجع والملجأ ومنه قوله تعالى ( كَلاَّ لا وَزَرَ ) فكأن الوزير مرجوع إلى رأيه ومعرفته وإسعاده ويلجأ إليه في الإستعانة به. والمعنى الثالث : من الازر وهو الظهر ، ومنه قوله تعالى عن موسى ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) فيحصل بالوزير قوّة الأمر واشتداد الظهر ، كما يقوى البدن ويشتد به ، فكان من منزلة هارون من موسى أنّه يشدّ أزره ويعاضده ويحمل عنه من أثقال بني إسرائيل بقدر ما تصل إليه يد مكنته واستطاعته هذه من كونه وزيره : وأمّا من كونه شريكه في أمره ، فكان شريكه في النبوّة على ما نطق به القرآن الكريم ، وكان قد استخلفه على بني إسرائيل عند

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٩.

٧٣

توجّهه وسفره إلى المناجاة على ما نطق به القرآن : فتلخيص منزلة هارون من موسى أنّه كان أخاه ووزيره وعضده وشريكه في النبوّة وخليفته على قومه عند سفره.

وقد جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام منه بهذه المنزلة وأثبتها له إلاّ النبوّة ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استثناها في آخر الحديث بقوله : غير إنّه لا نبي بعدي ، فبقي ما عد النبوّة المستثناة ثابتاً لعلي عليه‌السلام من كونه أخاه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك » (١).

ابن الصبّاغ المالكي.

« فتخلص : أن منزلة هارون من موسى صلوات الله عليهما ، أنه كان أخاه ، ووزيره ، وعضده في النبوّة ، وخليفته على قومه عند سفره ، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً منه بهذه المنزلة ، إلاّ النبوّة » (٢).

إذن ، ليس مفاد الحديث نفي الخلافة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

محمّد الأمير الصنعاني.

« ولا يخفى : أن هذه منزلة شريفة ورُتبة عالية منيفة ، فإنه قد كان هارون عضد موسى الذي شدّ الله به أزره ، ووزيره وخليفته على قومه حين ذهب لمناجاة به » (٣).

__________________

(١) مطالب السئول : ٨٨ ـ ٩٠.

(٢) الفصول المهمة : ٤٤.

(٣) الروضة الندية ـ شرح التحفة العلوية.

٧٤

ابن روزبهان.

« ... بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك ، كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطّور ، بقوله تعالى : و ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) : وأيضاً ، ثبت به لأمير المؤمنين فضيلة الاخوة والمؤازرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ الرسالة ، وغيرهما من الفضائل ، وهي مثبتة يقيناً لا شك فيه » (١).

الطيّبي.

« وتحريره من جهة علم المعاني : إن قوله : منّي خبر للمبتدأ ، ومِنْ إتّصاليّة ، ومتعلّق الخبر خاص ، والباء زائدة : كما في قوله تعالى : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ) : أي فإنْ آمنوا إيماناً مثل إيمانكم : يعني : أنت متّصل بي ونازل منزلة هارون من موسى ».

أقول.

وهل يوجد بين الإتّصال وشدّة القرب منه ، وبين سلب الخلافة عنه ، مناسبة ، حتى يكون سلبها من المنازل المثبتة؟

قال : « وفيه تشبيه ، ووجه التشبيه مبهم لم يفهم أنه رضي‌الله‌عنه فيما شبّهه به صلّى الله عليه وسلّم ، فبيّن بقوله : إلاّ أنّه لا نبي بعدي ، أن اتّصاله به ليس من جهة النبوّة ، قبقي الإتّصال من جهة الخلافة ، لأنها تلي النبوّة في المرتبة » (٢).

فدعوى دلالة الحديث على سلب الخلافة ونفيها عنه كذب.

__________________

(١) ابطال نهج العاطل ، انظر : دلائل الصدق لنهج الحق ٢ / ٣٨٩.

(٢) الكاشف ـ مخطوط.

٧٥

علي القاري.

« قال الطيّبي : وتحريره ...

وفيه تشبيه ، ووجه الشبه منه لم يفهم ... » (١).

ابن الحجر العسقلاني.

« وقال الطيّبي : معنى الحديث أنه متّصل بي ، نازل منّي منزلة هارون من موسى ... وفيه تشبيه مبهم بيّنه بقوله : إلاّ أنه ... » (٢).

علي العزيزي

« علي منّي بمنزلة هارون من أخيه موسى : يعني : متصل بي ونازل منزلة هارون من أخيه موسى ، حين خلّفه في قومه ».

قال : « إلاّ أنه لا نبي بعدي ينزل بشرع ناسخ : نفي الإتّصال من جهة النبوّة ، فبقي الإتّصال من جهة الخلافة ، لأنها تلي النبوّة في المرتبة » (٣).

شمس الدين العلقمي.

« ووجه التشبيه مبهم لم يفهم ... لأنها تلي النبوّة في المرتبة » (٤).

__________________

(١) المرقاة في شرح المشكاة ١٠ / ٤٥٥.

(٢) فتح الباري ٧ / ٩٣.

(٣) السراج المنير ـ شرح الجامع الصغير : مخطوط.

(٤) الكوكب المنير ـ شرح الجامع الصغير : مخطوط.

٧٦

القسطلاني.

« وبيّن بقوله : إلاّ أنه ليس نبي بعدي : وفي نسخة : لا نبي بعدي : إذ اتّصاله به ليس من جهة النبوّة ، فبقي الإتّصال من جهة الخلافة » (١).

أقول

وبما ذكرنا ـ من أنّ شدة القرب والإتّصال ، كما يدل عليه الحديث ـ واعترفوا به ـ لا يتناسب مع نفي الخلافة وسلبها ، لمنافاته للقرب والإتّصال ـ يندفع توهّم بعضهم اختصاص الخلافة بحال الحياة.

كما أنّ بالوجوه والكلمات التي ذكرنا ـ ونذكرها ـ يندفع دعوى يوسف الأعور دلالة الحديث على نفي إمامة الأمير ، وكذا ما زعمه الرازي ...

أما كلام الأعور ، فقد تقدّم سابقاً : وأمّا كلام الرازي فسنذكره فيما بعد في الوجوه الآتية.

الفخر الرازي.

« لا نقول إنه يفيد منزلةً واحدة ، بل نتوقّف فيه ونحمل الحديث على السبب ، لأنه المتحقّق ، فإنّ السبب لا يجوز خروجه من الخطاب ، وما عداه يلزمكم أنْ تقفوا فيه ».

إذن ، لابدّ من التوقّف عن دعوى دلالة الحديث على سلب الإمامة ونفيها عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأن هذا المعنى يدخل تحت « ما عداه » حسب زعم الرّازي.

قال : « ثم إن سلّمنا أن هارون عليه‌السلام لو عاش بعد موسى عليهما‌السلام

__________________

(١) ارشاد الساري ـ شرح صحيح البخاري ٩ / ٤٤٤ وانظر ٨ / ٢٣٢.

٧٧

لكان منفّذاً للأحكام ، ولكنْ لا شك في أنّه ما باشر تنفيذ الأحكام ، لأنه مات قبل موسى عليه‌السلام ، فإنْ لزم من الأول كون علي رضي‌الله‌عنه إماماً ، لزم من الثاني أنْ لا يكون إماماً ، وإذا تعارضا تساقطا » (١).

إذن ، فدعوى دلالة الحديث على سلب الإمامة ساقطة بالتعارض ـ حسب زعم الرازي ـ ، فتكون دلالته على الخلافة بوجه ثبوت خلافة هارون من قول موسى : ( اخْلُفْنِي ) سالمةً عن المعارض.

لكنْ لا يخفى سقوط دعوى المعارضة ، لأنّها فرع دلالة الحديث على نفي الخلافة ، وهي أوّل الكلام ... مضافاً إلى أن الرازي نفسه يأمر بالتوقّف في ما عدا حمل الحديث على السّبب ، والدلالة على نفي الخلافة من جملة ذلك ، فكيف يكون ما يجب فيه التوقف معارضاً؟

٧ ـ لو تمّ الإستدلال لدلّ على نفي خلافته مطلقاً

إنه لو كان تشبيه الأمير بهارون عليه‌السلام ـ يقتضي نفي خلافة أمير المؤمنين ، من جهة وفاة هارون قبل موسى ـ عليهما‌السلام ـ لزم أن لا يكون الأمير خليفةً بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أصلاً ولو بعد عثمان ، لأن هارون لم يكن خليفةً عن موسى ولا آنامّاً ...

فهذا الإستدلال لا يتفوّه به إلاّ النواصب والخوارج ومن كان على شاكلتهم ... وإذا كان مذهب أهل السنّة في الواقع والحقيقة نفي إمامته مطلقاً ، فليستدلّوا بهذا الوجه وأمثاله ، وليبوحوا بما يضمرون ويعلنوا عمّا يخفون!

وأمّا ما ذكره الرازي للتفصّي عن هذا الاشكال ، فسيأتي بيان بطلانه ...

__________________

(١) نهاية العقول ـ مخطوط.

٧٨

٨ ـ إنّه ينافي مراد الشيعة والسنّة معاً

وقد نصّ عبد الكريم البلجرامي على أن هذا الاستدلال يخالف معتَقَد الشيعة والسنّة معاً ... فقال في كتابه الموسوم : ( إلجام الرافضة ) « ... فيلزم أن يكون خلافة علي موقتةً إلى رجوع النبيّ من الغزوة المذكورة ، كما كانت خلافة هارون موقتةً إلى رجوع موسى من الطور.

وأيضاً : لم تصل الخلافة إلى هارون بعد موسى ، فكذا ينبغي أن لا تصل إلى علي بعد فوت المصطفى : وهو خلاف مرادنا ومرادكم ».

ومقتضى هذا الكلام أن يخرج ( الدهلوي ) ومن سبقه في هذه الدعوى الباطلة ، عن ملّة الإسلام ... لأنه قال بما لا يرتضيه الشيعة ولا السنّة في هذا المقام.

٩ ـ كلام بعض النواصب كما نقله الراغب

وذكر أبو القاسم الحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصبهاني أنه.

« كان بعض الشيعة يستدل بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : علي منّي كهارون من موسى.

فقال بعض النواصب : ما تلك المنازل؟ فإنّ هارون كان أخا موسى من أبيه وامّه ، وكان شريكه في النبوّة ، ومات قبله ، وليس شيء من هذه المنازل لعلي : فلم يبق إلاّ أنْ يأخذ بلحيته وبرأسه : يعني قوله ( لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ) (١).

فهذا الناصبي ـ مع شدّة نصبه وبغضه لأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ لم يتفوّه بما تفوّه به ( الدهلوي )!!

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ٤٨١.

٧٩

وأمّا الشبهة هذه ـ حيث حمل أخذ موسى لحية ورأس هارون على معنىً غير صحيح ـ فيردّها كلمات أهل السنّة أيضاً ، فقد ذكر الرازي ضمن الكلام على هذه الآية.

« وثانيها : إن موسى عليه‌السلام أقبل وهو غضبان على قومه ، فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب ، فإن الغضبان المتفكّر قد يعضّ على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض على لحيته ، فأجرى موسى عليه‌السلام أخاه هارون مجرى نفسه ، لأنه كان أخاه وشريكه ، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب.

فأمّا قوله : ( لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ) فلا يمتنع أن يكون هارون عليه‌السلام خاف من أنْ يتوهّم بنو إسرائيل من سوء ظنّهم أنه منكر عليهم غير معاون له : ثم أخذ في الشرح القصة فقال : ( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ).

وثالثها : إن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظنّ بموسى عليه‌السلام ، حتى أن هارون غاب عنهم غيبة ، فقالوا لموسى عليه‌السلام : أنت قتلته ، فلما واعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة وأتمّها بعشر ، وكتب له في الألواح كلّ شيء ، ثم رجع فرأى من قومه ما رأى ، فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحّص عن كيفية الواقعة ، فخاف هارون عليه‌السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقاً على موسى : ( لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ) لئلاّ يظنّ القوم ما لا يليق بك » (١).

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٢ / ١٠٩.

٨٠