نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٧

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٧

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

طاهر محمد بن علي بن محمد بن يوسف ، أنبأ أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة عن أبي بردة قال :

خرج علي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ثنية الوداع وهو يبكي ويقول : خلّفتني مع الخوالف! ما أحبّ أن تخرج في وجهٍ إلاّوأنا معك. فقال صلّى الله عليه وسلّم : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة وأنت خليفتي » (١).

وفي كتاب ( المناقب ) : « حدثنا أبو سعيد قال : حدثنا سليمان بن بلال قال : حدّثنا جعيد بن عبد الرحمن ، عن عائشة بنت سعد ، عن أبيها سعد : إنّ علياً خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى جاء ثنية الوداع وعلي يبكي ويقول : أتخلّفني مع الخوالف؟ فقال : أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة » (٢).

وقال النسائي : « أنبأنا زكريا بن يحيى قال : أنبأنا أبو مصعب عن الدراوردي ، عن صفوان ، عن سعيد بن المسيب : أنّه سمع سعد بن أبي وقاص يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي : أما ترضى أنْ تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة » (٣).

أخبرني زكريا بن يحيى قال : أنبأنا أبو مصعب ، عن الدراوردي ، عن هشام بن هاشم ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد قال : لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك ، خرج علي فتبعه فشكى وقال : يا رسول الله أتتركني

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٢٨.

(٢) فضائل المؤمنين عليه‌السلام : ٨٦ رقم ١٢٨.

(٣) الخصائص للنسائي : ٦٨ رقم ٤٦.

٣٢١

مع الخوالف؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : يا علي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة » (١).

وقال النسائي : « أخبرنى زكريا بن يحيى قال : أنبأنا أبو مصعب ، عن الدراوردي ، عن الجعيد ، عن عائشة ، عن أبيها : إنّ عليّاً خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ، حتى جاء ثنيّة الوداع يودّ غزوة تبوك وعلي يشتكي ويقول : أتخلّفني مع الخوالف؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة » (٢).

وذكر المولوي ولي الله اللكهنوي حديث المنزلة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث رواه عن البخاري ، ثم قال : « وأخرج النسائي في الخصائص بطرقٍ متعددة ... » فرواه عنه عن سعد بن أبي وقاص باللفظ المذكور (٣).

ورواه الخطيب الخوارزمي بسنده عن جابر فقال : « أخبرنا صمصام الائمة أبو عفان عثمان بن أحمد الصرّام الخوارزمي بخوارزم قال : أخبرنا عماد الدين أبو بكر محمد بن الحسن النسفي قال : حدثنا أبو القاسم ميمون بن علي الميموني قال : حدثنا الشيخ أبو محمد إسماعيل بن الحسين بن علي قال : حدثنا أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه قال : حدثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن عبدة قال : حدثنا إبراهيم بن سلام المكي قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن حزام ابن عثمان ، عن ابن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه أنه قال :

جاءنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن مضطجعون فى المسجد

__________________

(١) الخصائص للنسائي : ٦٩ رقم ٤٧.

(٢) الخصائص للنسائي : ٧٤ رقم ٥٥.

(٣) مرآة المؤمنين ـ مخطوط.

٣٢٢

ـ وفي يده عسيب رطب ـ فقال : ترقدون في المسجد!! قد أجفلنا وأجفل علي معنا. فقال النبي عليه‌السلام : تعال يا علي ، إنّه يحل لك في المسجد ما يحلّ لي ، ألا ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة!!

والذي نفسي بيده إنك لذائد عن حوضي يوم القيامة ، تذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الضال عن الماء ، بعصاً لك من عوسج ، كأني أنظر إلى مقامك من حوضي » (١).

ورواه ابن عساكر بإسناده عن حزام بن عثمان ... باللفظ المذكور ... (٢).

أقول :

ففي هذا الحديث الذي رواه أحمد والنسائي والخوارزمي وسبط ابن الجوزي وابن كثير « إلاّ النبوة » بدلاً عن « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » وقد نصّ ابن كثير على صحّته ...

فظهر : أنّ المراد من « إلاّ أنه لا نبي بعدي » أينما ورد هو « إلاّ النبوة » ... فالإستثناء متّصل وليس بمنقطع ...

وتبيّن أنّ ( الدهلوي ) و ( الكابلي ) ومن ماثلهما بمعزلٍ عن الفحص والتحقيق والتتبّع في الكتب وطرق الأحاديث وألفاظها ... وأنّهم يتكلّمون حسبما تمليه عليهم هواجسهم النفسانية ، ودواعيهم الظلمانيّة ، وتعصّباتهم الشيطانية ، ضد أمير المؤمنين وفضائله ومناقبه!! ومع ذلك يدّعون جهل الإماميّة وقصورهم عن فهم حقائق الاحاديث النبوية ...!!

وظهر سقوط قول التفتازاني ومن تبعه من أنه « ليس الإستثناء المذكور

__________________

(١) المناقب للخوارزمي : ١٠٩ رقم ١١٦.

(٢) تاريخ دمشق ٤٢ / ١٣٩.

٣٢٣

إخراجاً لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك إلاّ النبوة »!! لأنهم قد أنكروا لفظاً ورد في أحاديث عديدة نصَّ بعض أكابر حفّاظهم على صحّتها ...

تنصيص العلماء على اتّصال الإستثناء فى الحديث

وكما ثبت ـ ولله الحمد ـ بطلان دعوى انقطاع الإستثناء ، حسب الأحاديث العديدة المعتبرة ، الصريحة في كون المستثنى هو « النبوة » وأنّ « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » بمنزلة « إلاّ النبوة » ... كذلك يثبت بطلانها على ضوء كلمات المحققين الكبار من أهل السنّة :

يقول الشيخ محمد بن طلحة الشافعي : « فتلخيص منزلة هارون من موسى أنه كان أخاه ووزيره وعضده وشريكه في النبوة ، وخليفته على قومه عند سفره ، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً منه بهذه المنزلة ، وأثبتها له « إلاّ النبوّة » فإنه صلّى الله عليه وسلّم استثناها في آخر الحديث بقوله : « غير أنّه لا نبي بعدي ». فبقى ما عدا النبوة المستثناة ثابتاً لعلي ، من كونه أخاه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك. وهذه من المعارج الشراف ومدارج الإزلاف ، فقد دل الحديث بمنطوقه ومفهومه على ثبوت هذه المزية العليّة لعلي.

وهو حديث متفق على صحته » (١).

فانظر إلى قوله : « وقد جعل رسول الله عليّاً بهذه المنزلة وأثبتها له إلاّ النبوة » ثم أعاد الضمير في « إستثناها » إلى « النبوة » ، وأنّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « غير أنّه لا نبي بعدي » إستثناء للنبوّة لا عدم النبوة ، ثم أكّد في آخر كلامه ما ذكره أوّلاً إذ قال : « فبقي ما عدا النبوة المستثناة ثابتاً لعلي ».

__________________

(١) مطالب السؤول ١ / ٥٣ ـ ٥٤.

٣٢٤

ويقول الشيخ نور الدين ابن الصبّاغ المالكي : « ومنها : قوله صلّى الله عليه وسلّم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي ، فلا بدَّ أوّلاً من كشف سرّ المنزلة التي لهارون من موسى ، وذلك إنّ القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، نطق بأنّ موسى عليه‌السلام سأل ربه عزوجل فقال : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) وإنّ الله عزوجل أجابه إلى مسئوله ، وأجناه من شجرة دعائه ثمرة سؤله فقال عزّ من قائل : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) وقال عزوجل : ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ) وقال الله : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ).

فظهر : أن منزلة هارون من موسى عليه‌السلام منزلة الوزير ...

فتلخيص أن منزلة هارون من موسى صلوات الله عليهما : أنه كان أخاه ووزيره وعضده في النبوة ، وخليفته على قومه عند سفره.

وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً منه بهذه المنزلة « إلاّ النبوة » ، فإنه صلّى الله عليه وسلّم إستثناها بقوله : « غير أنّه لا نبي بعدي ». فعلي أخوه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك ». (١)

ويقول محمد بن إسماعيل الأمير : « ولا يخفى : أنّ هذه منزلة شريفة ورتبة عليّة منيفة ، فإنه قد كان هارون عضد موسى الذي شدّ الله به أزره ، ووزيره وخليفته على قومه ، حين ذهب لمناجاة ربه. وبالجملة : لم يكن أحد من موسى عليه‌السلام بمنزلة هارون عليه‌السلام ، وهو الذي سأل الله تعالى أن يشدّ به أزره ويشركه في أمره ، كما سأل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، كما فى حديث أسماء بنت عميس ، وأجاب الله نبيه موسى عليه‌السلام بقوله : ( سَنَشُدُّ

__________________

(١) الفصول المهمة : ٤٣ ـ ٤٤.

٣٢٥

عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) الآية ، كما أجاب نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بإرساله جبرئيل عليه‌السلام بإجابته كما في حديث أسماء بنت عميس.

فقد شابه الوصي عليه‌السلام هارون فى سؤال النبيّين الكريمين عليهما‌السلام ، وفي إجابة الربّ سبحانه وتعالى ، وتمّ التشبيه بتنزيله منه صلّى الله عليه وسلّم منزلة هارون من الكليم ، ولم يستثن سوى النبوة لختم الله بابها برسوله صلّى الله عليه وسلّم خاتم الانبياء.

وهذه فضيلة اختص الله تعالى بها ورسوله الوصيّ عليه‌السلام ، لمّا يشاركه فيها أحد غيره » (١).

إتّصال الإستثناء في كلام شرّاح الحديث

بل إنّ كلمات أعلام المحقّقين من شراح الحديث ، ظاهرة في أنّ هذا الإستثناء عندهم متّصل لا منقطع :

يقول الطيّبي : « معنى الحديث : أنت متّصل بي ، نازل مني بمنزلة هارون من موسى. وفيه تشبيه مبهم بيّنه بقوله : إلاّ أنه لا نبي بعدي. فعرف أنّ الإتّصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة ، بل من جهة ما دونها وهو الخلافة » (٢).

أقول :

فلو كان قوله : « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » إستثناءً منقطعاً ، لم يكن مبيّناً للإجمال ورافعاً للإبهام ، لوضوح أنّ الإستثناء المنقطع لا علاقة له بما قبله ... فالإستثناء متّصل ، ولذا كان بياناً للتشبيه المبهم ...

__________________

(١) الروضة الندية في شرح التحفة العلويّة : ٥٤.

(٢) شرح المصابيح ـ باب مناقب علي من كتاب المناقب ـ مخطوط.

٣٢٦

وقول الطيبي : « فعرف أنّ الإتصال ... « صريح في أنّ هذا الإستثناء بيان لمعنى الإتّصال المذكور ، ولولا اتّصال الإستثناء لما تمّ البيان ...

وأيضاً قوله : « بل من جهة ما دونها وهو الخلافة » صريح في أنّ الإستثناء إنما هو لحصر الإتصال المذكور في الخلافة ، ولا ريب في أنّ الإستثناء إذا كان منقطعاً لم يكن للحصر المذكور وجه أبداً.

ويقول الشمس العلقمي : « وفيه تشبيه. ووجه التشبيه مبهم ، لم يفهم أنّه رضي‌الله‌عنه فيما شبّهه به ، فبيّن بقوله : « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » أنّ اتّصاله به ليس من جهة النبوة ، فبقي الإتصال من جهة الخلافة ، لأنها تلي النبوة في المرتبة ... » (١).

وهذه العبارة تفيد ما ذكرناه كما تقدم ...

ويقول القسطلاني : « وبيّن بقوله : إلاّ أنه ليس نبي. وفى نسخةٍ : لا نبي بعدي. أنّ اتّصاله به ليس من جهة النبوة ، فبقي الإتصال من جهة الخلافة » (٢).

وهذا واضح الدلالة على اتصال الإستثناء بالتقريب المذكور ...

ويقول المنّاوي : « علي مني بمنزلة هارون من أخيه موسى. يعني : متصل بي ونازل مني بمنزلة هارون من أخيه ، حين خلّفه في قومه ، إلاّ أنه لا نبي بعدي ، ينزل بشرع ناسخ.

نفى الإتصال به من جهة النبوة. فبقي من جهة الخلافة ، لأنها تليها في الرتبة ... » (٣).

__________________

(١) الكوكب المنير في شرح الجامع الصغير ـ مخطوط ـ حرف العين.

(٢) ارشاد الساري ٦ / ٤٥١.

(٣) التيسير في شرح الجامع الصغير ـ حرف العين.

٣٢٧

ويقول العزيزي بشرحه كذلك : » ... نفى الإتصال به من جهة النبوة ، فبقي الإتصال من جهة الخلافة ... » (١).

إتّصال الإستثناء في كلام والد الدهلوي وتلميذه

وقد لا يكتفي أولياء ( الدهلوي ) والمتعصّبون بما ذكرنا ، حتى نأتي لهم بشواهد من كلمات والده ، وبعض أصحاب والده ، وتلميذ ( الدهلوي ) نفسه ... فلنذكر هذه الكلمات علّهم ينتهوا عمّا يقولون ويذعنوا بالحق ويخضعوا للحقيقة :

قال ولي الله الدهلوي :

« ومنها : حديث المنزلة ، ومدلوله هو التشبيه بهارون واستثناء النبوة.

يعني إنّ هارون اجتمعت فيه ثلاث خصال : كونه من أهل بيت موسى ، وكونه خليفةً له عند خروجه إلى جانب الطور ، وكونه نبيّاً. والمرتضى كان من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وكان خليفته على المدينة في غزوة تبوك ، ولم يكن نبيّاً.

وما أطال فيه المتكلّمون في عدّ المنازل ، فلا يوافق المعقول والمنقول » (٢).

فهذه عبارة والد الدهلوي ... فما الذي حمل ( الدهلوي ) على مخالفة والده ومتابعة التفتازاني وغيره ، غير التعصّب والعناد؟! ...

وعلى ما ذكره ولي الله مشى تلميذه القاضي سناء الله حيث قال :

« وعلى تقدير الشمول نقول : إن منزلة هارون كانت منحصرةً في أمرين ،

__________________

(١) السراج المنير في شرح الجامع الصغير ـ حرف العين.

(٢) قرة العينين في تفضيل الشيخين. القسم الثاني من المسلك الثالث.

٣٢٨

الإستخلاف مدة غيبته ، لانّه استثنى النبوة ، فلم يبق إلاّ الإستخلاف مدّة الغيبة » (١).

وهذا صريح كذلك في كون الإستثناء متّصلاً ، وأنّ المستثنى هو « النبوة » لا « عدم النبوة ».

والطريف : أن تلميذ ( الدهلوي ) يتبع ولي الله وسناء الله ، ويخالف شيخه ( الدّهلوي ) ... ذاك هو الفاضل الرشيد الدهلوي ، فإنه يقول :

« وخرّج السيد المحقق ـ قدس‌سره ـ في حاشية المشكاة بشرح حديث المنزلة أن قوله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى تشبيه مبهم ، ويبيّنه الإستثناء : إلاّ أنه لا نبي بعدي. يعني : إن عليّاً المرتضى متّصل برسول الله في جميع الفضائل عدا النبوة. وهذه عبارته قدس‌سره : يعني أنت متصل بي ونازل منّي بمنزلة هارون من موسى. وفيه تشبيه ، ووجه الشبه مبهم ، لم يفهم أنه رضي‌الله‌عنه بما شبّهه صلوات الله عليه وسلم ، فبيّن بقوله : إلاّ أنه لا نبي بعدي أن اتّصاله ليس من جهة النبوة. انتهى ما أردنا نقله.

وعلى هذا التقدير لا يكون الإستثناء « إلاّ أنه لا نبي بعدي » لدفع شبهٍ ، بل لتفسير المبهم » (٢).

إتّصال الإستثناء في كلام الكابلي

فثبتت ـ والحمد لله ـ أنّ الإستثناء في الحديث متّصل لا منقطع ... وبه صرّح : ابن طلحة ، وابن الصباغ ، والأمير ، والطيبي ، والشريف الجرجاني ، والقسطلاني ، والمناوي ، والعلقمي ، والعزيزي ، وولي الله ، وثناء الله ، والرشيد الدهلوي ...

__________________

(١) السيف المسلول ـ مبحث حديث المنزلة.

(٢) إيضاح لطافة المقال ـ مخطوط.

٣٢٩

وهل يكفي هذا المقدار لإفحام المتعصّبين وإسكات المكابرين؟ ...

وهل يكفي هذا المقدار لاعتراف أولياء ( الدهلوي ) بتعصّبه الباطل بمتابعته للمبطلين ، وعناده للحق الذي أذعن به أبوه وتلميذه؟

فإنْ لم يكن كافياً فلنورد عبارة الكابلي ، التي نصّ فيها بما هو الحقّ وصرّح فيها بالحقيقة ... فقال :

« ... ولأن منزلة هارون من موسى كانت منحصرةً في أمرين : الإستخلاف مدة غيبته ، وشركته في النبوة ، ولمّا استثنى منهما الثانية بقيت الاولى ... » (١).

فلماذا خالف ( الدهلوي ) الكابليَّ في هذا الموضع ، وكتابه ( التحفة ) منتحل من ( الصواقع ) كما هو معلوم؟!

وهذه العبارة من الكابلي كافية للرد على الكابلي نفسه ، فإنّها تناقض ما ادّعاه في صدرها وتدفعه ، وإليك عبارته كاملةً :

« والإستثناء ليس إخراجاً لبعض أفراد المنزلة ، بل منقطع بمنزلة غير ، وهو غير عزيز في الكتاب والسنة ، ولا يدل على العموم ، فإنّ من منازل هارون من موسى الاخوة في النسب ، ولم يثبت ذلك لعلي. وقوله : اخلفني في قومي لا عموم له ، إذ ليس في اللَّفظ ما يدل على الشمول. ولأنّ منزلة هارون من موسى كانت منحصرةً في أمرين : الإستخلاف مدة غيبته وشركته في النبوة. ولمّا استثنى منهما الثانية بقيت الأولى ».

فقوله : « ولمّا استثنى ... » دليل قطعي على كون الإستثناء متّصلاً ، إذ لا يمكن استثناء « النبوة » إلاّبأنْ يكون « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » في حكم « إلاّ النبوة » ، وإذا كان كذلك كان الإستثناء متّصلاً بالضرورة ، وبطل قوله : « بل منقطع ».

__________________

(١) الصواقع الموبقة ـ مخطوط.

٣٣٠

قوله :

« وأمّا معنىً فلأنّ من منازل هارون كونه أكبر سنّاً ، ومنها : كونه أفصح لساناً من موسى ، ومنها : كونه شريكاً له في النبوة ، ومنها : كونه أخاً له في النسب. وهذه المنازل غير ثابتة لعلي إجماعاً ».

ردّ التمسّك بانتفاء الأخوة النّسبيّة لاثبات الانقطاع

أقول :

أوّلاً : إن الأصل في هذا الكلام هو التفتازاني ، ومنه أخذ القوشجي ... وأورده الكابلي ... ومنه أخذ ( الدهلوي ) ...

لكنّ ( الدهلوي ) وشيخه حرّفا كلام التفتازاني والقوشجي ... لأنّهما أخذا منهما الإشكال وتمسّكا به ، وأسقطا من كلامهما ما ذكراه في الجواب عن الإشكال ... وهذا نصّ عبارة التفتازاني :

« ليس الإستثناء المذكور إخراجاً لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك : إلاّ النبوة ، بل منقطع بمعنى لكن ، فلا يدل على العموم كما لا يخفى على أهل العربية.

كيف؟ ومن منازله الأخوّة في النسب ولم تثبت لعلي رضي‌الله‌عنه.

اللهمّ إلاّ أنْ يقال إنها بمنزلة المستثنى ، لظهور انتفائها » (١).

ونصّ عبارة القوشجي :

« وليس الإستثناء المذكور إخراجاً لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك : إلاّ النبوة ، بل منقطع بمعنى لكن. فلا يدل على العموم. كيف؟ ومن منازله الأخوّة

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ / ٢٧٥.

٣٣١

في النسب ولم تثبت لعلي رضي‌الله‌عنه.

اللهمّ إلاّ أنْ يقال : إنها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها » (١).

فانظر إلى عبارة الكابلي :

« والإستثناء ليس إخراجاً لبعض أفراد المنزلة ، بل منقطع بمنزلة غير ، وهو غير عزيز في الكتاب والسنة ، ولا يدل على العموم ، فإنَّ من منازل هارون من موسى الاخوّة في النسب ، ولم يثبت ذلك لعلي » (٢).

وإذا كان هذا حال الكابلي ، فما ظنّك ( بالدهلوي ) الذي دأب على استراق هفوات الكابلي؟! ...

نعم ، إنّهم يرتكبون هذه التحريفات الشّنيعة حتى في كلمات أئمتهم ، بغية الردّ على الحق وأهله ... لكنّهم خائبون خاسرون ...

وثانياً : قال القاضي عضد الدين في الجواب عن حديث المنزلة :

« الجواب منع صحّة الحديث ، أو المراد استخلافه على قومه في قوله : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) لا استخلافه على المدينة. ولا يلزم دوامه بعد وفاته ، ولا يكون عدم دوامه عزلاً له ، ولا عزله إذا انتقل إلى مرتبة أعلى ـ وهو الإستقلال بالنبوّة ـ منفّراً. كيف؟ والظاهر متروك ، لأن من منازل هارون كونه أخاً ونبيّاً » (٣).

أقول :

لقد ترك القاضي الإيجي ظاهر الحديث ، لأنْ من منازل هارون كونه أخاً

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٧٠.

(٢) الصواقع الموبقة ـ مخطوط.

(٣) المواقف في علم الكلام : ٤٠٦.

٣٣٢

ونبيّاً ، وفي هذا دلالة صريحة على أن ظاهر الحديث عموم المنازل ، لكن القاضي ترك هذا الظاهر بسبب انتفاء الاخوة النّسبيّة والنبوة ، وهذا صريح في إبطال توهّم دلالة انتفاء الاخوة والنبوة على انقطاع الإستثناء الذي زعمه ( الدهلوي ).

لأن انتفاء ذلك إنْ كان دالًّا على الإنقطاع ، لم يكن ظاهر الحديث عموم المنازل ، ولم يكن انتفاء الاخوة والنبوّة سبباً لترك الظّاهر ، فإنّ سببيّة الأمرين لترك الظاهر دليل على تحقق هذا الترك ، والترك دليل على تحقق الظاهر ، وتحقّقه ينافي دعوى انقطاع الإستثناء بالضّرورة.

فثبت من اعتراف القاضي الايجي اتّصال الإستثناء في الحديث ، وأنّ لفظ « المنزلة » فيه يدل على عموم المنزلة ، وخروج بعض المنازل لا ينافي اتّصال الإستثناء والدلالة على عموم المنزلة ، بل غاية الأمر ـ بزعم القاضي ـ دلالة خروج الاخوة والنبوة على أنه عام مخصوص ... وسيأتي جواب هذا الزعم فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.

وثالثاً : قال الشريف الجرجاني بشرح قول العضد : « كيف والظاهر متروك » ما نصّه : « أي وإنْ فرض أن الحديث يعمُّ المنازل كان عاماً مخصوصاً ، لأن من منازل هارون كونه أخاً نسبياً ونبياً ... » (١).

يفيد هذا الكلام ـ وإنْ اشتمل على تأويلٍ في عبارة العضد بصرف كلمة « الظاهر متروك » عمّا تدل عليه جزماً ، وإرجاعها إلى « الفرض » ـ أن مراد صاحب ( المواقف ) من « الظّاهر » ظهور دلالة الحديث على عموم المنازل ... فيبطل مزعوم ( الدهلوي ).

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٣.

٣٣٣

رد التمسّك بانتفاء النبوّة لإثبات الإنقطاع

وأمّا التمسّك ـ بانتفاء شركة أمير المؤمنين عليه‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبوّة ـ لإثبات إنقطاع الإستثناء ، فمن غرائب الإستدلالات ...

أمّا أولاً : فلأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » المروي في الصحيحين وغيرهما ، دليل على نفي النبوة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ... وقال أبو شكور السّلمي :

« وأما من قال : إنّ علياً كان شريكاً في النبوة ، احتجوا بقوله عليه‌السلام حيث قال : أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى. ثم هارون كان نبياً ، فكذلك علي وجب أن يكون نبياً. الجواب : قلنا : إن تمام الخبر إلى أن قال : إلاّ أنه لا نبي بعدي. وأما قوله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. أراد به القرابة والخلافة غير النبوة » (١).

وإذا كان إستثناء النبوّة موجوداً في نفس الحديث ، لم يحسن القدح في دلالته على عموم المنازل بانتفاء النبوة ، فإنّ هذا لا يصدر من عاقل فضلاً عن عالم ... إنه نظير أن يقال بعدم دلالة « جاءني القوم إلا زيد » على العموم لخروج زيد ... وهل ذلك إلاّسفسطة!!

فالعجب من ( الدهلوي ) ، يحمل استثناء النبوة الصريح في الدلالة على العموم على الإستثناء المنقطع ... خلافاً للأحاديث الصريحة المذكور فيها لفظ « إلاّ النبوة » ، وشقاقاً لإفادات أكابرهم الأعيان ووالده البارع في هذا الشان ...

__________________

(١) التمهيد في بيان التوحيد ، الباب الحادي عشر ، القول الثاني : في خلافة أبي بكر.

٣٣٤

ثم يزيد على ذلك دعوى دلالة عدم نبوّة أمير المؤمنين على عدم عموم المنازل فى الحديث!!

وأمّا ثانياً : فلأن هذا التمسّك ينافي كلمات أكابر أئمة قومه ...

وذلك : لأنّ القاضي عضد الدين ـ بعد أن اعترف بظهور الحديث في العموم ـ قال : « الظاهر متروك ، لأنّ من منازل هارون كونه أخاً ونبياً » أي : وكلا الأمرين منتفيان في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فالعموم منتف ... لكن تمسّكه بالأمرين لنفي العموم مندفع بتصريحات كبار الائمة المحققين ...

أمّا الأول ـ وهو انتفاء الأخوة النسبية ـ فقد عرفت جوابه من كلمات التفتازاني والقوشجي ... وأمّا الثاني وهو انتفاء النبوة ، فجوابه ظاهر من عبارة الشريف الجرجاني حيث قال بشرحه :

« كيف؟ والظاهر متروك.

أي : وإنْ فرض أنّ الحديث يعم المنازل ، كلها كان عاماً مخصوصاً ، لأن من منازل هارون كونه أخاً نسبيّاً ونبيّاً ، والعام المخصوص ليس حجةً في الباقي أو حجيته ضعيفة ، ولو ترك قوله « نبياً » لكان أولى » (١).

أقول :

أي :

إن قول العضد « نبياً » في غير محلّه ... ووجه ذلك : إنّه لمّا كان استثناء النبوة موجوداً في نصّ الحديث ، فلا يلزم من انتفاء النبوّة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام تخصيص في المستثنى منه العام ، بل يبقى المستثنى منه على عمومه ، كما هو معلوم لدى أهل العلم ...

فظهر سقوط تمسك ( الدهلوي ) بانتفاء الأخوة النسبية من كلام التفتازاني

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٣.

٣٣٥

والقوشجي ، وسقوط تمسّكه بانتفاء النبوّة من كلام الشريف الجرجاني ... وهؤلاء أعلام علماء طائفته في مختلف العلوم.

وأمّا ثالثاً : ففي جملةٍ من طرق الحديث : « إلاّ أنّك لست بنبي » رواه : أحمد بن حنبل ، والحاكم ، والنسائي ، وغيرهم ... فاستثناء النبوة وانتفاؤها عن أمير المؤمنين عليه‌السلام موجود بصراحةٍ في ألفاظ الحديث ... فأين المخصّص لعموم المنزلة؟!

٣٣٦

ردّ التمسّك بانتفاء الأكبريّة والأفصحيّة لإثبات الإنقطاع

وأما تمسّكه بانتفاء الأكبرية في السن ، والأفصحيّة في اللسان ، فأوهن مما تقدم :

١ ـ على ضوء كلمات العلماء في معنى الحديث

(١) إن جوابه ظاهر من كلام القوشجي والتفتازاني أيضاً .... لأنّه كما كانت الأخوة النسبية في حكم المستثنى لظهور انتفائها غير القادح في عموم المنازل الثابت للمستثنى منه ، كذلك انتفاء كبر السن والأفصحيّة ... لا يقدح في العموم ، لظهور هذا الإنتفاء وكون الأمرين لذلك في حكم المستثنى ...

وعلى الجملة ، فإنّ انتفاء هذين الأمرين ـ كانتفاء الأخوة ـ غير قادح في عموم المنزلة فضلاً عن أن يكون مثبتاً لانقطاع الإستثناء ...

(٢) على أنّ صريح ولي الله الدهلوي هو : إنّ التنزيل بمنزلة هارون من موسى نوع من التشبيه ، والمعتبر في التشبيه هو المشابهة في الأوصاف المشهورة المذكورة على الألسنة ... وقد جعلها ثلاثة وهي : الخلافة مدة الغيبة ، وكونه من أهل البيت ، والنبوّة ...

هكذا قال ولي الله الدهلوي في البحث حول هذا الحديث ، وجواب إستدلال الإمامية به (١) ... وهو أيضاً وجه آخر على بطلان توهّم ولده ( الدهلوي ) دخول الأكبرية في السّن والأفصحيّة في اللّسان بل الأخوة

__________________

(١) إزالة الخفا ـ المقصد الأول من المسلك الأول ، مبحث حديث المنزلة.

٣٣٧

النسبيّة ... في منازل هارون عليه‌السلام ...

ولو تدبّرت في كلام ولي الله الدهلوي وجدته دالاًّ على مطلوب الإماميّة ... لضرورة كون « وجوب الإتّباع والإطاعة » و « العصمة » و « الأفضلية » من أبرز الصفات المشهورة لهارون عليه‌السلام في الامة الموسويّة ... فكذلك سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ... في الامة المحمّدية ...

(٣) أمّا القاضي سناء الله تلميذ والد ( الدهلوي ) ، فحصر منازل هارون عليه‌السلام في أمرين هما : الإستخلاف والنبوّة ... وقد تقدّمت عبارته ... فليس الأخوة النسبية ولا الأكبرية في السن ولا الأفصحية في اللسان ... من منازل هارون ... حتى يكون انتفاؤها عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قادحاً في عموم المنزلة ...

وهذا وجه آخر لسقوط توهّم ( الدهلوي ) ...

(٤) وكما خالف ( الدهلوي ) والده وتلميذ والده ... فقد خالف شيخه المنتحل كتابه ... فالكابلي خصّ منزلة هارون وحصرها في الأمرين : الإستخلاف والنبوّة ... كما علمت سابقاً ... فخالفه في هذا المقام ، بجعل الأكبرية في السن والاخوة النسبيّة والأفصحية في اللسان ... من المنازل ، كما خالفه من قبل ، بدعوى أن « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » في حكم « إلاّ عدم النبوة » ، مع أن عبارة الكابلي صريحة في أنّها بحكم « إلاّ النبوة » ...

فهذا الموضع أيضاً من المواضع التي خالف ( الدهلوي ) فيها والده وكبار مشايخه وأئمّة قومه ... وهناك مواضع أخرى سننبّه عليها إن شاء الله تعالى ...

٣٣٨

المراد من المنازل الفضائل النفسانيّة

(٥) إن المراد من المنازل التي أثبتها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهارون عليه‌السلام ، هي الفضائل النفسانيّة والمقامات المعنويّة ... فإنّ عليها ـ لا على غيرها ـ مدار التفضيل والتقديم ، وبها يحصل القرب عند الله والثواب منه ... وهي الملاك والمناط في الإصطفاء للنبوة والخلافة والإمامة ... وهي الصّفات المختصّة بأهل الإيمان ، ولا حظّ لأهل الكفر بشيءٍ منها ...

وأمّا الاخوة النسبية ، والأكبرية في السن ، والأفصحية في اللّسان ، وأمثالها ـ وإنْ كانت فضائل ـ فلا تقتضي التقدّم والتّرجيح ، وليست المعيار في الإصطفاء للنبوة والإمامة ...

وإنّ هذا المطلب الذي ذكرناه من الوضوح بمكان ... وهو المتبادر من الأحاديث والأخبار الواردة في هذا الشأن ... وقد تعرّض له والد ( الدهلوي ) وشرحه ، وأقام عليه الدليل والبرهان ... في كتابه ( ازالة الخفا ) فراجعه (١).

وهذا الموضع أيضاً من المواضع التي خالف فيها ( الدهلوي ) أباه ...

على ضوء ما قاله علماء الأدب في أحكام الإستثناء

(٦) وإنّه يندفع التمسّك بانتفاء الأخوة والأكبرية والأفصحية ... لإثبات انقطاع الإستثناء في الحديث الشريف ... بما قرّره المحقّقون من النحاة وعلماء البلاغة والاصول من أحكام الإستثناء ... ونحن نستشهد هنا ببعض الكلمات ، ونبيّن وجه اندفاع تلك التمسّكات :

قال ابن الحاجب بشرح قول الزمخشري : « وإذا قلت : ما مررت بأحدٍ إلاّ

__________________

(١) إزالة الخفا ـ المقصد الأول من المسلك الأول ، مبحث حديث المنزلة.

٣٣٩

زيد خير منه. فكان ما بعد إلاّجملة ابتدائية واقعة صفة لأحد ، وإلاّ لغو في اللفظ ، معطية في المعنى فائدتها ، جاعلة زيداً خيراً من جميع من مررت بهم » قال :

« هذا راجع إلى الإستثناء المفرّغ باعتبار الصفات ، لأنّ التفريغ في الصفات وغيرها. قال الله تعالى : ( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ ) (١) وحكم الجملة والمفرد واحد في الصحّة ، فعلى هذا تقول : ما جاء في أحد إلاّقائم. وما جاء في أحد إلاّ أبوه قائم. وكل ذلك مستقيم.

فإن قيل : معنى الإستثناء المفرّغ نفي الحكم عن كل ما عدا المستثنى. وهذا لا يستقيم في الصفة في : ما جاءنى أحد إلاّراكب. إذ لم تنف جميع الصفات حتى لا يكون عالماً ولا حيّاً مما لا يستقيم أن ينفكّ عنه.

فالجواب من وجهين : أحدهما : إن الصفات لا ينتفي منها إلاّما يمكن انتفاؤه ممّا يضادّ المثبت ، لأنه قد علم أن جميع الصفات لا يصح انتفاؤها ، وإنما الغرض نفي ما يضاد المذكور بعد إلاّ. ولمّا كان ذلك معلوماً اغتفر استعماله بلفظ النفي والإثبات المفيد للحصر. الثاني : أنْ يقال : إنّ هذا الكلام يرد جواباً لمن ينفي تلك الصفة ، فيجاب على قصد المبالغة والردّ جواباً لمن يناقض ما قاله ، لغرض إظهار إثبات تلك الصفة ووضوحها وإظهارها دون غيرها » (١).

أقول :

ونحن نقول في هذا المقام ـ كما قال ابن الحاجب في الجواب الأول ـ إن الغرض من إثبات عموم المنزلة إثبات المنازل الممكن إثباتها ، ولمّا كان معلوماً عدم إمكان إثبات الأفصحية والأكبرية والاخوة النسبية ، لم يضر خروج هذه

__________________

(١) شرح المفصّل ، فصل المنصوب على الاستثناء من مباحث المنصوبات.

٣٤٠