السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤
عبارةً عنه لجاز الإستثناء عن الجمع المنكر ، لجواز دخول المخرج فيه ، لكنه لم يجز باتّفاق أهل النحو. فلذلك حملوا « إلاّ » في قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) على « غير » في كونه وصفاً ، دون الإستثناء لتعذّره ههنا ، وعلّلوا ذلك بعدم وجوب الدخول » (١).
وقال كمال الدين ابن إمام الكامليّة : « ومعيار العموم جواز الإستثناء ، أي يعرف العموم به ، فإنه أي الإستثناء يخرج ما يجب اندراجه لولاه ، أي لولا الإستثناء فلزم من جميع ذلك دخول جميع الأفراد في المستثنى منه ، وإلاّ أي لو لم يجب دخوله فيه لجاز أنْ يستثنى من الجمع المنكر ، لكن الإستثناء منه لا يجوز باتفاق النحاة ، قالوا : إلاّ أن يكون المستثنى منه مختصّاً نحو : جاء رجال كانوا في دارك إلاّزيداً منهم » (٢).
وقال جلال الدين المحلّي : « ومعيار العموم الإستثناء ، فكلّ ما صحّ الإستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عام ، للزوم تناوله للمستثنى ، وقد صحّ الإستثناء من الجمع المعرّف وغيره ممّا تقدم من الصيغ ، نحو : جاء الرجال إلاّزيداً ، ومن نفى العموم فيها يجعل الإستثناء قرينةً على العموم ، ولا يصح الإستثناء من الجمع المنكر إلاّ أن يخصّص فيعم فيما يتخصّص به ، نحو قام رجال كانوا في دارك إلاّزيداً منهم ، كما نقله المصنف عن النحاة. ويصح : جاء رجال إلاّزيد بالرفع ، على أنّ إلاّصفة بمعنى غير ، كما في ( لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا ) » (٣).
__________________
(١) شرح منهاج الوصول للعبري ، المسألة الثانية من الفصل الأول من الباب الثالث ـ مخطوط.
(٢) شرح منهاج الوصول لابن إمام الكاملية ، المسألة الثانية من الفصل الأول من الباب الثالث ـ مخطوط.
(٣) شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع للتاج السبكي ـ بحوث العموم والخصوص.
وقال محبّ الله البهاري بعد أنْ ذكر صيغ العموم وعمومها : « لنا جواز الإستثناء ، وهو معيار العموم ».
قال شارحه : « لنا جواز الإستثناء من هذه الصيغ وهو معيار العموم ، أي : الإستثناء معيار عموم المستثنى منه ، وحاصله الإستدلال من الشكل الأول ، يعني : إن هذه الصيغ يجوز الإستثناء منها ، وكلّ ما يجوز الإستثناء منه فهو عام. أمّا الصغرى فلأن من تتبّع وجده كذلك ، قال الله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (٢) وأما الكبرى فلأن معنى الإستثناء إخراج ما لولا الإستثناء لدخل ألبتة ، ولذلك حملوا قاطبةً إلاّعلى الوصفية في صورة يكون المستثنى منه جمعاً منكوراً غير محصور ، لفقد شرط الإستثناء ، فلا بدّ من الدخول وهو العموم » (٣).
وتلخص :
إنّ الأصوليين على أن الإستثناء دليل العموم ، وعن هذا الطريق يثبتون العموم لصيغ العموم قاطبةً ...
وبهذا الدليل يتم دلالة لفظ « المنزلة » المضاف إلى العَلَم على « العموم » ... ولا نفع لـ ( الدهلوي ) في إنكار ذلك وجحده ...
والألطف من هذا : أن دلالة الإستثناء على العموم ظاهر كلام ( الدهلوي ) نفسه ، فإنّه أيضاً معترف بهذه القاعدة ، حيث يقول : « وصحة الإستثناء تدل على العموم ، إذا كان الإستثناء متّصلاً » فصحة الإستثناء المتصل دليل على العموم ، ومن الواضح جداً صحّة الإستثناء من لفظ « المنزلة » المضاف إلى العلم ، إذ المراد من صحة الإستثناء جواز وروده عليه لا الإستثناء فعلاً.
فلو فرض فرضاً غير واقع عدم كون الإستثناء بـ « إلاّ أنّه لا نبي بعدي »
__________________
(١) فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت ١ / ٢٩١ ط هامش المستصفى.
استثناءً متّصلاً ، كما هو مزعوم من لا بصيرة له في الحديث واللسان ، خلافاً لتصريحات الأئمة الأعيان ، لكن لمّا كان الإستثناء المتّصل من لفظ « المنزلة » المضاف إلى العلم على الإطلاق ، ومن لفظ « المنزلة » المضاف إلى لفظ « هارون » صحيحاً بلا ريب ، فعموم لفظ « المنزلة » المضاف إلى العلم مطلقاً ، والمضاف إلى هارون ثابت بلا ريب.
ولو لم يقلع هذا البيان المؤيَّد باعتراف ( الدهلوي ) أساس الوساوس الفاسدة والخطرات الكاسدة ، فلننقل بعض كلمات أئمة الأصول الصريحة في إفادة اسم الجنس المضاف للعموم :
إسم الجنس المضاف من صيغ العموم
قال عضد الدين الإيجي : « ثم الصيغة الموضوعة له. أي للعموم عند المحقّقين هي هذه :
فمنها : أسماء الشرط والإستفهام ، نحو : من وما ومهما وأينما.
ومنها : الموصولات ، نحو : من وما والذي.
ومنها : الجموع المعرَّفة تعريف جنس لا عهد ، والجموع المضافة نحو : العلماء وعلماء بغداد.
ومنها إسم الجنس كذلك. أي معرّفاً تعريف جنس ، أو مضافاً » (١).
فاسم الجنس المضاف من صيغ العموم عند المحققين كاسم الجنس المعرَّف بلام الجنس. ومن الواضح أن « المنزلة » اسم جنس مضاف ، فهو عام ، حسبما نصّ عليه المحققون.
وقال العبرى الفرغاني :
__________________
(١) شرح مختصر الأصول ٢ / ١٠٢.
« المسألة الثّانية فيما يفيد العموم فنقول : العموم إما أنْ يستفاد من اللفظ لغةً أو عرفاً أو عقلاً.
والذي يفيد العموم لغةً : إما أنْ يفيده لا بنفسه من غير أن يكون معه قرينةٌ تدل عليه ، أو يفيده لا بنفسه بل لأجل قرينةٍ ضمّت إليه.
والعام بنفسه : إما أنْ يتناول كلّ الأشياء سواء كانت من ذوي العلم أو لا ، كلفظة أي ، فإنّها تتناول العالمين وغيرهم في الإستفهام ، نحو : أيّ شيء عندك؟ وفي المجازاة نحو قولك : أي رجلٍ يأتيني فله درهم ، وأيّ ثوبٍ تلبسه يتزيّن بك أو يتناول بعضها ، وحينئذٍ إمّا أنْ يتناول جميع العالمين فقط ، مثل من في الإستفهام ، نحو : من عندك؟ وفي المجازاة نحو قوله عليهالسلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذينّ جاره. أو يتناول جميع غير العالمين فقط ، سواء كان زماناً أو مكاناً أو غيرهما ، نحو لفظة : ما والذي وذا وغيرهما ، وقيل : إنه يتناول العالمين أيضاً لقوله تعالى : ( وَالسَّماءِ وَما بَناها ) (٢) وحينئذٍ يكون ما كأيّ في العموم. أو يتناول بعض غير العالمين كأين ومتى ، فإنّ أين عام في المكان ، ومتى عام في الزّمان ، ولا يتناولان غيرهما.
والعام لقرينةٍ ضمّت إليه : إمّا أنْ يكون في الإثبات وذلك : إمّا الجمع المحلّى بالألف واللام ، سواء كان جمع كثرة نحو قوله تعالى : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) أو جمع قلة نحو قوله عليهالسلام : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وإمّا الجمع المضاف ، سواء كان جمع كثرةٍ نحو قوله عليهالسلام : أولادنا أكبادنا ، وكذا اسم الجنس يكون عاماً إذا كان محلّى بالألف واللام ، نحو قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) أو مضافاً نحو قوله تعالى : ( عَنْ أَمْرِهِ ) » (١).
__________________
(١) شرح منهاج الوصول ـ مخطوط.
فاسم الجنس إذا كان مضافاً يفيد العموم كاسم الجنس المحلّى بالألف واللام ، وقد مثّل له بقوله تعالى : ( عَنْ أَمْرِهِ ) حيث لفظ جاء إسم الجنس « أمر » مضافاً إلى الضمير العائد إلى الله تعالى.
وقال الجلال المحلّي :
« والمفرد المضاف إلى معرفةٍ للعموم على الصحيح كما قاله المصنف في شرح المختصر. يعني ما لم يتحقق عهد نحو ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) أي : كلّ أمر الله. وخصّ منه أمر الندب » (١).
وقال نظام الدين في الجواب عن الإعتراض الثالث ممّا اعترض به على الإستدلال بقوله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الله ورَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) على حجّية الإجماع ، وحاصله منع عموم لفظ « سبيل » في الآية. فأجاب :
« وأمّا عن الثالث ، فلأنه قد تقدّم في المبادىء اللغويّة أن المفرد المضاف أيضاً من صيغ العموم ، كيف ويصحّ الإستثناء عنه وهو معيار العموم » (٢).
وعليه ، يكون لفظ « المنزلة » في الحديث الشريف دالًّا على العموم أيضاً.
وقال أبو البقاء :
« والمفرد المضاف إلى المعرفة للعموم ، صرّحوا به في الإستدلال على أنّ الأمر للوجوب في قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (٣) أي كلّ أمر الله » (٣).
وهذا نصّ في أنّ كون المفرد المضاف إلى المعرفة من صيغ العموم ، مذهب الكلّ ، وبه صرّحوا.
__________________
(١) شرح جمع الجوامع ـ مبحث العموم والخصوص.
(٢) فواتح الرحموت ٢ / /٢١٥ هامش المستصفى.
(٣) الكليات : ٨٢٩.
وقال ابن نجيم المصري :
« قاعدة ـ المفرد المضاف إلى المعرفة للعموم. صرّحوا به في الإستدلال على أنّ الأمر للوجوب في قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (٥) أي كلّ أمر الله تعالى.
ومن فروعه الفقهية : لو أوصى لولد زيد أو وقف على ولده وكان له أولاد ذكور وأناث ، كان للكل. ذكره في فتح القدير ، من الوقف. وقد فرّعته على القاعدة. ومن فروعها : لو قال لامرأته : إن كان حملك ذكراً فأنتِ طالق واحدة ، وإنْ كان أنثى فثنتين. فولدت ذكراً وأنثى. قالوا : لا تطلّق. لأن الحمل اسم للكل ، فما لم يكن الكل غلاماً أو جارية لم يوجد الشرط. ذكره الزيلعي ، من باب التعليق. وهو موافق للقاعدة ، ففرّعته عليها. ولو قلنا بعدم العموم للزم وقوع الثلاث » (١).
فإفادة المفرد المضاف إلى المعرفة العموم قاعدة أصوليّة مسلّمة ، ويتفرّع عليها فروع فقهية.
فهذه طائفة من كلمات أعلام المحققين من القوم في الأصول والفروع ، وهلاّ وقف عليها ( الدّهلوي ) الذي يُدّعى له التبحّر والإمامة في مختلف العلوم؟
والأعجب من ذلك غفلته عمّا جاء في ( شرحي التلخيص ) وحواشيهما ، مع كونها في متناول أيدي جميع أهل العلم ، ومن الكتب الدراسيّة للمبتدئين منهم ... فإن إفادة اسم الجنس للمضاف للعموم ظاهرة فيها ...
قال التفتازاني في ( المختصر ) :
« فمقتضى الحال هو الإعتبار المناسب للحال والمقام.
يعني : إذا علم أنْ ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن الذاتي إلاّ
__________________
(١) الأشباه والنظائر : ٣٨١.
بمطابقته للإعتبار المناسب على ما يفيده إضافة المصدر. ومعلوم أنه إنّما يرتفع بالبلاغة التي هي عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال ، فقد علم أن المراد بالإعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد ، وإلاّ لَما صَدَقَ أنّه لا يرتفع إلاّبالمطابقة للإعتبار المناسب ، ولا يرتفع إلاّبالمطابقة لمقتضى الحال ، فليتأمل » (١).
قال نظام الدين الخطائي في حاشيته على المختصر :
« قوله : على ما يفيده إضافة المصدر ، لأنها تفيد الحصر ، كما ذكروا في ضربي زيداً قائماً ، إنه يفيد انحصار جميع الضربات في حال القيام ، وفيه تأمّل : لأن إضافة المصدر إنّما تفيد العموم ، لأنّ اسم الجنس المضاف من أدوات العموم ، والإنحصار في المثال المذكور إنما هو من جهة أنّ العموم فيه يستلزم الحصر ، فإنه إذا كان جميع الضربات في حال القيام لم يصح أنْ يكون ضرب في غير تلك الحال ، وإلاّ لم يكن جميع الضربات في تلك الحال ، لامتناع أنْ يكون ضرب واحد بالشخص في حالتين. وأمّا فيما نحن فيه فالعموم لا يستلزم الحصر ، فإنه لا يلزم من كون المطابقة سبباً لجميع الإرتفاعات أنْ لا يحصل الإرتفاع بغير المطابقة ، لجواز تعدد الأسباب لمسبب واحد ، فيجوز حصوله بكلٍ منها. وإنما يلزم الحصر لو دلّ الكلام على حصر سببيّة جميع الإرتفاعات في المطابقة ، وليس فليس.
ويمكن دفعه : بأنْ ليس معنى الكلام مجرد أن المطابقة سبب لجميع الإرتفاعات ، بل إنّ جميعها حاصل بسبب المطابقة ، ومعلوم أنّ ذلك يستلزم الحصر ، إذ لو حصل الإرتفاع بغير المطابقة لم يصح أنْ يكون ذلك الإرتفاع حاصلاً بها ، لامتناع تعدّد الحصول لشيء واحد ».
__________________
(١) المختصر في علم المعاني والبيان ـ تعريف البلاغة من مقدّمة الكتاب.
وقال التفتازاني في ( المطوّل ) :
« فمقتضى الحال هو الإعتبار المناسب للحال والمقام.
كالتأكيد والإطلاق وغيرهما ممّا عدّدناه ، وبه يصرح لفظ المفتاح ، وستسمع لهذا زيادة تحقيق. والفاء في قوله : فمقتضى الحال ، تدل على أنه تفريع على ما تقدم ونتيجة له. وبيان ذلك : إنه قد علم مما تقدم أن إرتفاع شأن الكلام الفصيح بمطابقته للإعتبار المناسب لا غير ، لأن إضافة المصدر تفيد الحصر ، كما يقال : ضربي زيداً في الدار » (١).
وقال الچلبي في حاشيته على المطوّل :
« قوله : لأن إضافة المصدر تفيد الحصر.
كما ذكره الرضي من أنّ اسم الجنس إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصّصه ببعض ما يقع عليه ، فهو الظاهر لاستغراق الجنس ، أخذاً من استقراء كلامهم ، فيكون المعنى ههنا : أنّ جميع الإرتفاعات حاصل سبب مطابقة الكلام للإعتبار المناسب ألبتة ، فيستفاد الحصر ، إذ لو جاز أنْ يحصل ارتفاع بغيرها لم يكن هذا الإرتفاع حاصلاً بتلك المطابقة ، فلم تصح تلك الكلية ... ».
وقال الچلبي في موضع آخر :
« قوله : واستغراق المفرد أشمل.
قد سبق تصريح الشارح بأن إضافة المصدر تفيد الحصر ، وحقّق هناك أنّ مبناه كون المصدر المضاف من صيغ العموم ، فهذه القضية كلّية لا مهملة كما توهّم ... ».
لكن التفتازاني المصرّح بهذه القواعد والمباني في الكتب المبحوث عنها فيها والمواضع المتعلّقة بها ، يتناسى ذلك عندما يريد أنْ يجيب عن استدلال
__________________
(١) المطوّل في علم المعاني والبيان ـ تعريف البلاغة من مقدّمة الكتاب.
الشّيعة بحديث المنزلة فيقول :
« والجواب منع التواتر ، بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع ، ومنع عموم المنازل ، بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق ، وربما يدّعى كونه معهوداً معيّناً كغلام زيد » (١)؟!
وكما غفل ـ أو تغافل ـ ( الدهلوي ) عمّا في كتب أصول الفقه ، وعمّا في شرحي التلخيص وحواشيهما ، غفل ـ أو تغافل ـ عمّا في كتب النحو ، وهي الأخرى كتب دراسيّة في جميع الحوزات العلميّة ...
ألا ترى أنّ إفادة اسم الجنس المضاف للعموم صريح المحقّق الرّضي ، كما في حاشية الجلبي؟
وهو صريح الجامي شارح الكافية في مواضع وجوب حذف الخبر ، قال :
« وثانيها : كل مبتدء كان مصدراً صورةً أو بتأويله منسوباً إلى الفاعل أو المفعول به أو كليهما ، وبعده حال أو كان اسم تفضيل مضافاً إلى ذلك المصدر ، مثل : ذهابي راجلاً وضرب زيد قائماً إذا كان زيد مفعولاً به ، ومثل ضربي زيداً قائماً أو قائمين ، وأنْ ضربت زيداً قائماً أو قائمين ، وأكثر شربي السويق ملتوتاً ، وأخطب ما يكون الأمير قائماً.
فذهب البصريون إلى أنَّ تقديره : ضرب زيداً حاصل إذا كان قائماً. فحذف حاصل كما يحذف متعلّقات الظروف نحو : زيد عندك ، فبقي إذا كان قائماً ثم حذف إذا مع شرطه العامل في الحال وأقيم الحال مقام الظرف ، لأن في الحال معنى الظرفية. فالحال قائم مقام الظرف القائم مقام الخبر ، فيكون الحال قائماً مقام الخبر.
قال الرضي : هذا ما قيل فيه ، وفيه تكلّفات كثيرة. والذي يظهر لي أن
__________________
(١) شرح المقاصد ٥ / ٢٧٥.
تقديره نحو : ضربي زيداً يلابسه قائماً ، إذا أردت الحال من المفعول ، وضربي زيداً يلابسني قائماً ، إذا كان حالاً عن الفاعل ، أولى ، ثم تقول : حذف المفعول الذي هو ذو الحال ، فبقي ضربي زيداً يلابس قائماً. ويجوز حذف ذي الحال مع قيام قرينة ، تقول : الذي ضربت قائماً زيد. أي ضربته ، ثم حذف يلابس الذي هو خبر المبتدأ والعامل في الحال ، وقام الحال مقامه ، كما تقول : راشداً مهديّاً ، أي : سر راشداً مهديّاً. فعلى هذا يكونون مستريحين من تلك التكلّفات البعيدة.
وقال الكوفيون : تقديره : ضربي زيداً قائماً حاصل ، بجعل قائماً من متعلّقات المبتدأ. ويلزمهم حذف الخبر من غير سدّ شيء مسدّه ، وتقييد المبتدء المقصود عمومه بدليل الاستعمال ... » (١).
وقال ابن الحاجب بشرح قول الزمخشري : « وممّا حذف فيه الخبر لسدّ غيره مسدّه قولهم : أقائم الزيدان ، وضربي زيداً قائماً ، وأكثر شربي السويق ملتوتاً ... » قال :
« وقولهم : ضربي زيداً قائماً. قال الشيخ : ضابطة هذا أنْ يتقدّم مصدر أو ما هو في معناه ، منسوباً إلى فاعله أو مفعوله ، وبعده حال منهما أو من أحدهما ، على معنىً يستغنى فيه بالحال عن الخبر. وللنحويّين فيه ثلاثة مذاهب :
مذهب أكثر محققي البصريين : أن التقدير : ضربي زيداً حاصل إذا كان قائماً ... المذهب الثاني : مذهب الكوفيين أن تقديره : ضربي زيداً قائماً حاصل ... الثالث : مذهب المتأخرين ـ واختاره الأعلم ـ إنّ التقدير : ضربت زيداً قائماً ...
والصحيح هو الأول. وبيانه : إن معنى « ضربي زيداً قائماً » : ما ضربته إلاّ
__________________
(١) الفوائد الضيائية : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، مبحث المبتدء والخبر من المرفوعات ، في مواضع لزوم حذف الخبر.
قائماً. وكذلك : أكثر شربي السويق ملتوتاً ، معناه : ما أكثر الشرب إلاّ ملتوتاً. وهذا المعنى لا يستقيم لذلك إلاّعلى تقدير البصريين.
وبيانه : إن المصدر المبتدأ اضيف ، وإذا أضيف عم بالنسبة إلى ما اضيف إليه ، كأسماء الأجناس التي لا واحد لها ، وجموع الأجناس التي لها واحد ، فإنها إذا اضيفت أيضاً عمّت. ألا ترى أنك إذا قلت « ماء البحار حكمه كذا » عم جميع مياه البحار. وكذلك إذا قلت : « علم زيد حكمه كذا » عمّ جميع علم زيد. فقد وقع المصدر أولاً عاماً غير مقيد بالحال ، إذ الحال من تمام الخبر ، ثم اخبر عنه بحصوله في حال القيام ، فوجب أن يكون هذا الخبر للعموم ، لما تقرر من عمومه ، لأنّ الخبر عن جميع المخبر عنه ، فلو قدّرت بعض ضرب زيد ليس في حال القيام لم تكن مخبراً عن جميعه ، وإذا تقرر ذلك كان معناه : ما ضربي زيداً إلا في حال القيام ...
وفساد المذهب الثالث من وجهين : اللفظ والمعنى. أما اللفظ فإنه لو كان المبتدأ قائماً مقام الفعل لاستقلّ بفاعله كما استقل اسم الفاعل في أقائم الزيدان. ولو قلت : ضربي أو ضربي زيداً لم يكن كلاماً. وأما من حيث المعنى فإن الإخبار يقع بالضرب عن زيد في حال القيام ، ولا يمنع هذا المعنى أن يكون ثمَّ ضرب في غير حال القيام. ألا ترى أنك إذا قلت : ضرب زيداً قائماً ، لم يمتنع من أن يكون زيد ضرب قاعداً ، وهو عين ما ذكرناه في بطلان مذهب أهل الكوفة » (١).
ومن هذا الكلام أيضاً يظهر بوضوحٍ تام ، دلالة اسم الجنس المضاف إلى العلم وغيره على العموم.
__________________
(١) شرح المفصّل في علم النحو ، في مواضع لزوم حذف الخبر.
قوله :
بل صرحوا بأنه للعهد كما في غلام زيد ونحوه.
الدلالة على العموم ما لم تكن قرينة على العهد
أقول :
لا يخفى أنّ تبادر العهد في مثل : « غلام زيد » لوجود القرينة ، لا يستلزم عدم الدلالة على العموم في كلّ اسم مضاف ، لأنّ اسم الجنس المعرف باللام ، والجمع المعرّف باللام أو المضاف ـ هذه الصّيغ المفيدة للعموم بتصريح عموم الاصوليين ـ إذا قامت قرينة على العهد فيها حملت عليه ، وليس ذلك مخرجاً لها عن الدلالة على العموم حيث لا قرينة ، فكذا في اسم الجنس المضاف.
قال الجلال المحلّي :
« والجمع المعرف باللام نحو ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) أو الإضافة نحو ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) للعموم ما لم يتحقق عهد لتبادره إلى الذهن » (١).
قال البناني في حاشيته :
« قوله : ما لم يتحقق عهد.
ينبغي اعتبار هذا القيد في الموصولات أيضاً ، فإنّها قد تكون للعهد كما هو مصرّح به ، وقد يقال : لا حاجة إلى هذا القيد ، لأن الكلام في هذا الوضع للجمع المعرف وهو العموم. ولا يخفى أنّه ثابت مع تحقق العهد ، غايته أنّه انصرف عن معناه لقرينة العهد ، غير أن ذلك لا يمنع ثبوت ذلك المعنى له ... » (٢).
__________________
(١) شرح جمع الجوامع ، مباحث العام من الكتاب الأول.
(٢) حاشية شرح جمع الجوامع ، مباحث العام من الكتاب الأول.
وقال الجلال أيضاً :
« والمفرد المحلّى باللام مثله. أي مثل الجمع المعرف بها ، في أنّه للعموم ما لم يتحقق عهد لتبادره إلى الذهن نحو : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) أي كلّ البيع ، أي كل بيع ، وخصّ منه الفاسد كالرّبا » (١).
وقال عبد العزيز البخاري بأنّ دلالة المفرد والجمع المعرَّفين باللام على العموم ، مذهب جمهور الاصوليين وعامة مشايخ الحنفية وأهل اللغة ... (٢).
وقال ابن نجيم بعد عبارته السّابقة التي صرّح فيها بإفادة المفرد المضاف إلى المعرفة للعموم :
« وخرج عن القاعدة لو قال : زوجتي طالق أو عبدي حر ، طلّقت واحدة وعتق واحد والتعيين إليه ، ومقتضاها طلاق الكل وعتق الجميع.
وفي البزازية ، من الأيمان : إن فعلت كذا فامرأته طالق ـ وله امرأتان فأكثر ـ طلّقت واحدة ، والبيان إليه. انتهى.
وكأنّه إنما خرج هذا الفرع عن هذا الأصل ، لكونه من باب الايمان المبنيّة على العرف ، كما لا يخفى » (١).
قوله :
وإنْ لم تكن قرينة ، فغاية الأمر ثبوت الإطلاق.
__________________
(١) شرح جمع الجوامع ، مباحث العام من الكتاب الأول.
(٢) كشف الاسرار في شرح اصول البزدوي ٢ / ٢٦.
(٣) الأشباه والنظائر : ٣٨١.
رّد دعوى الدلالة على الاطلاق حيث لا قرينة على العهد
أقول :
كيف يثبت الإطلاق حيث لا قرينة على العهد؟ بل هو العموم لصحة الإستثناء ، والإستثناء دليل العموم كما تقدّم ... فما ذكره ( الدهلوي ) تبعاً لبعض أسلافه دعوى مجرَّدة لا دليل عليها ولا شاهد لها ...
وعلى فرض التنزّل عن أنَّ اسم الجنس المضاف من صيغ العموم ، لتصريح كبار الأئمة به ، ولصحّة الإستثناء منه وهو دليل العموم كما صرحوا به أيضاً ... وتسليم أنّ غاية أمره هو الاطلاق ... فلا يخفى أنّ الإطلاق كذلك كاف في إثبات مطلوب الإمامية من الحديث ، لأنّ اللفظ المطلق الصادر عن الحكيم من غير نصب قرينةٍ على التّخصيص يفيد العموم ، وإلاّ لزم الإهمال وهو قبيح منه :
قال القاضي عبيد الله المحبوبي البخاري :
« ومنها ( أي من الألفاظ العامة ) الجمع المعرف باللام ، إذا لم يكن معهوداً ، لأنّ المعرف ليس هو الماهيّة في الجميع ، ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية ، فتعيَّن الكل » (١).
قلت : وهذا البرهان جارٍ في المطلق أيضاً. فإنّ حمل المطلق على بعض أفراده دون بعض ترجيح بلا مرجّح ، لعدم الأولوية ، فلابدّ من حمله على الكلّ.
وقال أيضاً :
« إعلم أنّ لام التعريف إمّا للعهد الخارجي أو للذهني وإمّا لاستغراق الجنس وإمّا لتعريف الطبيعة. لكن العهد هو الأصل ثم الاستغراق ثم تعريف
__________________
(١) التوضيح في حلّ غوامض التنقيح. فصل في ألفاظ العام ، من الباب الأول ، من الركن الأول من القسم الأول.
الطبيعة ، لأن اللفظ الذي يدخل عليه اللام دال على الماهيّة بدون اللام ، فحمل اللام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على تعريف الطبيعة. والفائدة الجديدة إمّا تعريف العهد أو استغراق الجنس ، وتعريف العهد أولى من تعريف الاستغراق ، لأنه إذا ذكر بعض أفراد الجنس خارجاً أو ذهناً فحمل اللام على ذلك البعض المذكور أولى من حمله على جميع الأفراد ، لأن البعض متيقَّن والكل محتمل.
فإذا علم ذلك ، ففي الجمع المحلّى باللام لا يمكن حمله بطريق الحقيقة على تعريف الماهية ، لأن الجمع وضع لأفراد الماهية لا للماهية من حيث هي ، لكن يحمل عليها بطريق المجاز على ما يأتي في هذه الصفحة ، ولا يمكن حمله على العهد إذا لم يكن عهد ، فقوله : ولا بعض الأفراد لعدم الأولوية ، إشارة إلى هذا ، فتعيّن الإستغراق ».
فقد نصَّ على أنه « لا يمكن حمله على العهد إذا لم يكن عهد ». وأنه لا يمكن حمله على بعض الأفراد ، لعدم الأولوية : « فتعيَّن الاستغراق ».
ونفس هذا البرهان جارٍ في المطلق ، « فتعيَّن الإستغراق ».
وقال التفتازاني :
« واستدلَّ على مذهب التوقف تارةً ببيان أن مثل هذه الألفاظ التي ادعي عمومها مجمل ، وأخرى ببيان أنه مشترك. أمّا الأول : فلأنَّ أعداد الجمع مختلفة من غير أولوية البعض ، ولأنه يؤكَّد بكل وأجمعين مما يفيد بيان الشمول والإستغراق ، فلو كان للإستغراق لما احتيج إليه ، فهو للبعض وليس بمعلوم فيكون مجملاً ». فقال بعد ذكر الوجه الثاني :
« والجواب عن الأول : إنّه يحمل على الكل ، احترازاً عن ترجيح البعض بلا مرجّح » (١).
__________________
(١) التلويح في شرح التوضيح ، فصل في حكم العام ، من التقسيم الأول من الباب الأول من الركن الأول من القسم الأول.
وإذنْ ، تم إثبات العموم لصيغ العموم بهذا البرهان ثمَّ إثبات العموم للمطلق بنفس هذا البرهان ، أعني بطلان الترجيح بلا مرجح.
قوله :
والقرينة على العهد موجودة هنا ، وهو قوله : أتخلّفني في النّساء والصبيان.
ردّ دعوى أنّ « أتخلّفني ... » قرينة العهد
أقول :
إنّ هذا الكلام مخدوش بوجوه :
١ ـ هذا عين مدّعى النواصب
قد تقدّم قريباً نقل ( الدهلوي ) عن النواصب دعوى قصر دلالة هذا الحديث على الخلافة الخاصّة ، وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم استخلف أمير المؤمنين عليهالسلام في أهله وعياله فقط ... نَقل هذا عنهم واستقبحه ، وأحال جوابه إلى كتب أصحابه من أهل السنّة ... لكنّ هذا الّذي ادّعاه هنا رجوع إلى مقالة النواصب وتصديق لها ... لأن حاصله يطابق تلك المقالة حذو القدّة بالقذة ، وبيان ذلك :
إنّ ( الدهلوي ) يدّعي أنّ المراد من « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » هو المنزلة المعهودة ، ثم فسّر المنزلة المعهودة بالخلافة في النساء والصبيان ، وهذا ينتهي إلى قصر الخلافة في الأهل والعيال ، وهو مزعوم النّواصب ...
وإنّ ما أورده ( الدهلوي ) في الحاشية عن ابن حزم تأييداً لهذا الذي ذكره
في المتن دليل آخر على موافقة ( الدهلوي ) للنواصب ، وأنّه بصدد تأييد مرامهم وتقوية مزاعمهم ، وهذه عبارة ابن حزم على ما في الحاشية :
« هذا لا يوجب استحقاق الخلافة فضلاً عن تفويضها إليه ، لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى ، وإنما ولي الأمر بعد موسى يوشع بن نون فتى موسى عليهالسلام ، وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهالسلام ، كما ولي الأمر بعد نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة ، وإذا لم يكن علي رضياللهعنه نبيّاً كما كان هارون نبيّاً ، ولم يكن هارون خليفةً بعد موسى على بني إسرائيل ، فقد صحّ أن كونه رضياللهعنه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة ».
فلماذا أورد ( الدهلوي ) هذا الكلام الباطل ، والمناقض لما صرّح به نفسه في المتن ، من دلالة هذا الحديث الشريف على استحقاق أمير المؤمنين عليهالسلام للخلافة؟! أليس تأييداً لدعوى النواصب وابن حزم منهم كما ذكروا بترجمته؟
كما أنه يناقض كلامه هنا في المتن أيضاً ، لأنّه يذعن بالدلالة على الخلافة ، لكن يحصرها في الأهل والعيال ، وابن حزم ـ في هذا الكلام ـ ينكر أصل الدلالة على الخلافة كما هو مزعوم النواصب ...
فلماذا هذا التناقض؟
٢ ـ جملة « أتخلفني ... » غير موجودة في كثير من ألفاظ الحديث
ثم إن جملة : « أتخلفني في النساء والصبيان » غير موجودة في كثير من ألفاظ حديث المنزلة ، وحتى أنها غير موجودة في رواية البخاري في كتاب المناقب ، وكذا فيما أخرجه مسلم أوّلاً عن عامر بن سعد عن أبيه ، وما أخرجه
في الآخر عن إبراهيم بن سعد عن أبيه ...
فالإستدلال بالحديث العاري عن هذه الفقرة تام ، ولا وجه لإلزام الإمامية بقبول اللفظ الواجد لها ، كي يدّعى كون الجملة قرينة على العهد ، ويبطل بذلك عموم المنزلة ...
٣ ـ هذه الجملة استفهاميّة ولا وجه لجعلها قرينة
على أن هذه الجملة لا تصلح لأن تكون قرينةً على العهد ـ حتى لو كانت في جميع الألفاظ ـ ، كي تكون الخلافة خاصّة لا عامّة ، لبداهة كون الجملة استفهامية ، والإستفهام لا يستدعي الوقوع والتحقّق ، فيجوز أنّ الإمام عليهالسلام إنّما قال هذا الكلام طلباً لظهور بطلان زعم المنافقين وإثبات كذب المرجفين ... على لسان النبيّ الأمين وخاتم النبيّين صلىاللهعليهوآلهوسلم ... فقال له : أتخلفني في النساء والصبيان؟ فأجابه صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : ... أنت مني بمنزلة هارون من موسى ...
وهذا الجواب من النبي ـ بقطع النظر عن إثباته سائر المنازل ـ يثبت منزلة الخلافة الهارونية لمولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ... وبه اعترف ( الدهلوي ) أيضاً كما يدل عليه قوله : « أي كما أنّ هارون كان خليفة موسى عند توجّهه إلى الطور ، كذلك الأمير كان خليفة الرسول عند توجّهه إلى غزوة تبوك ».
ولما كان من المعلوم أنّ خلافة هارون لم تكن في الأهل والعيال فقط ، كذلك حال خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام ... فهو يقول له : إني ما استخلفتك في الأهل والعيال فحسب ، ولم أتركك في المدينة استثقالاً ـ كما زعم المنافقون ـ بل أنت مني بمنزلة هارون ، ومن منازله كونه خليفة عن موسى على جميع المتخلّفين.
وبهذا البيان يكون سوق كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لدفع توهّم تخصيص الإستخلاف بالأهل والعيال ، ولإظهار مزيد الشرف ورفعة المقام للأمير عليهالسلام.
وإذْ لم تكن هذه الجملة دالةً على استخلافه في النساء والصبيان أصلاً ، فكيف تكون دالّةً على سلب خلافته بالنسبة إلى من عدا النساء والصبيان؟ فإن هذا السلب إنْ استفيد فإنّما يستفاد من المفهوم ، وثبوت المفهوم فرع ثبوت المنطوق ، والإستفهام لا يدل على ثبوت المنطوق ، فكيف يدل على ثبوت المفهوم؟
٤ ـ خصوصية السؤال لا تستلزم خصوصية الجواب
وعلى فرض إفادة جملة : « أتخلّفني في النساء والصّبيان » اختصاص خلافته عليهالسلام بالنسبة إلى النساء والصّبيان ، فإنّه لا ينفع النواصب وأتباعهم ، لأنّ خصوصية السؤال لا تستلزم تخصيص الجواب ، فلو قال زيد لبكر : « أتملّكني دارك؟ » فأجابه : « ملّكتك ما أملكه » كان هذا الجواب عاماً ، ولا يخصّصه السؤال الخاص بالدار.
٥ ـ جواب التفتازاني عن هذه الدعوى
وأوضح التفتازاني بطلان هذا التوهّم الذي وقع فيه ( الدهلوي ) حيث قال :
« فأمّا الجواب بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا خرج إلى غزوة تبوك استخلف علياً رضياللهعنه على المدينة ، فأكثر أهل النفاق في ذلك ، فقال علي رضياللهعنه : يا رسول الله أتتركني مع الخوالف؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبي بعدي. وهذا لا يدل على خلافته بعده ، كابن ام مكتوم رضي الله تعالى عنه استخلفه على المدينة في
كثير من غزواته.
فربما يدفع : بأنَّ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب » (١).
إذاً ، لو سلّمنا ما زعمه ( الدهلوي ) استناداً إلى هذه الجملة ، فإنها غير موجبة لتخصيص الحديث الشريف وإرادة العهد منه.
ثم إنّ من الهفوات الشنيعة : زعم ( الدهلوي ) صدور جملة : « أتخلفني ... » من أمير المؤمنين عليهالسلام ، اعتراضاً منه على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم استخلافه إيّاه في المدينة ... وكأنه يقصد من هذا أنْ يقلّل من شناعة قول عمر عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ والعياذ بالله ـ : « إنّ النبي ليهجر » ...
جاء ذلك في باب المطاعن من ( التحفة ) في الجواب عن المطعن الأول من مطاعن عمر المتضمن لقصّة القرطاس ...
ولكنّه زعم فاسد وتوهّم باطل ، وكيف يقاس الكلام الصادر ـ على تقدير صدوره ـ لإثبات كذب المرجفين ، بمثل قولة عمر المذكورة ، ثم يستنتج من ذلك أن كلام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن وحياً يوحى؟!
٦ ـ ما ذكره ابن تيمية في سبب الحديث
هذا ، وفي كلام ابن تيميّة المذكور سابقاً : أن السّبب في قول أمير المؤمنين عليهالسلام : « أتخلّفني في النساء والصبيان » هو توهّم وهن استخلاف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إيّاه ونقص درجته ، فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى » دفعاً لهذا التوهّم.
وعلى هذا ، كيف تجعل هذه الجملة قرينةً على إرادة العهد في جواب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عنها بقوله : أنت منّي ...
__________________
(١) شرح المقاصد ٥ / ٢٧٥.