نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٤

أقول :

فهذا هو الحديث ، وهؤلاء المخرجون له ...

فمن المناسب الآن أنْ نعرف معنى أولوية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالناس في القرآن الكريم والسنّة النبويّة ، على ضوء كلمات كبار المحدّثين والمفسّرين الذين عليهم المعوَّل عندهم في فهم معاني الآيات والروايات ، ليظهر معنى كون علي عليه‌السلام أولى الناس بعده صلّى الله عليه وسلّم ، فلا يبقى مجال لمكابرة معاند أو تشكيك مشكّك.

فاستمع لما يلي :

٣٢١

معنى أولويّة النبيّ بالمؤمنين

كتاباً وسنّةً

إنّ قوله عليه‌السلام : « أولى الناس بكم بعدي » معناه : الأولى بالتصرّف في أُموركم ، قطعاً ، لأنّ الكلمة هذه مقتبسة من قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (١) ، ومن المقطوع به أن المراد من هذه الآية المباركة أولويّة النبيّ بالتصرّف في أُمور المسلمين ... وهذا ما يصرّح به وينص عليه أئمة التفسير :

كلمات المفسّرين في معنى « النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ »

* قال الواحدي : « قوله : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي : إذا حكم عليهم بشيء نفذ حكمه ووجبت طاعته عليهم. قال ابن عباس : إذا دعاهم النبيّ إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء ، كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم » (٢).

* وقال البغوي : « قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يعني : من بعضهم ببعض ، في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم. وقال ابن عباس وعطاء : يعني : إذا دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى

__________________

(١) التفسير الوسيط ٣ / ٤٥٩.

٣٢٢

شيء كانت طاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعتهم أنفسهم. قال ابن زيد : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فيما قضى قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه ...

أخبرنا عبدالواحد المليحي ... عن أبي هريرة : إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ما من مؤمنٍ إلاّوأنا أولى به في الدنيا والآخرة ، إقرأوا إنْ شئتم : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فأيّما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه » (١).

* وقال البيضاوي : « ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) في الامور كلّها ، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلاّبما فيه صلاحهم ونجاحهم ، بخلاف النفس ، فلذلك أطلق ، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وأمره أنفذ عليهم من أمرها ، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها ... » (٢).

أقول :

واعلم أنّ هؤلاء الثلاثة ـ الواحدي والبغوي والبيضاوي ـ الذين استندنا إلى كلماتهم في الردّ على هفوات ( الدهلوي ) ، قد نص والده في كتاب ( إزالة الخفاء ) على أنّهم كبار المفسرين ، الذين فسّروا القرآن العظيم ، وشرحوا غرائبه ، وبيّنوا معانيه ، وذكروا أسباب نزول آياته ، وأنّ هؤلاء قد حازوا قصب السبق على أقرانهم ، وأصبحوا القدوة للمسلمين ، وما زالت كلمات الثناء عليهم

__________________

(١) معالم التنزيل ٤ / ٤٣٣.

(٢) تفسير البيضاوي : ٥٥٢.

٣٢٣

متواترة إلى يوم الدين.

فبكلمات هؤلاء الذين وصفهم شاه ولي الله الدهلوي بهذه الألقاب فنّدنا ـ ولله الحمد ـ مزاعم ( الدهلوي ) ورددنا أبا طيلة.

* الزمخشري : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ) في كلّ شيء من امور الدين والدنيا و ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) ولهذا أطلق ولم يقيد ، فيجب عليهم أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقّه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأنْ يبذلوها دونه ويجعلونها فداءه إذا أعضل خطب ووقاءه إذا لفحت حرب ، وأن لا يتّبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ، ولا ما تصرفهم عنه ، ويتّبعوا كلّما دعاهم إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصرفهم عنه ... » (١).

* وقال أبو العبّاس الخويي (٢) ما حاصله : إن قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يفيد أولوية النبي بالتصرف ، فلو تعلّقت إرادته حرمة شيء على الامة ومنعها منه نفذت إرادته وكانت الحكمة على طبقها ... وهذا عين الأولويّة بالتصرّف (٣).

* وقال النسفي : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي : أحق بهم في كلّ شيء من امور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، فعليهم أن يبذلوا نفسه دونه ويجعلوها فدائه. أو : هو أولى بهم ، أي : أرأف بهم وأعطف

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٥١.

(٢) أحمد بن الخليل المتوفى سنة ٦٣٧ أو ٦٩٣ ، فقيه ، اصولي ، مفسّر ، متكلّم ، أديب. له مصنفات. السبكي ٥ / ٨ ، مرآة الجنان ٤ / ٢٢٢ وغيرهما.

٣٢٤

عليهم وأنفع لهم » (١).

* وقال النيسابوري : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) والمعقول فيه أنّه رأس الناس ورئيسهم ، فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم ... ويعلم من إطلاق الآية أنّه أولى بهم من أنفسهم في كلّ شيء من امور الدنيا والدين ... » (٢).

* وقال جلال الدين المحلّي : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ».

* وقال الخطيب الشربيني بمثل ما تقدّم ، وأورد حديث أبي هريرة الآتي أيضاً ، ممّا يظهر منه دلالته على الأولوية وإلاّ لَما أورده ، ثم إنّه علّل أولويّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتصرّف بقوله : « وإنّما كان صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من أنفسهم لأنّه لا يدعوهم إلاّ إلى العقل والحكمة » (٣).

أقول :

هذا ، وإنّ ما جاء في كلام بعض المفسّرين للآية بعد التفسير للأولويّة بـ « الأولويّة بالتصرّف في الامور » من احتمال إرادة أنّه : « أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم » لا يضر ، لأنّ المعنى الأوّل مذكور بصيغة الجزم وهذا بعنوان الإحتمال. ولأنّ جواب السؤال المقدّر في بيان النيسابوري إنّما يتعلّق بالمعنى الأوّل. ولأنّ المعنى الأوّل معلّل بإطلاق الآية بخلاف الثاني.

__________________

(١) تفسير النسفي ـ على هامش الخازن ٣ / ٤٥١.

(٢) تفسير النيسابوري ـ على هامش الطبري ١٢ / ٨٤.

(٣) السراج المنير في تفسير القرآن ٣ / ٢٢١.

٣٢٥

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ أكثرهم لم يذكروا إلاّ المعنى الأوّل.

كما أنّ ظاهر كلام السراج المنير ـ كالنيسابوري والخوئي ـ أنّ فرض نزول الآية بشأن قصّة التبنّي لا ينافي حملها على الأولويّة بالتصرّف ، بل هي على هذا التقدير جواب للسؤال المقدّر ، ومناسبتها مع تلك القصّة ظاهرة.

كلمات علماء الحديث

في معنى قوله : « أنا أولى بالمؤمنين » ونحوه

ونحوه فإنّ نفس المعنى الذي ذكره المفسّرون بشرح قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... ) وهو : « الأولويّة بالتصرّف » قاله علماء الفقه والحديث بشرح الحديث عن أبي هريرة قال صلّى الله عليه وسلّم : « أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله عزّ وجلّ ، فأيّكم ما ترك ديناً أو ضيعةً فادعوني فأنا وليّه ، وأيّكم ما ترك مالاً فليورث عصبته من كان ».

* فقال أبو زرعة أحمد بن عبدالرحيم العراقي (١) بشرحه باللفظ المذكور :

« فيه فوائد : الأولى : أخرجه مسلم من هذا الوجه ، عن محمّد بن رافع عن عبدالرزّاق.

وأخرجه الأئمة الستّة خلا أبا داود من طريق الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان يؤتى بالرجل

__________________

(١) المتوفى سنة ٨٢٦. حافظ ، محدّث ، فقيه ، اصولي ، مفسّر. الضوء اللامع ١ / ٣٣٦ ، حسن المحاضرة ١ / ٣٦٣ ، طبقات المفسرين ١ / ٥٠.

٣٢٦

المتوفى ، عليه الدين ، فيسأل : هل ترك لدينه فضلاً؟ فإنْ حدث أنّه ترك لدينه وفاءً وإلاّ قال للمسلمين : صلّوا على صاحبكم ، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفّي من المؤمنين فترك ديناً فعليّ قضاؤه ، ومن ترك مالاً فلورثته. هذا لفظ البخاري وقال الباقون : قضاءً بدل فضلاً ، وكذا هو عند بعض رواة البخاري.

وأخرجه الشيخان وأبو داود من رواية أبي حازم ، عن أبي هريرة ، بلفظ : من ترك مالاً فلورثته ومن ترك كلأً فإلينا ، وفي لفظ مسلم : وليته.

وأخرج البخاري ومسلم والنسائي من رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة بلفظ : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن مات وترك مالاً فماله لمواليه العصبة ، ومن ترك كلأً أو ضياعاً فأنا وليّه ...

وأخرجه البخاري من رواية عبدالرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة بلفظ : ما من مؤمن إلاّوأنا أولى به في الدنيا والآخرة ، إقرأوا ما شئتم ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فأيّما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.

وأخرجه مسلم من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة بلفظ : والذي نفس محمّد بيده ، إنْ على الأرض من مؤمن إلاّوأنا أولى الناس به ، فأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه ، وأيّكم ما ترك مالاً فإلى العصبة من كان.

٣٢٧

الثانية :

قوله : أنا أولى الناس بالمؤمنين.

إنّما قيّد ذلك بالناس ، لأنّ الله تعالى أولى بهم منه.

وقوله : في كتاب الله عزّ وجلّ.

إشارة إلى قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وقد صرّح بذلك في رواية البخاري ، من طريق عبدالرحمن بن أبي عمرة ، كما تقدم.

فإن قلت : الذي في الآية الكريمة أنه أولى بهم من أنفسهم ، ودلّ الحديث على أنّه أولى بهم من سائر الناس ، ففيه زيادة.

قلت : إذا كان أولى به من أنفسهم ، فهو أولى بهم من بقيّة الناس من طريق الأولى ، لأنّ الإنسان أولى بنفسه من غيره ، فاذا تقدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم على النفس ، فتقدّمه في ذلك على الغير من طريق الأولى.

وحكى ابن عطيّة في تفسيره عن بعض العلماء العارفين أنه قال : هو أولى بهم من أنفسهم ، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطيّة : ويؤيّد هذا قوله عليه الصّلاة والسلام : أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها تقحّم الفراش.

الثالثة :

يترتب على كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من أنفسهم : أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإن شق ذلك عليهم ، وأنْ يحبّوه أكثر من محبّتهم لأنفسهم ، ومن هنا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : لا يؤمن أحدكم

٣٢٨

حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. وفي روايةٍ اخرى : من أهله وماله والناس أجمعين ، وهو في الصحيحين من حديث أنس.

ولمّا قال له عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ لأنت أحب إليّ من كلّ شيء إلاّ نفسي.

قال له : لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك.

فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : الآن يا عمر.

رواه البخاري في صحيحه.

قال الخطّابي : لم يرد به حبّ الطبع ، بل أراد حبّ الإختيار ، لأنّ حبّ الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه. قال : فمعناه : لا تصدق في حبّي حتى تفني في طاعتي نفسك ، وتؤثر رضاي على هواك وإنْ كان فيه هلاكك.

الرابعة :

إستنبط أصحابنا الشافعيّة من هذه الآية الكريمة : أن له عليه الصلاة والسلام أنْ يأخذ الطّعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصلاة والسلام إليهما ، وعلى صاحبهما البذل ، ويفدي مهجته بمهجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأنّه لو قصده عليه الصلاة والسلام ظالم لزم من حضره أنْ يبذل نفسه دونه. وهو استنباط واضح.

ولم يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند نزول هذه الآية ماله في ذلك من الحظ ، وإنّما ذكر ما هو عليه فقال : وأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فادعوني فأنا

٣٢٩

وليّه ، وترك حظّه فقال : وأيّكم ما ترك مالاً فليورّث عصبته من كان » (١).

* وقال البدر العيني (٢) بشرح قوله : « وأنا أولى به في الدنيا والآخرة » :

يعني : أحق وأولى بالمؤمنين في كلّ شيء من امور الدنيا والآخرة من أنفسهم ، ولهذا أطلق ولم يعيّن ، فيجب عليهم امتثال أوامره واجتناب نواهيه » (٣).

فمن هذا الكلام يظهر أن الآية المباركة ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ... ) دالة على أولويّته صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين من أنفسهم في جميع شؤونهم ، وأنّ عليهم الإمتثال المطلق ... فما زعمه ( الدهلوي ) من عدم العلاقة بين الآية والأولوية بالتصرف بمثابة الردّ الصريح على الله والرسول.

* وقال الشهاب القسطلاني (٤) بتفسير الآية المباركة من كتاب التفسير : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الامور كلّها( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) من بعضهم ببعض ، في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم.

وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعة أنفسهم.

__________________

(١) شرح الأحكام ، كتاب الفرائض ، الحديث : ١.

(٢) محمود بن أحمد المتوفى سنة ٨٥٥ ، فقيه ، محدّث ، مؤرّخ ، أديب. الضوء اللامع ١٠ / ١٣١ ، حسن المحاضرة ١ / ٢٧٠ ، شذرات الذهب ٧ / ٢٨٧.

(٣) عمدة القاري ـ شرح صحيح البخاري ١٢ / ٢٣٥.

(٤) أحمد بن محمّد المصري ، المتوفى سنة ٩٢٣ ، فقيه ، محدّث ، مجوّد ، مؤرّخ. الضوء اللامع ٢ / ١٠٣ ، البدر الطالع ١ / ١٠٢ ، شذرات الذهب ٨ / ١٢١.

٣٣٠

وإنّما كان ذلك لأنّه لا يأمرهم ولا يرضى إلاّبما فيه صلاحهم ونجاحهم ، بخلاف النفس.

وقوله : ( النَّبِيُّ ... ) ثابت في رواية أبي ذر فقط ، وبه قال : حدّثني ـ بالإفراد ـ إبراهيم بن المنذر القرشي الحزامي قال : حدّثنا محمّد بن فليح ـ بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغراً ـ قال : حدّثنا أبي فليح بن سليمان الخزاعي ، عن هلال بن علي العامري المدني ـ وقد ينسب إلى جدّه اسامة ـ عن عبدالرحمن بن أبي عمرة ـ بفتح العين وسكون الميم ـ الأنصاري النجاري ـ بالجيم ، قيل : ولد في عهده صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن أبي حاتم : ليس له صحبة ـ عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال :

ما من مؤمن إلاّوأنا أولى الناس به ، أي : أحقّهم به في كلّ شيء من امور الدنيا والآخرة ـ وسقط لأبي ذر لفظ الناس ـ اقرأوا إن شئتم قوله عزّ وجلّ : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ).

استنبط من الآية أنه : لو قصده عليه‌السلام ظالم وجب على الحاضر من المؤمنين أنْ يبذل نفسه دونه » (١).

أقول :

وهذه العبارة ظاهرة في صحّة تفسير الآية بالأولوية بالتصرف مطلقاً من وجوه :

منها : قوله بتفسير الآية : « في الامور كلّها » ، حيث أتى بالجمع المحلّى

__________________

(١) إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٢٩٢.

٣٣١

باللام الدال على العموم ثم أكّده بكلمة « كلّها ».

ومنها : قوله : « في نفوذ حكه ووجوب طاعته » فإنّه ظاهر في الإطلاق ودال على الأولويّة التامّة.

ومنها : ما نقله عن ابن عباس وعطا ، فإنّه صريح في دلالة الآية على ما ذكرنا ، والمنكر مكابر.

ومنها : قول القسطلاني بعد ذلك معلّلاً كلام ابن عباس وعطا ...

ومنها : تفسيره الحديث بقوله : أيْ أحقّهم في كلّ شيء من امور الدنيا والآخرة.

* وقال القسطلاني بشرح الحديث في كتاب الإستقراض :

« عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ : إنّ صلّى الله عليه وسلّم قال : ما من مؤمن إلاّوأنا ـ بالواو ، ولأبي الوقت : إلاّ أنا ـ أولى ـ أحق ـ الناس به ـ في كلّ شيء من امور الدنيا والآخرة ـ إقرأوا إنْ شئتم قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ).

قال بعض الكبراء : إنّما كان عليه الصّلاة والسّلام أولى بهم من أنفسهم ، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطيّة : ويؤيّده قوله عليه الصلاة والسلام : أنا آخذكم بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها.

ويترتب على كونه أولى بهم من أنفسهم : أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإنْ شقّ ذلك عليهم ، وأن يحبّوه أكثر من محبّتهم لأنفسهم ، ومن ثمّ قال عليه الصّلاة والسلام : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده. الحديث.

٣٣٢

واستنبط بعضهم من الآية : أن له عليه الصلاة والسلام أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصّلاة والسلام إليهما ، وعلى صاحبهما البذل ، ويفدي بمهجته نبيّه صلوات الله وسلامه عليه ، وأنه لو قصده عليه الصلاة والسلام ظالم وجب على من حضره أنْ يبذل نفسه دونه.

ولم يذكر عليه الصّلاة والسّلام ـ عند نزول هذه الآية ـ ماله في ذلك من الحظ ، وإنّما ذكر ما هو عليه فقال : فأيّما مؤمنٍ مات وترك مالاً ـ أي حقّاً ، وذكر المال خرج مخرج الغالب ، فإنّ الحقوق تورث كالمال ـ فليرثه عصبته من كانوا ـ عبّر بمن الموصولة ليعمّ أنواع العصبة. والذي عليه أكثر الفرضيّين أنهم ثلاثة أقسام : عصبة بنفسه ، وهو ممن له ولاء ، وكلّ ذكر نسيب يدلي إلى الميت بلا واسطة أو بتوسط محض الذكور ، وعصبة بغيره ، وهو كلّ ذات نصف معها ذكر يعصبها ، وعصبة مع غيره ، وهو اختٌ فأكثر لغير ام معها بنت أو بنت ابن فأكثر ـ ومن ترك ديناً أو ضياعاً ـ بفتح الضاد المعجمة ، مصدر اطلق على الاسم الفاعل للمبالغة ، كالعدل والصوم ، وجوّز ابن الأثير الكسر على أنها جمع ضائع كجياع في جمع جائع ، وأنكره الخطّابي ، أي : من ترك عيالاً محتاجين ـ فليأتني فأنا مولاه ـ أي : وليّه ، أتولّى اموره ، فإن ترك ديناً وفيته عنه ، أو عيالاً فأنا كافلهم ، وإليَّ ملجؤهم ومأواهم » (١).

* وقال القسطلاني بشرح الحديث في كتاب الفرائض :

« حدّثنا عبدان ـ هو : عبدالله بن عثمان بن جبلّة المروزي ـ قال : أخبرنا ... عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إنّه

__________________

(١) إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري ٤ / ٢٢١.

٣٣٣

قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. أي : أحق بهم في كلّ شيء من امور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ... » (١).

* وقال المنّاوي : « أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ في كلّ شيء ، لأنّي الخليفة الأكبر الممّد لكلّ موجود ، فحكمي عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم. وذا قاله لمّا نزلت الآية ـ فمن توفّي ـ بالبناء للمجهول أو مات ـ من المؤمنين فترك عَليه ـ ديناً ـ بفتح الدال ـ فعليّ ـ قضاؤه ممّا يفي الله به من غنيمةٍ وصدقة ، وذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين ـ ومن ترك مالاً ـ يعني حقّاً فذكر المال غالبي ـ فهو لورثته. وفي رواية البخاري : فليرثه عصبته من كانوا. فردّ على الورثة المنافع وتحمل المضار والتبعات. حم ق ن ة. عن أبي هريرة » (٢).

* وقال العزيزي : « أنا أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه ـ كما قال الله تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ). قال البيضاوي : أي في الامور كلّها ، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى عنهم إلاّبما فيه صلاحهم ، بخلاف النفس ، فيجب أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم. فمن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم : أنّه كان إذا احتاج إلى طعامٍ أو غيره وجب على صاحبه المحتاج إليه بذله له صلّى الله عليه وسلّم ، وجاز له صلّى الله عليه وسلّم أخذه ، وهذا وإنْ كان جائزاً ، لم يقع ـ من ترك مالاً فلأهله ـ أي : لورثته ـ ومن ترك ديناً أو ضياعاً ـ بفتح الضاد المعجمة ، أي : عيالاً وأطفالاً ذوي ضياع ، فأوقع المصدر موقع الاسم ـ فإليّ ـ أي ـ

__________________

(١) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٩ / ٤٢٦.

(٢) التيسير في شرح الجامع الصغير ١ / ١٨٤.

٣٣٤

فأمر كفاية عياله إليَّ ، وفاء دينه عليّ. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يصلّي على من مات وعليه دين ولم يخلّف له وفاءً ، لئلاّ يتساهل الناس في الاستدانة ويهملوا الوفاء ، فزجرهم عن ذلك بترك الصلاة عليهم ، ثم نسخ بما ذكر وصار واجباً عليه ، صلّى الله عليه وسلّم.

واختلف أصحابنا هل هو من الخصائص أم لا؟ فقال بعضهم : كان من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم ، ولا يلزم الإمام أنْ يقضيه من بيت المال. وقال بعضهم : ليس من خصائصه ، بل يلزم كلّ إمام أنْ يقضي من بيت المال دين من مات وعليه دين إذا لم يخلّف وفاءً وكان في بيت المال سعة ولم يكن هناك أهم منه. واعتمد الرملي الأوّل وفاقاً لابن الحري.

وأنا ولي المؤمنين. أي : متولّي امورهم. فكان صلّى الله عليه وسلّم يباح له أنْ يزوّج ما شاء من النساء ممّن يشاء من غيره ومن نفسه ، وإنْ لم يأذن كلّ من الولي والمرأة ، وأنْ يتولّى الطرفين بلا إذن.

حم ق ن ة » (١).

* وأورد السيوطي الأحاديث الدالّة على أولويته بالتصرف بذيل الآية المباركة قال : « قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) :

أخرج البخاري ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه : عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : ما من مؤمنٍ إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، إقرؤا إنْ شئتم ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ). فأيّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، فإنْ ترك ديناً أو

__________________

(١) السراج المنير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢١٤.

٣٣٥

ضياعاً فليأتني فأنا مولاه.

وأخرج الطيالسي ، وابن مردويه : عن أبي هريرة قال : كان المؤمن إذا توفّي في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتي به النبي سأل : هل عليه دين؟ فإنْ قالوا : نعم ، قال : هل ترك وفاءً لدينه؟ فإنْ قالوا : نعم ، صلّى عليه ، وإنْ قالوا : لا قال : صلّوا على صاحبكم. فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن ترك ديناً فإليَّ ومن ترك مالاً فللوارث.

وأخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن مردويه : عن جابر ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان يقول : أنا أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه ، فأيّما رجل مات وترك ديناً فإليَّ ، ومن ترك مالاً فهو لورثته.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي : عن بريدة ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : غزوت مع علي اليمن ، فرأيت منه جفوة ، فلمّا قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت علياً فتنقّصته ، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيّر وقال : يا بريدة ، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه فعلي مولاه » (١).

ومن هنا يظهر لك : إنّ جملة « ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم » في حديث : « من كنت مولاه فعلي مولاه » هي بالمعنى المراد من قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وإلاّ لما أورد السيوطي هذا الحديث في هذا المقام.

وعلى الجملة ، فإنّ الآية المباركة بمعنى « الأولوية بالتصرف » في كتب

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٦ / ٥٦٦ ـ ٥٦٧.

٣٣٦

الفقه والحديث والتفسير ، فكيف ينفي ( الدهلوي ) ذلك ويقول أنْ لا مناسبة بين هذا المعنى والآية المباركة؟!

وليت ( الدهلوي ) تبع في المقام شيخه الكابلي ، الذي لم يمنع من حمل « ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم » على : الأولوية بالتصرف :

* قال الكابلي في ( الصواقع ) في الجواب عن حديث الغدير :

إنّ المراد بالمولى : المحبّ والصديق. وأما فاتحته فلا تدل على أنَّ المراد به الإمام ، لأنّه إنّما صدّره بها ليكون ما يلقى إلى السامعين أثبت في قلوبهم » (١).

بل تظهر غرابة إنكار ( الدهلوي ) ذلك من كلام ابن تيمية الشهير بشدّة التعصّب ضد أهل البيت :

* قال ابن تيمية : « والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقل : من كنت وإليه فعلي وإليه وإنّما اللفظ : من كنت مولاه فعلي مولاه. وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل ، فإنّ الولاية تثبت من الطرفين ، فإنّ المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم ، وأمّا كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلاّمن طرفه صلّى الله عليه وسلّم ، وكونه أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه من خصائص نبوّته. ولو قدّر أنّه نصّ على خليفةٍ بعده لم يكن ذلك موجباً أنْ يكون أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه ، كما أنّه لا تكون أزواجه امّهاتهم ، ولو اريد هذا المعنى لقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد ، ومعناه باطل » (٢).

فإنّ هذا الكلام واضح الدلالة على كون أولويته صلّى الله عليه وسلّم

__________________

(١) الصواقع الموبقة ـ مخطوط.

(٢) منهاج السنّة ٧ / ٣٢٤ الطبعة الحديثة.

٣٣٧

ـ المستفادة من الآية الكريمة ـ من الخصائص النبويّة ، إذ لو كان المراد من « الأولويّة » هو « الأحبيّة » لَما كانت من الخصائص ، لأنّهم يثبتون « الأحبيّة » للخلفاء فمن دونهم ولو بالترتيب.

إذن ، ليست « الأولويّة » بمعنى « الأحبيّة » بل هي عند ابن تيمية مقام عظيم ومنزلة رفيعة يختصّ بها النبيّ الكريم ، والسّبب في ذلك ظاهرٌ للمتأمّل ، إذْ الأولويّة بالمؤمنين من أنفسهم تقتضي العصمة ، فلا تنال غير المعصوم ، فلهذا كانت مختصة بالنبي عند ابن تيميّة.

إلاّ أنّ العصمة لمّا ثبتت للأئمّة الأطهار بالأدلّة من الكتاب والسنّة ـ كما فصّل في كتب أصحابنا ـ فهذه المرتبة ثابتة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل إنّ كلام ابن تيميّة ـ في الحقيقة ـ دليل عصمة الإمام عليه‌السلام ، لِما تقدّم ويأتي من الوجوه الدالّة على أولويّته من كلّ مؤمنٍ بنفسه ، فتثبت عصمته كذلك بلا ريب.

* وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي (١) في ( اللمعات في شرح المشكاة ) :

« قوله : فقال بعد أنْ جمع الصحابة : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ وفي بعض الروايات : كرّره للمسلمين ، وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف ، يريد به قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي : في الامور كلّها ، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلاّبما فيه صلاحهم ونجاحهم ، بخلاف النفس ، فلذلك أطلق ، فيجب عليهم أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم ،

__________________

(١) المتوفى سنة ١٠٥٢ ، محدّث الهند الكبير ، صاحب المؤلّفات النافعة كالشرح على مشكاة المصابيح ، ترجمته في : أبجد العلوم ، سبحة المرجان ، نزهة الخواطر ، وغيرها.

٣٣٨

وأمره أنفذ عليهم من أمرها ، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها. روي : أنّه صلّى الله عليه وسلّم أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج ، فقال ناس : نستأذن آباءنا وامّهاتنا. فنزلت. وقرئ : وهو أب لهم ، أي : في الدين ، فإنّ كلّ نبي أبٌ لُامّته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبديّة ، ولذلك صار المؤمنون إخوة. كذا في تفسير البيضاوي.

وقوله : إني أولى بكلّ مؤمنٍ من نفسه ، تأكيد وتقرير ، يفيد كونه أولى بكل واحدٍ من المؤمنين ، كما أنّ الأوّل يفيد بالنسبة إليهم جميعاً ».

أقول :

وتلخص على ضوء الكلمات المذكورة بشرح الكتاب والسنّة : أنّ المراد من الحديث : « هو أولى الناس بكم بعدي » أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع امور الدنيا والدين بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وأنّه يجب عليهم أنْ يكون أحبّ إليهم من أنفسهم ، وأمره أنفذ عليهم من أمرها ، كما هو الحال بالنسبة إلى أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه ، فهذا هو مقتضى التأمّل في الآية المباركة والحديث الصحيح من طرقهم ، ثم التأمّل في لفظ حديث الولاية.

ثمّ إنّ الوجه في الأولويّة هو أنّ النبي أو الوصي ، لا يأمر الناس ولا يرضى منهم إلاّبما فيه صلاحهم ونجاحهم ، بخلاف أنفسهم ...

٣٣٩

(٢٤)

فهم بريدة الإمامة من كلام النبي فلذا تخلَّف عن بيعة أبي بكر

ولقد فهم بريدة من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « لا تقع في رجلٍ إنه لأولى الناس بكم بعدي » أن الإمام من بعده هو علي عليه‌السلام ، فلذا كان بريدة من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر :

قال في ( روضة الصّفا ) ما حاصله معرّباً : « وذكر صاحب الغنية عن بعضهم أنه كان بيد بريدة بن الحصيب الأسلمي راية ، فدخل المدينة ونصبها على باب علي ، فلمّا علم عمر بن الخطاب بذلك خاطبه بقوله : قد بايع الناس كلّهم أبا بكر فلم تخالف؟ فقال بريدة : إنّا لا نبايع إلاّصاحب هذا البيت ، فاجتمع الأصحاب عنده وسألوه عمّا يدعوه إلى أنْ يقول مثل هذه الأقوال ، فذكر لهم قصّة ارسال النبي إيّاه وخالد بن الوليد مع علي بن أبي طالب في سرية إلى اليمن ، قال : فوالله لم يكن شيء في هذا السفر أبغض إليّ من قرب علي ، ولا شيء أحبّ إليَّ من فراقه ، فلمّا قدمنا على رسول الله قال : كيف وجدتم صاحبكم؟ فشكوته لما كنت أجده عليه في قلبي ، فتغيّر وجه رسول الله وقال : يا بريدة لا تقع في رجلٍ إنّه لأولى الناس بكم بعدي ».

وقد عرفت في قسم السّند صدور حديث الولاية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جواب بريدة لمّا شكى عليّاً عليه‌السلام.

فهذا الحديث دليل قطعي ـ عند بريدة أيضاً ـ على إمامة علي عليه‌السلام.

٣٤٠