نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٦

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٦

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٤

يكون من الحق الذي يجريه الله سبحانه على لسان المعاندين له ، ثمّ التوقّف عن قبول كلّ تصرفٍ منهم في ألفاظ السنّة النبويّة وأخبار الحقائق الراهنة ، وعن قبول كلّ رأيٍ منهم يتنافى ومداليل تلك الأحاديث والأخبار ... والله وليّ التوفيق.

هذا تمام الكلام على سند ( حديث الولاية ) ومتنه.

أمّا السند ، فقد عرفت أنه من الأحاديث المقطوع بصدورها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، لأنّه من الأحاديث المتفق عليها بين المسلمين. أما من أهل السنّة فهو في غير واحدٍ من سننهم ومسانيدهم وجوامعهم الحديثية المعتبرة ، وبأسانيد كثيرة جدّاً ، وكثير منها صحيح بلا ريب.

وأمّا المتن ، فقد عرفت أن من تصرّف فيه فقد ارتكب إثماً لا يغفر ، والحديث موجود بلفظه الصحيح الصادر عن النبي في المصادر ، ولا فائدة في تحريفه ، سواء كان من أصحاب الكتب أنفسهم أو من الناسخين أو غيرهم.

وعلى الجملة ، فلا ينفع المتعصّبين المناقشة في سند الحديث فضلاً عن تكذيبه ، ولا التلاعب في لفظه وتحريفه.

فلننظر في كلماتهم في دلالته ... وبالله التوفيق.

٢٦١
٢٦٢

دلالةُ

حديث الولاية

٢٦٣
٢٦٤

وفي مرحلة الدلالة ، فإنّ ( الدهلوي ) يناقش أوّلاً في دلالة لفظة « الولي » على « الأولوية بالتصّرف » وهي الإمامة ، لكونها من الألفاظ المشتركة. ثم إنّه يقول بعدم وجود قرينةٍ في الحديث لدلالته على الأولويّة بالتصرّف بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مباشرةً ، فليكنْ الحديث دالاًّ على إمامة أمير المؤمنين في المرتبة الرابعة وبعد عثمان.

فإليك كلماته ، والنظر فيها كلمةً كلمةً ...

ولربّما تعرّضنا في خلال البحث إلى كلمات غيره أيضاً ...

وبالله التوفيق.

٢٦٥

« الولي » بمعنى « الأولى بالتصرف »

قوله :

وأيضاً : فإنّ « الوليّ » من الألفاظ المشتركة ، فأيّ ضرورة لأنْ يكون المراد هو الأولى بالتصرف؟

أقول :

إنّها شبهة في مقابل الحق ، ذكرها تبعاً للكابلي ، لكنّها لا تضرّ بدلالة حديث الولاية على مطلوب أصحابنا الإماميّة ، لكونها مندفعة بوجوهٍ عديدةٍ ودلائل سديدة :

« ١ ـ ٤ »

كلمات وليّ الله في معنى ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ )

لقد استدلّ شاه وليّ الله الدّهلوي بقوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ... ) في مواضع من كتابه ( إزالة الخفا في سيرة الخلفا ) ، وفسّر لفظة « الولي » في الآية وترجمها بما معناه « المتصرّف في الأمر » و« المتولّي للأمر » فكلّ ما هو الوجه في ذلك ، هو الوجه في دلالة حديث

٢٦٦

الولاية على المعنى المذكور ... وهذه عباراته معرّبةً :

* قال بعد ذكر لوازم الخلافة الخاصة : « وإنّ الأصل في اعتبار هذه الأوصاف نكات ، أولاها : إن النفوس القدسيّة للأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مخلوقة في غاية الصفاء والرّفعة ، فكانوا ـ كما اقتضت الحكمة الإلهيّة ـ بتلك النفوس العالية الطاهرة مستوجبين لأنْ ينزل عليهم الوحي وتفوّض إليهم رياسة العالم. قال الله تعالى : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ).

ثمّ إنّ في الأُمة جماعةً لهم نفوس قريبة من نفوس الأنبياء في ذلك المعنى ، وهؤلاء في أصل الفطرة والخلقة خلفاء للأنبياء بين النّاس ، مثالهم مثال المرآة تنعكس فيها آثار الشّمس ، وليس كذلك التراب والخشب والحجر. فهذه الجماعة التي هي خلاصة الأُمة مستمدة من النفس القدسية النبوية بوجهٍ لم يتيسّر لغيرهم ...

فالخلافة الخاصة هي أنْ يكون هذا الشخص ـ الذي هو رئيس المسلمين في الظّاهر ـ في أعلى مراتب الصفاء وعلوّ الفطرة ، فتكون الرياسة الظاهريّة جنباً إلى جنب الرياسة الباطنيّة ، وهذه الجماعة البالغون مرتبة خلافة الأنبياء يسمّون في الشريعة بالصدّيقين والشهداء والصّالحين. وهذا المعنى يستفاد من الآيتين ، قال الله تعالى على لسان عباده ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ). وقال تارك وتعالى ( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ).

وقوله تعالى في موقع آخر : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ .... إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ... ) أيضاً إشارة إلى هذا المعنى ، يعنى : إنّ وليّ عوام

٢٦٧

المسلمين أفاضلهم ... وهذا ما ذكره عبدالله بن مسعود :

أخرج أبو عمرو في خطبة الإستيعاب عن ابن مسعود قال : إنّ الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمّد صلّى الله عليه وسلّم خير قلوب العباد فاصطفاه وبعثه برسالته ، ثمّ نظر في قلوب العباد بعد قلب محمّد صلّى الله عليه وسلّم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه صلّى الله عليه وسلّم ، يقاتلون عن دينه.

وقد روى البيهقي مثله إلاّ أنّه قال : فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه ، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح.

وكما تحقّق أولويّة هذه الجماعة في الخلافة ، فإنّ اجتهاد هؤلاء أولى وأحقّ من اجتهاد غيرهم.

وقد أشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صفات هؤلاء في كلماته في بيان مناقبهم في تلويحات هي أبلغ من التصريح ».

* وذكر ولي الله الدهلوي قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) وترجم « الولي » بـ « كار ساز وياري دهنده » أي : متولّي الأمر والناصر.

ومن الواضح الجلي أن الناصر المتولّي لُامور المسلمين هو الخليفة والإمام القاهر. فبأي وجهٍ حَمَل اللفظة في الآية على المعنى المذكور ، كان هو الوجه في حملها في حديث الولاية على ذاك المعنى.

* وذكر ولي الله في موضعٍ ثالث تلك الآية المباركة وقال : « أي : أيّها المسلمون ، لماذا تخافون من ارتداد العرب وجموعهم المجتمعة؟ فإنّ متولّي

٢٦٨

الأمر والناصر ليس إلاّ الله المنزّل لكم الوحي والمدبّر لُاموركم ...

وسبب نزول هذه الآية ومصداقها هو الصدّيق الأكبر ، ـ وإنْ كان لفظها عامّاً ، قال جابر بن عبدالله : نزلت في عبدالله بن سلام لمّا هجره قومه من اليهود. وأخرج البغوي عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أُنزلت في المؤمنين فقيل : أُنزلت في علي ، فقال : هو من المؤمنين ـ وليس كما يزعم الشيعة ويروون في القصة حديثاً ويجعلون ( وَهُمْ راكِعُونَ ) حالاً من ( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) ...

إنّ هذا الوعد لم ينجز على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، لعدم اجتماع جمعٍ لقتال أهل الردّة في حياته ، لعدم تحقّق الارتداد حينذاك ... كما لم يتحقّق ذلك بعد عهد الشيخين ... فيكون مصداق الآية هم الجنود المجنّدة للصدّيق الأكبر ـ رضي‌الله‌عنه ـ الذين خرجوا لمحاربة المرتدّين ، ودفعوهم بعون الله في أسرع حين وبأحسن الوجوه.

إن جمع الرجال ونصب القتال مع فرق المرتدّين أحد لوازم الخلافة ، لأنَّ الخلافة الراشدة رياسة الخلق في إقامة الدين وجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الله ...

وأيضاً : فقوله : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) ترغيب في تولّي الخليفة الراشد ، والصدّيق الأكبر مورد النص ودخوله تحت الآية مقطوع به ، وفيها إيماء إلى وجوب الإنقياد للخليفة الرّاشد ، وفيها دلالة على تحقق خلافة الصدّيق الأكبر ...

وقوله : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ). وإنْ كان عاماً لفظاً ، لكنّ مورد النص هو

٢٦٩

الصدّيق الأكبر ، ودخول مورد النص تحت العام قطعي ، فالصدّيق الأكبر ولي المسلمين ومتولّي أُمورهم ، وهذا معنى الخلافة الراشدة ... ».

ومجمل هذا الكلام : دلالة الآية المباركة على الإمامة والخلافة.

وبه تندفع هفوات ولده ( الدهلوي ) وخرافاته في منع حمل « الولاية » و« الولي » على الأولوية بالتصرّف والإمامة والرياسة العامّة.

وأمّا دعوى نزول الآية في حقّ أبي بكر ودلالتها على إمامته دون أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فيكذّبهما روايات أساطين أئمة القوم وأجلاّء محدّثيهم ومشاهير مفسّريهم (١).

* وذكر شاه وليّ الله في ( إزالة الخفا ) في المقدمة الاولى من مقدمات إثبات إمامة أبي بكر : أنّ بين الخلافة الخاصة والأفضلية ملازمةً. ثم ذكر وجوهاً عديدةً في بيان هذه الملازمة وتقريرها ، قال في الوجه الأخير : « وقد تقرّر بأنّ ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية بسياقها إشارة إلى أنّ ولاية المسلمين لا تجوز إلاّلقومٍ يكون ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) من صفاتهم ».

فهذا ما ذكره في معنى الآية المباركة ، فنعم الوفاق!

فوا عجباً من ( الدهلوي ) كيف لم يحتفل بنصّ أبيه؟ وكيف لم يعتن بقول

__________________

(١) روى نزل الآية المباركة في أمير المؤمنين عليه‌السلام لتصدّقه في الصلاة وهو راكع كثير من أئمة أهل السنّة في مختلف العلوم ، فراجع من كتبهم :

تفسير الطبري ٦ / ٢٨٨ ، تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٢٦ ، مجمع الزوائد ٧ / ١٧ ، أسباب النزول للواحدي : ١١٣ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٧١ ، جامع الاصول ٩ / ٤٧٨ ، الكشاف ١ / ٦٤٩ ، تفسير النسفي ١ / ٢٨٩ ، ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق ٢ / ٤٠٩ ، زاد المسير ٢ / ٣٨٣ ، فتح القدير ٢ / ٥٣ ، الصواعق المحرقة : ٢٤ ، أحكام القرآن للجصّاص ٤ / ١٠٢ ، الرياض النضرة ٢ / ٢٧٣.

٢٧٠

شيخه النّبيه؟ هذا الإمام النبيل الذي عند ( الدهلوي ) آية من آيات الله ولم يوجد له عندهم مثيل؟

(٥)

تسليم أبي شكور بدلالة الآية وحديث الغدير

وأبو شكور محمّد بن عبدالسعيد بن محمّد الكشي السالمي أيضاً يسلّم في كتاب ( التمهيد ) (١) بدلالة الآية ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ... ) وكذا حديث الغدير على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بمعنى إمامته ، فهو يعترف بهذا المعنى ولا ينبس فيه ببنت شفة ، فيضطرّ إلى تقييد إمامته عليه‌السلام بما بعد عثمان ... وهذه عبارته :

« وقالت الروافض : الإمامة منصوصة لعلي بن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ بدليل أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم جعله وصيّاً لنفسه ، وجعله خليفةً من بعده حيث قال : أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، ثمّ هارون عليه‌السلام كان خليفة موسى عليه‌السلام ، فكذلك علي رضي‌الله‌عنه.

والثاني : وهو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعله وليّاً للناس لمّا رجع من

__________________

(١) التمهيد في بيان التوحيد ـ لأبي شكور محمّد بن عبدالسيّد بن شعيب الكشّي السّالمي الحنفي ، أوله : الحمد لله ذي المن والآلاء ... الخ. وهو مختصر في اصول المعرفة والتوحيد ، ذكر فيه أنّ القول في العقل كذا ، وفي الروح كذا. إلى غير ذلك ، فأورد ما يجوز كشفه من علم الكلام » كشف الظنون ١ / ٤٨٤.

أقول : والكتاب مطبوع في كابل أفغانستان طبعةً منقوصةً محرّقةً.

٢٧١

مكة ونزل في غدير خم ، فأمر النبي أنْ يجمع رحال الإبل فجعلها كالمنبر وصعد عليها فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا : نعم فقال عليه‌السلام : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. والله جلّ جلاله يقول : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) الآية. نزلت في شأن علي رضي‌الله‌عنه.

دلّ أنّه كان أولى الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ».

فأجاب هذا الرجل عن هذا الاستدلال بقوله :

« وأمّا قوله : بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم جعله وليّاً. قلنا : أراد به في وقته ، يعني : بعد عثمان رضي‌الله‌عنه وفي زمن معاوية رضي‌الله‌عنه. ونحن كذا نقول. وكذا الجواب عن قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية. فنقول : إنّ علياً رضي‌الله‌عنه كان وليّاً وأميراً بهذا الدليل في أيّامه ووقته ، وهو بعد عثمان رضي‌الله‌عنه ، وأمّا قبل ذلك فلا ».

أقول :

إذن ، لا يجد أبو شكور مجالاً للتشكيك في دلالة حديث الغدير على ولاية الأمير ، ولا ريب في أنّ المراد من هذه الولاية هي الإمامة ، وإلاّ لم يكن لتقييدها بما بعد عثمان معنىً.

وكذلك المراد من الآية ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ... ).

فتكون الولاية في حديث « وليّكم بعدي » بالمعنى المذكور كذلك.

٢٧٢

يبقى الكلام حول تقييد الإمامة بما بعد عثمان ، وهو باطل مردود بوجوهٍ كثيرة ، منها : قول عمر لعلي عليه‌السلام : « أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة » (١).

وما أشبه هذا الحمل السخيف والتقييد غير السديد بتأويل أهل الكتاب نبوة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّهم مع اعترافهم بنبوّته يقيّدونها بكونها إلى العرب خاصة ، قال نصر الله الكابلي في ( الصواقع ) :

« وقد اعترف اليهود والعيسوية وجم غفير من القاديين من النصارى ومن تابعهم من نصارى إفرنج بنبوّته ، إلاّ أنّهم يزعمون أنه مبعوث إلى العرب خاصة ... ».

وأيضاً : فإنّ بطلان ذلك الحمل في مفاد حديث الغدير صريح كلام الشيخ يعقوب اللاهوري (٢) صاحب كتاب ( الخير الجاري في شرح صحيح البخاري ) فإنّه قال في مبحث الإمامة من شرحه على ( تهذيب الكلام للتفتازاني ) :

« ولِما تواتر من قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من كنت مولاه فعلي مولاه ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.

بيان التمسّك بالحديث الأوّل : إنّه صلّى الله عليه وسلّم جمع الناس يوم غدير خم ـ موضع بين مكة والمدينة بالجحفة ، وذلك اليوم كان بعد رجوعه عن حجة الوداع ـ ثم صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم خطيباً مخاطباً معاشر

__________________

(١) رواه : ابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، والحسن بن سفيان ، والخركوشي ، وابن السمّان ، والسمعاني ، وابن كثير ، وغيرهم من الأئمة الأعلام ، فراجع كتابنا ٩ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٢) هو : « الشيخ الفاضل يعقوب بن محمّد ... أحمد العلماء المبرزين ... مات سنة ١١٩٧ » نزهة الخواطر ٦ / ٤٢٢.

٢٧٣

المسلمين : ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى. قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله.

وهذا الحديث أورده علي رضي‌الله‌عنه يوم الشورى عندما حاول ذكر فضائله ولم ينكره أحد.

ولفظ المولى جاء بمعنى : المعتق الأعلى والأسفل ، والحليف ، والجار ، وابن العم ، والناصر ، والأولى بالتصرف. وصدر الحديث يدل على أن المراد هو الأخير ، إذ لا احتمال لغير الناصر والأولى بالتصرف ههنا ، والأول منتف ، لعدم اختصاصه بعض دون بعض ، بل يعم المؤمنين كلّهم ، قال الله تعالى ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ).

وبيان التمسّك بالثاني : إن لفظ المنزلة اسم جنس ، وبالإضافة صار عامّاً بقرينة الإستثناء ، كما إذا عرّف باللام ، فبقي شاملاً لغير المستثنى وهو النبوة. ومن جملة ما يدخل تحت ذلك اللفظ : الرياسة والإمامة.

وإلى الأوّل يشير قوله : لأنّ المراد : المتصرّف في الأمر : إذ لا صحة لكون علي معتقاً أو ابن عم مثلاً لجميع المخاطبين ، ولا فائدة لغيره ككونه جاراً أو حليفاً ، لأنّه ليس في بيانه فائدة ، أو ناصراً لشمول النصرة جميع المؤمنين.

وإلى الثاني يشير قوله : ومنزلة هارون عامة أخرجت منه النبوة ، فتعيّنت الخلافة.

وردّ : بأنّه لا تواتر ، بل هو خبر واحد ، ولا حصر في علي. يعني : إنّ غاية ما لزم من الحديث ثبوت استحقاق علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ للإمامة وثبوتها في المآل ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الثلاثة؟

٢٧٤

وهذا الجواب من المصنّف. وتوضيحه : إنّه لم يثبت له الولاية حالاً بل مآلاً ، فلعلّه بعد الأئمة الثلاثة. وفائدة التنصيص لاستحقاقه الإمامة الإلزام على البغاة والخوارج.

أقول : يرد عليه أنّه كما كانت ولاية النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عامة كما يدلّ عليه كلمة « من » الموصولة ، فكذا ولاية علي ، فيجب أن يكون علي هو الولي لأبي بكر دون العكس ».

أقول :

فالتقييد بما بعد عثمان مردود ، للوجوه المذكورة وغيرها مما سنذكره ، والمقصود الآن هو إثبات دلالة « الولاية » على « الإمامة والخلافة ».

(٦)

تسليم ابن أخ ( الدهلوي )

والمولوي محمّد إسماعيل الدّهلوي ، ابن أخ ( الدّهلوي ) (١) يسلّم كذلك بدلالة « الولاية » في حديث الغدير على « إمامة » الأمير عليه‌السلام ، ثم يؤكّد ذلك بآيةٍ من الكتاب وحديثٍ عن النبي في تفسيرها.

__________________

(١) هو : محمّد إسماعيل بن عبدالغني بن أحمد بن عبدالرّحيم الدهلوي ، قال في ( نزهة الخواطر ٧ / ٥٨ ) : « الشيخ العالم الكبير العلاّمة المجاهد في سبيل الله الشهيد ... أحد أفراد الدنيا في الذكاء والفطنة والشهامة وقوة النفس والصّلابة في الدين ... وكان نادرةً من نوادر الزمان وبديعة من بدائعه الحسان ... » وهي ترجمة مفصّلة جدّاً ، وأرخ وفاته بسنة ١٢٤٦.

٢٧٥

جاء ذلك في رسالةٍ له في حقيقة الإمامة أسماها ( منصب امامت ) ، في النكتة الثانية ، في أنّ الإمام نائب عن الرسول في إجراء سنن الله تعالى في خلقه ، فذكر أُموراً ، فقال :

« ومن جملتها : ثبوت الرياسة ، أي : كما أنّ لأنبياء الله نوعاً من الرياسة بالنسبة إلى أُمهم ، وبلحاظ هذه الرئاسة يكونون أُمةً للرسول إليهم ، ويكون الرسول رسولاً إليهم ، ومن هنا يتصرّف الرسول في كثير من أُمورهم الدنيويّة كما قال تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وكذلك لهم الولاية عليهم في الأُمور الاخروية قال الله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) كذلك الإمام ، فإنّ هذه الرئاسة الدنيويّة والاخرويّة ثابتة له بالنسبة إلى المبعوث إليهم ، قال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ :

ألستم تعملون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى. فقال : اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال الله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّهم مسؤولون عن ولاية علي ».

أقول :

فإذا كان « الولاية » في حديث الغدير بمعنى الإمامة ، وأنّ هذه الولاية هي المسؤول عنها في القيامة ، « فالولاية » في حديث : « وليّكم بعدي » بنفس المعنى ، وحملها على معنىً آخر لا يكون إلاّممّن رأيه معلول وفهمه مرذول وعقله مدخول!

٢٧٦

(٧)

لفظة « بعدي » قرينة

إنّه لا يخفى على المنصف اللبيب أن لفظة « الولي » تدل بقرينة لفظة « بعدي » على « الإمامة » و« الرياسة » ، لعدم اختصاص كونه عليه‌السلام محبّاً وناصراً بزمان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، اللهم إلاّ أنْ ينكر ( الدهلوي ) ولايته للمؤمنين ـ بمعنى المحبيّة والناصرية ـ في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم ( الدهلوي ) ولايته للمؤمنين ـ بمعنى المحبيّة والناصرية ـ في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم ، كما ينفي ولايته عليهم ـ بمعنى الإمامة ـ بعده ، فيقول بأنّه عليه الصلاة والسلام لم يكن محبّاً وناصراً للمؤمنين على عهد رسول ربّ العالمين! وذلك ممّا يضحك عليه الثكلان.

ولنعم ما قال الوزير النحرير العلاّمة الإربلي (١) ـ أعلى الله مقامه ـ بعد نقل هذا الحديث وغيره : « وأنت ـ أيّدك الله بلطفه ـ إذا اعتبرت معاني هذه الأحاديث الواردة من هذه الطرق أمكنك معرفة الحق ، فإنّ قوله : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » وقوله : « وهو ولي كلّ مؤمن من بعدي » إلى غير ذلك ، صريح في إمامته ، وظاهر في التعيين عليه ، لا ينكره إلاّمن يريد دفع الحق بعد ثبوته ، والتغطية على الصّواب بعد بيانه ، وستر نور الشّمس بعد انتشار أشعّتها :

وليس يصح في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ومن أغرب الأشياء وأعجبها : أنهم يقولون : إنّ قوله عليه‌السلام في

__________________

(١) علي بن عيسى ، المتوفى بعد ٦٨٧ ، له مؤلفات في التاريخ والأدب ، من أعلام الإماميّة. الوافي بالوفيات ١٢ / ١٣٥ ، فوات الوفيات ٢ / ٦٦.

٢٧٧

مرضه : « مروا أبا بكر يصلّي بالناس » نص خفي في توليته الأمر وتقليده أمر الأمة ، وهو على تقدير صحته لا يدلّ على ذلك. ومتى سمعوا حديثاً في أمر علي نقلوه عن وجهه ، وصرفوه عن مدلوله ، وأخذوا في تأويله بأبعد محتملاته ، منكّبين عن المفهوم من صريحه ، أو طعنوا في راويه وضعّفوه وإنْ كان من أعيان رجالهم وذوي الأمانة في غير ذلك عندهم.

هذا ، مع كون معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وعمران بن حطّان الخارجي ، وغيرهم من أمثالهم ، من رجال الحديث عندهم ، وروايتهم في كتب الصحاح عندهم ثابتة عالية يقطع بها ويعمل عليها في أحكام الشرع وقواعد الدين.

ومتى روى أحد عن زين العابدين علي بن الحسين ، وعن ابنه الباقر ، وابنه الصادق وغيرهم من الأئمة عليهم‌السلام ، نبذوا روايته وأطرحوها وأعرضوا عنها فلم يسمعوها وقالوا : رافضي لا اعتماد على مثله ، وإنْ تلطّفوا قالوا : شيعي ما لنا ولنقله! مكابرةً للحق وعدولاً عنه ، ورغبةً في الباطل وميلاً إليه ، واتّباعاً لقول من قال : إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة.

ولعلّهم لمّا رأوا ما جرت الحال عليه أولاً من الاستبداد بمنصب الإمامة فقاموا بنصر ذلك محامين عنه غير مظهرين لبطلانه ولا معترفين به ، استينافاً لحميّة الجاهليّة. وهذا مجال طويل لا حاجة بنا إليه » (١).

__________________

(١) كشف الغمة في معرفة الأئمة ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٢٧٨

حمل بعضهم البعديّة على الرّتبة دون الزمان

هذا ، ولمّا رأى الرشيد الدهلوي (١) تماميّة دلالة الحديث على مذهب أهل الحق بكلمة « بعدي » ، عمد إلى تأويل الحديث بحمل « البعديّة » على المرتبة لا الزمان فذكر : بأنّ هذا الحديث ـ وإنْ لم يخل سنده عن الكلام ـ فيجاب على تقدير تسليمه بأن الولي فيه بمعنى المحبّ ، والمراد من البعدية يجوز أن يكون البعدية رتبةً لا زماناً. قال : وعلى تقدير تسليم معنى الخلافة من الولاية فإنّ الحمل المذكور لابدَّ منه ، جمعاً بين هذا الحديث وما دلَّ على خلافة الخلفاء الثلاثة عند أهل السنة.

أقول :

إنّه لا يخفى على المتأمّل المتدرّب أنْ لا وجه لتجويز إرادة « المحب » من لفظ « الولي » في هذا الحديث ، ولكنْ متى حملت « البعدية » على الرتبة كان المعنى : أن رتبة أمير المؤمنين عليه‌السلام في المحبوبية بين سائر الخلائق هي بعد رتبة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ، فهو مقدَّم على غيره في صفة المحبوبية بعده ، وعلى جميع أفراد الامّة أن يقولوا بأحبيّته إليهم بعد رسول الله ، ويلتزموا بلوازم ذلك.

__________________

(١) قال في ( نزهة الخواطر ٧ / ١٨٠ ) : « الشيخ الفاضل العلاّمة رشيد الدين بن أمين الدين ابن وحيدالدين أبي عبدالسلام الكشميري ثم الدهلوي ، العالم المشهور بسلامة الأفكار ... » فذكر مؤلفاته وأرخ وفاته بسنة ١٢٤٣.

٢٧٩

ومن البديهي أن « الأحبية » دليل « الأفضلية » ـ وبه في مجلَّد ( حديث الطّير ) ـ تصريحات لكبار ثقات السنّية ... وإذا ثبتت « الأفضلية » ثبتت « الخلافة ».

وبما ذكرنا يظهر سقوط ما ادّعاه من الجمع ، لأنّ الحديث ـ بعد قطع النظر عن بطلان صرف البعدية عمّا هي ظاهرة فيه ـ دلّ على الأحبيّة فالأفضليّة والخلافة ، فهو عليه‌السلام إمام جميع المؤمنين ، وفيهم الثلاثة وهم مؤمنون عند القوم.

وأيضاً : فإنّ هذا الحديث على تقدير دلالته على الخلافة يكون نصّاً على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمّا الثلاثة فالمعترف به عندهم عدم وجود نص على إمامتهم (١) ، ومن الواضح تقدّم المنصوص عليه على غيره. نعم يستنبطون من بعض الأخبار التي يروونها إمامة الثلاثة ، وعلى تقدير التسليم بها فهل يعارض بأمثال تلك الإستنباطات صرائح النصوص؟

(٨)

الاستدلال بكلام ابن تيميّة

لقد نصَّ ابن تيمية على دلالة هذا الحديث على الإمامة والخلافة ، لأنّ الولاية التي هي ضدّ العداوة لا تختص بزمانٍ ... وهذه عبارته :

« قوله : وهو ولي كلّ مؤمنٍ بعدي. كذب على رسول الله ـ صلّى الله عليه

__________________

(١) راجع : شرح المقاصد في علم الكلام للتفتازاني ، شرح المواقف في علم الكلام للقاضي العضدي ، وشرح العقائد النسفية للتفتازاني ، وشرح التجريد للقوشجي ، وغيرها من أهم الكتب الكلامية ، في أوّل مباحث الإمامة.

٢٨٠