نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٦

ولا شكّ أنّ عليّا ليس نفس محمّد صلّى الله عليه وسلّم بعينه ، بل المراد أنّ عليّا بمنزلة النبيّ ، أو أنّ عليّا هو أقرب الناس إلى النبيّ فضلا ، وإذا كان كذلك كان أفضل الخلق بعده.

ولأنّ عليّا كان أعلم الصحابة ، لأنّه كان أشدّهم ذكاء وفطنة وأكثرهم تدبيرا ورويّة ، وكان حرصه على العلم أكثر واهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإرشاده وتربيته أتم وأبلغ ، وكان مقدّما في فنون العلوم الدينية أصولها وفروعها ، فإنّ أكثر فرق المتكلّمين ينتسبون إليه ويسندون اصول قواعدهم إلى قوله ، والحكماء يعظّمونه غاية التعظيم ، والفقهاء يأخذون برأيه ، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : أقضاكم علي ، والأقضى أعلم لاحتياجه إلى جميع أنواع العلم.

وأيضا : أحاديث كثيرة وردت شاهدة على أنّ عليا أفضل.

منها : حديث الطير ، وهو : إنّه عليه‌السلام اهدي له طير مشوي ، فقال عليه‌السلام : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي ، فجاءه علي وأكل معه ، والأحبّ إلى الله تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه. وليس في ذلك ما يدلّ على كونه عليه‌السلام أفضل من النبيّ والملائكة ، لأنّه قال : ائتني بأحبّ خلقك إليك ، والمأتي به إلى النبيّ يجب أن يكون غير النبيّ ، فكأنّه قال : أحبّ خلقك إليك غيري ولقوله عليه‌السلام : يأكل معي ، وتقديره : ائتني بأحبّ خلقك إليك ممّن يأكل فيأكل معي ، والملائكة لا يأكلون ، وبتقدير عموم اللّفظ للكلّ فلا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبيّ عليه‌السلام والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهما.

ومنها : حديث خيبر ، فإنّ النبيّ عليه‌السلام بعث أبا بكر إلى خيبر ، فرجع منهزما ثمّ بعث عمر فرجع منهزما. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لذلك ، فلمّا أصبح خرج إلى الناس ومعه راية وقال : لاعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله والرّسول ، كرّار غير فرّار. فعرض له

٣٦١

المهاجرون والأنصار قال عليه‌السلام : أين علي. فقيل له : إنّه أرمد العينين ، فتفل في عينيه ، ثمّ دفع الرّاية إليه.

وذلك يدلّ على أنّ ما وصفه به مفقود فيمن تقدم ، فيكون أفضل منهما ، ويلزم أن يكون أفضل من جميع الصّحابة. والأفضل يجب أن يكون إماما ».

قال الأصفهاني في الجواب عمّا ذكر من الأدلّة :

« وعن السّادس : إنّ ما ذكرنا من الدلائل الدالّة على أنّ عليا أفضل ، معارض بما يدلّ على أنّ أبا بكر أفضل ، والدليل على أفضليّة أبي بكر قوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي ... ) الآية. فإنّ المراد إمّا أبو بكر أو علي بالاتفاق ، والثاني ـ وهو أن يكون المراد به عليا ـ مدفوع ، لأنّه تعالى ذكر في وصف الأتقى قوله ( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) .. » (١).

إقراره بالدلالة وإعراضه عن التأويل تبعا للبيضاوي

وتبع الأصفهاني ماتنه البيضاوي في ذكر طائفة من دلائل الشيعة ، والسكوت عنها من حيث السند والدلالة ، وهو إقرار منه كذلك بالأمرين. ثمّ أجاب عن تلك الدلائل بالمعارضة. والجواب الجواب.

تأويله الحديث في كتاب آخر تبعا للرازي

لكنّه في كتاب آخر له تبع الفخر الرازي في دعوى التأويل ، فإنّه ذكر حديث الطير فيما استدل به الإمامية بقوله :

« ومنها : حديث الطائر. بيان ذلك : أنّه اهدي له طائر مشوي فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي ، فجاء علي وأكل معه. والأحبّ إلى

__________________

(١) مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار ـ مخطوط.

٣٦٢

الله تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه ، وليس في ذلك ما يدلّ على كونه أفضل من النبيّ والملائكة ، لأنّه قال : ائتني بأحبّ خلقك إليك ، والمأتي به إلى النبيّ يجب أن يكون غير النبيّ ، فكأنّه قال : أحبّ خلقك إليك غيري ، ولقوله : يأكل معي. وتقديره : ائتني بأحبّ خلقك ممّن يأكل معي ، والملائكة لا يأكلون. وبتقدير عموم اللّفظ للكلّ لا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبيّ والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهما ».

فأجاب : « وحديث الطير لا يدل على أنّه أحبّ الخلق مطلقا ، بل أمكن أن يكون أحبّ الخلق بالنظر إلى شيء دون شيء ، إذ يصحّ الاستفسار بأن يقال : أحبّ خلقك في كلّ شيء أو في بعضه ، وعند ذلك لا يلزم من زيادة ثوابه في بعض الأشياء على غيره الزيادة في كلّ شيء ، بل جاز أن يكون غيره أزيد ثوابا في شيء آخر.

فإن قيل : فعلى هذا التقدير أيّ فائدة في قوله : ائتني بأحبّ خلقك إليك؟

قلنا : الفائدة فيه تخصيصه عمّن ليس أحبّ عند الله من وجه » (١).

الردّ على ما ذكره

أقول : أمّا ما ذكره تبعا للفخر الرازي فقد عرفت اندفاعه فلا نعيد.

وأمّا ما ذكره في جواب الاعتراض الذي أورده : فقد كان الأولى به أن لا يتفوّه به ، لأنّ الثلاثة وأضرابهم لم يكونوا محبوبين عند الله من وجه من الوجوه فضلا عن الأحبيّة ، فيكون الحديث دليلا على أفضليّة أمير المؤمنين عليه‌السلام منهم.

وبغض النظر عن ذلك ، فقد ثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ

__________________

(١) تشييد القواعد شرح تجريد العقائد ـ مخطوط.

٣٦٣

الشيخين ـ بل الثلاثة ـ من الدخول عليه في قضية الطير ، وبناء على ما ذكره الأصفهاني من أنّ فائدة الحديث تخصيص علي عليه‌السلام عمّن ليس بأحبّ عند الله من وجه ، فالثلاثة ليسوا بأحبّ عند الله من وجه ، فضلا عن الأحبيّة المطلقة.

القاضي العضدي والشريف الجرجاني

وقال القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي في ( المواقف ) وكذا السيد الشريف علي بن محمّد الجرجاني في ( شرحه ) بتأويل حديث الطير ... فقد جاء في ( شرح المواقف ) في وجوه أدلّة الشيعة على أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« الثاني : حديث الطير ، وهو قوله عليه‌السلام ـ حين أهدي إليه طائر مشوي ـ : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ، فأتى علي وأكل معه الطير. والمحبّة من الله كثرة الثّواب والتعظيم ، فيكون هو أفضل وأكثر ثوابا.

وأجيب : بأنّه لا يفيد كونه أحب إليه في كلّ شيء ، لصحّة التقسيم وإدخال لفظ الكل والبعض ، ألا ترى أنّه يصح أن يستفسر ويقال : أحبّ خلقه إليه في كلّ شيء أو في بعض الأشياء؟ وحينئذ جاز أن يكون أكثر ثوابا في شيء دون آخر ، فلا يدلّ على الأفضليّة مطلقا » (١).

ما ذكراه هو تأويل الرازي والجواب الجواب

أقول : وإنّ ما ذكراه في الجواب عن حديث الطّير ، هو التأويل الّذي اعتمده الفخر الرازي ، الذي عرفت سقوطه لدى تعرّضنا لكلامه ... فالجواب

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

٣٦٤

الجواب ، فلا نطيل المقام.

السّعد التّفتازاني

وقال سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني :

« تمسكّت الشيعة القائلون : بأفضليّة علي رضي الله تعالى عنه بالكتاب والسنّة والمعقول.

أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا ... ) وقوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ... ) ولا خفاء في أنّ من وجب محبّته بحكم نصّ الكتاب كأن أفضل ...

وأمّا السنّة فقوله صلّى الله عليه وسلّم : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب. ولا خفاء في أن من يساوي هذه الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل. وقوله عليه الصلاة والسلام : أقضاكم علي. والأقضى أعلم وأكمل. وقوله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاء علي فأكل معه. والأحب إلى الله أكثر ثوابا ، وهو معنى الأفضل. وكقوله صلّى الله عليه وسلّم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، ولم يكن عند موسى أفضل من هارون. وكقوله عليه الصلاة والسلام : من كنت مولاه فعلي مولاه. الحديث. وقوله عليه الصلاة والسلام يوم خيبر ... وقوله عليه الصلاة والسلام : أنا دار الحكمة وعلي بابها. وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي : أنت أخي في الدنيا والآخرة ... وقوله صلّى الله عليه وسلّم : لمبارزة علي وعمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة. وقوله صلّى الله عليه وسلّم لعلي : أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة ومن أحبّك فقد أحبني ومن أحبّني هو حبيب الله ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، وبغيضي بغيض الله ، فالويل لمن أبغضك بعدي.

٣٦٥

وأمّا المعقول فهو : إنّه أعلم الصحابة ... وأيضا : هو أشجعهم ... وأيضا : هو أزهدهم ... وأيضا : هو أكثرهم عبادة ... وأكثرهم سخاوة ... وأحلمهم ... وأيضا : هو أفصحهم لسانا على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة وأسبقهم إسلاما ...

وبالجملة ، فمناقبه أظهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى.

فالجواب : إنّه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتّصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات ، إلاّ أنّه لا يدلّ على الأفضليّة ، بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله تعالى ، بعد ما ثبت من الاتّفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر وعمر ، والاعتراف من علي رضي‌الله‌عنه بذلك. على أنّ فيما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصّل ، مثل : أنّ المراد ب( أَنْفُسَنا ) نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما يقال : دعوت نفسي إلى كذا ، وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ لا اختصاص به ، وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء ، وأنّ أحبّ خلقك يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عملا بأدلّة أفضليّتهما ، ويحتمل أن يراد أحبّ الخلق إليك في أن يأكل منه ... » (١).

إنكاره دلالة ما ذكره على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب مردود

أقول : لقد ذكر التفتازاني طائفة من الحجج البالغة والدلائل الواضحة على أفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ... ثم أنكر أن يكون شيء منها دالا على أفضليّته بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله تعالى ... لكن إنكاره ذلك ساقط مردود ، فقد أثبت علماء الشيعة دلالة كلّ واحد واحد من تلك الأدلة في محلّه ...

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ / ٢٩٥ ـ ٢٩٩.

٣٦٦

وفي خصوص حديث الطّير نقول : إن صريح الفخر الرازي في ( تفسيره ) ـ في عبارته المتقدّمة سابقا ـ أنّ معنى محبّة الله تعالى لعبده إعطاؤه الثواب ... فلا ريب ـ إذن ـ في أنّ معنى أحبيّة العبد لديه أكثريّة الثواب منه إليه ، وإذا كانت الأحبيّة بمعنى الأكثرية ثوابا لم يبق أيّ ترديد في دلالة حديث الطّير على أفضلية الإمام عليه‌السلام ...

ولقد سلّم ـ والحمد لله ـ الفخر الرازي في ( نهاية العقول ) و ( الأربعين ) وكذا شمس الدين الأصفهاني في ( شرح التجريد ) والقاضي العضدي في ( المواقف ) والشريف الجرجاني في ( شرح المواقف ) والشهاب الدولت آبادي في ( هداية السعداء ) بأنّ الأحبيّة بمعنى الأكثرية في الثواب.

وإذا رأى المنصف اعتراف هؤلاء الأعاظم ـ في مقابلة الشيعة ، بكون الأحبيّة في حديث الطير بمعنى الأكثرية في الثواب ـ يفهم جيّدا فظاعة ما تفوّه به التفتازاني في هذا المقام.

ومن العجائب : استدلال التفتازاني ـ في نفس هذا الكتاب قبل عبارته هذه بورقة تقريبا ـ بحديث عمرو بن العاص على أفضليّة أبي بكر ، من جهة أنّ الأحبيّة تدلّ على الأكثرية ثوابا فالأفضليّة ... فكيف يقول بدلالة ذاك الحديث على أفضلية أبي بكر وكونه أكثر ثوابا ، ومع ذلك ينفي ـ في جواب إحتجاج الشيعة بحديث الطير ـ دلالته على أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أكثر ثوابا؟

وجوه الردّ على دعوى الاتفاق على أفضليّة أبي بكر وعمر

وأمّا قوله : « بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضليّة أبي بكر ثم عمر » فدعوى كاذبة مردودة بوجوه :

الأول : قال الحافظ ابن عبد البر : « من قال بحديث ابن عمر : كنّا نقول على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت فلا نفاضل. فهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ ، لأنّ

٣٦٧

القائل بذلك قد قال خلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السّلف والخلف من أهل الفقه والآثار : إن عليا كرّم الله وجهه أفضل الناس بعد عثمان. هذا مما لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان. واختلف السّلف أيضا في تفضيل علي رضي‌الله‌عنه وأبي بكر رضي‌الله‌عنه. وفي إجماع الجميع الذي وصفناه دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط ، وأنّه لا يصح معناه وإن كان إسناده صحيحا. ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد : كنّا نبيع امّهات الأولاد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وهم لا يقولون بذلك. فناقضوا. وبالله التوفيق » (١).

الثاني : لقد ثبت أنّ جمعا من أعلام الصحابة قالوا بأفضلية الإمام عليه‌السلام من أبي بكر ... قال ابن عبد البر : « روي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وحذيفة وحباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن الأرقم : أن علي بن أبي طالب أوّل من أسلم ، وفضّله هؤلاء على غيره » (٢).

قلت : ومن الصحابة القائلين بأفضليته : عبد الله بن عمر ، فقد روى السيّد علي الهمداني : « عن أبي وائل ، عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنه قال : كنا إذا عدّدنا أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قلنا : أبو بكر وعمر وعثمان. فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن فعلي! قال : علي من أهل البيت ، لا يقاس به أحد ، مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في درجته ، إنّ الله يقول : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ففاطمة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في درجته ، وعلي معهما » (٣).

والعبّاس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة الحكيم البغدادي في ( تاريخ بغداد ) بترجمة شريك : « دخل

__________________

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ / ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ / ٢٧.

(٣) المودة في القربى. انظر : ينابيع المودّة ١ / ١٧٤.

٣٦٨

شريك على المهدي فقال له : ما ينبغي أن تقلّد الحكم بين المسلمين. قال : ولم؟ قال : بخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة. قال : أمّا قولك : بخلافك على الجماعة فمن الجماعة أخذت ديني ، فكيف اخالفهم وهم أصلي في ديني؟ وأمّا قولك : بالإمامة. فما أعرف إلاّ كتاب الله وسنة رسوله. وأمّا قولك : مثلك لا يقلّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صوابا فأمسكوا عنه. قال : ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال : ما قال فيه أبوك العبّاس وعبد الله. قال : وما قالا؟ قال : أمّا العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا نزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله. وأمّا عبد الله فإنّه كان يضرب بين يديه ، وكان في حروبه رأسا متّبعا وقائدا مطاعا. فلو كانت إمامة علي جورا كان أولى أن يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله. فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاّ قليل حتى عزل شريك ».

وحسّان بن ثابت. ذكر ذلك ( الدهلوي ) في جواب السؤال الرابع من ( المسائل البخاريّة ).

الثالث : ونفى أبو بكر نفسه كونه خير الامة ، واعترف بأفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام منه حيث قال على المنبر مخاطبا المسلمين : « أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم » (١).

الرابع : وقال جماعة من أعلام العلماء أيضا بأفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام من الشيخين. منهم القاضي شريك كما عرفت من ( تاريخ بغداد ) ومنهم عبد الرزاق الصنعاني ، وجماعة الصّوفية كما في ( المسائل البخاريّة ).

الخامس : لو سلمنا قيام هذا الإجماع ، فإنّه إجماع على خلاف قول الله

__________________

(١) إبطال الباطل ـ مخطوط

٣٦٩

ورسوله ، وما كان كذلك فلا يحتج به ولا يعبأ به. سلّمنا عدم مخالفته ، لكنّه غير ثابت عند الشّيعة فلا وجه لإلزامهم به.

دعوى اعتراف الإمام بأفضلية أبي بكر مستندة إلى خبر موضوع

وأمّا دعوى التفتازاني « الاعتراف من علي عليه‌السلام بأفضلية الشيخين منه » فإنّها( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ) وذكرها في مقابلة الشيعة مباهتة ، ولكن « إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

وعلى كل حال ، فإنّه لم يكن اعتراف من الإمام بأفضلية الشيخين أو أحدهما منه أبدا ، وما رواه أسلاف القوم في هذا الباب فخبر مكذوب موضوع ( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ).

تأويل حديث الطّير باطل

وأمّا مناقشته في دلالة الأدلة التي ذكرها ، فمردودة في مواضع الاستدلال والاحتجاج بها من كتب الإماميّة ، كما أنّ تأويل حديث الطير بما ذكره ، قد عرفت أنّ جميع التأويلات التي ذكروها لها فاسدة ، فلا نعيد.

العلاء القوشجي

وقال علاء الدين علي بن محمد القوشجي : « وخبر الطائر : اهدي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم طائر مشوي فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك حتى يأكل معي. فجاء علي وأكل. والأحب إلى الله تعالى أفضل » فأجاب :

« وأجيب بأنّه : لا كلام في عموم مناقبه ... » (١).

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٧٩.

٣٧٠

ذكر عبارة التفتازاني والجواب الجواب

أقول : لقد تبع القوشجي التفتازاني في هذا المقام في الجواب عن الاستدلال بحديث الطّير ، حيث نقل كلامه بحذافيره ، فنكتفي في الجواب : بما ذكرناه في الرد على التفتازاني ولا نعيد.

الشّهاب الدّولت آبادي

وقال شهاب الدين ملك العلماء الدولت آبادي الهندي : « اعلم أنّ أحاديث فضيلة علي ـ كرم الله وجهه ـ من الصحاح ، ولكن احتجاجهم على الخطأ.

احتجّ الشيعة بخبر الطير ... قال أهل السنّة : هذا الحديث لا يدل على أنّه أحب في كلّ شيء من أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ. لعل المراد : خيرا لأكل هذا الطير » (١).

اعتراف بصحته وتأويل عرفت بطلانه

أقول : قد اعترف هذا الرجل بصحّة حديث الطّير ، لكنّه أجاب عن الاستدلال به بتأويله عن ظاهره ، ناسبا هذا التأويل إلى أهل السنّة ، وقد عرفت بطلان هذا التأويل وفساده كغيره ممّا ذكروه ، وإنّ كثيرا منهم لم يلجئوا إلى التأويل لوضوح وهنه وسخافته ، فزعموا المعارضة بما وضعوه في فضل الشيخين ، أو أحدهما.

__________________

(١) هداية السعداء. الهداية الاولى من الجلوة السابعة.

٣٧١

إسحاق الهروي

وقال إسحاق الهروي ـ سبط الميرزا مخدوم ـ مقتصرا على بعض هفوات التفتازاني في جواب حديث الطير : « والجواب : إنّه يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عملا بأدلّة أفضليّتهما. وأيضا : يحتمل أن يكون أحب الخلق إليك في أن يأكل ، لا مطلق الأحب ».

ذكر تأويل التفتازاني وقد عرفت فساده

وما ذكره هذا الرجل ليس إلاّ تأويل التفتازاني ، وقد عرفت فساده فلا نعيد.

حسام الدّين السّهارنفوري

تأويل تقدّم فساده

واقتصر حسام الدّين السّهارنفوري في ( مرافض الروافض ) على بعض هفوات عبد الحق الدهلوي الذي عرفت فسادها فيما سبق.

محمّد البدخشاني

وأجاب الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشاني عن الاستدلال بحديث الطير لا بالقدح في سنده ، ولا بالتأويل ، بل بالمعارضة بالحديث الموضوع في فضل عمر بن الخطّاب : « ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر » (١).

__________________

(١) ردّ البدعة ـ مخطوط.

٣٧٢

اعتراف بالسّند والدلالة ودعوى المعارضة

والمهمّ اعترافه الضمني بسند حديث الطّير وتماميّة دلالته على أفضلية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإن في ذلك تخطئة لكلّ أولئك الذين حاولوا القدح في سنده أو تأويله عن ظاهره. وأمّا دعوى معارضته بالحديث الموضوع المذكور فهي متابعة لبعض أسلافه ، وقد أجبنا عنها فيما تقدّم. وحاصل ذلك : أن هذا الحديث موضوع ، وعلى فرض تماميته سندا فهو معتبر عندهم وليس بحجّة على الشّيعة ، بخلاف حديث الطّير الذي ثبت من طرق أهل السنّة فيكون حجة عليهم ... ومن المعلوم أنّ ما ليس بحجة لا يعارض الحجة.

وليّ الله الدّهلوي

وتشبّث الشيخ ولي الله الدهلوي ( والد الدهلوي ) في الجواب عن الاستدلال بحديث الطير بأباطيل عديدة ... حيث قال بجواب المحقّق الطوسي صاحب التجريد : « قوله : وخبر الطير ، عن أنس قال : كان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ، فجاء علي فأكل معه. أخرجه الترمذي.

لا يخفى ورود مثل هذه الفضائل في حقّ الشّيخين كقوله : « يتجلّى الله تعالى لأبي بكر خاصّة وللنّاس عامّة ». و « ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر ».

وأيضا : لا يخفى أنّ لفظ « الأحب » وارد بحق كثير من الصّحابة.

وترتفع المعارضة بأحد وجوه ثلاثة :

إمّا أن نقول : بأنّ الحب على أنواع : حبّ الرجل زوجته ، وتارة يطلقون لفظ « الأحب » ويريدون هذا الحب. وحبّ الرجل أولاده وأقربائه ، وحبّ الرجل لليتيم ، وحبّ الرجل لشيخه ، وحبّ الرجل مشاركه في العلم. والحبّ الوارد

٣٧٣

في هذه الأخبار يمكن تنزيله بالتأمّل على أحد هذه المعاني ، كما عن عائشة الصديقة أنّها قالت : كان أبو بكر أحبّ الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم عمر. ثم قالت : لو استخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاستخلف أبا بكر ثم عمر. وعن جميع بن عمير ، قال : دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت : أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت : فاطمة. فقيل : من الرجال؟ قالت : زوجها. أخرجه الترمذي.

فظهر أنّ المراد من الأحبيّة في الحديث الأول حبّ المشابهة في الفضائل التي هي المناط في الاستخلاف ، وفي الحديث الثاني حبّ الأولاد والأقارب.

وأمّا أن نقول : بأنّ الحبّ يتعلّق بالصّفات المحمودة التي يحصل بسببها القرب من الله تعالى والرسول ويوجب الرّضا عندهما. ولكلّ صفة من تلك الصفات مقام من الرضا والحبّ ، فيجوز أن يكون شخص أحبّ لصفة مثل الشجاعة ومحاربة الأعداء ، والآخر أحبّ بصفة أخرى مثل الحل والعقد في أمر الخلافة.

وإمّا أن نقول : إنّ « الأحب » بمعنى « من الأحب » فيكون صنف من المحبوبين أرجح على سائر المحبوبين ، و « الأحب » لفظ يمكن إطلاقه بإزاء كلّ فرد من هذا الصنف » (١).

دعوى المعارضة بـ « يتجلّى الله لأبي بكر ... »

أقول : إنّ هذا الكلام في أقصى درجات الهوان ومراتب الفساد ، كما لا يخفى على من نظر في مباحثنا المتقدمة بإمعان وإنصاف ... ولكن من المناسب أن نبيّن حال هذا الكلام بإيجاز فنقول :

__________________

(١) قرة العينين في تفضيل الشيخين : ٢٨٨.

٣٧٤

أمّا دعواه المعارضة بحديث : يتجلّى الله لأبي بكر خاصة وللناس عامّة فباطلة جدا ، فمن العجب تمسّك هذا المحدّث الكبير!! بمثل هذا الحديث الموضوع عند محقّقي أهل نحلته!!.

ألا يعلم بتنصيص المجد الفيروزآبادي على أنّه من المفتريات التي يعلم بطلانها ببداهة العقل (١).

وأنّه قد أورده ابن الجوزي في ( الموضوعات ) (٢).

وأخرجه ابن عدي في كتابه ( الكامل في الضعفاء ) وصرّح ببطلانه (٣).

واعترف الذهبي في ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) بسقوطه في غير موضع (٤) ...

وقد فصّل ذلك كلّه في كتاب ( شوارق النصوص ).

فما يقول أولياء والد ( الدهلوي ) في مقام الدفاع عنه وتوجيه ما ادّعاه؟!

دعوى المعارضة بـ « ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر »

وأمّا دعواه المعارضة بحديث : « ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر » فكذلك ، لأنّه حديث موضوع مفتعل باطل ، كما فصّل في ( شوارق النصوص ) كذلك ، وإليك عبارة المنّاوي المشتملة على إبطال جماعة إيّاه :

« ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر. أخرجه الترمذي في المناقب والحاكم في فضائل الصحابة عن أبي بكر. قال الترمذي : غريب وليس إسناده بذاك. انتهى. وقال الذهبي : فيه عبد الله بن داود الواسطي ضعفوه ، وعبد الرحمن بن أخي محمّد المنكدر لا يكاد يعرف ، وفيه كلام.

__________________

(١) سفر السعادة ـ باب فضائل أبي بكر.

(٢) الموضوعات ١ / ٣٠٤.

(٣) الكامل في الضعفاء ٤ / ١٥٥٧.

(٤) ميزان الاعتدال ٢ / ٤١٥.

٣٧٥

والحديث شبه الموضوع. انتهى. وقال في الميزان ـ في ترجمة عبد الله بن داود الواسطي ـ : في أحاديثه مناكير ، وساق هذا منها ثم قال : هذا كذب. وأقرّه في اللسان عليه » (١).

وبعد ، فإنّ تمسّك وليّ الله بهذين الحديثين عجيب من جهة أخرى وهي : إنّ هذا المحدّث ينصّ في نفس كتابه ( قرّة العينين ) على أنّ أحاديث الصحيحين ـ فضلا عن غيرها ـ غير صالحة للإحتجاج على الإمامية بل الزيدية ... فكيف يحتج في هذا الكتاب بهكذا حديثين والحال هذه؟

دعوى المعارضة بـ « من أحبّ الناس إليك؟ ... »

وأمّا دعواه ورود لفظ « الأحب » المطلق في حقّ كثير من الصّحابة فممنوعة ، وكذا المعارضة بما لا يجوز الاحتجاج به من أخبارهم :

أمّا حديث عمرو بن العاص المشتمل على مجيء هذا اللفظ بالنّسبة إلى عائشة وأبيها ، فحاله في القدح والجرح معلوم.

وأمّا حديث أنس الوارد فيه ذلك أيضا ، فهو من رواية « حميد عن أنس » وقد نصّوا على عدم جواز الإحتجاج به إلاّ إذا قال : « حدّثنا أنس ».

أمّا أنّه من رواية « حميد عن أنس » من غير قول « حدّثنا » فذلك ظاهر من رواية ابن ماجة والترمذي. قال ابن ماجة : « حدّثنا أحمد بن عبدة والحسين بن الحسن المروزي قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن حميد ، عن أنس قال : قيل : يا رسول الله أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال : عائشة. قيل : من الرجال؟ قال : أبوها » (٢).

وقال التّرمذي : « حدّثنا أحمد بن عبدة الضبّي ، نا المعتمر بن سليمان ،

__________________

(١) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير : ٥ / ٤٥٤.

(٢) سنن ابن ماجة ١ / ٣٨.

٣٧٦

عن حميد ، عن أنس قال قيل : يا رسول الله ، من أحبّ الناس إليك؟ قال : عائشة. قيل : من الرجال؟ قال : أبوها. هذا حديث حسن [ صحيح ] غريب من هذا الوجه من حديث أنس » (١).

وأمّا أن رواية « حميد عن أنس » لا تقبل إلاّ إذا قال حميد « حدّثنا أنس » فقد نصّ عليه ابن حجر بترجمته بقوله : « قال أبو بكر البرديجي : وأمّا حديث حميد ، فلا نحتجّ منه إلاّ بما قال : حدّثنا أنس » (٢).

وبالجملة ، فإنّ حديث أنس ـ كحديث عمرو بن العاص ـ لا يجوز الإحتجاج به وإن حكم الترمذي بحسنه وصحّته ، لكنه مع ذلك حكم بغرابته ... على أنّه حديث اتّفق الشيخان على الإعراض عنه.

وإذ لا حديث معتبر محتج به مشتمل على إطلاق « الأحب » مطلقا على غير سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كان حديث الطّير بلا معارض ، حتّى يحتاج إلى ما ذكره من وجه لرفع المعارضة.

هذا ، وعلى فرض وجود لفظ « الأحبّ » على الإطلاق في حق كثير من الصحابة في الأخبار المتناقضة المتكاذبة عند أهل السنّة ، فأيّ ملزم للإماميّة لأن يتكلّفوا ويتجشّموا التأويلات المخترعة لأجل رفع التعارض بين تلك الأحاديث وبين حديث الطير ، مع أنّ تلك الأحاديث ليست من أحاديثهم؟ إنّه لا عليهم إلاّ التمسّك بالأحاديث الدالّة على أحبيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وطرح غيرها من الأحاديث حتى ولو كانت في أعلى درجات الصحّة عند أهل السنّة؟!

على أنّه لو كان على الشيعة جمع الأخبار المتعارضة الواردة عند أهل السنّة في هذا الباب ، فلا موجب لتجشّم الجمع بين ما رووه في حقّ الشيوخ

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ / ٧٠٧.

(٢) تهذيب التهذيب ٣ / ٣٥.

٣٧٧

وأحزابهم ، وبين أحاديث أحبيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل مقتضى الإنصاف أنّ أخبارهم في أحبيّة الشيخين وغيرهما معارضة بأخبار أخرى لهم لا تحصى ، في كفرهم ونفاقهم وفسقهم ، فلا تصل النّوبة إلى وقوع المعارضة بين أخبار أحبيّة أولئك ، وأخبار أحبيّة الإمام عليه‌السلام ، حتى يحتاج إلى جمع!!

دعوى تنوّع حبّ الله والرّسول

وأمّا قوله : « وترفع المعارضة بأحد وجوه ثلاثة : إمّا أن نقول بأنّ الحبّ على أنواع ... والحبّ الوارد في هذه الأخبار يمكن تنزيله بالتأمّل على أحد هذه المعاني » فمردود بوجوه :

أمّا أوّلا : فلا ريب في بطلان القول بتنوّع حبّ الله تعالى بهذه الأنواع ، إذ ليس له تعالى زوجة ولا أولاد ولا شيخ ، ومفاد حديث الطّير بصراحة أحبيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الله عزّ وجلّ. فلو تأمّل المتأمّلون إلى يوم القيامة لم يمكن تنزيل حديث الطّير على شيء من هذه المعاني.

وأمّا ثانيا : فإنّه إذا اضطرّ أولياء وليّ الله إلى القول بأنّ مراده رفع المعارضة بين الأحاديث الأخرى غير حديث الطّير ، وتلك الأحاديث مفادها الأحبيّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا إلى الله تعالى ، فذلك باطل كذلك ، لما نصّ عليه أكابر القوم ـ كما مضى سابقا ـ من كون الأحبّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الأحب إلى الله تعالى ، فمن ورد في حقّه في الأخبار أنّه أحب الخلق إلى الرسول فالمراد منه الأحبّ إلى الله تعالى ، وقد عرفت أنّ بطلان تنوع حبّ الله إلى تلك الأنواع من القطعيّات. فما ذكره ولي الله لا يرفع المعارضة من بين تلك الأخبار أيضا.

وأمّا ثالثا : فإنّ في انقسام حبّ الرسول ـ بقطع النظر عمّا ذكر ـ مناقشات عديدة ، بل تجويز بعض أنواع الحبّ بالنسبة إليه واضح الفساد ، لعلم الكلّ

٣٧٨

ـ حتّى الصبيان ـ بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له شيخ حتى يكون له محبوبا عنده ويطلق عليه « الأحبّ » باعتبار كونه شيخا له.

وأمّا رابعا : فلأنّ كلّ عاقل يعلم ـ بالنظر إلى الأدلّة السّابقة ـ بابتناء حبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأشخاص على أساس سوابقهم الدينيّة ، فمن لم يكن ـ سواء من اليتامى أو الأولاد أو الأزواج أو غيرهم ـ أفضل في الدين من غيره لم يجز أن يكون أحبّ الناس إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا خامسا : فلأنّه لو جازت أحبيّة بعض الأزواج أو الأولاد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث كونها زوجة له أو كونه ولدا ـ حتى مع عدم الأفضلية في الدين ـ لم يجز إطلاق لفظ « الأحب » بنحو الإطلاق في ذاك المورد ، لما عرفت ـ بحمد الله ـ بالتفصيل من عدم جواز إطلاق صيغة أفعل التفضيل بلحاظ بعض الحيثيّات غير المعتبرة ...

فظهر عدم جواز تنزيل « الأحب » في الأخبار المعتبرة على بعض تلك المعاني التي ذكرها ولي الله الدهلوي.

الاستدلال بقول عائشة : كان أبو بكر أحبّ الناس ثم عمر

وأمّا قوله : « كما عن عائشة الصدّيقة أنها قالت : كان أبو بكر أحب الناس إلى رسول الله ثم عمر. ثم قالت : لو استخلف رسول الله لاستخلف أبا بكر ثم عمر ... » فتزوير غريب مطعون فيه بوجوه :

أوّلا : لو صحّ في أخبارهم صدور هذين القولين من عائشة ، فلا ثبوت لهما عند الشيعة ، لعدم اعتبارهم بأخبار أهل السنّة هذه.

وثانيا : على فرض ثبوتهما عنها ، فلا اعتبار بها عند الشيعة ليحتجّ بأقوالها عليهم.

وثالثا : إنّه قد رووا عن عائشة أحبيّة أبي عبيدة بعد الشيخين ، وكذا استخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لو استخلف!! ـ أبا عبيدة

٣٧٩

بعدهما ... وقد روى وليّ الله الدّهلوي نفسه هذين القولين عنها كذلك في نفس كتاب ( قرة العينين ) وهذا لفظه : « قيل لها : أيّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أحبّ إليه؟ قالت : أبو بكر. قيل : ثم من؟ قالت : عمر. قيل : ثم من؟ قال : أبو عبيدة. أخرجه الترمذي وابن ماجة ».

« سئلت : من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف؟ قالت : أبو بكر. فقيل لها : ثم من بعد أبي بكر؟ قالت : عمر. ثم قيل لها : من بعد عمر؟ قالت : أبو عبيدة ابن الجراح. ثم انتهت إلى هذا. أخرجه البخاري ومسلم ».

لكن هذين القولين باطلان بالضّرورة ، لأنّ الذي بعد الشيخين ـ بناء على مذهب أهل السنة في التفضيل ـ إمّا عثمان وإمّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلا مناص من تكذيب أو تخطئة ما رووا عن عائشة في هذا الباب.

ورابعا : إن إقرار العقلاء على أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود. فقول عائشة في حقّ غير علي وفاطمة عليهما‌السلام في مقابلة قوله الجميع بن عمير غير مقبول.

وخامسا : إنه بقطع النظر عمّا ذكر ، فإنّ ما تقوله عائشة في فضل أبيها غير مقبول لدى العقلاء ، لكونها بلا ريب متهمّة في هذا الباب ، بخلاف قولها في أحبيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّه لا احتمال لأن تكون كاذبة فيه.

وسادسا : إنه لا ريب في أن عائشة تحبّ أباها أبا بكر بخلاف مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي بلغت عداوتها له الحدّ الأقصى ، فكيف يعبأ عاقل بقولها في حقّ محبوبها في مقابلة قولها في حق المبغوض عندها؟

وسابعا : إن ما رووه عنها في حقّ أبيها خبر واحد ، وما رووه عنها في باب أمير المؤمنين عليه‌السلام مستفيض ، والواحد لا يقابل الكثير المستفيض.

وثامنا : إن كلماتها المنقولة عنها في حقّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أقوى دلالة ممّا قالته في حقّ أبي بكر ، فمن ذلك قولها : « ما خلق الله خلقا أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علي بن أبي طالب » وقولها : « والله

٣٨٠