نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٤

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٤

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٦

ردّ القدح فيه من جهة كذب راويه

وأمّا الوجه الثاني ، فقد عرفت الجواب عنه سابقا ... ولعلّ بطلان هذا الكلام لدى الخاص والعام ، هو الذي منع ( الدهلوي ) وسلفه ( الكابلي ) وغيرهما من متكلّمي القوم من الاستدلال به في كتبهم الكلاميّة التي وضعوها للردّ على الإماميّة ... نعم ذكره ( الدهلوي ) في حاشية كتابه ناسبا إيّاه إلى النّواصب ... مذعنا بناصبيّة الأعور ...

الجواب عن المناقشة في الدلالة

وأمّا الوجه الثالث ... فسيأتي الجواب عنه عند ما نتكلّم بالتفصيل في مفاد حديث الطّير ودلالته ، فانتظر.

وقال في ( التوضيح الأنور بالحجج الواردة لدفع شبه الأعور ) :

« وأمّا الثالث فلأنّا لا نسلّم لزوما ما توهمّه ممّا أرادوه ، فإن المعني به كما سبق أحبّ من يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنبي ممّن يؤتى ، فكيف يلزم أن يكون أحبّ منه على ذلك التقدير؟ بل إنّما يلزم ذلك على تأويله الفاسد وقوله الوهمي الفاسد من أنّ معنى أحبّ خلقك يأكل معي : الذي أحببت أن يأكل منه حيث كتبته رزقا له ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل منه وكتب رزقا له. ما أعمى قلب الخارجي الخارج عن طريق الصواب ، والأبتر الناصبي الهارب عن المطر الجالس تحت الميزاب ».

١٨١

مع محسن الكشميري

وعلى هذه الوتيرة كلمات محمّد محسن الكشميري في هذا الباب ، فإنّه قال :

« السابع ـ خبر الطائر ، وهو : أنّه أهدي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طائر مشوي. فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي. فجاء علي وأكل.

والجواب من وجوه :

الأوّل : إنّه ذكر مهرة فن الحديث أنّه موضوع ، كما صرّح به محمّد بن طاهر الفتني في الرسالة له في بيان الصحيح والضعيف والوضّاعين والضعفاء المجهولين.

الثاني : إنّه لا يدلّ على الإمامة بالمعنى المراد عند الخصم ، كما مرّ غير مرة.

الثالث : إن مثله وارد في حقّ أسامة بن زيد ، حين سأل النبيّ عليه‌السلام رجل عن أحبّ الناس إليه. فقال عليه الصلاة والسلام : أسامة بن زيد. فلو كان علي أحب إلى الحق من بين الصحابة كان أحب إلى النبيّ أيضا ، إذ لا يحبّ النبيّ إلاّ لما يحبّ الله. فلو كان أحبّ إليه عليه‌السلام مطلقا كان حديث أسامة معارضا له ، فلا بدّ من تخصيص ، فلم يبق حجة.

الرابع : إنّه مضمحل بتقديم النبيّ أبا بكر في الصلاة » (١).

__________________

(١) نجاة المؤمنين ـ مخطوط.

١٨٢

دعوى وضع الحديث كاذبة

أقول : أمّا الوجه الأوّل فما ذكره فيه من « أنّه ذكر مهرة فنّ الحديث أنّه موضوع » فنسبة كاذبة ودعوى فارغة ، إذ قد عرفت سابقا وآنفا أن مهرة فن الحديث لا يقولون بأنّه موضوع ، ومن ادّعى ذلك كابن تيميّة فليس من مهرة فنّ الحديث ، وليس لدعوى ذلك وجه يصلح للإصغاء.

فرية على الفتني

وقوله : « كما صرّح به محمّد بن طاهر الفتني ... » فرية واضحة ، فقد ذكرنا سابقا عبارة الفتني في ( تذكرة الموضوعات ) وليس فيها نسبة القول بوضع هذا الحديث إلى مهرة فنّ الحديث ، وإنّما ذكر عن المختصر أن طرقه ضعيفة وأنّ ابن الجوزي ذكره في الموضوعات ... وأين هذا من ذاك؟ وقد عرفت أنّ دعوى من يدّعي ضعف جميع طرق حديث الطير كاذبة ، ونسبة إيراد ابن الجوزي إيّاه في الموضوعات افتراء عليه ...

المناقشة في دلالته مردودة

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو المناقشة في دلالة حديث الطير على مراد الإمامية ـ فسيظهر اندفاعه من الوجوه التي سنذكرها في بيان دلالة هذا الحديث على ما يذهب إليه الإماميّة ، إذ حاصل ذلك أنّه يدلّ على أفضلّية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والأفضلية مستلزمة للإمامة بلا كلام.

دحض المعارضة بما رووه في حق أسامة

وأمّا الوجه الثالث فواضح البطلان. أمّا أولا : فلأن الحديث الذي ذكره الكشميري غير وارد بهذا اللّفظ في شيء من روايات أهل السنّة.

١٨٣

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا الحديث بأيّ لفظ كان ـ من متفردّات أهل السنّة وما كان كذلك فهو غير صالح لإلزام الإماميّة به ، ولا اقتضاء له لحملهم على رفع اليد عن عموم حديث الطّير به. وأمّا ثالثا : فلأنّ ما رووه في أحبيّة أسامة ليس عندهم في مرتبة حديث الطّير ، فإنّ حديث الطّير ـ كما فصّل سابقا ـ متواتر مقطوع بصدوره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد بلغت طرقه حدّا في الكثرة حمل بعض أعلام حفّاظهم على جمعها في أجزاء مفردة. أما حديث أحبيّة أسامة فلم تتعدّد طرقه فضلا عن التواتر والثبوت.

ردّ الاستدلال بما ادّعاه من تقديم النبيّ أبا بكر في الصلاة

وأمّا الوجه الرابع ـ وهو دعوى اضمحلال حديث الطير ومفاده بتقديم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر في الصّلاة ـ فأوهن وأسخف ممّا تقدمه ، وهو يدلّ على بعد الكشميري عن أدب المناظرة والإحتجاج ... وذلك لأنّ تقديم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر في الصلاة من الموضوعات ، وفيهم من اعترف بوقوع الاختلاف والاضطراب الفاحش في روايات القصّة كابن حجر العسقلاني في شرح البخاري ، وهذا الاضطراب والإختلاف دليل الوضع والافتعال لدى جماعة من الأكابر منهم : كابن عبد البرّ ، والأعور ، والكابلي ، و ( الدهلوي ) كما تبين في ( تشييد المطاعن ).

على أنّ الاستخلاف في الصّلاة لا دلالة فيه على الإمامة ، وبهذا صرّح ابن تيميّة حيث قال : « الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بدّ لكلّ ولي أمر ، وليس كلّ من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الامة يصلح أن يستخلف بعد الموت ، فإنّ النبيّ استخلف غير واحد ، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته ... » (١).

__________________

(١) منهاج السنّة ٤ / ٩١.

١٨٤

موجز الكلام في تحقيق خبر صلاة أبي بكر

وحديث صلاة أبي بكر ـ وإن رووه في صحاحهم بطرق عديدة ، واعتنوا به كثيرا ، واستندوا إليه في بحوثهم في الأصول والفروع ـ لم يسلم سند من أسانيده من قدح في الرواة ، على أنّ هناك أدلة وشواهد من خارج الخبر وداخله على أنّ هذه الصلاة لم تكن بأمر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والعمدة في هذا الخبر ما أخرجوه عن عائشة ، وسيأتي بعض الكلام عليه ، وأمّا عن غيرها ، فقد جاء عن أبي موسى الأشعري ـ أخرجه البخاري ومسلم (١) ـ وقد قال الحافظ ابن حجر بأنّه مرسل ، ويحتمل أن يكون تلقّاه عن عائشة (٢).

وجاء عن عبد الله بن عمر (٣) ، ومداره على « الزّهري » وهو من أشهر المنحرفين عن علي عليه الصّلاة والسلام (٤).

وجاء عن ابن عباس ، وهو : « عن أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس » وقد قال البخاري : « لا نذكر لأبي إسحاق سماعا من الأرقم بن شرحبيل » (٥).

وجاء عن عبد الله بن مسعود ، وفيه « عاصم بن أبي النجود » قال الهيثمي : « فيه ضعف » (٦) وعن بعضهم « كان عثمانيا » (٧).

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٣٠ بشرح ابن حجر ، صحيح مسلم بشرح النووي ـ هامش القسطلاني ٣ / ٦٣.

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٢ / ١٣٠.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ٣٠٢ بشرح ابن حجر ، صحيح مسلم بشرح النووي ٣ / ٥٩ هامش القسطلاني.

(٤) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٢.

(٥) هامش سنن ابن ماجة ١ / ٣٩١.

(٦) مجمع الزوائد ٥ / ١٨٣.

(٧) تهذيب التهذيب ٥ / ٣٥.

١٨٥

وجاء عن سالم بن عبيد وفيه « نعيم بن أبي هند » قالوا : « كان يتناول عليا » (١).

وجاء عن أنس ، وفيه : « أبو اليمان عن شعيب عن الزهري » فأمّا « الزهري » فقد تقدم. وأمّا الآخران فقد قالوا : إن « أبا اليمان » لم يسمع من « شعيب » ولا كلمة (٢).

ثمّ إنّ الحديث عن عائشة ينتهي بجميع أسانيده إلى :

١ ـ الأسود بن يزيد النخعي ، وهذا الرجل من المنحرفين عن علي عليه‌السلام (٣) والراوي عنه هو : إبراهيم بن يزيد النخعي ، وهو من أعلام المدلّسين (٤).

٢ ـ عروة بن الزبير ، وهو من المشتهرين ببغض علي (٥) والراوي عنه ابنه « هشام » وهو من كبار المدلّسين (٦).

٣ ـ عبيد الله بن عبد الله ، والراوي عنه عند الشيخين هو « موسى بن أبي عائشة » وقد قال ابن أبي حاتم عن أبيه « تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله في مرض النبيّ » (٧).

٤ ـ مسروق بن الأجدع ، والراوي عنه : شقيق بن سلمة ، وكان عثمانيّا (٨).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١٠ / ٤١٨.

(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٨٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٩٧.

(٤) معرفة علوم الحديث : ١٠٨.

(٥) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٢.

(٦) تهذيب التهذيب ١١ / ٤٤.

(٧) تهذيب التهذيب ١٠ / ٣١٤.

(٨) تهذيب التهذيب ٤ / ٣١٧.

١٨٦

ثمّ نقول :

أوّلا : لقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر بالخروج مع أسامة ، إذ لا ريب لأحد في كونه هو وعمر وغيرهما من كبار المهاجرين والأنصار في بعث أسامة (١).

وثانيا : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد أن علم بخروج أبي بكر إلى الصلاة ـ خرج بنفسه ، وهو معتمد على رجلين ، فنحّاه عن المحراب ، وصلّى بالناس بنفسه الكريمة (٢).

وثالثا : إن من الأمور المسلّمة عدم جواز تقدّم أحد على النبيّ (٣).

ورابعا : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يرى أن صلاة أبي بكر كانت بأمر من عائشة (٤) و « علي مع الحقّ والحقّ مع علي » (٥) ، وهو ما يدلّ عليه سقوط الأسانيد وقرائن الأحوال والشواهد.

وإن شئت التفصيل فراجع رسالتنا في الموضوع (٦).

__________________

(١) فتح الباري ٨ / ١٢٤.

(٢) تجده في جميع الروايات في الصحاح وغيرها.

(٣) فتح الباري ٣ / ١٣٩ ، نيل الأوطار ٣ / ١٩٥ ، السيرة الحلبية ٣ / ٣٦٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩٦ ـ ١٩٨.

(٥) صحيح الترمذي ٣ / ١٦٦ ، المستدرك ٣ / ١٢٤ ، جامع الأصول ٩ / ٤٢٠.

(٦) الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية.

١٨٧

مع القاضي پاني پتي

ومن الطرائف ردّ القاضي پاني پتي ـ وهو من مشاهير متأخري علماء أهل السنّة ، بل بيهقي عصره كما في ( إتحاف النبلاء ) عن ( الدهلوي ) ـ حديث الطير بقوله تبعا للكابلي :

« الرابع ـ حديث أنس بن مالك : إنّه كان عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طائر قد طبخ له فقال : اللهم ائتني بأحبّ الناس إليك يأكل معي ، فجاء علي فأكله. رواه الترمذي.

قال شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أحمد الذهبي في ( التلخيص ) : لقد كنت زمنا طويلا أظنّ أن هذا الحديث لم يحسن الحاكم أن يودعه في مستدركه ، فلمّا علقت هذا الكتاب رأيت القول من الموضوعات التي فيه.

وقد صرّح شمس الدين الجزري بوضع هذا الحديث.

وأيضا : هذا الحديث لا دلالة فيه على الإمامة كما لا يخفى. والمراد من « أحب الناس » : « من أحبّ الناس إليك » كما في قولهم : فلان أعقل الناس.

ومن المحتمل عدم حضور الخلفاء الآخرين في ذلك الوقت.

وقد ورد مثل هذا الحديث في حقّ العباس رضي‌الله‌عنه : روى ابن عساكر من طريق السبكي عن دحية قال : قدمت من الشام وأهديت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاكهة يابسة من فستق ولوز وكعك. فقال : اللهم ائتني بأحبّ أهلي إليك يأكل معي. فطلع العبّاس ، فقال : يا عم أجلس. فجلس وأكل.

لكن سنده واه » (١)

__________________

(١) السيف المسلول ـ مخطوط.

١٨٨

تصرّفه في لفظ الحديث

أقول : أوّل ما في هذا الكلام تحريفه لفظ الحديث ، فقد بدّل لفظ « أحبّ الخلق » إلى « أحبّ الناس ».

تصحيفه عبارة الذهبي

ثمّ إنّه ذكر كلمة الذهبي « لم يجسر الحاكم » بلفظ « لم يحسن » وهكذا ترجمها إلى الفارسيّة.

دعواه أنه موضوع مع اعترافه بإخراج الترمذي إيّاه

وهو يدّعي أنّ الحديث موضوع مع اعترافه بإخراج الترمذي إيّاه حيث قال : « رواه الترمذي » ... وهل في « الترمذي » حديث « موضوع »؟

لكنّ الحديث عند الترمذي بلفظ « أحبّ الخلق » لا « أحبّ الناس » وكلمة الذهبي « لم يجسر » لا « لم يحسن ».

ومن هذا كلّه يظهر أنّ الرّجل بصدّد أن يكتب شيئا ليكون بزعمه ردّا على استدلال الإماميّة بهذا الحديث ، فجاء بعبارات الكابلي ولم يكلّف نفسه مشقة مراجعة ( الترمذي ) و ( تلخيص المستدرك ).

نسبة القول بوضعه إلى ابن الجزري

كما أنّه تبع الكابلي في نسبة القول بأنّه حديث موضوع إلى ابن الجزري ، هذه النسبة التي لا شاهد على ثبوتها ، بل تدل القرائن على كذبها.

مناقشة في دلالته وتأويله للفظه

وفي الدلالة تبع الكابلي في دعوى أنّ هذا الحديث لا يدلّ على الإمامة

١٨٩

لكنها دعوى فارغة عاطلة ... ثمّ ادّعى كون المراد من « أحب الناس » هو « من أحبّ الناس » ... ادعى هذا جاز ما به ، والحال أنّه لو كان هذا الحديث موضوعا كما يزعم فمن أين يثبت أنّ هذا الذي ذكره هو المراد حتما؟

احتماله عدم حضور الخلفاء وقت القصّة

ومع ذلك ، احتمل ـ تبعا للكابلي ـ أن لا يكون الخلفاء حاضرين في المدينة وقت قصّة الطير ودعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحضور « أحبّ الخلق » إلى الله وإليه ، إلاّ أنّه ليس إلاّ محاولة أخرى لإسقاط دلالة الحديث الشريف على أفضلية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ...

ومن أدلّة بطلان هذا الاحتمال وسقوطه : خبر الطير برواية النسائي.

معارضته الحديث بحديث اعترف بوهنه

ولقد زاد القاضي في الطنّبور نغمة أخرى ، فجاء بما لم يذكره أسلافه ... فزعم معارضة حديث الطير بما وضعه بعض الكذّابين منهم في مقابلته ... لكن الذي يهوّن الأمر قوله بالتالي : « لكنّ سنده واه ».

١٩٠

مع حيدر علي الفيض آبادي

ولقد اغترّ المولوي حيدر علي الفيض آبادي بكلمات الكابلي و ( الدهلوي ) في هذا الباب وحسبها كلمات حقّ فقال على ضوئها :

« كيف لا تكون أحاديث تقديم أبي بكر في الصلاة ـ هذه الأحاديث التي رواها أكثر فقهاء الصحابة بل الخلفاء الرّاشدون الملازمون لصحبة خاتم النبيّين ، وكذا أهل البيت الطّاهرون ، وبلغت حدّ التواتر والاستفاضة ، بحيث انقطع بها نزاع المنازعين في مجمع المهاجرين والأنصار ، واستدلّ بها المرتضى والزبير ـ دليلا لاستحقاق الصدّيق للخلافة ، ثمّ يستدلّ بخبر الطير غير الثابت صحتّه ، وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، لإثبات مقصود الشيعة؟

وكيف تفيد مثل هذه الأحاديث ما يدّعيه المخالفون؟ والحال أنّ الإمامة عندهم ـ في الحقيقة ـ أصل الأصول ، وقد صرّحوا آلاف المرّات بأنّه لا يفيد في هذا الباب إلاّ الروايات المتواترات خلافا لجمهور أهل السنّة القائلين بأنّ الإمامة من الفروع؟ » (١).

كيف تكون الأكاذيب أدلّة على خلافة الثلاثة؟

أقول : إنّ هذا الكلام الذي تفوّه به الفيض آبادي كلام لا يفضح إلاّ نفسه ، ولا يثبت إلاّ جهله أو تعصبّه ... كيف يجعل الأحاديث الّتي وضعها الموالون لأبي بكر ثابتة فضلا عن استفاضتها وتواترها؟ إنّه لا طريق إلى ذلك إلاّ أن يسمّى « الموضوع » بـ « الصحيح » و « الخامل » بـ « المشهور » و « المنكر »

__________________

(١) القول المستحسن في فخر الحسن ـ فضائل أبي بكر ، مبحث صلاته.

١٩١

بـ « المستفيض » و « الباطل » بـ « المتواتر » فإنّه عندئذ يكون لما ذكره وجه!! إنّ هذه الأحاديث التي يدّعيها الرجل وأمثالها إذا وضعت في ميزان النقد ليست إلاّ هباء منثورا ، وكانت كأن لم يكن شيئا مذكورا؟!

ولا تكون الصحاح والمتواترات أدلّة على خلافة الأمير؟

وأمّا أدلّة إمّامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأفضليته : ... فمن تتّبع أسفار القوم وروايات أئمتهم الأساطين ، ونظر فيها بعين الإنصاف ، يرى أنّها أدلّة محكمة رزينة وبراهين متقنة متينة ، بحيث لا يؤثر فيها قدح قادح أو طعن طاعن ...

ومن ذلك حديث الطّير ... فإنّ من نظر في رواته وأسانيده في كتب القوم يذعن بصحّة إحتجاج الإماميّة به على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام. وكيف لا يكون كذلك؟ وهو حديث رواه أركان مذاهب أهل السنّة وأساطين علمائهم وأعاظم فقهائهم في القرون المختلفة عن التابعين ومعاريف الصحابة الملازمين لخاتم النبيّين ، بل عن رئيس أهل البيت وسيد العترة أمير المؤمنين عليه‌السلام ...!!

لقد بلغ حديث الطير في الصحة والثبوت حدّا حمل جمعا من أكابر أعلامهم المحققين على الإذعان بذلك.

بل كان ثبوته وصحّته في زمن المأمون العباسي قاطعا لنزاع النازعين في مجمع من الفقهاء.

بل لقد استدل واحتّج به سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الشورى وسلّم به وأذعن بثبوته الزبير وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص.

بل لقد احتجّ به عمرو بن العاص على معاوية؟

وكيف لا يجوز الإحتجاج والاستدلال بهذا الحديث على أهل السنّة وهم

١٩٢

يرون الإمامة فرعا من فروع الدين لا أصلا من أصوله حتى لو لم يكن متواترا؟ فكيف وتواتره ثابت بالقطع واليقين؟

١٩٣
١٩٤

دلالة

حديث الطّير

١٩٥
١٩٦

قوله :

« ومع هذا فإنّه لا يفيد المدّعى ».

حاصل مفاد حديث الطّير خلافة علي

أقول :

إن منع دلالة حديث الطّير على ما يقوله الإمامية واضح البطلان ، فإنّ استدلال الإمامية بهذا الحديث على ما يذهبون إليه في تمام المتانة وكمال الرزانة. وبيانه :

إنّ علّيا عليه‌السلام ـ حسب دلالة هذا الحديث الشريف ـ أحبّ جميع الخلق إلى الله تعالى وإلى رسوله ، وكلّ من كان أحبّ الخلق إلى الله تعالى ورسوله فهو أفضل من جميع الخلائق عند الله ورسوله ، وكل من كان أفضل من جميع الخلائق عند الله ورسوله فهو متعيّن للخلافة عند الله ورسوله ، فينتج أنّ عليا عليه‌السلام متعيّن للخلافة عند الله ورسوله.

الأحبيّة تستلزم الأفضلية

أمّا أن كلّ من كان أحبّ الخلق إلى الله ورسوله فهو أفضل من جميع الخلائق عند الله ورسوله ... ففي غاية الوضوح ، لكنّا نستشهد هنا بكلمات لبعض الأساطين حذرا من مكابرة الجاحدين :

١٩٧

شواهد من كلمات العلماء

قال القسطلاني :

« فإن قلت : من اعتقد في الخلفاء الأربعة الأفضليّة على الترتيب المعلوم ، ولكن محبّته لبعضهم تكون أكثر هل يكون آثما أم لا؟

أجاب شيخ الإسلام الولي العراقي : إنّ المحبة قد تكون لأمر دينيّ ، وقد تكون لأمر دنيوي. فالمحبّة الدينية لازمة للأفضلية ، فمن كان أفضل كانت محبته الدينيّة له أكثر ، فمتى اعتقدنا في واحد منهم أنّه أفضل ثمّ أحببنا غيره من جهة الدين أكثر كان تناقضا ، نعم إن أحببنا غير الأفضل أكثر من محبّة الأفضل لأمر دنيوي كقرابة أو إحسان ونحوه فلا تناقض في ذلك ولا امتناع.

فمن اعترف بأن أفضل هذه الامة بعد نبيّها أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ علي ، لكنّه أحبّ عليا أكثر من أبي بكر مثلا ، فإن كانت المحبّة المذكورة محبة دينية فلا معنى لذلك ، إذ المحبّة الدينية لازمة للأفضليّة كما قرّرناه ، وهذا لم يعترف بأفضليّة أبي بكر إلاّ بلسانه ، وأما بقلبه فهو مفضّل لعلي ، لكونه يحبّه محبّة دينية زائدة على محبّة أبي بكر ، وهذا لا يجوز. وإن كانت المحبة المذكورة دنيوية لكونه من ذرية علي أو لغير ذلك من المعاني فلا امتناع فيه. والله أعلم » (١).

إذن ، المحبّة الدينيّة لازمة للأفضليّة ، وهذا أمر مقرّر.

وقال السبكي :

« محمّد بن أحمد بن نصر الشيخ الإمام أبو جعفر الترمذي شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن شريح ... وكان إماما زاهدا ورعا قانعا باليسير ... قال أحمد ابن كامل : لم يكن للشافعية بالعراق أرأس منه ولا أورع ولا أكثر تقلّلا. وقال

__________________

(١) المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية ـ بشرح الزرقاني ٧ / ٤٢.

١٩٨

الدار قطني : ثقة مأمون ناسك. توفي أبو جعفر في المحرم سنة ٢٩٥. وقد كمل أربعا وتسعين سنة. ونقل أنّه اختلط في آخر عمره.

وله كتاب في المقالات سمّاه كتاب اختلاف أهل الصلاة في الأصول ، وقف عليه ابن الصّلاح وانتقى منه فقال ـ ومن خطّه نقلت ـ إنّ أبا جعفر قلّ ما تعرض في هذا الكتاب لما يختار هو ، وأنّه روى في أوّله حديث : « تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة » عن أبي بكر ابن أبي شيبة. وأنّه بالغ في الردّ على من فضّل الغني على الفقير ، وأنّه نقل : إن فرقة من الشيعة قالوا : أبو بكر وعمر أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، غير أنّ عليا أحبّ إلينا. قال أبو جعفر : فلحقوا بأهل البدع حيث ابتدعوا خلاف من مضى » (١).

وهذا صريح في أنّ أحبيّة غير الأفضل لا وجه لها أبدا.

وقال شاه ولي الله في بيان أفضلية الشّيخين :

« وأمّا أفضليّتهم المطلقة من جهة وجود الخصائل الأربع فيهم فثابتة بالأحاديث الكثيرة ، منها : حديث عمرو بن العاص ـ وهو الحديث الثاني والأربعون من أحاديث هذا المسلك ـ فعن عمرو بن العاص : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته. فقلت : أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال : عائشة فقلت : من الرجال؟! فقال : أبوها. قلت : ثمّ من؟ قال : عمر بن الخطاب.

وذلك كناية عن الأفضلية المطلقة » (٢).

وقال أيضا : « إنّ من ضروريات الدين أن الغرض من العبادات والطاعات وأشغال الصّوفية وغيرهم ليس إلاّ حصول القرب من الله تعالى ، وأن الأنبياء لم يفضلوا على غيرهم ، والأولياء لم يتقدموا على غيرهم ، إلاّ من جهة قربهم عند

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ٢ / ١٨٧.

(٢) إزالة الخفا عن سيرة الخلفا ـ مبحث أفضلّية الشيخين.

١٩٩

الله. ولمّا كان الشيخان أحبّ إلى رسول الله من سائر الصّحابة كانا أحقّ بالخلافة من غيرهما.

أمّا المقدّمة الأولى : فللحديث المستفيض عن عائشة : قيل لها : أيّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أحبّ إليه؟ قال : أبو بكر ثمّ عثمان. وعن عمرو بن العاص قال : عائشة. ومن الرجال أبوها ثمّ عمر. وعن أنس مثله.

والمراد من « الأحب » هنا هو « الأقرب منزلة » بدليل قول عائشة : لو كان مستخلفا لاستخلف أبا بكر ثمّ عمر.

وأمّا المقدّمة الثانية : فلأنّه صلّى الله عليه وسلّم ما ينطق عن الهوى ، وأنّ حبّه بالخصوص لم يكن عن هوى. فالأحبيّة تدل على أفضلية الشيخين » (١).

وقال أيضا في الوجوه الدالّة على أفضلية الشيخين : « النوع الخامس عشر : كون الصدّيق أحبّ من سائر الصّحابة ، فعن عائشة عن عمر بن الخطاب قال : أبو بكر سيّدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أخرجه الترمذي. ومن حديث ابن عباس (٢) ، عن عمر في قصّة البيعة نحوه. رواه الترمذي » (٣).

فهل يبقى ريب لمنصف أو مجال لتعنّت متعصّب في أنّ الأحبيّة تستلزم الأفضليّة؟

وقال ( الدهلوي ) كما في ( مجموعة فتاواه ) :

« فائدة ـ كثرة المحبّة الدينيّة لها معنيان ، الأوّل : أن يعتقد المحبّ في محبوبه زيادة في الأمور الدينية. وهذا المعنى يستلزم البتّة اعتقاده

__________________

(١) إزالة الخفا عن سيرة الخلفا ـ مبحث أفضلّية الشيخين.

(٢) هنا وهم بيّن فإنّ البخاري إنّما روى نحو تلك الألفاظ في مناقب أبي بكر في ضمن قصة البيعة المرويّة عن عروة ، عن ابن عباس ، عن عمر من هذه الألفاظ شيء إلاّ قول عمر : إنّه كان من خيرنا حين توفى الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.

(٣) قرة العينين في تفضيل الشيخين ـ النوع الخامس عشر من فضائل أبي بكر.

٢٠٠