سماحة الإسلام وحقوق الأقليّات الدينيّة

السيد سعيد كاظم العذاري

سماحة الإسلام وحقوق الأقليّات الدينيّة

المؤلف:

السيد سعيد كاظم العذاري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-414-0
الصفحات: ١١٨

بِأَنْفُسِهِمْ ) (١).

ومن السنن الثابتة التي يتساوي أمامها الناس جميعاً ، هي التمتع ببركات الله في حالتي الإيمان والتقوى ، والحرمان منها في صورة التكذيب بآيات الله سبحانه ، قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأََرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢).

وانّ الله تعالى يبتلي دون تمييز اُمة عن اُمة وقوم عن قوم ولون عن لون ، لكي يعودوا إلى الإيمان به والاستقامة على منهجه ، قال الإمام عليّ عليه‌السلام : « إنّ الله يبتلي عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات واغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكّر متذكّر ويزدجر مزدجر » (٣).

والناس متساوون في العقوبة الإلهية إن غيّروا حركة التاريخ المتوجهة نحو الكمال والسمو ، قال تعالى : ( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (٤).

* * *

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١١.

(٢) سورة الاعراف : ٧ / ٩٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ : ٧٦ /الخطبة (١٤٣).

(٤) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٣٤.

٢١

الفصل الثاني

السلم والقتال بين الأصالة والاستثناء

الإسلام دين الرحمة والمسامحة والعفو ، دين التآلف والوئام والتعاون ، دين السلام والأمان ، وهي الاسس الثابتة التي يتعامل بها مع جميع الناس ، وأما كون أحد الأمرين ( القتال ، أو السلم ) أصلاً والآخر فرعاً ، فمختلَف فيه ، فمَن نظر إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والسيرة العملية للمعصومين عليهم‌السلام التي تتحدّث عن الحرب ، ربّما حكم بأن الأصل هو القتال ، ومَن نظر إلى ما ورد في القرآن والسنة بشأن السلم والأمان وحقن الدماء حكم بأصالة السلم وطروء القتال نتيجةً لظروف خارجية وداخلية وتحديات خطيرة تمسّ الدين في كيانه ووجوده.

والصحيح انّه لا أصالة لأي منهما ، فلا أصالة للسلم على حساب الحرب ، ولا للحرب على أساس السلم ؛ لأنّ كلاًّ من السلم والحرب أصل في موضوعه وظروفه ، وأصل على طبق المصلحة الإسلامية العاجلة والآجلة المترتّبة عليه ، ففي الظروف التي يمكن للسلم أن يحقّق النتائج الايجابية للإسلام وللمسلمين يكون أصلاً في التعامل ، فإذا انقلب السلم إلى موقف ضعف أو حالة خطر على الإسلام والمسلمين كانت الحرب هي السبيل المشروع لتحقيق الأهداف.

٢٢

والإسلام لم يرغب في القتال ولم يشجع عليه لذاته ، كما لم يشرع القتال رغبة فيه ، ولم يشرعه للسيطرة على الأراضي والسكان ، ولا طلباً للغنيمة كما هو الحال في سائر الحروب الصليبية والحربين العالميتين الأولى والثانية التي لم يكن فيها للمسلمين ناقة ولا جمل ، كما لم يكن قتال المسلمين من أجل مجد شخصي أو قومي أو طبقي ، كما نلحظه في سياسة القطب الواحد ، وصنيعته اللقيطة إسرائيل. وإنما هدف الإسلام من القتال هو إعلاء كلمة الله تعالى ، والدفاع عن المفاهيم والقيم النبيلة التي يحاول أعداؤه تعطيلها وإلغائها ، وردع العدوان الواقعي أو المحتمل الوقوع.

ولو نظرنا إلى الواقع التاريخي بعمق وواقعية وجدنا ان جميع معارك الإسلام كانت معارك دفاعية لرد عدوان واقعي أو محتمل الوقوع وخصوصاً في صدر الإسلام ، وفيما يلي نستعرض دوافع القتال واهدافه القريبة والبعيدة ، كما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة.

دوافع القتال وأهدافه :

أولاً ـ دفع العدوان

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١).

وفي تفسير ذلك قال العلاّمة الطباطبائي : « القتال محاولة الرجل قتل من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩٠ ـ ١٩٢.

٢٣

يحاول قتله ، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه اقامة الدين واعلاء كلمة التوحيد ، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم ، فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة ، فان الدفاع محدود بالذات ، والتعدي خروج عن الحد ... والنهي عن الاعتداء مطلق ، يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء ، كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق ، والابتداء بالقتال ، وقتل النساء والصبيان ، وعدم الانتهاء إلى العدو ... » (١).

وفي آية اُخرى قال تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله ... ) (٢).

وهذه الآية صريحة ببيان سبب القتال ، وهو الظلم الشديد الذي نزل بساحة المسلمين من لدن المشركين وأعوانهم حتى أخرجوهم من ديارهم ظلماً وعدواناً.

ثانياً ـ الدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين :

قال تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ) (٣).

وقال تعالى : ( ... وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن / العلاّمة الطباطبائي ٢ : ٦١.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٣٩ و ٤٠.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٧٥.

٢٤

قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١).

فقد نفيت بهذه الآية الشريفة الولاية بين المؤمنين المهاجرين والأنصار وبين المؤمنين غير المهاجرين إلاّ ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق (٢).

والدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين أمر مشروع تبيحه جميع الديانات إلهية كانت أم وضعية ، بل يرفع كشعار من قبل الجميع لمحبوبيته ومرغوبيته لدى العقلاء في كلّ زمان ومكان.

ثالثاً ـ قتال ناكثي العهد :

قال تعالى : ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... ) (٣).

في الآية تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحق والحقيقة ، وعدّ خطاياهم وطغيانهم من نكث الايمان والهمّ باخراج الرسول والبدء بالقتال أوّل مرّة (٤).

واختُلف في هؤلاء على أقوال :

فقيل : هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب ، وهموا باخراج الرسول من المدينة وكما أخرجه المشركون من مكة.

وقيل : هم مشركو قريش وأهل مكة ، وهم بدءوكم أول مرة ، أي بدءوكم

__________________

(١) سورة الانفال : ٨ / ٧٢.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ٩ : ١٤٢.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ١٣.

(٤) الميزان في تفسير القرآن ٩ : ١٥٩.

٢٥

بنقض العهد.

وقيل : بدءُوكم بقتال حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خزاعة.

وقيل : بدءُوكم بالقتال يوم بدر (١).

رابعاً ـ حماية العقيدة ورد العدوان المحتمل الوقوع :

قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٢).

والآية نازلة في المشركين، فالمراد بكون الدين لله سبحانه وتعالى، هو أن لا تعبد الأصنام ، وأن يحصل الإقرار بالتوحيد ، وأهل الكتاب مقرّون به (٣).

كما دعا القرآن الكريم إلى رد العدوان المحتمل الوقوع ، لكي لا يعتدى على المسلمين بغتة ، ومن ثم تهديد كيانهم بالفناء ؛ قال الله تعالى : ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) (٤).

وتفسير الآية : انه يجب إبلاغهم بالغاء العهد ، ولا يجوز قتالهم قبل الابلاغ ؛ لانّ ذلك خيانة ، أمّا إذا لم يحتمل الخيانة فلا يجوز نقض العهد معهم (٥).

وعلى ضوء ذلك يمكن القول : انّ ما اصطلح عليه الفقهاء بالجهاد الابتدائي قد يكون في الواقع يحمل روح الجهاد الدفاعي لرد عدوان محتمل الوقوع ؛ لأنّ خصوم المسلمين يتربّصون بهم الدوائر دائماً ، وأعداء الإسلام عموماً لا يروق

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن / الفضل بن الحسن الطبرسي ٥ : ٢٢ ، رابطة الثقافة ، طهران ، ١٤١٧ ه‍.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٣.

(٣) الميزان في تفسير القرآن ٢ : ٦٢.

(٤) سورة الانفال : ٨ / ٥٨.

(٥) الميزان في تفسير القرآن ١٠ : ١١٤.

٢٦

لهم تقرير مفاهيمه وقيمه في واقع الحياة ، ولهذا فانهم يسعون للقضاء عليه وتحجيم دوره ومنع الشعوب من تبنيه عقيدة وفكراً.

وفي جميع الظروف والأحوال فإنّ القتال موقف استثنائي لم يشرّع إلاّ لحماية الإسلام فكرة وعقيدة ووجوداً ، ولذا فهو يدعو إلى التعامل بالبر والعدل مع الذين لم يقاتلوا المسلمين وإن كانوا على غير دينهم ، وهذه ـ في الواقع ـ هي قمة التسامح وذروة الأمان بين أهل الأديان ، قال تعالى : ( لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (١).

والإسلام يدعو إلى العودة في التعامل والعلاقات إلى السلام وإنهاء القتال في أقرب فرصة ( ... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) (٢).

خامساً ـ اخلاقية القتال وانسانية التعامل :

الإسلام دين الرحمة والرأفة والسماحة ؛ يهدف إلى هداية الناس أجمعين وإنقاذهم من جميع ألوان الاضطهاد والعبودية ومن الانحراف والانحطاط ، ويهدف إلى إقامة الحق والعدل ، ولهذا فلا يقاتل حقداً أو عدواناً حتى على المعتدين ، وهذا واضح من خلال التأكيد على إشاعة قيم العفو والرحمة في ميادين القتال ، وتتجسد أخلاقية القتال في المظاهر التالية :

١ ـ حرمة القتال قبل القاء الحجة :

مهما كانت دوافع وأسباب القتال فهو محرّم قبل إلقاء الحجة على أعداء

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ٨.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٠.

٢٧

الإسلام ، فقد أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك قائلاً : « يا عليّ ، لا تقاتل أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام ، وأيم الله لان يهدي الله عزّوجلّ على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه » (١).

وحرمة القتال قبل الدعوة إلى الإسلام قد أفتى بها المتقدّمون من فقهاء الإمامية ، نكتفي بذكر اثنين منهم :

قال الشيخ الطوسي ( ت / ٤٦٠ ه‍ ) : « ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلاّ بعد دعائهم إلى الإسلام » (٢).

وأفتى أبو الصلاح الحلبي ( ت / ٤٧٧ ه‍ ) بعدم البدء بالقتال حتّى بعد إلقاء الحجة حتّى يكون الأعداء هم الذين يبدؤون (٣).

٢ ـ النهي عن قتل النساء والأطفال والشيوخ

نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ، ومن تعاليمه في القتال ما رُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول : سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، لا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها ... » (٤). وهذا الحكم محل اتفاق الفقهاء.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣٦ / ٢ ، باب الدعاء إلى الإسلام ، كتاب الجهاد.

(٢) النهاية / الشيخ الطوسي : ٢٩٢ ، انتشارات قدس محمدي ، بدون تاريخ.

(٣) الكافي في الفقه / أبو الصلاح الحلبي : ٢٥٦ ، مكتبة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أصفهان ، ١٤٠٣ ه‍.

(٤) وسائل الشيعة / الحر العاملي ١٥ : ٥٨ ، باب : ١٥ ، كتاب الجهاد.

٢٨

قال الشهيد الاول محمد بن مكي العاملي ( ت / ٧٨٦ ه‍ ) : « ولا يجوز قتل المجانين والصبيان والنساء وإن عاون إلاّ مع الضرورة » (١).

وقال الشيخ محمد حسن النجفي ( ت / ١٢٦٦ ه‍ ) : « ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونتهم إلاّ مع الاضطرار ، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك » (٢).

فالاسلام لا يرغب في القتال إلاّ اضطراراً ، ولا يستهدف إلاّ الهداية والاصلاح ، ولذا حرّم قتل من ذُكر ، وإن كانوا من الأعداء.

٣ ـ حرمة إلقاء السمّ في بلاد المشركين

لم يكن هدف الإسلام من تشريع القتال الانتقام ، وإنّما الهداية أولاً ، وردّ العدوان ثانياً ، لذا حرّم استخدام أسلحة الدمار الشامل ومنها إلقاء السمّ.

عن الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يلقى السمّ في بلاد المشركين » (٣).

ويمكن القول بأن الرواية وإن كانت دالّة على خصوص السمّ ، إلاّ انها شاملة لكل المبيدات العامة ، بحيث يذهب البرئ بذنب المجرم والأعزل بذنب المسلَّح ، كما هو الحال في السلاح الذرّي والنووي والجرثومي وأمثالها من أسلحة الدمار الشامل الشائعة في عالم اليوم.

__________________

(١) غاية المراد / الشهيد الأول ١ : ٤٨٢ ، مركز الأبحاث والدراسات ، قم ، ١٤١٤ ه‍.

(٢) جواهر الكلام / الشيخ محمّد حسن النجفي ٢١ : ٧٣ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ١٩٨١ م.

(٣) الكافي ٥ : ٢٨ / ٢ ، باب وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام في السرايا ، كتاب الجهاد.

٢٩

٤ ـ حرمة الغدر والغلول والمثلة والتخريب الاقتصادي

حرّم الإسلام استخدام الوسائل الوضيعة حتى في قتال المعتدين ؛ لأنّه جاء رحمة للعالمين وليس انتقاماً ، فمن وصايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمراء جيشه : « سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها ... » (١).

وقال أبو الصلاح الحلبي : « ... ولا يجوز حرق الزرع ، ولا قطع شجرة الثمر ، ولا قتل البهائم ، ولا خراب المنازل ، ولا التهتّك بالقتل » (٢).

وقال الشهيد الأول : « ولا يجوز التمثيل ولا الغدر ولا الغلول » (٣).

ومن رحمة الإسلام ورأفته حتى بمن قاتلهم لردّ كيدهم ، ما نجده في حديث الامام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله عزّوجلّ في خاصة نفسه ثمّ في أصحابه عامة ، ثمّ يقول : اغزُ باسم الله وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ولاتغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً ولا متبتّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً ، لأنكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه ، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه ، إلاّ ما لا بّد لكم من أكله ... » (٤).

وفي هذا النصّ المعتبر مايوضّح النهي الصريح عن الغدر ، والغلول ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣٠ / ٩ من الباب السابق.

(٢) الكافي في الفقه : ٢٥٦.

(٣) غاية المراد ١ : ٤٨٢.

(٤) الكافي ٥ : ٢٩ / ٨ ، من الباب السابق.

٣٠

والتمثيل ، وقتل الأطفال ، والمنعزل عن القتال ، مع مراعاة حرمة النبات والحيوان أيضاً.

٥ ـ وجوب الاستجابة للاستجارة وطلب الأمان

من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية حقن الدماء ، ولهذا فقد أوجب الإسلام جميع الوسائل والمقدمات المؤدية إلى حقن الدماء ، ومنها الاستجابة للاستجارة ان استجار المعتدي بالمسلم وطلب الأمان منه ، كما في قوله تعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (١).

وفي حديث الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعث سرية دعا بأميرها .. إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وايما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام الله ، فإذا سمع كلام الله عزّوجلّ فإن تبعكم فأخوكم في دينكم ، وإن أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه مأمنه » (٢).

ولا فرق بين المجير حراً كان ام عبداً ، فحكمه نافذ على الجميع في حال اجارته لأحد من المشركين أو الاعداء.

عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ عليّاً صلى‌الله‌عليه‌وآله أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون ، وقال : هو من المؤمنين » (٣).

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : « ما من رجل آمن رجلاً على ذِمَّةٍ ثمّ قتله ، إلاّ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٦.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠ / ٩ ، من الباب السابق.

(٣) وسائل الشيعة ١٥ : ٦٧ ، باب : ٢٠ ، كتاب الجهاد.

٣١

جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر » (١).

والأمان هو الغاية في التعامل ، وان رفض المسلمون طلب الأمان لضرورة معينة وظنّ الأعداء انهم استجابوا لهم ، كان ذلك الظن أماناً لهم ؛ لانّ هدف الإسلام هو حقن الدماء في جميع الأحوال.

قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « لو انّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان ، فقالوا : لا ، فظنّوا انّهم قالوا : نعم ، فنزلوا إليهم ، كانوا آمنين » (٢).

٦ ـ الوفاء بالعهد

أوجب الإسلام الوفاء بالعهد ، فلا يجوز نقضه مادام العدو ملتزماً به ، وقد جسد الإسلام بهذا الوجوب السماحة والسلام وحقن الدماء ، وأثبت للجميع انّه لا يقاتل إلاّ دفاعاً عن المقدسات وعن النفس ردعاً للعدوان.

قال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام : « ان وقعت بينك وبين عدوّك قصة عقدت بها صلحاً وألبسته بها ذِمَّة فحُط عهدك بالوفاء ، وارع ذِمّتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنّة بينك وبين ما اعطيت من عهدك » (٣).

وقال عليه‌السلام : « ما أيقن بالله من لم يرع عهوده وذِمَّته » (٤).

وقال عليه‌السلام : « فلا تغدرن بذِمّتك ، ولا تغفر بعهدك ، ولا تغتلن عدوّك ، فإنه لا يجترئ على الله إلاّ جاهل ، وقد جعل الله عهده وذِمّته أمناً أفضاه

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١ / ٢ ، باب إعطاء الأمان ، كتاب الجهاد.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٦٨ / ٤ ، باب جواز إعطاء الأمان ووجوب الوفاء ، كتاب الجهاد.

(٣) تصنيف غرر الحكم / عبدالواحد الآمدي : ٢٥٢ ، مكتب الاعلام الإسلامي ، قم ، ١٩٨٧ م.

(٤) تصنيف غرر الحكم : ٢٥٣.

٣٢

بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره ، فلا خداع ، ولا مدالسة ، ولا إدغال فيه » (١).

وكانت سيرة المسلمين قائمة على الوفاء بالعهد ، فلم ينكثوا العهد بعد اتمامه ، ولم يحدثنا التاريخ انهم نقضوا العهد مع المعاهدين.

ويجب الوفاء بالعهد وان تضرر منه آحاد المسلمين ، فحينما عاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المشركين بتسليم من جاءه من قريش مسلماً ، وفى بذلك وسلم اثنين من المسلمين اليهم وفاءً منه بالعهد (٢).

والوفاء بالعهد محل اجماع الفقهاء كما صرّح به الشيخ محمد حسن النجفي في كتاب الجواهر (٣).

٧ ـ حسن المعاملة مع الأسرى

أمر الإسلام بحسن المعاملة مع الأسرى وإن كانوا معتدين قبل الأسر انسجاماً مع غاياته وأهدافه في هداية الناس واعادتهم إلى الرشد.

وحسن المعاملة ثابت في جميع الظروف والأحوال ، فلا يباح قتل الأسير من قبل أي مسلم ، وهذا الأمر مرجعه إلى امام المسلمين وليس لآحادهم واجتهاداتهم الشخصية التي قد لا تصيب الواقع في أغلب الظروف.

قال الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام : « إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي

__________________

(١) تحف العقول : ٩٧.

(٢) إعلام الورى بأعلام الهدى / الفضل بن الحسن الطبرسي : ١٠٦ ، دار المعرفة ، بيروت ، ١٣٩٩ ه‍.

(٣) جواهر الكلام ٢١ : ٩٧.

٣٣

وليس معك محمل فأرسله ولاتقتله ، فإنك لاتدري ما حكم الإمام فيه » (١).

ويجب اشباع حاجات الأسير من طعام وشراب وان كان حكمه القتل لضرورة خاصة.

قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « اطعام الأسير حق على من أسره ، وإن كان يراد من الغد قتله ، فانّه ينبغي أن يطعم ويسقى ويرفق به كافراً كان أو غيره » (٢).

وقال الإمامان الباقر والصادق عليهما‌السلام : « إذا وضعت الحرب اوزارها واثخن أهلها ، فكل أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم ، فالامام فيه بالخيار إن شاء منّ عليهم فأرسلهم ، وإن شاء فاداهم أنفسهم ، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيداً » (٣) ، وهناك جملة من الروايات في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بهذا المعنى.

والمشهور بين فقهاء الإمامية ـ استناداً إلى تلك الروايات أن الامام ـ وهو المسؤول الاعلى في المجتمع ـ أو من يوكله يكون مخيراً بين إطلاق الأسير بدون فداء وهو المنّ ، أو إطلاقه مقابل جزء من المال وهو الفداء ، وأما القتل فلا ، وقد صرّح القرآن الكريم بهذا في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (٤) ثمّ

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣٥ / ١ ، باب الرفق بالأسير وإطعامه ، كتاب الجهاد.

(٢) الكافي ٥ : ٣٥ / ٢ ، من الباب السابق.

(٣) الكافي ٥ : ٣٢ / ١ ، باب إعطاء الأمان ، كتاب الجهاد.

(٤) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤٧ / ٤.

٣٤

جاءت السنّة الشريفة لتؤكد الأمر الثالث وهو الاسترقاق.

والواجب في مدّة بقاء الأسير ليس هو إطعامه فقط ، بل الرفق به والاحسان.

وما قد يقال من أن مسألة استرقاق الأسير تتنافى وسماحة الإسلام ومثله وقيمه الإنسانية النبيلة ، فالجواب من وجهين :

الوجه الأول : ان العرف السائد بين جميع الأمم في ذلك الحين هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم أو اطلاقهم بفداء ، وقد حصل هذا فعلاً لعشرات المسلمين الذين وقعوا أسرى بيد العدو في سائر المعارك الدفاعية التي خاضها المسلمون. فضلاً عما كان يجري يومئذ من انتهاك أعراض النساء وقتل الأطفال وحرق البيوت وما شابه ذلك من أفعال همجية وتخريبية قد رفضها الإسلام بشدة في سلوكه وآدابه الحربية.

ولما لم يكن من أدب الإسلام معاملة العدو بالمثل في مثل هذه الأفعال ، فإنه ليس من المعقول أن يشجع عدوّه عليه في موضوع الأسرى فيطلقهم وهو يرى كيف يسترق العدو أسرى المسلمين ويسيء معاملتهم جداً ، فضلاً عن اخضاعهم للتعذيب الجسدي ، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء بعض الصحابة الذين اُسروا وماتوا تحت التعذيب.

فمسألة الاسترقاق ضرورة لازمة ما دام العدو مصرّاً عليها ، علماً بأن انحسار الاسترقاق تدريجياً في الإسلام ، ثمّ محوه بشكل كامل ناتج عن تشجيع الدين الإسلامي لمعتنقيه ، كما هو واضح في كثير من تشريعاته الفقهية على إنهاء الاسترقاق ، وأما اتفاق الدول والأمم في العصور المتأخرة على محو هذه الظاهرة فقد جاء متأخراً بالقياس إلى محوها في الإسلام.

٣٥

الوجه الثاني : إن الغاية من الاسترقاق ليست اهانة المسترق في نظر الإسلام ، ومن يبتغي إهانة شخص فكيف يكرمه ؟ بل كيف تجتمع اهانته مع معاملته في غاية الاحسان ؟ الأمر الذي يكشف عن هدف أسمى ، ذلك لأن بقاء الأسرى في المحيط الإسلامي مدّة سيكون باعثاً قوياً على اهتدائهم للدين الإسلامي وترك عقائدهم الفاسدة ، وبهذا يكون الاسترقاق وسيلة لهدايتهم بخلاف ما لو تم اطلاقهم منّاً أو فداء ؛ إذ سوف لن يقفوا عن كثب على تعاليم هذا الدين المنسجمة مع فطرتهم ، ولن يلمسوا سماحته ولطفه ورقّته.

وبهذا يكون المقصد الأعلى من الاسترقاق عائداً لمصلحة المُسترَق في الواقع ، وقد سجل لنا التاريخ الإسلامي صفحات مشرقة في هذا الجانب باهتداء جلّ المُسترَقّين حتى كان لبعضهم أو لأبنائهم شأن عظيم ، وهناك عشرات الشخصيات الإسلامية المعروفة التي هي محل اعتزاز سائر المسلمين قد جاءت إلى الإسلام من هذا الطريق.

* * *

٣٦

الفصل الثالث

فكرة عن الحروب الدفاعية

والوقائية في العهد النبوي

المتتبع للسيرة النبوية الشريفة ولمعارك الصدر الأول للاسلام ، يرى أن الإسلام لم يكن راغباً في الدخول فيها ، وانّما فرضت عليه من قبل إعدائه ، ولم يدخلها ابتداءً إلاّ بعد سلسلة من الممارسات القمعية والارهابية قادها اعداؤه تجاه القيادة المتمثلة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجاه المسلمين.

وعلى أساس هذه المفاهيم والقيم كانت حروب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعية ، ولم تكن منها حروب هجوم إلاّ على سبيل المبادرة بالدفاع عن النفس بعد التيقن من نكث العدو للعهود ، وإصراره على الغدر والعدوان.

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى الإيمان بالله تعالى والتخلي عن عبادة الأصنام ، ويدعو إلى ارساء القيم الصالحة في العلاقات والمعاملات ، وإلى تطبيق العدالة والغاء الفوارق والاضطهاد والاستغلال ، ويدعو إلى مكارم الاخلاق ، فكانت دعوته سلمية ليس فيها عداء ولا ظلم ولا صدام ، إلاّ أنها جوبهت بعنف وعدوانية من قبل المشركين ، فلم يكتفوا بالتكذيب وبث الاشاعات والاستهزاء تجاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل مارسوا الاضطهاد والأذى الجسدي

٣٧

وبأساليب لا تتناسب حتى مع القيم الجاهلية التي تعيب ممارسة الوسائل الوضيعة مع الخصوم والاعداء.

وعلى سبيل المثال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساجد وحوله ناس من قريش ، فقالوا : من يأخذ سلى هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره ؟ فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

واستمر مشركو قريش في مواجهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن آمن به ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ.

وكان ممن عُذِّبوا بلال الحبشي ، وكان اميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمّد ، وتعبد اللات والعزّى ، فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد.

وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة ، ويعذّبونهم برمضاء مكّة ، فيمرّ بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول : « صبراً آل ياسر موعدكم الجنة » ، وقد قتل المشركون سميّة أم عمّار لانها أبت موافقتهم على كفرهم ، وبهذا استحقت وسام أوّل امرأة شهيدة في الإسلام (٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر المسلمين بالصبر ، ولم يتخذ أي موقف مسلح لردّ العدوان ، بل بقي يدعو إلى الصبر والاكتفاء بالحذر والاستتار عن أعين المشركين ، إلى أن يأذن الله تعالى بأمره.

__________________

(١) إعلام الورى بأعلام الهدى : ٥٧.

(٢) بحار الأنوار / العلاّمة المجلسي ١٨ : ٢٤١ ـ ٤١١.

٣٨

الدعوة إلى الهجرة

لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يصيب أصحابه من البلاء ، وماهو فيه من العافية ، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب عليه‌السلام ، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم ممّاهم فيه من البلاء ـ إلاّ بالقتال ـ أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إنّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عزّوجلّ للمسلمين فرجاً (١).

وهكذا اختاروا الهجرة على أي موقف آخر ، لانّ الإسلام لايرغب في القتال ابتداءً ، ولا يرغب في المواجهة المسلحة في بداية الطريق لتجنب الدماء وللحفاظ على أرواح الناس من مسلمين ومشركين مادام هنالك أمل في انضوائهم تحت راية الإسلام عاجلاً أم آجلاً ، فكانت الهجرة تجنباً لحدوث صراع دموي يخلّف الاحقاد في القلوب والمشاعر ، ويحول دون تحقيق أهداف الدين الجديد في دعوته إلى هداية الناس جميعاً.

المقاطعة الشاملة

لما رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً ، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، اجتمعوا وتآمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبدالمطّلب ؛ على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، فلما كتبوا الصحيفة وعلقوها في جوف الكعبة ، انحازت بنو هاشم وبنو عبدالمطلب إلى أبي طالب عليه‌السلام فدخلوا معه شعبه ، فأقاموا على ذلك أربع

__________________

(١) بحار الأنوار ١٨ : ٤١٢.

٣٩

سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبايعون إلاّ في الموسم ، وأصابهم الجهد ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً حتى نقتله ، ونملّكك علينا ، فقال أبو طالب عليه‌السلام قصيدته اللاّمية والتي جاء فيها :

كذبتم وبيت الله يبزى محمّد

ولما نطاعن دونه ونقاتل (١)

وتوفي مؤمن قريش أبو طالب رضوان الله تعالى عليه بعد انتهاء المقاطعة بوقت قصير ، فاشتدّ البلاء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونالت قريش منه من الاذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب عليه‌السلام ، حتى اعترضه أحدهم فنثر على رأسه تراباً ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبوطالب » (٢).

وقابل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأذى بالصبر والتحمّل ، ولم يتخذ أيّ موقف يؤدي إلى إراقة الدماء طمعاً في إيمان الكثير من المشركين ولو بعد حين.

الإذن بالقتال :

استمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الدعوة السلمية في داخل مكة وخارجها ، وكان يعرض الإسلام على القبائل القادمة من خارج مكة في موسم الحج ، ففي أحد المواسم التقى مع جماعة من أهل يثرب فدعاهم إلى الله عزّوجلّ ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فأجابوه فيما دعاهم اليه ثم انصرفوا إلى بلادهم ، حتى إذا كان العام المقبل لقوه عند العقبة وبايعوه.

وبعد عام من هذه البيعة خرج جماعة من مسلمي يثرب إلى الموسم حتى

__________________

(١) بحار الأنوار ١٩ : ١ ، ٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب / العلاّمة ابن شهرآشوب المازندراني ١ : ٦٧ ، باب ذكر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصل فيما لقيه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه بعد موت عمّه.

٤٠