سماحة الإسلام وحقوق الأقليّات الدينيّة

السيد سعيد كاظم العذاري

سماحة الإسلام وحقوق الأقليّات الدينيّة

المؤلف:

السيد سعيد كاظم العذاري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-414-0
الصفحات: ١١٨

١

٢

٣

٤

مقدمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة على نبيّنا محمّد وآله الطاهرين ، وبعد ..

إنّ من أبرز سمات الفكر المتحضّر شموليته ، بحيث لا يضيق ذرعاً بجانب ما وإن أبدع في سائر الجوانب الحياتية الأخرى ، ومرونته بامكان الاستفادة منه في علاج ما يستجد من مشاكل الحياة المعاصرة ، وانسجامه مع طموحات الإنسان وتلبية حاجاته في كلّ عصر وجيل. وسلامة مبادئه من العصبية والتطرف على حساب جنس أو لون ، مع قوّته في ذاته بسلامة حجته ، ومتانة دليله ، ووضوح منطقه ، ومن الواضح ان فكراً عالمياً بهذه المواصفات لا يمكن أن يكون من نتاج عقلية بشرية ، وإن بلغت من السموّ والارتقاء إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه العقول من درجات ، كما لا يمكن العثور عليه حتى في نطاق الأديان السماوية التي جاءت لقوم دون آخرين لتعالج مشاكل اُمة معينة في مرحلة من مراحل عتوّها وجبروتها ، ولا شكّ أنّ الدين الوحيد الذي لم يحصر خطابه باُمة معينة ، وإنما خاطب الناس كافة هو الإسلام الذي جاء متمّماً لدعوة الأنبياء جميعاً ، وبكماله وتمامه انقطع وحي السماء ، وهذا يعني تمامية فكره وانسجامه مع الحياة في كلّ زمان ومكان ، إذ لا يعقل أن يرتضيه الله ديناً لجميع العباد ويتركه ناقصاً ليتمّمه البشر ! وقد نبّه القرآن الكريم على هذه الحقيقة بآيات كثيرة ، كما طفحت بها السنّة النبوية ، وفاضت على جنبات مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن مؤشرات عظمة هذا الدين أنه لم ينتشر عن طريق القوّة كما يدّعيه خصومه ، كما لم تكن آيات القتال في دستوره وسيلة من وسائل الاكراه على العقيدة ، وإنما انتشر بقوة الفكر على خلاف ما كان في تاريخ انتشار الديانات الأخرى ، ورفض مبدأ الضغط والإكراه في الدين وأبطل كل ما يقوم على هذا المبدأ من عقائد ؛ وشرطه في العقيدة أن تُبنى على القناعة في الفكر والسلوك ، وأما القوّة في أدبياته فهي لدفع العدوان والقضاء على الظلم والفساد ، وإلاّ فهي أعجز من أن تنفذ إلى أعماق الإنسان لتكسبه عقيدة ، والأسلوب الحضاري الذي سلكه الإسلام في جذب الناس إليه يتمثّل في دعوته إليهم بالتي هي أحسن من خلال الكلمة الطيبة التي تفوح بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وفتح أبواب الحوار الهادئ الموضوعي ، ونبذ اللجاج والعصبية ، وترك الاحتجاج بغير الدليل المقنع. وقد اضطرد هذا الأسلوب في القرآن والسنة كما نلحظه بوفرة في احتجاجات أهل البيت عليهم‌السلام مع المشركين ، والثنوية ، والدهرية ، والزنادقة ، وأهل الكتاب ، والصابئة ، وغيرهم من أصحاب الديانات والملل الأخرى.

ومن منهج الإسلام إنه هيّأ مستلزمات الدخول إلى الإيمان، وبسطها بوضوح، وجعلها في متناول الجميع ثمّ ترك الناس وشأنهم في حرية الاختيار ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ، وهذه هي سنّة الله تعالى في عباده ، إذ لم يشأ أن يخلق الإيمان فيهم خَلقاً كما خلق أجسادهم وركّب صورهم.

ومن مبادئه أيضاً أنه رفض الانطلاق مع الحياة على أساس وحشي باستخدام أساليب التعسّف والارهاب التي لا تعترف بحرية الإنسان وأمان الشعوب ، لأنّ الإنسان من حيث المبدأ الإسلامي العامّ حرٌّ ومسؤول ، وأن أي تقييد له خارج إطار نظامه العامّ ، يُعد انتقاصاً لكرامته وقد رفع الله سبحانه من مقامه ، وأعزّه وسخر له ما في الأرض جميعاً. وأما الشعوب فإنّ الله خلق الناس شعوباً ليتعارفوا ، لا ليستذلَّ بعضهم رقاب بعض ، ولا ليسود جنس على آخر ،

٥

وبذلك فهو يرفض الحرب التي تثيرها عصبية الدين أو الجنس أو اللون أو اللغة ، ويرفضها بقصد الاكراه على الدخول في الإسلام ، أو بقصد جرّ المغانم والاستلاب وامتصاص ثروات الشعوب ، أو لأجل اكتساب الأمجاد الشخصية للملوك والقوّاد. وليس في الإسلام ما يُبيح المذابح الوحشية كما حصل في محاكم التفتيش في الأندلس ، والأحباش في الصومال وأرتيريا ، وفرنسا في الجزائر ، وبريطانيا في الهند وسائر مستعمراتها ، وروسيا في الشيشان ودول البلقان ، ويوغسلافيا في أقاليمها ، والصرب في البوسنة والهرسك وسراييفو ، والهند في كشمير ، وأمريكا في هيروشيما وناكازاكي وأفغانستان ، والصهيونية في كفر قاسم ، ودير ياسين ، وصبرا وشاتيلا ، وجنين ، وأغلب المدن الفلسطينية حالياً.

إنّ دراسة وجهة نظر الإسلام في شيء ما ، لابدّ وأن ترتكز على الجوانب النظرية والتطبيقية فيه ، مع الفصل بين الفكر المنحرف والتصرّف المرفوض إسلامياً وإن انطلق من دائرته ، وبين الفكر الإسلامي الأصيل المتجسّد على ضوء مفاهيم القرآن الكريم ومدرسة أهل البيت عليهم‌السلام وفقهها الممتدّ إلى الوقت الراهن. ومن دون هذا الفصل ستُبنى نتائج الدراسة ـ سيما في عالم اليوم ـ على تلك التصرّفات الشاذّة من أمثال غزو الكويت ، وظهور الطالبان ، وجيش الصحابة ، وقاعدة ابن لادن ، وغيرها من تطرفات السلفية في تاريخها ، وتَوَهُّم أنها المعبّر الحقيقي عن الرؤية الإسلامية تجاه تلك المسائل ، فيساء ـ حينئذٍ ـ إلى سماحة الإسلام ، وطريقة انتشاره ، وأسباب حروبه ، وحقوق الأقليات الدينية فيه ونحوها. وبالتالي تحميله تبعة جهل تلك الحكومات وأعوانها عبر ما أفرزته سياساتها من انحراف ، وما تركته ممارساتها العملية من أخطاء متراكمة على الواقع المحسوس ، والإسلام بريء من كلّ هذا.

وهكذا شأن كلّ دراسة في هذا الحقل لا تأخذ بعين الاعتبار الفصل المذكور ، ولا تدرك فرقاً بين الماس والخزف ، ولا تعرف من هو المعبّر الأمين عن المضمون الواقعي لرسالة التوحيد ، كما نلحظه في معظم الدراسات الغربية التي اتهمت الإسلام بغمطه حقوق الأقليات الدينية وبالقسوة والتعسف والارهاب ، وأرجعت عوامل انتشاره إلى القوّة والبطش والاكراه !! في حين إن السلم والأمان يحظيان بقسط وافر في أدبيات الإسلام ، وما كانت حروب العهد النبوي إلاّ وسيلة للحماية من الاعتداء ، والوقاية من التحديات المضادة التي قام بها أعداء الإسلام والمتربّصون به الدوائر عند بدء انطلاقته من الجزيرة.

لقد رفض الإسلام اضطهاد أصحاب المعتقدات الدينية التي ارتضت العيش بسلام في داره ، فنظّم مبادئ العلاقات بينه وبين تلك الأقليات في المجتمع الإسلامي على أساس التوحيد ، وبذل لها من سماحته ، ورعايته ، وعدالته ما لم يوفّره نظام من الأنظمة التي عرفتها البشرية لمَن خالفهم في العقيدة والمذهب والاتجاه ، ومنحهم حرية البقاء على أديانهم ، وضمن لهم حقوقهم كاملة ، كحقّ التقاضي ، وإبداء الرأي ، مع الحماية القانونية لجميع الحقوق الاقتصادية والمالية ، وصيانة أموالهم وممتلكاتهم ، ومنحهم حقّ الضمان الاجتماعي ، وسائر الحقوق المدنية في الزواج ، والإرث ، والوصية ، والصدقة ، والوقوف ، مع حقن دمائهم ، وحماية أعراضهم ، ومعاملتهم بالحسنى ، مطبّقاً عليهم شريعته في العدالة والمساواة وعدّهم في هذا كالمسلمين سواءً بسواءٍ. وقد حفظت لنا مدرسة أهل البيت عليهم‌السلامأمثلة رائعة من العدالة والسماحة والرعاية لتلك الأقليات الدينية الموجودة في دار الإسلام.

والكتاب الماثل بين يديك قد عالج هذا الموضوع الحسّاس على ضوء القرآن الكريم ، والسنّة المطهرة ، ومدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وما أفتى به عظماء فقهاء هذه المدرسة قديماً وحديثاً ، ولم يخرج عن هذا الاطار باعتباره المعبّر الجوهري عن واقع الدين الحنيف عقيدة وفكراً وشريعة. آملين أن يسدّ ثغرة لم تزل مفتوحة بوجه الإسلام إلى اليوم.

إنّه وليّ التوفيق.

مركز الرسالة

٦

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

الاسلام دين الرحمة ودين السلام جاء من اجل هداية الانسانية وتحريرها من جميع الوان الانحراف الفكري والعاطفي والسلوكي بتهيئة العقول والقلوب والارادات للتلقي والاستجابة الذاتية للمفاهيم والقيم الالهية واستتباعها بالعمل الايجابي الذي يترجم التصورات والافكار إلى مشاعر وممارسات وعلاقات في الواقع دون اكراه أو اجبار ، وهو يسعى إلى تغيير المجتمع الانساني لتكون المفاهيم والقيم الصالحة هي الحاكمة على الافكار والمواقف ، إلاّ أنّ هناك معوقات تقف في طريق حركته ومسيرته وتمنع من امتداده ، وكان لاعدائه الدور الاكبر في خلقها لأنّ تقدم الاسلام والمسلمين له انعكاسات خطيرة على مصالحهم في حال اعتناقه من قبل الامم والشعوب التي يحكمونها.

فالأعداء يتربصون بالاسلام فكراً ووجوداً ويتآمرون عليه بلا توقف ، وهم يتصيدون كل ثغرة وكل حجة وكل شبهة لتشويه سمعته والتشكيك في مفاهيمه وغاياته واهدافه ، ويقودون حرب الشبهات وصراع التشكيك للحيلولة دون انتشاره وقيادته للناس أجمعين ، فقد اثاروا عليه شبهة الانتشار بالسيف واراقة الدماء واكراه الاقليات الدينية على اعتناقه ، واضطهاد غير المسلمين والتعامل العنصري معهم ، وعدم اعتبارهم من المواطنين ، وقرنوا

٧

عنوان الاسلام والمسلمين بالقتل والعدوان والتخريب وعدم مراعاة حقوق الانسان ، ونجحوا بعض النجاح واستطاعوا خداع شعوبهم إلاّ أنّه ظهر بعض المنصفين ليدافعوا عن المنهج الاسلامي وتعامله الانساني مع غير المسلمين ومع الاقليات الدينية ، على مر العصور.

ولما كانت حقيقة الإسلام قد تجسّدت على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل بيته الأطيبين كما هو صريح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الثقلين الذي لم يختلف في صحته اثنان ، لذا وجب معرفة قيمة تلك الشبهات المطروحة في هذا المجال من خلال ما في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، تلك المدرسة التي عكست إنسانية الإسلام وسماحته مع الأقليات الدينية بأحسن صورة ، وبنت نوعاً منصفاً من العلاقات القائمة على أساس التوحيد بين أهل الأديان كافّة كما سنرى ذلك في خمسة فصول.

أوّلها : « مبدأ المساواة بين الأقليات الدينية ».

وثانيها : « أصالة السلم واستثنائية القتال في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ».

وثالثها : « فكرة عن الحروب الدفاعية والوقائية في العهد النبوي ».

ورابعها : « مبادئ العلاقات بين مكاتيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرائط الذمّة ».

وخامسها : « حقوق الأقليات الدينية في نظر أهل البيت عليهم‌السلام ».

وقد اتّسم منهجنا في هذا الكتاب باعتماد القرآن الكريم باعتباره دستور الإسلام ، وأحاديث العترة الطاهرة باعتبارهم قرين القرآن ، مع الكشف عن آراء وفتاوى فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام من المتقدّمين وأساطين المعاصرين ، رحم الله الماضين وحفظ الباقين.

وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وهو حسبي.

٨

الفصل الأول

مبدأ المساواة بين الأقليات الدينية

أولاً ـ المساواة في نزعة التديّن والتوجّه نحو الخالق :

إن المنهج الإسلامي لم ينشأ في فراغ ، أو في قوالب ومظاهر مثالية ، وانما نشأ في الواقع الموضوعي للحياة ، وانطلق في النفس الإنسانية من أعماقها وأغوارها ومشاعرها الباطنية ، فهو منهج واقعي ناظر إلى واقع الانسان من حيث هو إنسان بما يحمل من غرائز روحية ومادية ؛ كغريزة التديّن والشخوص نحو المطلق ، فهم متساوون في ذلك ، ومتساوون في التأثّر الوجداني بعالم الغيب ، قال المسيو بوشيت :

إن اعتقاد الأفراد والنوع الإنساني بأسره في الخالق اعتقاداً اضطراراً قد نشأ قبل حدوث البراهين الدالّة على وجوده ، ومهما صعد الإنسان بذاكرته في تاريخه ، فلا يستطيع أن يجد الساعة التي حدثت فيها عقيدته بالخالق ؛ لأنها عقيدة فطرية نشأت معه ، وصار لها أكبر الآثار في حياته.

والإيمان بالله تعالى مودع في أعماق الضمير الإنساني.

ونزعة التديّن مشتركة بين الناس جميعاً واهتمامهم بالمعنى الإلهي وبما فوق

٩

الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة في تاريخ الإنسان ، وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة بقوله :

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأََرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١).

والناس جميعاً مجبولون بفطرتهم على الإيمان بالخالق تعالى ، حيث تبدأ تساؤلات الإنسان منذ صغره عن سرّ وجوده ونشأة الكون ومصير هذه الحياة ، ولا فرق بين إنسان وآخر في الإيمان بهذه الحقيقة ، فالجميع متساوون منذ الخلقة الاولى وإلى يومنا هذا.

والناس متساوون في التوجّه إلى الله تعالى ، فهو خالقهم وخالق جميع ما في الكون ، وهم متساوون في الشعور بانّه خالق مطلق ، له احاطة تامة بالعالم كلّه ، وبالأرض كلها ، وبالناس كلهم ، يعلم ما يحيط بالانسان ، وهو المهيمن على سكنات النفوس وحركاتها ، وما تخفي الصدور ، وإليه تعالى المصير ، فهو المبدأ وهو المنتهى ، قال تعالى : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (٢).

والناس متساوون في موجبات الهداية ، وموحيات الايمان ، فهي ممتزجة بكيانهم الذي زودته بهم الفطرة والعقل السليم ، فكل مافي الكون يدل على وجوده تعالى ، وقد بيّن لهم تعالى ما يدل عليه من خلال التفكر في الكون والحياة وفي أنفسهم.

وهم متساوون في شمولهم بالرأفة والرحمة الإلهية ؛ قال تعالى : ( وَالله

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٦٣.

١٠

رَوَُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (١) ، وقال تعالى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) (٢) ، وقال أيضاً : ( الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ) (٣).

وهم متساوون في وصول العطاء الالهي بمقدار مافي الموجود الانساني من درجة وقابلية لتقبل ذلك العطاء.

ثانياً ـ المساواة في الخصائص الانسانية :

الناس متساوون في خصائصهم الانسانية ، فقد خلقهم الله تعالى من مصدر واحد ، لا فرق بينهم ولاتمييز من حيث النشأة والابتداء ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) (٤) ، وقال تعالى : ( خَلَقَ الإِْنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) (٥).

والناس جميعاً خُلقوا من ذكر وانثى ، فلا فرق بين عنصر وعنصر ، وسلالة واخرى ، ولا تمييز بين لون ولون ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ... ) (٦) ، وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... ) (٧).

فلا موجب للتمييز ، فالخالق واحد ، والاب واحد ، والمصدر واحد ، قال

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٦.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ١٩.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٢.

(٥) سورة العلق : ٩٦ / ٢.

(٦) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.

(٧) سورة الأنعام : ٦ / ٩٨.

١١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيها الناس إن ربّكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ... » (١).

وهم متساوون في الخلق كما قال الامام علي عليه‌السلام : « ... فانهم صنفان : أما أخ لك في الدين ، وأمّا نظير لك في الخلق » (٢).

فهم متساوون في طبيعة الخلقة ، مركّبون من جسد وعقل ونفس وروح ، ومن غرائز وشهوات واحدة ، وهم متساوون في الضعف والمحدودية ، قال تعالى : ( يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا ) (٣).

وهم متساوون في الصفات المرافقة لضعف الانسان ومحدوديته ، قال تعالى : ( وَكَانَ الإِْنْسَانُ عَجُولاً ) (٤) ، ( ... وَكَانَ الإِْنْسَانُ قَتُورًا ) (٥) ، ( وَكَانَ الإِْنْسَانُ أَكْثَرَ شَئ جَدَلاً ) (٦) ، ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ ) (٧) ، ( إِنَّ الإِْنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ... ) (٨).

__________________

(١) تحف العقول / الحسن بن علي بن شعبة الحراني : ٢٤ ، المطبعة الحيدرية ، النجف ، ١٣٨٠ ه‍.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي ١٧ : ٣٢ ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، ١٣٧٨ ه‍.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٢٨.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ١١.

(٥) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٠.

(٦) سورة الكهف : ١٨ / ٥٤.

(٧) سورة هود : ١١ / ٩.

(٨) سورة المعارج : ٧٠ / ١٩.

١٢

فالناس جميعاً يمتازون بالضعف والمحدودية ، والافتقار إلى الخالق تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (١).

والله تعالى هو الذي جعل للانسان جوارحه : ( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) (٢).

وجعلهم متساوين في العقول والمشاعر والاحاسيس ، بلا فرق بين انسان وانسان ، ولا ميزة لسلالة على سلالة ، ولا لعنصر على عنصر ، فالجميع متساوون من حيث خصائصهم الذاتية ، أمّا انعكاس هذه الصفات على الواقع العمليّ فمتوقّف على درجات التفاعل مع المؤثرات الخارجة.

وهم متساوون في حبّ الشهوات : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأََنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ) (٣).

والناس متساوون في الموت والحياة والبعث والنشور.

وهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ، ولا يعلمون ما يجري في المستقبل عليهم من حيث الحياة والرزق والموت ، فهم متساوون في جميع ما يتعلق بالانسان من خصائص ذاتية وطبعية ، جسدية وروحية ، نفسية وعقلية ، ومتساوون في الضعف والكينونة المحدودة ، بلا فـرق بينهم في أصل خلقتهم.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٥.

(٢) سورة الملك : ٦٧ / ٢٣.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٤.

١٣

ثالثاً ـ المساواة في الحرية :

الناس ـ في حدود ما شرعه الله تعالى ـ متساوون في الحرية ، فالإنسان خُلق حرّاً ، فلا عبودية إلا ّلله ولا استعباد من أحد لأحد ، قال تعالى :( مَا كَان َلِبَشَرٍأَن ْيُوَْتِيَهُ الله الْكِتَاب َوَالْحُكْم َوَالنُّبُوَّة َثُمَّ يَقُول َلِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١).

فلا يحقّ للإنسان ـ وإن كان في قمة التمتع بالخصائص المعنوية والروحية ـ أن يستعبد غيره ، فالانسان مولود ترافقه الحرية في جميع مراحل حياته ، وقد خلقه الله تعالى على هذه الشاكلة ، قال الإمام عليّ عليه‌السلام : « ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً » (٢).

وقال عليه‌السلام : « ان آدم لم يلد عبداً ولا أمة ، وإنّ الناس كلهم أحرار » (٣).

فالناس أحرار في علاقات بعضهم ببعض ، وهم عبيد إلى الله وحده ، ومتساوون في هذه العبودية التي تستلزم نفي جميع الوان العبودية لغيره تعالى ، وان كان مقرباً إليه تعالى طبقاً لموازين ومعايير القرب منه سبحانه ، كأن يكون رسولاً منه إلى البشرية ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ... مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... ) (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧٩.

(٢) تحف العقول : ٥٢.

(٣) روضة الكافي / ثقة الإسلام الكليني ٨ : ٦٩ / ٢٦ ، دار صادر ، بيروت ، ١٤٠١ ه‍.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ١١٦ و ١١٧.

١٤

وقد أمر الله تعالى الناس أن يعبدوه وحده ، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التالية : ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) (١) ، ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... ) (٢) ، ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) (٣).

فهم متساوون في العبودية لله تعالى التي تستلزم نفي عبادة غيره من عبادة للهوى أو الأنا أو عبادة الاصنام البشرية ، أو عبادة اصحاب المؤهلات الكبيرة كالانبياء واوصيائهم والرهبان والقساوسة أو عبادة الابطال الذين لهم دور في حركة التاريخ الانساني (٤).

وعبّر القرآن الكريم عن جميع الشخصيات النموذجية بالعبيد مساواة لغيرهم من بني الانسان في العبودية لله ، ونفى العبودية لغيره تعالى ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة بهذا المعنى ، كقوله تعالى : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ) (٥) ، ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) (٦) ، ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوب ... ) (٧) ، ( ... وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣١.

(٢) سورة البينة : ٩٨ / ٥.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٩.

(٤) ومع وضوح هذا الأمر في العقيدة الإسلامية ، إلاّ أنّ أبا بكر خطب بالمسلمين بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : « أيها الناس من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات » ؟ وهذا القول مرفوض في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام لأنه من الغلو المفرط ، ولم يسبقه إليه سابق ولم يقل به أحد بعده ، سوى الغلاة.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٧٢.

(٦) سورة الإسراء : ١٧ / ٣.

(٧) سورة ص : ٣٨ / ٤١.

١٥

الأََيْد ... ) (١) ، ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ... ) (٢).

والمساواة في الحرية تستلزم تحرير الانسان من جميع الاغلال والقيود التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وبهذه المساواة يتخلّص من اغلال التحجر العقلي والتقليد الجامد ، والتبعية اللاواعية للغير ، ويتربّى على حرية التفكير واستقلال الارادة.

رابعاً ـ المساواة في التكريم :

الإنسان مخلوق مكرّم من قبل الله تعالى ، وقد أكّد القرآن الكريم هذا التكريم في جهات عديدة ، فهو مكرّم في خلقه ، قال تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (٣).

مكرّم بالتمتع بما سخّره الله له ، لا فرق بين إنسان وآخر ، قال تعالى :

( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأََرْضِ جَمِيعًا ) (٤) ، ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ جَمِيعًا ) (٥).

فللناس جميعاً لا فرق بين أسودهم وأبيضهم حقّ الاستثمار والتعمير والاستفادة من الامكانيات المسخرة لهم لادامة الحياة وادامة الحركة التاريخية ، فالتكريم في هذا المجال شامل للجميع لا فرق بينهم ، فالناس مكرمون جميعاً من

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ١٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

(٣) سورة التين : ٩٥ / ٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٩.

(٥) سورة الجاثية : ٤٥ / ١٣.

١٦

الله تعالى ، فليس هنالك قيمة تعلو على قيمة الانسان أو تهدر من أجلها قيمته.

وأما التكريم الموضوع على أسس وقواعد صالحة ، كالايمان ، كما في قوله تعالى : ( وَلَعَبْدٌ مُوَْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) (١) ، والتقوى ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) ، والعلم ، كما في قوله تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (٣) ، فإنّ هذا التكريم لا ينافي المساواة في التكريم العام للناس جميعاً وبأمور شتى بها تميّز إنسانيتهم وتقوّم حياتهم ، وإن كان في هذا التكريم الخاص تفاضل واضح ، فهو إنما لتحفيز الإنسان على ما به كماله واحترام إنسانيته.

خامساً ـ المساواة في التكليف والجزاء :

الناس جميعاً متساوون في التكليف الإلهي في الحياة الدنيا ، ومتساوون في الجزاء من ثواب وعقاب في الدار الآخرة ، دون تمييز وتفريق أو ترجيح ، فالجميع مكلفون بالايمان بالله والايمان باليوم الآخر ، بعدما تبرز لهم البينات ، وتتضح لهم البراهين ، بانهم حادثون ومخلوقون للمطلق العليم ، وقد جعلهم الله تعالى متساوين في الاطلاع على البينات والبراهين والادلة ، فهو يخاطب فطرتهم وعقولهم ليحرك دفائنها ، ويثير كوامن النفس للاستسلام للحقائق التي توصل إلى معرفته تعالى ، قال تعالى : ( أَمَّـنْ يَبْدَؤاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأََرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، وقال تعالى : ( وَتِلْكَ الأََمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢١.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٩.

(٤) سورة النمل : ٢٧ / ٦٤.

١٧

يَتَفَكَّرُونَ ) (١).

ولم يكلّف الله تعالى الناس حتى بعث النبيين والمرسلين ، قال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٢) ـ والتعذيب فرع التكليف ـ وكان آخرهم نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي بعث إلى الناس جميعاً لارشادهم وإلقاء الحجّة عليهم في الهداية ، فهو لم يبعث لقوم دون قوم ، ولا للون دون لون ، وإنما للناس على مختلف ألوانهم وأجناسهم ، كما ورد في الآيات الكريمة : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (٣) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) (٤) ، ( قُلْ يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٥) ، وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ الرسالة الإلهية إلى الناس جميعاً ؛ إلى العرب والعجم وإلى الوثنيين وأهل الكتاب بلا فرق ولا تمييز.

والناس متساوون في التكليف حسب الطاقة الانسانية المحدودة ، قال تعالى : ( لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلا وُسْعَها ) (٦) ، وقال تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٧) ، وقال تعالى : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٨)

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٢١.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٥.

(٣) سورة الاعراف : ٧ / ١٥٨.

(٤) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٨.

(٥) سورة الحج : ٢٢ / ٤٩.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.

(٧) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٨) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

١٨

فالناس متساوون في التكليف في الاصول والفروع ، فهم مكلفون بالعقيدة والشريعة على حدٍّ سواء ، وقد جعل الله تعالى هذه الحياة قنطرة للحياة الاُخرى التي يتساوى الناس فيها في محكمة العدل الإلهي فلا يظلم أحد قط ، وكلّ منهم يجد ما عمله أمامه ، وقد خاطب القرآن الكريم الناس جميعاً بذلك : ( يَا أَيُّهَا الإِْنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (١) ، والله تعالى جامع الناس بلا تمييز لليوم الآخر : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) (٢) ، ( وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٣) ، ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (٤).

فهم متساوون في ذلك اليوم بلا تمييز لعنصر على عنصر أو جماعة على جماعة ، فالجنة مثوى المؤمنين الصالحين ، والنار مثوى الكافرين والطالحين وان انتسبوا إلى الانبياء بأن كانوا أبناءهم أو بناتهم أو نساءهم ، أو ينتمون إلى لغتهم أو قوميتهم أو عنصرهم.

سادساً ـ المساواة في الارادة والاختيار :

خلق الله تعالى الناس وهم أحرار في ارادتهم واختيارهم ؛ في الاعتقاد به والالتزام برسالته ، وجعلهم متساويين في حرية الارادة والاختيار ، فالله تعالى منحهم العقول والغرائز ليتوصلوا من خلال الآيات والبينات إلى اتخاذ المنهج

__________________

(١) سورة الانشقاق : ٨٤ / ٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٩.

(٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٢.

(٤) سورة النجم : ٥٣ / ٣١.

١٩

الإلهي في الحياة ، في عقولهم ونفوسهم ومواقفهم ، وبعد إلقاء الحجّة عليهم ، ترك سبحانه لهم حرية اختيار ما يرونه بلا اكراه ، قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) (١).

والناس متساوون في هدايتهم لنجد الخير ونجد الشر ، قال تعالى : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (٢).

وهم أحرار في اختيار الهدى أو الضلال ، قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) (٣).

والناس متساوون في اصلاح نفوسهم وعدم اصلاحها ، فقد ألهَمَ الله تعالى كل نفس عناصر الفجور والتقوى ، ثم رسم لها طريق الصلاح والطلاح ، والأمر عائد للإنسان نفسه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (٤).

سابعاً ـ المساواة أمام السنن الالهية :

في هذه الحياة سننٌ إلهية ثابتة لا تتبدّل ولا تتغيّر ولا تختلف ، والناس متساوون أمامها دون فرق أو تمييز ، فالله تعالى لا يغيّر ما بهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

__________________

(١) سورة الانسان : ٧٦ / ٢ و ٣.

(٢) سورة البلد : ٩٠ / ١٠.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ١٠٨.

(٤) سورة الشمس : ٩١ / ٧ ـ ١٠.

٢٠