نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

١
٢

٣
٤

( إهداء )

الى حامل لواء الامامة الكبرى والخلافة العظمى

ولى العصر المهدى المنتظر الحجّة ابن الحسن العسكري أرواحنا فداه

( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ

وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ

وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ )

٥
٦

حديث الطّير

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ يأكل معي فجاء عليّ ـ بعد أن ردّه أنس مرّات ـ فأكل معه.

٧
٨

كلمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الأوّلين والآخرين.

وبعد ، فهذا هو البحث عن ( حديث الطّير ) سندا ودلالة.

هذا الحديث الذي أخرجه المئات من أعلام أهل السنّة في القرون المختلفة عن عشرات من التابعين ، عن اثني عشر شخصا من صحابة رسول ربّ العالمين عليه وآله الصلاة والسّلام ، وهم :

١ ـ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أخرجه ابن عساكر وأشار إليه الحاكم (١).

٢ ـ سعد بن أبي وقاص ، أخرجه أبو نعيم في الحلية.

٣ ـ أبو سعيد الخدري ، أخرجه ابن كثير في تاريخه ، وأشار إليه الحاكم.

٤ ـ أبو رافع ، أخرجه ابن كثير.

٥ ـ أبو الطفيل ، أخرجه ابن عقدة ، والحاكم ، وغيرهما.

__________________

(١) نكتفي هنا بذكر واحد أو اثنين للاختصار.

٩

٦ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري ، أخرجه ابن عساكر وابن كثير.

٧ ـ حبشي بن جنادة ، أخرجه ابن كثير.

٨ ـ يعلى بن مرة ، أخرجه الخطيب ، وابن كثير.

٩ ـ ابن عباس ، أخرجه الطّبراني.

١٠ ـ سفينة مولى رسول الله ، أخرجه أحمد وأبو يعلى ، وأشار إليه الحاكم.

١١ ـ أنس بن مالك ، وهو المشهور بروايته.

١٢ ـ عمرو بن العاص ، في كتاب له إلى معاوية ، رواه الخوارزمي.

ورواه الإمامان الباقر والصّادق عليهما‌السلام ، في رواية أبي الشيخ الأصفهاني الحافظ.

ولكثرة طرقه ألّف جماعة من الأعلام كتبا مفردة فيه ، ستعرفهم.

وجاء في غير واحد من الكتب الصحاح أو الملتزم فيها بالصحّة ، كصحيح الترمذي ، وسنن النسائي ، وصحيح ابن حبّان ، وصحيح الحاكم ، والمختارة ...

وفي عدّة من المسانيد ، كمسند أبي يعلى ، ومسند البزّار ...

ورواه من أئمّة المذاهب الأربعة وغيرهم : أبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ...

ورواه جماعة كبيرة من مشايخ البخاري ومسلم ...

وآخرون من رجال الصّحاح الستّة ...

والبخاري في ( تاريخه الكبير ).

والأئمّة الأعلام ... في كلّ قرن ...

وقد نصّ غير واحد منهم على صحّة بعض طرقه ...

كما صحّحنا عدّة من أسانيده في بعض الكتب ، على ضوء كلمات الأئمة ...

١٠

* ولعظمة هذا الحديث وما تنطوي عليه قصّة الطّير من فضيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ لا يشاركه فيها أحد ، فتدلّ على إمامته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن مداليل أخرى في مجال معرفة الصّحابة ...

فقد بذل المتعصّبون قصارى جهودهم في المنع من نقله وانتشاره ، ثمّ في إبطاله من الناحية السنديّة أوّلا ، ثمّ من الناحية الدلاليّة ، بالتلاعب بمتنه فيسقط عن الدّلالة ، أو بحمله وتأويله ... حتّى إذا أعيتهم السّبل عارضوه بما يروونه في حقّ غير الإمام عليه‌السلام من الفضائل.

ونحن نشير إلى بعض الوقائع والقضايا ... والأساليب والتمحّلات ...

في كلّ مرحلة باختصار ، ليتجلّى سمّو هذا الحديث ورفعته ، وأنّه لو لا ثبوته وقوّة دلالته لما بذلت تلك الجهود ، وما كان ذاك الإنكار والجحود ...

قصّة الحاكم النيسابوري

فإن الحاكم أخرج هذا الحديث في ( المستدرك على الصحيحين ) وأصرّ على صحّته على شرط الشيخين ، وأنّه كان عليهما إخراجه ولم يخرجاه! فقامت القيامة عليه وعلى كتابه ، فرمي الحاكم بالرّفض ممّن رمى حديث الطير بالوضع! وهو : محمّد بن طاهر المقدسي ، فردّ عليه : « إنّ الله يحبّ الإنصاف ، ما الرجل برافضي ... » (١). ورمي كتابه بأن ليس فيه حديث واحد على شرط البخاري ومسلم! فأجيب : « هذه مكابرة وغلوّ » (٢) ، وحكى ابن طاهر : إنّ المستدرك ذكر بين يدي الدار قطني فقال : نعم ، يستدرك عليهما حديث الطّير! فأجيب : « هذه حكاية منقطعة ، بل لم تقع » (٣).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٤ ، لسان الميزان ٥ / ٢٣٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٥.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٦.

١١

وكأنّ رمي الكتاب ومؤلّفه لم يشف غليل ابن طاهر ومن لّف لفّه ، فزعم :

« انّ الحاكم أخرج حديث الطير من المستدرك » لمّا بلغه اعتراض الدار قطني ، فأجيب « إن حديث الطير موجود في المستدرك » (١) وقد ألّفه بعد موت الدار قطني بمدّة (٢).

وقال السبكي : « حكى شيخنا أنّ الحاكم سئل عن حديث الطير فقال :

لا يصحّ ، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ثمّ قال شيخنا : وهذه الحكاية سندها صحيح ، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك؟! ».

قال السبكي : « وقد جوّزت أن يكون زيد في كتابه ، وألاّ يكون هو أخرجه! وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك ، فلم أجد ما ينشرح الصدر لعدمه ، وتذكّرت قول الدارقطني : إنّه يستدرك حديث الطير ، فغلب على ظنّي أنّه لم يوضع عليه ، ثمّ تأمّلت قول من قال : إنّه أخرجه من الكتاب ، فجوّزت أن يكون خرّجه ، ثمّ أخرجه من الكتاب ، وبقي في بعض النسخ ، فإن ثبت هذا صحّت الحكايات ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه ، ثم أخرجه منه لاعتقاده عدم صحته ، كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها ، ولكنّه بقي في بعض النسخ ، إمّا لانتشار النسخ بالكتاب ، أو لإدخال بعض الطاعنين إيّاه فيه ، فكلّ هذا جائز ، والعلم عند الله تعالى » (٣).

فلما ذا كلّ هذه الاحتمالات والتمحّلات يا ترى؟!

ولهذا الحديث وأمثاله ممّا أخرجه الحاكم وصحّحه ، فقد كسر

__________________

(١) طبقات السبكي ٤ / ١٦٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٦.

(٣) طبقات السبكي ٤ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٢

المتعصّبون منبر الحاكم ومنعوه من الخروج من داره!! (١).

قصّة ابن السقّاء

وهكذا فعل بالحافظ ابن السقّاء لمّا حدّث بحديث الطير : « قال السلفي :

سألت خميسا الحوزي عن ابن السقّاء فقال : هو من مزينة مضر ... واتّفق أنّه أملى حديث الطائر ، فلم تحتمله أنفسهم ، فوثبوا به ، وأقاموه ، وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته ، لا يحدّث أحدا من الواسطيّين ، ولهذا قلّ حديثه عندهم » (٢).

فهكذا كانوا يقابلون أخبار فضائل علي وأهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ورواتها على جلالة شأنهم وعلوّ مقامهم!! ألم يدوسوا خصيتي النّسائي في دمشق ، حتى أخرج ومات على أثر ذلك؟ (٣).

ألم يبقروا بطن الحافظ الكنجي في وسط جامع دمشق ، لأنّه أملى فضائل علي وألّف فيها؟ (٤).

اضطراب المتعصبين تجاه الحديث

لكنّ هذه الأساليب لم تجد نفعا ، فالحديث كثرت طرقه ورواته ، حتى أنّ جماعة من الأعلام عمدوا إلى جمعها في كتب خاصّة ... ولذا كان قول بعضهم تبعا لمحمّد بن طاهر المقدسي : « هو حديث موضوع » (٥) مردودا عندهم ، حتى أن السبكي ردّه تبعا للصلاح العلائي (٦).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٥.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٥٢.

(٣) راجع ترجمته في مختلف الكتب.

(٤) أنظر ترجمته في الكتاب.

(٥) التحفة الإثنا عشرية : ٢١٢.

(٦) طبقات الشافعية ٤ / ١٦٩.

١٣

وحتى ابن الجوزي لم يدرجه في ( الموضوعات ) ـ وإن قيل ذلك كذبا وزورا (١) وإنّما ذكره في كتابه الآخر ( العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ) (٢) لكنّك إذا راجعته رأيته يتكلّم على بعض أسانيده على مبانيه ويسكت عن بعض ، وكذلك ابن كثير يقول : « له طرق متعددة وفي كلّ منها نظر ، ونحن نشير إلى شيء من ذلك » لكنّه لا يشير ـ لا من قريب ولا بعيد ـ إلى شيء من ذلك بالنسبة إلى بعض الطّرق (٣).

وزاد بعضهم أنّ كثرة طرقه يزيده وهنا!! قال الزيلعي : « وكم من حديث كثرت رواته وتعدّدت طرقه وهو حديث ضعيف ، كحديث الطير ، وحديث الحاجم والمحجوم ، وحديث من كنت مولاه فعليّ مولاه ، قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلاّ ضعفا » (٤).

مع أن القاعدة المقرّرة عندهم أنّ الحديث إذا تعدّدت طرقه يتقوّى ويبلغ إلى درجة الحسن ، قال المنّاوي بشرح بعض الأحاديث ـ وهو يرد على ابن تيميّة : « وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعا ، لكن لا ينكر تقوّي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدّد مخرّجيه إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية أو معاند متعصّب ، والظنّ به ـ يعني ابن تيميّة ـ أنّه من القبيل الثاني » (٥).

وعلى هذا الأساس قال غير واحد من علمائهم الكبار بحسن حديث الطّير.

__________________

(١) كالقاري في ( المرقاة ) والشوكاني في ( الفوائد المجموعة ) والصبّان في ( إسعاف الراغبين ).

(٢) العلل المتناهية ١ / ٢٢٨.

(٣) تاريخ ابن كثير ٧ / ٣٥٠.

(٤) تخريج الهداية ١ / ١٨٩ عنه تحفة الأحوذي ١٠ / ١٥٤.

(٥) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٣ / ١٧٠.

١٤

اضطراب كلمات الذهبي

واضطربت كلمات الذّهبي في كتبه تجاه حديث الطير :

ففي ( تلخيص المستدرك ) : « قلت : ابن عياض لا أعرفه. ولقد كنت زمانا طويلا أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه ، فلمّا علّقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه ، فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء. قال : وقد رواه عن أنس جماعة أكثر من ثلاثين نفسا ، ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة » (١).

وفي هذه العبارة مطالب :

الأول : أن سند الحديث فيه « ابن عياض » والذهبي لا يعرفه.

والثاني : إن حديث الطير بالنسبة إلى الموضوعات التي هي في ( المستدرك ) سماء.

والثالث : إنّ الحاكم قال : « ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة » فوافقه الذهبي على هذا القول.

إذن ، الذهبي هنا يقر بصحّة الحديث عن : علي وأبي سعيد وسفينة.

وأمّا « ابن عياض » وهو : « محمّد بن أحمد بن عياض » الذي قال هنا « لا أعرفه » فقد عرفه في كتابه الآخر ( ميزان الاعتدال ) فقال هناك ما هذا نصّه :

« محمّد بن أحمد بن عياض. روى عن أبيه أبي غسّان أحمد بن عياض ، عن (٢) أبي طيبة المصري ، عن يحيى بن حسّان ، فذكر حديث الطير.

وقال الحاكم : هذا على شرط البخاري ومسلم.

قلت : الكلّ ثقات إلاّ هذا ، فأنا اتّهمته به ، ثم ظهر لي أنه صدوق ...

__________________

(١) تلخيص المستدرك. ط معه ٣ / ١٣١.

(٢) كذا ، والصحيح : بن.

١٥

فأمّا أبوه فلا أعرفه » (١).

فالذي كان يتّهمه به صدوق ، وبقي الإشكال في « أبيه » وقد رفعه ابن حجر العسقلاني ، كما ستعلم ، في أول ملحق السند.

إذن ، فالحديث في ( المستدرك ) صحيح وفاقا للحاكم عن : علي وأبي سعيد وسفينة.

وعلى هذا ، فاقتصاره في ( تذكرة الحفاظ ) على القول : « بأنّ للحديث أصلا » عجيب ، وهذه عبارته :

« وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّا ، قد أفردتها بمصنف ، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل » (٢).

وكذا اقتصاره على عبارة أخرى له في ( تاريخ الإسلام ) بترجمة أمير المؤمنين في سياق مناقبه ، فلم ينص على الصحّة!! قال :

« وله طرق كثيرة عن أنس ، متكلّم فيها ، وبعضها على شرط السنن ، من أجودها : قطن بن نسير ـ شيخ مسلم ـ ثنا جعفر بن سليمان ، ثنا عبد الله بن المثنى ، عن عبد الله بن أنس بن مالك ، عن أنس ... » (٣).

خلاصة مدلول الحديث

ثمّ إنّ العمدة في مدلول الحديث الشريف أمران :

أحدهما : دلالته على أنّ أحبّ الخلق إلى الله والرسول هو « علي » ، و« الأحب » هو « الأحق » لأن يكون خليفة للنبي.

والثاني : كذب أنس بن مالك مرات ، ومنعه عليّا من الدخول على

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٤٦٥.

(٢) تذكرة الحفّاظ ٢ / ١٠٣٩.

(٣) تاريخ الإسلام ٣ / ٦٣٣.

١٦

الرسول عليه وآله السلام والصلاة.

وقد كان هذان الأمران هما الباعث لهم على إنكار الحديث أو إبطاله ، وكما جاء التصريح بذلك على لسان بعضهم :

« أبو نعيم الحداد : سمعت الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ ، سمعت أبا عبد الرحمن الشاذياخي الحاكم يقول : كنا في مجلس السيد أبي الحسن ، فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير. فقال : لا يصح ، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ».

قال الذهبي بعد أن حكاه : « فهذه حكاية قويّة ، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك؟! فكأنّه اختلف اجتهاده. وقد جمعت طرق حديث الطير في جزء ، وطرق حديث : من كنت مولاه ، وهو أصحّ ، وأصحّ منهما ما أخرجه مسلم عن علي قال : إنّه لعهد النبي الامي إليّ : إنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق. وهذا أشكل الثلاثة ، فقد أحبّه قوم لا خلاق لهم ، وأبغضه بجهل قوم من النواصب ، فالله أعلم » (١).

وقال السبكي : « غاية جمع هذا الحديث أن يدلّ على أنّ الحاكم يحكم بصحته ، ولو لا ذلك لما أودعه المستدرك ، ولا يدل ذلك منه على تقديم علي رضي‌الله‌عنه على شيخ المهاجرين والأنصار ، أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، إذ له معارض أقوى لا يقدر على دفعه ، وكيف يظن بالحاكم ـ مع سعة حفظه ـ تقديم علي ، ومن قدّمه على أبي بكر فقد طعن على المهاجرين والأنصار ، فمعاذ الله أن يظنّ ذلك بالحاكم » (٢).

هذا بالنسبة إلى الأمر الأوّل.

وبالنسبة إلى الأمر الثاني قال الذهبي : « قال أبو أحمد ابن عدي :

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٢) طبقات الشافعية ٤ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٧

سمعت علي بن عبد الله الداهري يقول : سألت ابن أبي داود عن حديث الطير فقال : إن صحّ حديث الطير فنبوة النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ باطلة ، لأنّه حكى عن حاجب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خيانة ـ يعني أنسا ـ وحاجب النبيّ لا يكون خائنا ».

قال الذهبي : « قلت : هذه عبارة رديئة وكلام نحس ، بل نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم حق قطعي ، إن صحّ حديث الطير وإن لم يصح ، وما وجه الارتباط؟! هذا أنس قد خدم النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يحتلم وقبل جريان القلم ، فيجوز أن تكون قصّة الطائر في تلك المدة ، فرضنا أنّه كان محتلما ما هو بمعصوم من الخيانة ، بل فعل هذه الجناية الخفيفة متأوّلا. ثم إنّه حبس عليّا عن الدخول كما قيل فكان ما ذا؟ والدعوة النبوية قد نفذت واستجيبت ، فلو حبسه أو ردّه مرات ما بقي يتصور أن يدخل ويأكل مع المصطفى سواه إلاّ ... » (١).

قلت : لكنّ الباعث لابن أبي داود أن يقول هذا بالنسبة إلى حديث الطير إنّما هو لكونه من أصح وأشهر مناقب علي الدالة على إمامته بعد رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ، وبغض هذا الرجل ونصبه لأمير المؤمنين معروف مذكور بتراجمه ، فلاحظ (٢).

التحريف في لفظ الحديث

ولهذه الأمور وغيرها عمد بعض القوم إلى اختصار لفظ الحديث لدى روايته وبعض آخر إلى تحريفه ...

فالبخاري أخرجه باللفظ التالي : « عن أنس : اهدي للنبي صلّى الله

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٣٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

١٨

عليه وسلّم طائر فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك. فجاء علي » (١).

وبلفظ :

« عن أنس بن مالك قال : اهدي للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم طائر كان يعجبه فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل هذا الطير ، فاستأذن علي ، فسمع كلامه فقال : أدخل » (٢).

أمّا أحمد فأسقط ما دلّ على الفضيلة لعلي عليه‌السلام وما دلّ على الخيانة والكذب من أنس ...

فقال : « قال : سمعت أنس بن مالك وهو يقول : أهديت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائرا ، فلما كان من الغد أتت به فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ألم أنهك أن ترفعي شيئا ، فإن الله عزّ وجلّ يأتي برزق كلّ غد » (٣).

وقد روى جماعة غيره هذه الواقعة وفيها الفقرتان الدالّتان على الأمرين المذكورين.

أمّا في رواية أبي الشيخ ـ مثلا ـ فجاء فيه ما يدل على الأمر الأول وأسقط الثاني :

« عن أنس بن مالك قال : اهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم طير فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ، فجاء علي فأكل معه.

فذكر الحديث » (٤).

وأمّا بعضهم فحذف الفقرتين وأبقى اعتذار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنس فيما يروون فقال :

« ... عن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : لا يلام الرجل

__________________

(١) التاريخ الكبير ١ / ٣٥٧.

(٢) التاريخ الكبير ٢ / ٢.

(٣) مسند أحمد ٣ / ١٩٨.

(٤) طبقات المحدّثين بأصبهان ٣ / ٤٥٤.

١٩

على قومه ».

قال ابن حجر : « هذا طرف من حديث الطير » (١).

تأويل الحديث والتشكيك في دلالته

لكنّ الإنكار ... والتكذيب ... والتحريف ... لا تحلّ المشكلة ...

فلجأوا إلى التأويل ، وباب التأويل واسع لمن يتكلّم بجهل أو هوى ، لأنّهم قد ألزموا أنفسهم (٢) دفع كل ما يدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ... فذكروا وجوها ما أنزل الله بها من سلطان ، مصرّحين قبل ذلك بأنّ الحديث يدل على أفضلية علي من أبي بكر ، وقد اتّخذه الشيعة ذريعة للطعن في خلافة المتقدّمين عليه ، فلا بدّ من تأويله ... فلاحظ شروح ( المصابيح ) و ( مشكاة المصابيح ) وغيرها ...

وقد كان عمدة تأويلاتهم حمل لفظة « أحبّ خلقك إليك وإليّ » على « من أحبّ خلقك إليك وإليّ ».

وكانت عمدة التشكيكات في دلالته على الأفضليّة احتمال عدم وجود الشيخين في المدينة المنوّرة يوم قصّة الطّير ... لكنّه غفلة أو تغافل عمّا جاء في الحديث في رواية بعضهم من أنّه لمّا قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذلك قالت عائشة : « اللهم اجعله أبي » وقالت حفصة : « اللهم اجعله

__________________

(١) لسان الميزان ٥ / ٥٨.

(٢) جاء في تفسير النيسابوري تعقيبا على ما ذكره الرازي جوابا عن الاستدلال بآية النجوى : « قلت :

هذا الكلام لا يخلو عن تعصّب مّا! ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي‌الله‌عنه في كلّ خصلة؟ ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة؟ فقد روي عن ابن عمر. كان لعلي رضي‌الله‌عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم :

تزويجه فاطمة رضي الله عنها ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى ». هامش الطبري ٢٨ / ٢٤.

٢٠