نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

وقد ذكر ( الدهلوي ) في ( أصول الحديث ) له ، والصدّيق حسن خان في ( الحطة في ذكر الصحاح الستة ) كتاب « الخصائص » في الكتب المصنفة في ( المناقب ) قالا : « وللنسائي رسالة طويلة الذيل في مناقبه كرّم الله وجهه ، وعليها نال الشهادة في دمشق من أيدي نواصب الشام ، لفرط تعصبهم وعداوتهم معه رضي‌الله‌عنه ».

واستشهد ( الدهلوي ) في كتابه ( التحفة ) بقصّة النسائي وكتابه « الخصائص » في مقام الدفاع عن أهل السنّة ، ودفع ما قيل من أنّهم يبطنون بغض أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام ، ولكن العجب منه تكذيبه حديث الطير وحديث الولاية المخرجين في هذا الكتاب ، فهو مرة يستشهد باستشهاد النسائي على أيدي النواصب وبتصنيفه كتاب الخصائص لولاء أهل نحلته لأهل البيت الأمجاد ، ومرة يشاقق النسائي بتكذيب حديث الولاية ، وأخرى بتكذيب حديث الطير ، ويسرّ قلوب أهل النصب والعناد ، وهل هذا إلاّ تدافع وتهافت وتناقض؟! ...

وهكذا ، فقد باهى تلميذه رشيد الدين خان في كتابه ( إيضاح لطافة المقال ) وافتخر بكتاب « الخصائص » ، وعدّه من مصنّفات عظماء أهل التحقيق من أهل السنّة في فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكن شيخه ( الدهلوي ) قد أبطل هذا الافتخار بإبطال حديث الولاية وحديث الطير ، المسرودين في ( الخصائص ) وغيره من الأسفار المشهورة بالاعتبار ...

(١٠)

رواية أبي يعلى

رواه بقوله : « ثنا الحسن بن حمّاد الوراق ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع ـ ثقة ـ ثنا عيسى بن عمر عن إسماعيل السدّي ، عن أنس بن مالك : إن رسول

١٦١

الله صلّى الله عليه وسلّم كان عنده طائر فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير ، فجاء أبو بكر فردّه ثم جاء عمر فردّه ثم جاء عثمان فردّه ثم جاء علي فأذن له » (١).

وقال أبو يعلى أيضا : « ثنا قطن بن نسير ، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، ثنا عبد الله بن مثنى ، ثنا عبد الله بن أنس ، عن أنس قال : اهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجل مشوي ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام ، فقالت عائشة : اللهم اجعله أبي ، وقالت حفصة : اللهم اجعله أبي ، قال أنس فقلت أنا : اللهم اجعله سعد به عبادة. قال أنس : سمعت حركة الباب ، فإذا علي فسلّم ، فقلت : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حاجة ، فانصرف ، ثم سمعت حركة الباب فسلّم علي ، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته فقال : انظر من هذا؟ فخرجت فإذا علي ، فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته ، فقال : ائذن له فأذنت له فدخل ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم وإليّ اللهم وإليّ ».

اعتبار مسند أبي يعلى

ومسند أبي يعلى من المسانيد المعتبرة المشهورة ، والأسفار المقبولة المعروفة ، ومن مرويّات مشاهير العلماء : كالسيوطي ، والثعالبي ، والكردي ، والأمير ، والشوكاني ، وشاه ولي الله ، وغيرهم.

وقال الذهبي بترجمة أبي يعلى : « أبو يعلى ، الموصلي ، الحافظ الثقة ، محدّث الجزيرة ... صاحب المسند الكبير ».

قال : « قال السمعاني : سمعت إسماعيل بن محمّد بن الفضل الحافظ يقول : قرأت المسانيد ، كمسند العدني ومسند أبي منيع ، وهي كالأنهار ، ومسند

__________________

(١) مسند أبي يعلى ٧ / ١٠٥.

١٦٢

أبي يعلى كالبحر يكون مجتمع الأنهار.

قلت : سمعنا مسند أبي يعلى بفوت نصف جزء بالإجازة العالية ، ويقع من حديثه بعلو لابن البخاري » (١).

وقال في ( العبر ) له : « أبو يعلى الموصلي ، أحمد بن علي بن المثنى بن يحيى ، التميمي ، الحافظ ، صاحب المسند ... » (٢).

وكذا قال : صلاح الدين الصفدي ، واليافعي بترجمته. وقد أورد السيّوطي ، والثعالبي في ( طبقات الحفاظ ) و ( مقاليد الأسانيد ) و ( الدهلوي ) في ( بستان المحدّثين ) كلمة إسماعيل بن الفضل الحافظ المتقدمة.

* وقال الحافظ الهيثمي : « عن أنس بن مالك قال : كنت أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقدّم فرخا مشويّا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ ، فجاء علي ودقّ الباب ، فقال أنس : من هذا؟ قال : علي ، فقلت النبي صلّى الله عليه وسلّم على حاجة ، فانصرف ، ثمّ تنّحى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكل ، ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ ، فجاء علي فدقّ الباب دقّا شديدا ، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا أنس ، من هذا؟ قلت : علي. قال : أدخله ، فدخل ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لقد سألت الله ثلاثا أن يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ ، فقال علي : وأنا ـ يا رسول الله ـ فقد جئت ثلاثا ، كلّ ذلك يردّني أنس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يا أنس ، ما حملك على ما صنعت؟ قال : أحببت أن تدرك الدعوة رجلا من قومي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا يلام الرجل على

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٧٠٧.

(٢) العبر في خبر من غبر ٢ / ١٣٤.

١٦٣

حبّ قومه.

وفي رواية : كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حائط ، وقد أتي بطائر.

وفي رواية قال : أهدت أمّ أيمن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم طائرا بين رغيفين ، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : هل عندكم شيء؟ فجاءته بالطائر.

قلت : عند الترمذي طرف منه.

رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار.

وأبو يعلى باختصار كثير ، إلاّ أنّه قال : فجاء أبو بكر فردّه ، ثم جاء عمر فردّه ، ثم جاء علي فأذن له.

وفي إسناد الكبير : حمّاد بن المختار ولم أعرفه ، وبقيّة رجاله رجال الصحيح.

وفي أحد أسانيد الأوسط : أحمد بن عياض بن أبي طيبة ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ورجال أبي يعلى ثقات ، وفي بعضهم ضعف » (١).

رجال الحديث

ورجال أبي يعلى ثقات. أمّا الحديث الأوّل فرجاله رجال النسائي في الخصائص ، وقد عرفتهم ، وأمّا الحديث الثاني فهم ثقات بلا كلام.

وقول الهيثمي ـ بعد توثيق رجال إسناد أبي يعلى ـ « وفي بعضهم ضعف » ما هو إلاّ إشارة إلى تكلّم بعضهم ـ عن تعصّب ـ في « السدّي » ، وقد عرفت أنّه من رجال الصّحاح.

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٢٥.

١٦٤

ترجمة أبي يعلى

وأبو يعلى ـ أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي ـ فهو من الحفاظ المشاهير الأعلام ، وهذه طائفة من مصادر ترجمته ـ وقد ترجمنا له في بعض المجلّدات بالتفصيل -:

١ ـ تذكرة الحفاظ ٢ / ٧٠٧.

٢ ـ العبر ٢ / ١٣٤.

٣ ـ الوافي بالوفيات ٧ / ٢٤١.

٤ ـ مرآة الجنان ٢ / ٢٤٩.

٥ ـ البداية والنهاية ١١ / ١٣٠.

٦ ـ النجوم الزاهرة ٣ / ١٩٧.

٧ ـ طبقات الحفاظ : ٣٠٦.

٨ ـ دول الإسلام ١ / ١٨٦.

٩ ـ سير أعلام النبلاء ١٤ / ١٧٤.

وقد وصفه الذهبي في ( سيره ) بـ « الإمام ، الحافظ ، شيخ الإسلام ... ».

(١١)

رواية ابن جرير الطّبري

وأبو جعفر محمد بن جرير الطّبري من رواة حديث الطّير ، وقد جمع طرقه في مؤلّف مفرد لكثرتها. قال الحافظ ابن كثير ـ في ذكر الحديث ـ : « وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة ، منهم : أبو بكر ابن مردويه ، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان ـ فيما رواه شيخنا الذهبي ـ ورأيت فيه مجلّدا في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المفسّر

١٦٥

صاحب التاريخ » (١).

ترجمته

وقد ترجمنا لابن جرير الطّبري في بعض المجلّدات. ومن مصادرها :

١ ـ تاريخ بغداد ٢ / ١٦٢.

٢ ـ معجم الأدباء ١٨ / ٤٠.

٣ ـ الأنساب ـ الطبري.

٤ ـ تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٧٨.

٥ ـ طبقات الحفّاظ : ٣٠٧.

٦ ـ تذكرة الحفاظ ٢ / ٧١٠.

٧ ـ طبقات السبكي ٣ / ١٢٠.

٨ ـ طبقات الداودي ٢ / ١٠٦.

٩ ـ الوافي بالوفيات ٢ / ٢٨٤.

١٠ ـ العبر ٢ / ١٤٦.

١١ ـ طبقات القراء ٢ / ١٠٦.

١٢ ـ مرآة الجنان ٢ / ٢٦٠.

١٣ ـ البداية والنهاية ١١ / ١٤٥.

١٤ ـ شذرات الذهب ٢ / ٢٦٠.

هفوة من ابن كثير

وأمّا قول ابن كثير بعد العبارة المذكورة : « ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سندا ومتنا ، للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلّم ».

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٥٤.

١٦٦

فيضعّف بأنّ الباقلاني لا يبلغ أدنى المراتب الحاصلة للطبري في معرفة الحديث والرجال ، وأين الثريّا من الثّرى؟ وأين الدرّ من الحصى؟! فلا وجه لهذه المعارضة ...

بل لا يخفى على الممارس لعلم الحديث والعارف بأحوال العلماء والرّجال : أنّ الباقلاني لا يعدّ من علماء الحديث ، ولا يلتفت إلى أقواله في هذا الفن ، وقد نصّ على ذلك شاه وليّ الله والد ( الدهلوي ) في كتاب ( قرة العينين ).

(١٢)

رواية أبي القاسم البغوي

رواه من حديث سفينة مولى ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ « قال : أهدت امرأة من الأنصار طائرين في رغيفين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن في البيت غيري وغير أنس ، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا بغدائه فقلت : يا رسول الله ، قد أهدت لك امرأة من الأنصار هديّة ، فقدّمت إليه الطّائرين فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ، فجاء علي بن أبي طالب ، فضرب الباب ضربا خفيفا ، فقلت : من هذا؟ فقال : أبو الحسن ، ثمّ ضرب الباب ورفع صوته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من هذا؟ قلت : علي بن أبي طالب ، قال : افتح له ، ففتحت له ، فأكل معه من الطيرين حتى فنيا » (١).

ترجمته

١ ـ السمعاني : « أبو القاسم عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز بن المرزبان

__________________

(١) معجم الصحابة ـ مخطوط.

١٦٧

ابن سابور بن شاهنشاه البغوي ابن بنت أحمد بن منيع البغوي ... كان محدّث العراق في عصره ، عمّر العمر الطويل حتى رحل الناس إليه ، وكتب عنه الأجداد والأحفاد والآباء والأولاد ، وكان ثقة مكثرا فهما عارفا بالحديث ، وكان يورق أوّلا ثم رجع ، وصنف المعجم الكبير للصحابة ، وجمع حديث علي بن الجعد ، وغيره.

سمع : أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، وعلي بن الجعد ، وخلف ابن هشام ، ومحمّد بن عبد الوهاب الهاروني ... ، وخلقا يطول ذكرهم من شيوخ البخاري ومسلم سوى هؤلاء.

روى عنه : يحيى بن محمّد بن صاعد ، وعلي بن إسحاق بن البحتري الماوردي ، وعبد الباقي بن قانع ، وحبيب بن الحسن الفرّاء ، وأبو بكر محمّد ابن عمر بن الجعابي ، وأبو حاتم البستي ، وأبو أحمد بن عدي الحافظ ، وأبو بكر الإسماعيلي ، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، وأبو بكر ابن المقرئ ، وأبو الحسن الدار قطني ، ومحمّد بن المظفّر ، وخلق كثير سوى هؤلاء ... » (١).

٢ ـ الذهبي : « البغوي ، الحافظ الثقة الكبير ، مسند العالم ... قال ابن أبي حاتم : أبو القاسم البغوي يدخل في الصحيح ، وقال الدار قطني : كان البغوي قلّ أن يتكلّم على الحديث ، فإذا تكلّم كان كلامه كالمسمار في السّاج. قال ابن عدي : كان البغوي صاحب حديث ...

قلت : وقد احتجّ به عامّة من خرّج الصحيح ، كالإسماعيلي ، والدار قطني ، والبرقاني. وعاش مائة سنة وثلاث سنين ، قال الخطيب : أبو بكر كان ثقة ثبتا فهما عارفا. وقال السلمي : سألت الدّار قطني عن البغوي فقال : ثقة إمام جبل إمام ، أقلّ المشايخ خطأ ... » (٢).

__________________

(١) الأنساب ـ البغوي.

(٢) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٧٣٧.

١٦٨

٣ ـ الذهبي أيضا : « وكان محدّثا حافظا مجوّدا مصنفا ، انتهى إليه علوّ الإسناد في الدنيا ... » (١).

٤ ـ السيوطي : « البغوي ، الحافظ الكبير الثقة مسند العالم ... » (٢).

(١٣)

رواية ابن صاعد

قال الخوارزمي : « أخبرنا صمصام الأئمة أبو عفان عثمان بن أحمد الصرام الخوارزمي قال : أخبرنا عماد الدين أبو بكر بن الحسن النسفي قال : حدّثني الشيخ الفقيه أبو القاسم ميمون بن علي الميموني قال : حدّثنا الشيخ. الزاهد أبو محمّد إسماعيل بن الحسين قال : حدّثنا أبو الحسن القاضي علي ابن الحسن بن علي بن مطرف الجراحي ببغداد قال : حدّثنا يحيى بن صاعد قال : حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : حدّثنا أبو أحمد الحسين بن محمّد قال : حدّثنا سليمان بن قرم ، عن محمّد بن شعيب ، عن داود بن علي ابن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جدّه عبد الله بن عباس ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : أتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بطائر ، فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك ، فجائه علي بن أبي طالب » (٣).

ترجمته

١ ـ الذهبي : « يحيى بن صاعد بن كاتب ، مولى أبي جعفر المنصور ، الحافظ الإمام الثقة ... قال الدار قطني : ثقة ثبت حافظ ، وقال أحمد بن عبدان

__________________

(١) العبر ٢ / ١٧٠.

(٢) طبقات الحفاظ : ٣١٢.

(٣) مناقب علي بن أبي طالب : ٥٨.

١٦٩

الشيرازي : هو أكثر حديثا من محمّد بن محمّد الباغندي ، ولا يتقدّمه أحد في الدراية ، قال أبو علي النيسابوري : لم يكن بالعراق في أقران ابن صاعد أحد في فهمه ، والفهم عندنا أجلّ من الحفظ ، وهو فوق ابن أبي داود في الفهم والحفظ ، وسئل ابن الجعابي : هل كان ابن صاعد يحفظ؟ فتبسّم وقال : لا يقال لأبي محمّد يحفظ ، كان يدري ... قال الخطيب : كان ابن صاعد ذا محلّ من العلم ، وله تصانيف في السنن والأحكام ...

قلت : لابن صاعد كلام متين في الرجال والعلل ، يدل على تبحّره ، مات في ذي القعدة سنة ٣١٨ » (١).

٢ ـ اليافعي ووصفه بـ « الحافظ الحجة » (٢).

٣ ـ السيوطي : « يحيى بن محمّد بن صاعد بن كاتب ، مولى أبي جعفر المنصور ، الحافظ الإمام الثقة ... » (٣).

(١٤)

رواية ابن أبي حاتم الرازي

رواه بإسناد أجود من إسناد الحاكم ، قال ابن كثير في ذكر حديث الطّير في فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ورواه ابن أبي حاتم ، عن عمّار ابن خالد الواسطي ، عن إسحاق الأزرق ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أنس ، فذكر الحديث. وهذا أجود من إسناد الحاكم » (٤).

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٧٧٦.

(٢) مرآة الجنان ٢ / ٢٧٧.

(٣) طبقات الحفّاظ : ٢٣٥.

(٤) البداية والنهاية ٧ / ٣٥٣.

١٧٠

ترجمته

١ ـ الذهبي : في حوادث ٣٢٧ « وفيها : توفي عبد الرحمن بن أبي حاتم محمّد بن إدريس بن المنذر ، الحافظ الجامع ، التميمي الرازي بالراء ، وقد قارب التسعين ، رحل به أبوه في سنة خمس وخمسين ومائتين ، فسمع أبا سعيد الأشج ، والحسن بن عرفة وطبقتهما ، قال أبو يعلى الخليلي : أخذ عن أبيه وأبي زرعة ، كان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال ، صنّف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار ، ثمّ قال : وكان زاهدا يعدّ من الإبدال » (١).

٢ ـ اليافعي ووصفه بـ « الحافظ العالم » ثمّ نقل كلام الخليلي المتقدم (٢).

٣ ـ السبكي : « الإمام ابن الإمام ، حافظ الري وابن حافظها ، كان بحرا في العلم ، وله المصنفات المشهورة ... » (٣).

وقد ترجمنا له في مجلد حديث الغدير.

(١٥)

رواية ابن عبد ربّه

رواه في كتابه في إحتجاج للمأمون على الفقهاء ، في بحوث مفصّلة جرت ، فذكر حديث الطير ومفاده ، وهذه عبارة ابن عبد ربّه حيث قال : « إحتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي : إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد ابن زيد قال : بعث إليّ يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئذ قاضي القضاة فقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين

__________________

(١) العبر ٢ / ٢٠٨.

(٢) مرآة الجنان حوادث : ٣٢٧.

(٣) طبقات السبكي ٣ / ٣٢٤.

١٧١

رجلا ، كلّهم فقيه يفقه ما يقال له ويحسن الجواب ، فسمّوا من تظنّونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين ، فسمّينا له عدّة وذكر هو عدّة ، حتى تم العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم وأمر بالبكور في السحر ، وبعث إلى من لم يحضر فأمره بذلك ، فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا ، فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب ، فإذا بخادم واقف فلمّا نظر إلينا قال : يا أبا محمّد ، أمير المؤمنين ينتظرك. فأدخلنا ، فأمرنا بالصلاة ، فأخذنا فيها ، فلم نستتمها حتى خرج الرّسول فقال : ادخلوا ، فدخلنا فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه وعليه سوادة وطيلسانه والطويلة وعمامته ، فوقفنا وسلّمنا فردّ السلام ، وأمر لنا بالجلوس ، فلمّا استقرّ بنا المجلس تحدّر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته ، ثمّ أقبل علينا فقال : إنّما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأما الخف فمنع من خلفه علّة ، من قد عرفها منكم فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فسأعرّفه ، ومدّ رجله. وقال : انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم ، قال : فأمسكنا فقال لنا يحيى : انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين ، فتنحّينا ، فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانسنا ورجعنا ، فلمّا استقرّ بنا المجلس قال :

إنما بعثت إليكم ـ معشر القوم ـ في المناظرة ، فمن كان به شيء من الخبثين لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول ، فمن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له.

ثمّ ألقى مسألة من الفقه فقال : يا أبا محمّد قل وليقل القوم من بعدك ، فأجابه يحيى ، ثمّ الذي يلي يحيى ، ثمّ الذي يليه ، حتى أجاب آخرنا في العلّة وعلّة العلّة وهو مطرق لا يتكلّم ، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال : يا أبا محمّد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلّة ، ثمّ لم يزل يردّ على كلّ واحد منا مقالته ، ويخطّئ بعضنا ويصوّب بعضنا ، حتى أتى على آخرنا. ثمّ قال : إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكني أحببت أن أبسطكم ، إنّ أمير

١٧٢

المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين الله به ، قلنا : فليفعل أمير المؤمنين وفّقه الله فقال :

إن أمير المؤمنين يدين الله على أنّ علي بن أبي طالب خير خلفاء الله بعد رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وأولى الناس بالخلافة له.

قال إسحاق : فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة! فقال : يا إسحاق ، اختر ، إن شئت سألتك أسألك ، وإن شئت أن تسأل فقل. قال إسحاق : فاغتنمتها منه. فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين قال : سل.

قلت : من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالخلافة بعده؟

قال : يا إسحاق ، خبّرني عن الناس بما يتفاضلون حين يقال : فلان أفضل من فلان؟ قلت : بالأعمال الصالحة ، قال : صدقت. قال : فأخبرني عمّن فضل صاحبه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله يلحق به. قال : فأطرقت ، فقال لي : يا أبا إسحاق لا تقل : نعم ، فإنّك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة ، فقلت : أجل ، يا أمير المؤمنين لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفاضل أبدا.

قال : يا إسحاق فانظر ما رواه لك أصحابك ـ ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك ـ من فضائل علي بن أبي طالب فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فإنّي رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي فقل إنّه أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر ، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده فقل إنّهما أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل

١٧٣

علي فقل إنّهم أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة ، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنّهم أفضل منه.

قال : يا إسحاق ، أيّ الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت : الإخلاص بالشهادة ، قال : أليس السبق إلى الإسلام؟ قلت : نعم ، قال : اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى ، يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) إنّما عنى من سبق إلى الإسلام ، فهل علمت أحدا سبق عليا إلى الإسلام؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنّ عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم ، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. قال : أخبرني أيّهما أسلم قبل ثمّ أناظرك من بعده في الحداثة والكمال؟ قلت : علي أسلم قبل أبي بكر ، على هذه الشريطة ، فقال : نعم. فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعاه إلى الإسلام أو يكون إلهاما من الله؟ قال : فأطرقت ، فقال لي : يا إسحاق لا تقل إلهاما ، فتقدّمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، لأنّ رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبرئيل عن الله تعالى. قلت : أجل ، بل دعاه رسول الله إلى الإسلام ، قال : يا إسحاق ، فهل يخلو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دعا إلى الإسلام ، من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلّف ذلك من نفسه؟ قال : فأطرقت ، فقال : يا إسحاق لا تنسب رسول الله إلى التكلف ، فإنّ الله يقول : ( وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ). قلت : أجل ، يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر الله ، قال : فهل من صفة الجبّار ـ جلّ ذكره ـ أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟ قلت : أعوذ بالله ، فقال : أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ : إنّ عليا أسلم صبيّا لا يجوز عليه الحكم ، قد كلّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون ، فهل يدعوهم السّاعة ويرتدّون بعد ساعة فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء ، ولا يجوز عليهم حكم الرسول عليه‌السلام ، أترى هذا جائزا

١٧٤

عندك أن تنسبه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت : أعوذ بالله ، قال : يا إسحاق فأراك إنّما قصدت لفضيلة فضّل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا على هذا الخلق ، إبانة بها منهم ليعرفوا فضله ، ولو كان الله أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا ، قلت : بلى ، قال : فهل بلغك أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته لئلاّ تقول : إنّ عليا ابن عمّه؟ قلت : لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل ، قال : يا إسحاق ، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسئل عنه؟ قلت : لا ، قال : فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك.

قال : ثمّ أيّ الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟ قلت : الجهاد في سبيل الله ، قال : صدقت ، فهل تجد. لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تجد لعلي في الجهاد؟ قلت : في أيّ وقت؟ قال : في أيّ الأوقات شئت.

قلت : بدر. قال : لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلاّ دون ما تجد لعلي يوم بدر؟ أخبرني كم قتلى بدر؟ قلت : نيف وستّون رجلا من المشركين. قال : فكم قتل علي وحده؟. قلت : لا أدري ، قال : ثلاثة وعشرين ، أو اثنين وعشرين ، والأربعون لسائر الناس ، قلت : يا أمير المؤمنين : كان أبو بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عريشه ، قال : ما ذا يصنع؟ قلت : يدبّر ، قال : ويحك يدبّر دون رسول الله ، أو معه شريكا ، أم افتقارا مره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رأيه؟ أيّ الثلاث أحبّ إليك؟ قلت : أعوذ بالله أن يدبّر أبو بكر دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أو يكون معه شريكا ، أو أن يكون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتقار إلى رأيه ، قال : فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممّن هو جالس؟ قلت : يا أمير المؤمنين كلّ الجيش كان مجاهدا ، قال : صدقت كلّ مجاهد ، ولكنّ الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله

١٧٥

عليه وسلّم وعن الجالس أفضل من الجالس ، أما قرأت كتاب الله : ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً )؟ قلت : وكان أبو بكر وعمر مجاهدين ، قال : فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت : نعم ، قال : فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر ، قلت : أجل.

قال : يا إسحاق هل تقرأ القرآن؟ قلت : نعم ، قال : اقرأ عليّ ( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) فقرأت منها حتى بلغت : ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) ـ إلى قوله ـ ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) قال : على رسلك ، فيمن نزلت هذه الآيات؟ قلت : في علي ، قال : فهل بلغك أنّ عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال : ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ )؟ وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟ قلت : لا ، قال : صدقت ، لأن الله ـ جلّ ثناؤه ـ عرف سيرته.

يا إسحاق ، ألست تشهد أنّ العشرة في الجنّة؟ قلت : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : أرأيت لو انّ رجلا قال : والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ، ولا أدري أن كان رسول الله قاله أم لم يقله ، أكان عندك كافرا؟ قلت : أعوذ بالله ، قال : أرأيت لو أنّه قال : ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا كان كافرا؟ قلت : نعم ، قال : يا إسحاق أرى بينهما فرقا ، يا إسحاق : أتروي الحديث؟ قلت : نعم.

قال : فهل تعرف حديث الطير؟

قلت : نعم.

قال : فحدثني به.

قال : فحدّثته الحديث. فقال :

١٧٦

يا إسحاق ، إني كنت أكلّمك وأنا أظنّك غير معاند للحق ، فأمّا الآن فقد بان لي عنادك ، إنّك توقن أنّ هذا الحديث صحيح؟ قلت : نعم ، رواه من لا يمكنني ردّه ، قال : أفرأيت أنّ من أيقن أنّ هذا الحديث صحيح ثمّ زعم أنّ أحدا أفضل من علي. لا يخلو من إحدى ثلاثة : من أن يكون دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنده مردودة عليه ، أو أن يقول : عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحبّ إليه ، أو أن يقول : إن الله عزّ وجلّ لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأيّ الثلاثة أحبّ إليك أن تقول؟ فأطرقت ، ثم قال : يا إسحاق لا تقل منها شيئا ، فإنّك إن قلت منها شيئا استتبتك ، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله.

قلت : لا أعلم.

وإنّ لأبي بكر فضلا ، قال : أجل لو لا أن له فضلا لما قيل إنّ عليا أفضل منه ، فما فضله الذي قصدت له الساعة؟

قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) فنسبه إلى صحبته. قال : يا إسحاق ، أمّا إني لا أحملك على الوعر من طريقك إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضى عنه كافرا وهو قوله : ( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) قلت : إن ذلك كان صاحبا كافرا ، وأبو بكر مؤمن ، قال : فإذا جاز أن ينسب إلى صحبته من رضيه كافرا جاز أن ينسب إلى صحبة نبيّه مؤمنا ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث. قلت : يا أمير المؤمنين إن قدر الآية عظيم ، إنّ الله يقول : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) قال : يا إسحاق تأبى الآن إلاّ أن أخرجك إلى الاستقصاء عليك ، أخبرني عن حزن أبي بكر ، أكان رضا أم سخطا؟ قلت : إن أبا بكر إنّما حزن من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خوفا عليه وغمّا أن يصل إلى رسول الله شيء من

١٧٧

المكروه ، قال : ليس هذا جوابي ، إنّما كان جوابي أن تقول رضى أم سخط ، قلت : بل كان رضا لله ، قال : وكان الله جلّ ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عزّ وجلّ وعن طاعته! قلت : أعوذ بالله ، قال : أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا لله؟ قلت : بلى قال : أولم تجد أنّ القرآن يشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : لا تحزن ، نهيا له عن الحزن؟ قلت : أعوذ بالله. قال : يا إسحاق إنّ مذهبي الرفق بك ، لعلّ الله يردّك إلى الحق ، ويعدل بك عن الباطل ، لكثرة ما تستعيذ به.

وحدثني عن قول الله : ( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) من عنى بذلك ، رسول الله أم أبو بكر؟ قلت : بل رسول الله قال : صدقت.

قال : فحدّثني عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) ـ إلى قوله ـ ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، أتعلم من « المؤمنين » الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين ، قال : الناس جميعا انهزموا يوم حنين ، فلم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاّ سبعة نفر من بني هاشم : علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله ، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شيء ، حتى أعطى الله لرسوله الظفر ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة ثم من حضره من بني هاشم ، قال : فمن أفضل ، من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟ قلت : بل من أنزلت عليه السكينة.

قال : يا إسحاق ، من أفضل ، من كان معه في الغار أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه حتّى تمّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليا بالنوم على فراشه ، وأن يقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك ،

١٧٨

فبكى علي رضي‌الله‌عنه فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ما يبكيك يا علي أجزعا من الموت؟ قال : لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، ولكن خوفا عليك ، أفتسلم يا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله ، ثمّ أتى مضجعه واضطجع وتسجّى بثوبه ، وجاء المشركون من قريش فحفّوا به لا يشكّون أنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وقد أجمعوا أن يضربه من كلّ بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف ، لئلاّ يطلب الهاشميّون من البطون بطنا بدمه ، وعلي يسمع القوم فيه من تلاف نفسه ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار ، ولم يزل علي صابرا محتسبا ، فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح ، فلمّا أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا : أين محمّد؟ قال : وما علمي بمحمّد أين هو؟ قال : فلا نراك إلاّ مغررا بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يزل علي أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله إليه.

يا إسحاق ، هل تروي حديث الولاية؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : اروه ، ففعلت ، قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟ قلت : إن النّاس ذكروا أنّ الحديث إنّما كان بسبب زبد بن حارثة ، لشيء جرى بينه وبين علي وأنكر ولاء علي ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، قال : في أيّ موضع قال هذا؟ أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟ قلت : أجل ، قال : فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير ، كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمسة عشر سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاعلموا ذلك ، أكنت منكرا ذلك عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟ فقلت : اللهم نعم ، قال : يا إسحاق أفتنزّه ابنك عمّا لا تنزّه عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟.

ويحكم لا تجعلوا فقهائكم أربابكم ، إنّ الله جلّ ذكره قال في كتابه :

١٧٩

( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنّهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم.

يا إسحاق : أتروي حديث : أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعته وسمعت من صحّحه وجحده ، قال : فمن أوثق عندك ، من سمعت منه فصحّحه أو من جحده؟ قلت : من صحّحه ، قال : فهل يمكن أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم مزح بهذا القول؟ قلت : أعوذ بالله ، قال : فقال قولا لا معنى له فلا يوقف عليه؟ قلت : أعوذ بالله ، قال : أفما تعلم ان هارون كان أخا موسى لأبيه وأمّه؟ قلت : بلى ، قال : فعلي من رسول الله لأبيه وامّه؟ قلت : لا ، قال : أوليس هارون نبيا وعلي غير نبي؟ قلت : بلى ، قال : فهذان الحالان معدومان في علي وقد كانا في هارون فما معنى أنت منّي بمنزلة هارون من موسى؟ قلت له : إنّما أراد أن يطيّب بذلك نفس علي لمّا قال المنافقون إنّه خلّفه استثقالا له ، قال : فأراد أن يطيّب نفسه بقول لا معنى له؟ قال : فأطرقت ، قال : يا إسحاق له معنى في كتاب الله بيّن ، قلت : وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال : قوله عزّ وجلّ حكاية عن موسى أنّه قال لأخيه هارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) قلت : يا أمير المؤمنين : إن موسى خلّف هارون في قومه وهو حي ومضى إلى ربّه ، وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلّف عليا كذلك حين خرج إلى غزاته ، قال : كلاّ ليس كما قلت ، أخبرني عن موسى حين خلّف هارون هل كان معه حين ذهب إلى ربّه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت : لا ، قال : أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت : نعم ، قال : فأخبرني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خرج إلى غزاته هل خلّف إلاّ الضعفاء والنساء والصبيان؟ فأنّى يكون مثل ذلك؟!

وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدلّ على استخلافه إيّاه ، لا يقدر أحد أن يحتجّ فيه ، ولا أعلم أحدا احتجّ به ، وأرجو أن يكون توفيقا من الله. قلت :

١٨٠