نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

المكي برواية الصّحابة والتابعين عن معاوية ، على علم معاوية وفقهه (١) ...

وقال ابن قيم الجوزيّة بأنّ مجرّد رواية العدل عن غيره تعديل له على أحد القولين ، وإن لم ينص الراوي على ثقة المروي عنه.

٥ ـ توثيق أبي حاتم

وقد وثّقه أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، قال الذهبي : « عبّاد بن يعقوب الرّواجني ، أبو سعيد ، شيعي جلد ، عن الوليد بن أبي ثور وشريك وعدّة. عنه ( خ ) مقرونا و ( ت ـ ق ) وابن خزيمة وابن صاعد وخلق. وثّقه أبو حاتم. توفي سنة ٢٥٠ » (٢).

وفي ( تهذيب التهذيب ) : « قال أبو حاتم : شيخ ثقة » (٣).

وقال ابن حجر : « عبّاد بن يعقوب الرواجني الكوفي ، أبو سعيد ، رافضي مشهور إلاّ أنّه كان صدوقا ، وثّقه أبو حاتم ... » (٤).

وتوثيق أبي حاتم يكفي للاعتماد على الرجل ، فإنّ ( كلّ الصيّد في جوف الفرا ) لأن الذهبي الذي تعصّبه وتعنته ظاهر جلي قال بترجمة أبي حاتم ما لفظه : « إذا وثّق أبو حاتم رجلا فتمسّك بقوله فإنّه لا يوثّق إلاّ رجلا صحيح الحديث ، وإذا ليّن رجلا أو قال فيه : لا يحتج به فتوقّف حتى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثّقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنّه متعنّت في الرجال ، قد قال في طائفة من رجال الصحاح ليس بحجة ، ليس بقوي ، أو نحو ذلك » (٥).

__________________

(١) تطهير الجنان ـ هامش الصواعق المحرقة : ٥٣.

(٢) الكاشف ٢ / ٦٣.

(٣) تهذيب التهذيب ٥ / ١٠٩.

(٤) مقدمة فتح الباري : ٤١٠.

(٥) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٤٧.

١٢١

٦ ـ توثيق ابن خزيمة

وكذا وثّقه ابن خزيمة بصراحة ، قال ابن حجر : « قال الحاكم : كان ابن خزيمة يقول : حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في دينه عبّاد بن يعقوب » (١).

وقال : « قال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول : حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في دينه عباد بن يعقوب » (٢).

وأمّا جواب اتّهام ابن يعقوب في الدين فسيجيء بالبيان الظاهر المبين إن شاء الله المعين.

ترجمة ابن خزيمة

وابن خزيمة من مشاهير أئمّة أهل السنّة وأساطين محدّثيهم : قال الذهبي : « إن خزيمة الحافظ الكبير ، إمام الأئمة ، شيخ الإسلام أبو بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة ... جوّد وصنّف واشتهر اسمه وانتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان ، حدّث عنه الشيخان خارج صحيحيهما ، ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم أحد شيوخه ، وأحمد بن المبارك المستملي ، وإبراهيم ابن أبي طالب ، وأبو علي النيسابوري ، وإسحاق بن سعيد النسائي ، وأبو عمرو ابن حمدان ، وأبو حامد أحمد بن محمد بن بالويه ، وأبو بكر أحمد بن مهران المقري ، ومحمد بن أحمد بن بصير ، وحفيده محمد بن الفضل بن محمد ، وخلق لا يحصون.

قال أبو عثمان الحيري : حدّثنا ابن خزيمة قال : كنت إذا أردت أن اصنّف الشيء دخلت في الصّلاة مستخيرا حتى يقع لي فيها ثم ابتدئ ، ثم قال

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٠٩.

(٢) مقدمة فتح الباري : ٤١٠.

١٢٢

أبو عثمان الزاهد : إنّ الله ليدفع البلاء عن أهل نيسابور بابن خزيمة.

قال أبو علي النيسابوري : لم أر مثل ابن خزيمة ...

قلت : هذا الامام كان فريد عصره ، فأخبرني الحسن بن علي ... أنا أبو حاتم محمّد بن حبّان التميمي قال : ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها ـ حتى كأن السنن بين عينيه ـ إلاّ محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط.

قال الدار قطني : كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير ، وحكى أبو بشر القطان قال : رأى جار لابن خزيمة من أهل العلم كأنّ لوحا عليه صورة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وابن خزيمة يصقله ، فقال المعبّر : هذا رجل يحيي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو العباس بن شريح وذكر ابن خزيمة فقال : يستخرج النكت من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمنقاش.

وقال الحاكم في كتاب علوم الحديث : فضائل ابن خزيمة مجموعة عندي في أوراق كثيرة ، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابا ، سوى المسائل والمسائل المصنفة مائة جزء ، وله فقه حديث بريدة في ثلاثة أجزاء.

قال أحمد بن عبد الله المعدّل : سمعت عبد الله بن خالد الأصبهاني يقول : سئل عبد الرحمن بن أبي حاتم عن ابن خزيمة فقال : ويحكم ، هو يسأل عنّا ولا نسأل عنه ، هو إمام يقتدى به ...

وكانت وفاته في ثاني ذي القعدة سنة ٣١١ وهو في تسع وثمانين سنة » (١).

٧ ـ قال الدار قطني : صدوق

وقد نصّ الدار قطني على أنّ عبّاد بن يعقوب صدوق قال ابن حجر : « قال الدار قطني : شيعي صدوق » (٢).

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٧٢٠.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ١٠٩.

١٢٣

وفي نصّ الدار قطني كفاء لمكتف وشفاء لمشتف ، فجاء الحق وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا.

٨ ـ صحّة حديثه

وجاء في ( تهذيب التهذيب ) بترجمته : « وقال ابن ابراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة : لو لا رجلان من الشيعة ما صحّ لهم حديث : عبّاد بن يعقوب ، وإبراهيم بن محمد بن ميمون » (١).

فثبت بهذا التصريح أن حديث عبّاد صحيح.

٩ ـ قال ابن حجر : صدوق

وقد حكم بصدقه ابن حجر العسقلاني كذلك ، حيث قال : « صدوق رافضي ؛ حديثه في البخاري مقرون ، بالغ ابن حبان فقال : يستحق الترك ، من العاشرة ، مات سنة خمسين » (٢).

وفي ( هدي الساري ) : « رافضي مشهور ، إلاّ أنّه كان صدوقا ، وثّقه أبو حاتم .. » (٣).

وفيه كفاية لأهل الرشاد والإيقان ، وقمع لأساس هواجس أصحاب الرّيب والعدوان ...

الرّفض لا يوجب التّرك

وأمّا قولهم : « رافضي » فتلك شكاة ظاهر عنك عارها ، وغير خاف على الممارس في هذا الشأن أنّ ترك حديث أحد لأجل « الرفض » و« التشيع » عين

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٠٩.

(٢) تقريب التهذيب ١ / ٣٩٤.

(٣) مقدمة فتح الباري ١ / ٣٩٤.

١٢٤

التهوّر والتنطّع ، أما سمعت ابن قتيبة يقول : « أسماء الغالية من الرافضة : أبو الطفيل صاحب راية المختار ، وكان آخر من راى رسول الله صلّى الله عليه موتا ، والمختار ، وأبو عبد الله الجدلي ، وزرارة بن أعين ، وجابر الجعفي » (١).

فقد علم منه كون « أبو الطفيل الصحابي » من « غلاة الرّافضة » فكون « عبّاد بن يعقوب » هذا « رافضيا » فحسب لا يقتضي الطعن بالأولويّة ، ولو كان « الرفض » بل « الغلو في الرفض » موجبا للقدح والجرح للزم سقوط دعوى عدالة الصحابة أجمعين أكتعين ...

وعليه ، فلو رفع القادحون في « عبّاد بن يعقوب » اليد عن دعوى « عدالة جميع الصحابة » فإنّا نرفع اليد عن توثيق « عبّاد بن يعقوب » ولكنّا لا نظنّهم يختارون ذلك ، فإنّه قوام مذهبهم ، بل يختارون التّسليم بوثاقة « عبّاد بن يعقوب » ... ومرام أهل الحق حاصل على كلّ حال ، كما لا يخفى.

وعلى هذا الأساس نجيب عمّا قيل في حقّ عبّاد بن يعقوب في الكتب الرجالية ، فقد جاء في ( تهذيب التهذيب ) :

« قال ابن عدي : سمعت عبدان يذكر عن أبي بكر بن أبي شيبة أو هنّاد السّري أنّهما أو أحدهما فسّقه ونسبه إلى أنه يشتم السلف ، قال ابن عدي :

وعبّاد فيه غلو في التشيّع ، وروى أحاديث أنكرت عليه في الفضائل والمثالب ، وقال صالح بن محمد : كان يشتم عثمان قال : وسمعته يقول : الله أعدل من أن يدخل طلحة والزبير الجنّة ، لأنهما بايعا عليا ثم قاتلاه.

وقال القاسم بن زكريا المطرز : وردت الكوفة فكتبت من شيوخها كلّهم إلاّ عبّاد بن يعقوب ، فلمّا فرغت دخلت عليه وكان يمتحن من يسمع منه ، فقال لي : من حفر البحر؟ فقلت : الله خلق البحر ، قال : هو كذلك ولكن من حفره؟ قلت : يذكر الشيخ؟ قال : علي. ثم قال : من أجراه؟ قلت : الله أجرى الأنهار

__________________

(١) المعارف : ٦٢٤.

١٢٥

ووسّع العيون ، قال : هو كذلك لكن من أجراها؟ قلت : يذكر الشيخ ، قال : أجراها الحسين. قال : وكان مكفوفا ، ورأيت في بيته سيفا معلقا فقلت : لمن هذا؟ قال : أعددته لأقاتل به مع المهدي. قال : فلما فرغت من سماع ما أردت وعزمت على السفر دخلت عليه ، فسألني فقال : من حفر البحر؟ فقلت : حفره معاوية وأجراه عمرو بن العاص ، ثم وثبت ، فجعل يصيح : أدركوا الفاسق عدو الله فاقتلوه.

قال البخاري : مات في شوال ، وقال محمد بن عبد الله الحضرمي : في ذي القعدة سنة ٢٥٠ » (١).

فإنّ حاصل ذلك كلّه « رفض » عبّاد بن يعقوب ، وقد ذكرنا الجواب ، وأوضحنا أنّ ذلك لا يضرّ بعدالة الرجل بحال.

وأمّا قول ابن حجر : « ذكر الخطيب أن ابن خزيمة ترك الرواية عنه آخرا » فيجاب عنه على تقدير تسليمه : بأنّه لا يعبأ به بعد تصريحه بوثاقته ، لأنّ ذلك مؤيّد بتوثيق أبي حاتم وغيره من أعلام الجرح والتعديل ، على أنّه قد تقدم عن ابن حجر العسقلاني قوله في ( التقريب ) : « وبالغ ابن حبان فقال : يستحق الترك » فلو لم يسبق توثيقه الترك أيضا لما التفت اليه المحققون حسب تصريح ابن حجر العسقلاني.

وأمّا قول ابن حجر : « قال ابن حبان : كان رافضيا داعية ومع ذلك يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، روى عن شريك عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عوف : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » فنقول :

أمّا كونه « رافضيا » فلا يضرّ ، كما تقدّم.

وأمّا كونه « داعية » فهي دعوى أجاب عنها السمعاني بقوله : « قلت : روى عنه جماعة من مشاهير الأئمة مثل : أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ،

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١١٠.

١٢٦

لأنه لم يكن داعية إلى هواه ». على أنّا قد ذكرنا في مجلّد حديث الولاية ـ حسب تصريحات المحققين المنصفين من أهل السنة ـ أن كون الراوي داعية لا يسبب طرح حديثه وعدم الاعتماد عليه ، فليراجع.

وأمّا كونه « يروي المناكير عن المشاهير » فدعوى بلا دليل ، فهي غير مسموعة.

وأمّا كونه مستحقّ الترك ، فقد تقدّم الجواب عنه.

وأمّا روايته عن شريك عن عاصم ... فإنّها لا توجب القدح ، لأنّ مطاعن معاوية كثيرة جدا بحيث لا يستبعد منصف ـ بعد النّظر فيها ـ صحّة هذا الحديث.

هذا ، وقد أورد السّمعاني كلام ابن حبّان هذا الذي ظهر فساده من أوّله إلى آخره ، فأجاب عنه بما تقدم نقله عنه آنفا ، فلا نعيد.

ومن لطائف المقام : قول السمعاني بعد ذلك : « وروى عنه حديث أبي بكر رضي‌الله‌عنه : أنه قال : لا تفعل يا خالد ما أمرتك به. سألت الشريف عمر ابن إبراهيم الحسيني بالكوفة عن معنى هذا الأثر فقال : كان أمر خالد بن الوليد أن يقتل عليا ، ثم ندم بعد ذلك ، فنهى عن ذلك ».

وبما أنّ السمعاني قد سكت عن الكلام في هذا الحديث فإنّ سكوته يدلّ على تسليمه بصحّته ، على ما تقرّر لدى علماء أهل السنّة ، كما لا يخفى على من تتبّع كلماتهم ، وعلى هذا الأساس استدل ( الدهلوي ) في الباب الرابع من ( التحفة ) بسكوت القاضي التستري ـ رحمه‌الله ـ في ( مجالس المؤمنين ) أمام كلام الذهبي في ( الميزان ) في القدح في ( زرارة بن أعين ).

١٢٧

(٤)

رواية أبي حاتم

وممّن رواه أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، قال أخطب خوارزم : « أخبرنا الشيخ الزاهد الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد العاصمي الخوارزمي ، قال : أخبرنا القاضي الامام شيخ القضاة إسماعيل بن أحمد الواعظ قال : أخبرنا والدي أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، قال : أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن علي الرودباري قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن مهرويه بن عباس بن سنان الرازي قال : حدّثنا أبو حاتم الرازي قال : حدّثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا إسماعيل الأزرق ، عن أنس بن مالك قال :

اُهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم طير فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير ، فقلت : اللهم اجعله رجلا من الأنصار ، فجاء علي ، فقلت : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حاجة ، قال : فذهب ثم جاء ، فقلت : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حاجة ، قال : فذهب ثم جاء ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : افتح ، ففتحت ، ثم دخل فقال : ما حبسك يا علي؟ قال : هذه آخر ثلاث كرّات يردّني أنس ، يزعم أنك على حاجة ، قال : ما حملك على ما صنعت يا أنس؟ قال : سمعت دعائك فأحببت أن يكون في رجل من قومي ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ الرجل قد يحبّ قومه » (١).

__________________

(١) مناقب علي بن أبي طالب : ٦٤.

١٢٨

ترجمة أبي حاتم

وأبو حاتم من مشاهير أئمة الحديث ونقدة الأخبار ونحارير الجرح والتعديل :

١ ـ السمعاني : « وأبو حاتم كان إماما حافظا فهما ، من مشاهير العلماء ، له رحلة إلى الشام ومصر والعراق ، روى عنه أبو عمرو بن حكيم ، وعالم لا يحصون كثرة ، توفي سنة ٢٧٧ » (١).

٢ ـ ابن الأثير : « هو من أقران البخاري ومسلم » (٢).

٣ ـ الذهبي : « وفي سنة سبع مات حافظ زمانه : أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي ، في شعبان ، وهو في عشر التسعين ، وكان جاريا في مضمار أبي زرعة والبخاري » (٣).

٤ ـ ابن حجر : « أحد الحفاظ » (٤).

وقد جاءت ترجمته مفصّلة في مجلّد حديث التشبيه (٥).

(٥)

رواية الترمذي

ورواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي في مناقب أمير المؤمنين عليه

__________________

(١) الأنساب ـ الجزّي.

(٢) الكامل في التاريخ حوادث : ٢٧٧.

(٣) دول الإسلام حوادث : ٢٧٧.

(٤) تقريب التهذيب ٢ / ١٤٣.

(٥) ومن مصادر ترجمته أيضا : تاريخ بغداد ٢ / ٧٣ ، سير أعلام النبلاء ١٣ / ٤٢٧ ، تهذيب التهذيب ٩ / ٣١.

١٢٩

السلام حيث قال : « باب : حدّثنا سفيان بن وكيع ، نا عبيد الله بن موسى ، عن عيسى بن عمر ، عن السدّي ، عن أنس بن مالك قال : كان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم طير ، فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ، فجاء علي فأكل معه.

هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث السدّي إلاّ من هذا الوجه ، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أنس ، والسدّي اسمه : إسماعيل بن عبد الرحمن ، وقد أدرك أنس بن مالك ، ورأى الحسين بن علي » (١).

وإذا كان الترمذي ـ وهو أحد الأركان الستّة ـ راويا لهذا الحديث الشريف ، فإنه لا يرتاب في صحته إلاّ المعاند المارق أو المتعصّب المائق ، والله ولي التوفيق.

ثم إن سبط ابن الجوزي نقل عن التّرمذي توثيق السدّي وتعديله ، وهذه عبارته ـ في ذكر حديث الطائر ـ : « وأمّا الترمذي فقال : ثنا سفيان بن وكيع ، عن عبيد الله بن موسى ، عن عيسى بن عمر ، عن السدّي ، عن أنس بن مالك قال : كان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم طير فقال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء علي فأكل معه. قال الترمذي : السدّي : اسمه إسماعيل بن عبد الرحمن ، سمع من أنس بن مالك ، ورأى الحسين بن علي ، ووثّقه سفيان الثوري ، وشعبة ، ويحيى بن سعيد القطّان ، وغيرهم.

قلت : امّا ذكر الترمذي هذا في تعديل السدّي لأنّ جماعة تعصّبوا عليه ليبطلوا هذا الحديث ، فعدّله الترمذي » (٢).

وثاقة السدّي

وبالرغم من كفاية توثيق الترمذي وتعديله للاعتماد على هذا

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ / ٥٩٥.

(٢) تذكرة الخواص من الامة : ٣٩.

١٣٠

الحديث ، ودفع تشكيكات أهل المراء واللجاج ، فإنّا نذكر وجوها أخرى لوثاقته :-

١ ـ توثيق أحمد

لقد وثّقه أحمد بن حنبل ، كما جاء في ( تهذيب التهذيب ) بترجمته : « قال أبو طالب عن أحمد : ثقة » (١).

وتوثيق أحمد يدل على وثاقة الرّجل ، لأن مجرّد روايته عن أحد يدل على ذلك ، فتوثيقه الصريح بالأولويّة.

٢ ـ توثيق العجلي

ووثّقه أحمد بن عبد الله (٢) على ما جاء في ( تهذيب التهذيب ) أيضا حيث قال : « قال العجلي : ثقة ، عالم بالتفسير ، رواية له » (٣).

٣ ـ قال النسائي : صالح

وقال النسائي في حقه مرة : « صالح » وقال أخرى : « ليس به بأس » ، قال ابن حجر بترجمته : « قال النسائي في الكنى : صالح ، وقال في موضع آخر : ليس به بأس » (٤).

هذا ، وقد ذكر علماء الدّراية : أنّ النّسائي أشدّ شرطا في الرجال من الشيخين ، فقوله : « صالح » و« ليس به بأس » يفيد غاية وثاقة السدّي ونهاية الاعتماد عليه ، لا سيّما وأنّه قد أخرج حديثه في صحيحه كما ستعرف إن شاء

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ٣١٣.

(٢) توجد ترجمته في : سير أعلام النبلاء ١٢ / ٥٠٥.

(٣) تهذيب التهذيب ١ / ١٣١.

(٤) تهذيب التهذيب ١ / ٣١٣.

١٣١

الله تعالى.

٤ ـ قال ابن عدي : مستقيم الحديث صدوق ...

وقال ابن عدي (١) : « هو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به ». قال ابن حجر : « قال ابن عدي : له أحاديث يرويها عن عدة شيوخ ، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به » (٢).

٥ ـ ذكره ابن حبان في الثقات

وقد ذكره ابن حبان في ( الثقات ) حيث قال : « إسماعيل بن عبد الرحمن ابن أبي ذويب السدّي الأعور ، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة من بني عبد مناف ، يروي عن أنس بن مالك ، وقد رأى ابن عمر. روى عنه : الثوري ، وشعبة ، وزائدة. مات سنة سبع وعشرين ومائة ، في إمارة ابن هبيرة » (٣).

هذا ، وقد قال ابن حبّان في أوّل كتابه المذكور : « ولا أذكر في هذا الكتاب الأول إلاّ الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم ».

وقال : فكلّ من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعدّى خبره عن خصال خمس » ثم قال بعد أن ذكر تلك الخصال « وإنما أذكر في هذا الكتاب الشيخ بعد الشيخ ، وقد ضعّفه بعض المشايخ ووثقه بعضهم ، فمن صح عندي منهم أنه ثقة بالدلائل النّيرة التي بينّتها في كتاب الفصل بين النقلة ، أدخلته في هذا الكتاب ، لأنه يجوز الاحتجاج بخبره ، ومن صحّ عندي منهم أنه ضعيف بالبراهين الواضحة التي ذكرتها في كتاب

__________________

(١) من مصادر ترجمته : سير أعلام النبلاء ١٦ / ١٥٤.

(٢) تهذيب التهذيب ١ / ٣١٣.

(٣) الثقات ٤ / ٢٠.

١٣٢

الفصل بين النقلة ، لم أذكره في هذا الكتاب ، لكنّي أدخلته في كتاب الضعفاء بالعلل ، لأنه لا يجوز الاحتجاج بخبره ، فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعدّى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره ».

٦ ـ توثيق السمعاني

ووثّقه السمعاني حيث قال مترجما ايّاه : « ... وهو السدّي الكبير ، ثقة مأمون ، روى عنه : الثوري ، وشعبة وزائدة ... قال يحيى بن سعيد : ما سمعت أحدا يذكر السدّي إلاّ بخير ، وما تركه أحد » (١).

٧ ـ تخريج مسلم حديثه

والسدّي من رجال صحيح مسلم ، قال المقدسي ابن القيسراني في أفراد مسلم ممّن اسمه إسماعيل : « إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الهاشمي المعروف بالسدّي الأعور الكوفي ، أصله حجازي ، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة من بني عبد المطلب ، يكنّى أبا محمد ، سمع أنس بن مالك ، ولقي عبد الله وسعد بن عبادة ويحيى بن عبّاد ، روى عنه : أبو عوانة ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وزائدة ، وإسرائيل مات سنة سبع وعشرين ومائة » (٢).

هذا ، وقد ذكر ابن القيسراني في صدر كتابه المذكور : أنّه قد صحّ لدى حفّاظ الحديث كابن عدي والدار قطني وابن مندة والحاكم وغيرهم من السابقين واللاّحقين ممّن تأخر عن الشيخين : أنّ من أخرجا له صحيح الحديث ، لأنهما لم يخرجا إلاّ عن ثقة عدل حافظ ...

وقال ابن حجر : « ينبغي لكلّ منصف أن يعلم أن تخريج صاحب

__________________

(١) الأنساب ـ السدّي.

(٢) الجمع بين رجال الصحيحين ١ / ٢٨.

١٣٣

الصحيح لأيّ راو كان متقض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ، ولا سيّما ما انضاف ذلك من اطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين ، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرّج عنه في الصحيح ، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما ».

وقال القاري : « وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول فيمن خرّج أحدهما في الصحيح : هذا جاز القنطرة ، يعني : لا يلتفت إلى ما قيل فيه ، لأنهما مقدّمان على أئمة عصرهما ومن بعدهما في معرفة الصحيح والعلل » (١).

٨ ـ إنه من رجال الصّحاح

هذا ، بالإضافة إلى أنّ السدّي من رجال صحيح أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي وصحيح ابن ماجة ... كما يفهم من الرموز الموضوعة على ترجمته في ( تهذيب التهذيب ) و ( تقريب التهذيب ) وغيرهما من كتب رجال الحديث.

وقد ذكرنا في مجلّد حديث الولاية عن بعض علماء أهل السنّة : أنّ رجال الصحاح الستة كلّهم عدول ثقات ، ومعروفون بالتقى والديانة في كلّ عصر ...

وقد علمت أن « السدّي » من رجال البخاري ومسلم والأربعة.

٩ ـ كونه شيخ شعبة

وعلى فرض عدم توثيق شعبة إيّاه ، فإنّ السدي من شيوخه ، وقد علمت من كلام السبكي في ( شفاء الأسقام ) عن ابن تيميّة أنّ شعبة ممّن لا يروي إلاّ عن ثقة ، وبه قال ابن حجر في صدر كتابه ( لسان الميزان ) كما لا يخفى على من طالعه.

__________________

(١) مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ١ / ١٦.

١٣٤

١٠ ـ رواية الأعاظم عنه

ولقد روى عنه جماعة من أعاظم العلماء ، كأبي عوانة ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وزائدة ، وإسرائيل ، وسماك بن حرب ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وسليمان التيمي ، وأبي بكر بن عياش ... وقد علمت آنفا أن في رواية الأكابر دلالة على وثاقة الرّجل ، بل هي تعديل له.

١١ ـ تصريح الكابلي بوثاقته

وقد صرّح نصر الله الكابلي صاحب ( الصواقع ) المعروف بتعصّبه وعناده للحق وأهله. بثقة السدّي ، حيث قال في الكتاب المذكور في المطلب السادس في بيان المكايد من المقصد الأول : « السّادسة والعشرون : نقل أخبار عن بعض كتب أهل السنة مما رواه بعض محدّثيهم عن رجل يشاركه غيره في اسمه أو لقبه أو كليهما ، أحدهما صدوق والآخر كذوب ، وترك ما يميّز به أحدهما عن الآخر ، ليعلم أنه صحيح ، كالسدّي ، فإنه مشترك بين رجلين أحدهما الكبير والآخر الصغير ، والأول منهما ثقة والآخر كذّاب وضّاع رافضي ، فينخدع من لا يعرف حقيقة الأمر وليس له دربة »

١٢ ـ تصريح ( الدهلوي ) بوثاقته

وهكذا. نصّ ( الدهلوي ) على وثاقة السدّي في كتابه ( التحفة ) ، في الباب الثاني في بيان المكيدة التاسعة عشر.

تتمّة في وصف التّرمذي الحديث بالغرابة

وأمّا بالنسبة الى وصف الترمذي حديث الطّير بالغرابة ـ كما في النسخة ـ فنقول :

١٣٥

أولا : لم يرد هذا في نقل سبط ابن الجوزي.

ثانيا : إنّ الغرابة لا تدل على عدم الصّحة ، لأنّ الحديث الغريب قد يكون صحيحا ، فالغريب يعم الصحيح وغير الصحيح ، ولا دلالة للعام على الخاص ، لكنّ إخراج الترمذي إيّاه في صحيحه وتوثيقه السدّي ـ ردا على جماعة تعصّبوا عليه ليبطلوا الحديث ـ يدل بصراحة على تصحيحه له وإن وصفه بالغرابة.

ويشهد بما ذكرنا من عموم « الغريب » كلمات علماء الدراية في تعريفه ، قال ابن الصّلاح بتعريفه : « ثم إنّ الغريب ينقسم إلى صحيح كالأفراد المخرّجة في الصحيح ، وإلى غير صحيح ، وذلك هو الغالب على الغرائب ، روينا عن أحمد بن حنبل رضي‌الله‌عنه أنه قال غير مرة : لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامّتها من الضعفاء » (١). وهذا الكلام يدل على المطلوب من وجهين :

الأول : إنّ الغريب ينقسم الى صحيح والى غير صحيح ، فليس كل غريب غير صحيح.

الثاني : لو كان حديث الطير من الغريب غير الصّحيح لما أخرجه أحمد ابن حنبل وقد قال غير مرة : لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب ...

فثبت أنّ حديث الطير ليس من الغرائب غير الصحيحة ، بل إنّه حديث صحيح رواه الثقات المعتمدون.

جامع التّرمذي صحيح

هذا كلّه ، بالإضافة إلى أنّهم صرّحوا بصحّة أحاديث جامع التّرمذي واعتبارها ، وعلى هذا الأساس يصحّ الاحتجاج بحديث الطير المخرّج فيه ،

__________________

(١) علوم الحديث : ٣٩٥.

١٣٦

وبذلك يظهر بطلان تكذيبه ... ولنذكر في هذا المقام طرفا من كلماتهم في حقّ الترمذي وجامعه :

١ ـ قال السيوطي بترجمته : « قال أبو سعيد الإدريسي : كان أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث ، صنّف كتاب الجامع والعلل والتاريخ ، تصنيف رجل عالم متقن ، كان يضرب به المثل في الحفظ » (١).

٢ ـ السمعاني : « أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث ، صنف كتاب الجامع والتاريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن ، وكان يضرب به المثل في الحفظ والضبط ... » (٢).

٣ ـ ابن خلّكان : « الحافظ ، أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث ، صنّف كتاب الجامع والعلل تصنيف رجل متقن ، وبه يضرب المثل ... » (٣).

فثبت من هذه الكلمات أنّ صحيحه موصوف بالإتقان ، حريّ بالاعتماد ، محفوظ من الطعن ...

٤ ـ وقال ابن الأثير : « ... وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب ، وأكثرها فائدة ، وأحسنها ترتيبا ، وأقلّها تكرارا ، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال ، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب ، وفيه جرح وتعديل ، وفي آخره كتاب العلل ، قد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها.

قال الترمذي رحمه‌الله : صنّفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به ، وعرضته على علماء العراق فرضوا به ، وعرضته على علماء خراسان

__________________

(١) طبقات الحفّاظ : ٢٧٨.

(٢) الأنساب ـ الترمذي.

(٣) وفيات الأعيان ٤ / ٢٧٨.

١٣٧

فرضوا به ، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبي يتكلّم ... » (١).

فقد وصف ابن الأثير كتاب الترمذي بالصحّة ، وذكر أنه أحسن الكتب ، ونقل عن الترمذي رضا علماء الأقطار بهذا الكتاب بعد أنّ عرضه عليهم ، وقوله : « من كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبيّ يتكلّم ».

وقد جاءت هذه الكلمة وقضية العرض على علماء البلاد عن الترمذي في كثير من الكتب ك‍ ( تذكرة الحفاظ ) و ( رجال المشكاة ) و ( كشف الظنون ) و ( مقاليد الأسانيد ) ونحوها.

٥ ـ وذكر أبو الحجّاج المزيّ في ( تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف ) : « أما بعد ، فإني قد عزمت على ان أجمع في هذا الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ أطراف الكتب الستة ، التي هي عمدة كتب أهل الإسلام ، وعليها مدار عامة الأحكام ، وهي : صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ، وصحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري ، وسنن أبي داود السجستاني ، وجامع أبي عيسى الترمذي ، وسنن أبي عبد الرحمن النسائي ، وسنن أبي عبد الله ابن ماجة القزويني ... » (٢).

فكتاب الترمذي أحد « الكتب الستّة التي هي عمدة كتب أهل الإسلام وعليها مدار عامة الأحكام ».

٦ ـ وقال الكاتب الجلبي : « والكتب المصنّفة في علم الحديث أكثر من أن تحصى ، إلاّ أن السلف والخلف قد اطبقوا على أنّ أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى : صحيح البخاري ، ثم صحيح مسلم ، ثم الموطّأ ، ثم بقيّة الكتب الستة وهي : سنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدار قطني ، والمسندات المشهورة » (٣).

__________________

(١) جامع الأصول ١ / ١١٤.

(٢) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف ـ المقدمة.

(٣) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ١ / ٥٥٩.

١٣٨

٧ ـ وقال عبد الله بن سالم البصري في ختم جامع الترمذي ـ نسخة مكتبة الحرم المكي ـ : « قال القاضي أبو بكر ابن العربي أوّل شرح الترمذي :

اعلموا أنار الله افئدتكم : ان كتاب الجعفي أي البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب ، والموطّأ هو الأوّل واللّباب ، وعليهما بنى الجميع كالقشيري ، والترمذي ، فمن دونهما ، ما طفقوا يصنعونه ، وليس في قدر كتاب أبي عيسى مثله حلاوة مقطع ونفاسة منزع وعذوبة مشرع ، وفيه أربعة عشر علما : صنف ـ وذلك أقرب إلى العمل ـ وأسند وصحّح وأسقم ، وعدّد الطرق ، وجرح وعدّل ، وأسمى وأكنى ، ووصل وقطع ، وأوضح المعمول به والمتروك ، وبيّن اختلاف العلماء في الردّ والقبول لآثاره ، وذكر اختلافهم في تأويلها ، وكلّ علم من هذه العلوم أصل في بابه وفرد في نصابه ، والقارئ له لا يزال في رياض مونقة وعلوم متفتقة.

قال : ووجدت بخطّ الشيخ أبي الصّبر أيّوب بن عبد أبياتا في شرح مصنّف الترمذي غير منسوبة وهي هذه :

كتاب الترمذي رياض علم

حكت أزهاره زهر النجوم

به الآثار واضحة أبينت

بألقاب أقيمت كالرسوم

فأعلاها الصحاح وقد أنارت

نجوما للخصوص وللعموم

ومن حسن يليها أو غريب

وقد بان الصّحيح من السّقيم

فعلّله أبو عيسى مبينا

معالمه لطلاّب العلوم

وطرّزه بآثار صحاح

تخيّرها أولو النظر السّليم

من العلماء والفقهاء قدما

وأهل الفضل والنهج القويم

فجاء كتابه علقا نفيسا

ينافس فيه أرباب العلوم

ويقتبسون منه نفيس علم

يفيد نفوسهم أسنى الرسوم ».

٨ ـ وقد ذكر الثعالبي هذه القصيدة مع زيادة الأبيات التالية :

١٣٩

« كتبناه رويناه لنروى

من التسنيم في دار النّعيم

وغاص الفكر في بحر المعاني

فأدرك كل معنى مستقيم

جزى الرّحمن خيرا بعد خير

أبا عيسى على الفكر الكريم ».

أقول : ومن هذه الأوصاف الحسنة يعلم أنّ حديث « الطير » وحديث « الولاية » وأمثالهما ممّا أورده الترمذي في صحيحه موصوفة بتلك الصفات ومعدودة في الصّحاح ومتلقاة بالقبول ، وإنّ المكذّب لها خارج عن أرباب النظر السليم ، ومتنكّب عن طريقة أهل الفضل وأرباب النهج القويم ، منهمك في التخديع والتدسيس ، مولع بالتلميع والتلبيس ، مستحق للطّعن المليم والجرح الذّميم ...

٩ ـ وقال الكمال الأدفوي (١) في ( الأمتاع ) : « قد تلقّت الامّة الكتب الخمسة أو الستة بالقبول ، وأطلق عليها جماعة أسم الصحيح ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره ، قال أبو سليمان أحمد الخطابي : كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنّف في الدين كتاب مثله ، وقد رزق من الناس القبول كافة ، فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السّنن أحسن وضعا وأكثر فقها من كتاب البخاري ومسلم. وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي : سمعت الإمام أبا الفضل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول ـ وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم ... ».

١٠ ـ وقد ذكر الطيّبي : « خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أي خط لأجل تفهيمنا سبيل الاعتقاد الحق والعمل الصالح وذا لا يتعدد أنحاؤه ، ثم خط

__________________

(١) وهو : جعفر بن ثعلب ، المتوفى سنة ٧٤٨ أو ٧٤٩. توجد ترجمته في : طبقات السبكي ٦ / ٨٦ والأسنوي ١ / ٨٦ ابن قاضي شهبة ٢ / ١٧٢ الدرر الكامنة ٢ / ٧٢ ، حسن المحاضرة ١ / ٣٢٠ وغيرها.

١٤٠