نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

أعور ، وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء بعث إليه ، وكلّ شيء روى ابن سيرين عن عبيدة فهو عن علي سوى رأيه » (١).

وقال ابن حجر : « وكان من اصحاب علي وعبد الله » (٢).

وقال أيضا : « وعدّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود » (٣).

فظهر أن ما ذكره من تفقّه عبيدة السلماني على غير الامام عليه‌السلام إفك محض وبهت بحت ، لأن تفقّهه ليس إلاّ عليه إمّا مباشرة وإمّا بواسطة تلميذه عبد الله بن مسعود ، لكنّ التفقّه على الامام عليه‌السلام والأخذ عنه لا يلازم التشيّع والمتابعة ، كما ذكرنا ، ومن هنا نرى أنّ هذين الرجلين لم يكونا على مذهب الإمام عليه‌السلام ، بل كان بعض فتاويهما في الكوفة على خلاف رأيه ، إلاّ أنّ الامام تركهما على ذلك خشية الفتنة والإختلاف ، ففي البخاري : « حدثنا علي بن الجعد ، نا شعبة بن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة عن علي قال : أقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف ، حتى يكون الناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي » (٤).

وقد أوضح ذلك شرّاح البخاري ، قال ابن حجر : « قوله : عن علي قال : أقضوا كما في رواية الكشميهني على ما كنتم تقضون. قيل : وفي رواية حماد بن زيد عن أيوب : أنّ ذلك بسبب قول علي في بيع أم الولد ، وأنّه كان يرى هو وعمر أنهنّ لا يبعن ، وأنّه رجع عن ذلك فرأى أن يبعن. قال عبيدة : فقلت له : رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة ، فقال علي ما قال. قلت : وقد وقفت على رواية حماد بن زيد ، أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه ، وعنده قال لي عبيدة : بعث إليّ علي وإلى شريح فقال : إني أبغض

__________________

(١) تهذيب الكمال ١٩ / ٢٦٦.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ٨٤.

(٣) المصدر نفسه ٧ / ٨٥.

(٤) صحيح البخاري ٥ / ٨١ ـ فضائل أصحاب النبي مناقب علي.

٦١

الإختلاف ، فاقضوا كما كنتم تقضون ، فذكره إلى قوله أصحابي ، قال : فقتل علي قبل أن يكون جماعة. قوله : فإني أكره الإختلاف ، أي الذي يؤدّي إلى النزاع ، قال ابن التين : يعني مخالفة أبي بكر وعمر. وقال غيره : المراد المخالفة التي تؤدّي إلى النزاع والفتنة ، ويؤيّده قوله بعد ذلك : حتى يكون الناس جماعة ... » (١).

فاندفع ما توخّاه بقوله : « فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة » لما عرفت من أنّ علم الإسلام انتشر في المدائن عن طريق باب مدينة العلم فقط دون غيره ، وأنّه لا سبيل إلى علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ من هذا الباب ، فمن أتاه فقد امتثل أمر النبي ، ومن لم يأته هلك وخسر ، وكلّ ما خرج من هذا الباب فهو علم ونور وهداية ، وكلّ ما كان من غيره فهو جهل وظلمة وضلالة.

ولقد دمّرنا بفضل الله على تزويقات ابن تيميّة تدميرا ، وتبّرنا قاطبة تلفيقاته تتبيرا ، ولم نترك من كلماته الزائغة نقيرا ولا قطميرا ، ولله الحمد على ذلك حمدا كثيرا كثيرا.

* * *

__________________

(١) فتح الباري ٧ / ٥٩. وانظر : عمدة القاري ١٦ / ٢١٨. وإرشاد الساري ٦ / ١١٨.

٦٢

(٥)

مع يوسف الأعور

في كلامه حول الحديث

وأجاب يوسف الأعور الواسطي في ( رسالته ) في الردّ على الشيعة ، عن حديث مدينة العلم بقوله : « الثاني من حجج الرافضة بالعلم : حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. والجواب عنه أيضا من وجوه :

أحدها : إن هذا الحديث يتضمّن ثبوت العلم لعلي رضي‌الله‌عنه ، ولا شكّ أنه بحر علم زاخر لا يدرك قعره ، إلاّ أنّه لا يتضمّن ثبوت الرجحان على غيره ، بدليل ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة ، بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مجموع الأصحاب : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. فثبت العلم لكلّهم.

ثانيها : إن بعض أهل السنة ينقل زيادة على هذا القدر ، وذلك قولهم إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وأبو بكر وعمر وعثمان حيطانها وأركانها. والباب فضاء فارغ ، والحيطان والأركان طرف محيط ، فرجحانهنّ على الباب ظاهر.

ثالثها : دفع في تأويل علي بابها. أي مرتفع. وعلى هذا يبطل الإحتجاج به للرافضة ».

أقول : أمّا الوجه الأول فالجواب عنه من وجوه :

دلالة الحديث على رجحان علم الامام

أحدها : إن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يتضمن رجحان علم الامام عليه‌السلام على علم غيره ، لا على ثبوت العلم له عليه‌السلام كما زعم الأعور ، لأنّ من بلغ في العلم مرتبة جعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابا إلى نفسه

٦٣

ـ وهو مدينة العلم ـ يكون أعلى مرتبة وأرجح علما من غيره ، وهذا ظاهر كلّ الظهور.

دلالته على الإحاطة بعلوم النبي

وثانيها : إن هذا الحديث يدلّ على إحاطة أمير المؤمنين عليه‌السلام وعلمه بجميع علوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورجحان علم النبيّ لا يشك فيه أحد ، فمن كان عالما بجميع علومه يكون علمه راجحا على غيره بالضرورة.

دلالته على الأعلمية

وثالثها : إنّ هذا الحديث يدل على أعلمية الامام عليه‌السلام ، كما اعترف به جماعة من أهل السنة الأعلام ، أمثال أبي بكر محمد بن علي الخوافي ، وشهاب الدين أحمد ، وابن روزبهان الشيرازي ، وعبد الرءوف المناوي ، وابن حجر المكي ، وغيرهم ، وعليك بمراجعة كلمات هؤلاء وغيرهم لئلاّ تغترّ بأقاويل الأعور.

بطلان دعوى المساواة بين الأصحاب في العلم

ورابعها : ما ذكره بقوله : بدليل ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة ، من الأباطيل الواضحة ، فإنّ اختلاف مراتب الصحابة في العلم من الأمور الضروريّة عند كلّ ذي فهم فضلا عن العلماء الأعلام.

حديث أصحابي كالنجوم موضوع

وخامسها : إحتجاجه بحديث « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » من غرائب الأمور ، فإنّ هذا الحديث كذب ، وقد حكم بوضعه أكابر المحققين من أهل السّنة ، كما دريت ذلك بالتفصيل في قسم حديث الثقلين ، ونشير هنا إلى بعض كلمات القوم :

٦٤

١ ـ قال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البرّ القرطبي ما نصه :

« قال المزني رحمه‌الله في قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أصحابي كالنجوم قال : إن صحّ هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه ، فكلّهم ثقة مؤتمن على ما جاء به ، لا يجوز عندي غير هذا. وأمّا ما قالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطّأ بعضهم بعضا ولا أنكر بعضهم على بعض ، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه. فتدبّر.

وعن محمد بن أيوب الرقي قال قال لنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : سألتم عمّا يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ممّا في أيدي العامّة ، يروونه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : مثل أصحابي كمثل النجوم وأصحابي كالنجوم فبأيهما اقتدوا اهتدوا. قال : وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وربّما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر. وإنّما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد ، لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه.

والكلام أيضا منكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد صحيح : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين بعدي فعضّوا عليها بالنواجذ. وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لو ثبت فكيف ولم يثبت ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه. والله أعلم. هذا آخر كلام البزار.

قال أبو عمر : قد روى أبو شهاب الخيّاط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنما أصحابي مثل النجوم فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم. وهذا لا يصح ولا يرويه عن نافع من يحتج به. وليس كلام البزار بصحيح على كلّ حال. لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه ، ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له ،

٦٥

ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض ، إذا تأوّلوا تأويلا سائغا جائزا ممكنا في الأصول ، وإنما كلّ واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى ما يحتاج إليه من دينه ، وكذلك سائر العلماء من العامة ، والله أعلم.

وقد روى في هذا الحديث إسناد غير ما ذكر البزار ، عن سلام بن سليم قال : حدّثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. قال أبو عمر : هذا إسناد لا تقوم به حجة ، لأن الحارث بن غصين مجهول » (١).

وفي هذا الكلام دلالة على بطلان حديث النجوم من وجوه عديدة لا تخفى على النبيه.

٢ ـ وقال ابن تيميّة الحراني : « أما قوله : أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم ، فهذا الحديث ضعيف ، ضعّفه أئمة الحديث. قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة » (٢).

٣ ـ وقال أبو حيّان محمد بن يوسف الغرناطي : « قال الزمخشري : فإن قلت : كيف كان القرآن تبيانا لكلّ شيء؟ قلت : المعنى أنّه بيّن كل شيء من أمور الدين ، حيث كان نصّا على بعضها ، وإحالة على السّنة حيث أمر فيه باتّباع رسول الله وطاعته وقيل : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) وحثّا على الإجماع في قوله : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) وقد رضي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمته إتّباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّأوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنّة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب ، فمن ثمّ كان تبيانا لكلّ شيء. انتهى.

وقوله : وقد رضي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوله اهتديتم. لم يقل

__________________

(١) جامع بيان العلم ٢ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) منهاج السنّة ٤ / ٢٣٩.

٦٦

ذلك رسول صلّى الله عليه وسلّم ، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

قال الحافظ أبو محمّد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ما نصه : وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط. وذكر إسنادا إلى البزّار صاحب المسند قال : سألتم عمّا روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مما في أيدي العامّة ترويه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : ربما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم بأيّها اقتدوا اهتدوا ، وهذا كلام لم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم ، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضا منكر ولم يثبت ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يبيح الإختلاف بعده من أصحابه. هذا نصّ كلام البزار. وقال ابن معين : عبد الرّحيم بن زيد كذّاب خبيث ليس بشيء. وقال البخاري : وهو متروك. ورواه أيضا حمزة ، وحمزة هذا ساقط متروك » (١).

٤ ـ وقال أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي : « حديث : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. رواه الدار قطني في الفضائل وابن عبد البر في العلم من طريقه من حديث جابر وقال : هذا اسناد لا يقوم حجة ، لأن الحارث ابن غصين مجهول ، وراه عبد بن حميد في مسنده من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن ابن المسيب عن ابن عمر. قال البزّار : منكر لا يصح. ورواه ابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي بلفظ : فأيّهم أخذتم بقوله بدل اقتديتم. وإسناده ضعيف من أجل حمزة ، فقد اتّهم بالكذب. ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر ، ومن حديث ابن عباس بنحوه ، من وجه آخر

__________________

(١) البحر المحيط ٥ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

٦٧

مرسلا وقال : متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا إسناد. وقال ابن حزم : مكذوب موضوع باطل. قال البيهقي : يروي بعض معناه » (١).

٥ ـ وقال الحافظ ابن حجر : « ( حديث ) أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع ابن عمر ، وحمزة ضعيف جدا. ورواه الدار قطني في غرائب مالك من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ، وجميل لا يعرف ، ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه ، وذكره البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر ، وعبد الرّحيم كذّاب. ومن حديث أنس أيضا وإسناده واه. ورواه القضاعي في مسند الشهاب له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وهو كذّاب ، ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنّة من حديث مندل عن جويبر عن الضحّاك بن مزاحم منقطعا ، وهو في غاية الضعف.

قال أبو بكر البزار : هذا الكلام لم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن حزم : هذا خبر مكذوب موضوع باطل. وقال البيهقي في الإعتقاد عقب حديث أبي موسى الأشعري الذي أخرجه مسلم بلفظ : النجوم أمنة أهل السماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السّماء ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لامتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون. قال البيهقي : روي في حديث موصول بإسناد غير قوي ، يعني حديث عبد الرّحيم العمي ، وفي حديث منقطع ، يعني حديث الضحّاك بن مزاحم : مثل أصحابي كمثل النجوم في السّماء من أخذ بنجم منها اهتدى. قال : والذي رويناه هاهنا من الحديث الصحيح يؤدّي بعض معناه.

قلت : صدق البيهقي ، هو يؤدي صحّة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة ، أمّا في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى. نعم يمكن أن يتلمّح ذلك من

__________________

(١) تخريج أحاديث المنهاج ـ مخطوط.

٦٨

معنى الاهتداء بالنجوم. وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصّحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجو في أقطار الأرض. فالله المستعان » (١).

عدم دلالة حديث النجوم على المساواة

وسادسها : إن حديث أصحابي كالنجوم لا يثبت العلم للصحابة على وجه المساواة كما يزعم الأعور ، بل هو ظاهر في اختلاف مراتب الأصحاب في العلم ، كما ذكر الشيخ علي القاري في كلامه الآتي نصّه فيما بعد إن شاء الله.

وقال إبراهيم بن الحسن الكردي الكوراني في كتابه ( النبراس ) : « إن الله تعالى ما أمرنا في كتابه إلاّ باتّباع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) وقال : ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) وقال : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) وقال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم : ( قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ).

فكان اتّباع النبي هو عين اتباع ما يوحى إليه من ربّه. ولذا قال : ( اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) فاتّباع النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من عند الله وإطاعته هو المأمور به.

فرجعنا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى ننظر ما ذا يأمرنا به وما ذا ينهانا عنه ، حتى نأخذ بالأول وننتهي عن الثاني ، فرأيناه يقول : مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنّة منّي ماضية ، فإن لم تكن سنّة فما قال أصحابي ، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السّماء فأيّما أخذتم

__________________

(١) التلخيص الحبير ٤ / ١٩٠ ـ ١٩١.

٦٩

به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

فعلمنا أن ما يوجد منصوصا عليه في كتاب الله لا بدّ من الأخذ به ، والمخالف التارك للعمل به لا عذر له فهو زائغ ، ثم ما لم يوجد منصوصا عليه في الكتاب ووجد منصوصا عليه في السنّة وجب الأخذ به والمخالف مخطئ آثم ، ثم إن لم يوجد منصوصا عليه فيهما رأيناه قد أحالنا على الأخذ بقول المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم ، وصوّب الجميع حيث نصّ على أن الآخذ بقول أيّهم كان مهتديا ، ولا يكون التابع مهتديا إلاّ إذا كان المتبوع مهتديا بلا شبهة. وأشار بتشبيههم بالنجوم إلى تفاوت مراتبهم في العلم ، فإن النجوم وإن كانت مشتركة في أصل النور الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ، لكنه لا خفاء في تفاوت مراتبها في النور والإشراق والإضاءة. وأشار بذلك أيضا إلى أنّ تفاوت مراتبهم في نور العلم لا يوجب خللا في الاهتداء بهم ، ولا أن الآخذ بقول أقلّهم علما غير مهتد ، كما لا يوجب تفاوت مراتب النجوم في النور أن يكون الآخذ بالأقل نورا غير مهتد.

يوضحه ما أخرجه السجزي في الابانة وابن عساكر عن عمر رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : سألت ربي تبارك وتعالى فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى إليّ يا محمد : إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السّماء بعضها أضوء من بعض ، فمن أخذ شيئا مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. انتهى. وما أحسن قول القائل :

من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

وسيّدنا الامام علي وابناه رضي الله تعالى عنهم داخلون في الصّحابة كما لا يخفى. فعلمنا أنّ جميع الصّحابة مشتركون في أصل الاهتداء بهم مع تفاوت درجاتهم ».

إثبات العلم لكلّ الصحابة محال

وسابعها : كيف يتمكّن الأعور من إثبات العلم لكلّ الصحابة ، على وجه

٧٠

المساواة أو التفاوت؟ وأي دلالة في حديث النجوم الموضوع على ذلك؟ ومن هنا ترى الكردي ينزّل الحديث على المجتهدين من الصحابة فيقول : « ثم إن لم يوجد منصوصا عليه فيهم ، رأيناه قد أحالنا على الأخذ بقول المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم ، وصوب الجميع حتى نصّ على أنّ الآخذ بقول أيّهم كان مهتديا ».

ويقول نصر الله الكابلي في ( الصواقع ) عند ذكر حديث النجوم : « والمراد من الأصحاب من لازمه عليه‌السلام ، من المهاجرة والأنصار وغيرهم ، غدوة وعشية ، وصحبه في السفر والحضر ، وتلقّى الوحي منه طريّا ، وأخذ عنه الشريعة والأحكام وآداب الإسلام ، وعرف الناسخ والمنسوخ ، كالخلفاء الراشدين وغيرهم ، لا كل من رآه مرة أو أكثر ».

وأمّا الوجه الثاني فالجواب عنه أيضا من وجوه :

حديث مدينة العلم ثابت عن طرق الفريقين

أحدها : إنّ حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ثابت من طرق الفريقين ، فليثبت الأعور تلك الزيادة المزعومة من طرق الفريقين كذلك ، وليس له إلى آخر الدهر من سبيل.

ليس للزيادة المزعومة طريق واحد موثوق به

وثانيها : وهل بوسع الأعور أن يذكر لهذه الزيادة المزعومة في الحديث طريقا واحدا عن أهل مذهبه؟ لا سبيل له إلى ذلك كذلك ، فإنّ أحدا من علماء أهل السنة الأثبات لم يثبت هذه الزيادة ، ومن ادّعى فعليه البيان.

ومن الذي رواها؟

وثالثهما : إنه لا أقل من أن يذكر الأعور أسماء بعض رواة هذه الزيادة ،

٧١

والناقلين لها في كتبهم ، لننظر في أحوالهم ، ونراجع ألفاظهم وأقوالهم.

لو ثبتت لم تكن حجة على الامامية

ورابعها : إنه لو فرض ذكر الأعور أسماء نقلة هذه الزيادة ، وزعمه أنهم من أكابر أهل السنة ، فإن من المعلوم أنّ حديث الخصم من طرقه لا يكون حجة الطرف الآخر في مقام الاحتجاج ، ولا يجوز له إلزامه به ، فكيف بزيادة بعض الوضّاعين الأفّاكين في حديث مروي عن سيد المرسلين ، بطرق معتبرة لدى جميع المسلمين؟

الأصل في الزيادة والكلمات فيه وفي واضعها

فمن هو الأصل في هذه الزّيادة؟ وما هي آراء أئمة الحديث فيها وفي واضعها؟.

قال السيوطي : « وقال ابن عساكر في تاريخه ، أنا أبو الحسن بن قبيس ثنا عبد العزير بن أحمد ، ثنا أبو نصر عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر المري ، ثنا أبو القاسم عمر بن محمد بن الحسين الكرخي ، ثنا علي بن محمد بن يعقوب البرذعي ، ثنا أحمد بن محمد بن سليمان قاضي القضاة حدثني أبي ، ثنا الحسن بن تميم بن تمام عن أنس مرفوعا : أنا مدينة العلم وأبو بكر وعمر وعثمان سورها وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب.

قال ابن عساكر : منكر جدّا إسنادا ومتنا.

وقال ابن عساكر : أنبأنا أبو الفرج غيث بن علي الخطيب ، حدثني أبو الفرج الإسفرائني قال : كان أبو سعد إسماعيل بن المثنى الأسترآبادي يعظ بدمشق ، فقام إليه رجل فقال : أيها الشّيخ ما تقول في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ قال : فأطرق لحظة ثم رفع رأسه وقال : نعم ، لا يعرف هذا الحديث على التمام إلاّ من كان صدرا في الإسلام ، إنما قال النبي صلّى الله عليه

٧٢

وسلّم : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. قال : فاستحسن الحاضرون ذلك وهو يردّده. ثم سألوه أن يخرج لهم إسناده فأنعم ولم يخرجه لهم. ثم قال شيخي أبو الفرج الإسفرائني : ثم وجدت هذا الحديث بعد مدة في جزء على ما ذكره ابن المثنّى. انتهى » (١).

يفيد هذا الكلام أنّ واضع هذه الزيادة في حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » هو « إسماعيل الأسترآبادي » ، ولا ينافي ذلك قول أبي الفرج أنّه قد وجد هذا الحديث بعد مدّة في جزء على ما ذكره إسماعيل بن المثنى الأسترآبادي ، لاحتمال كون صاحب الجزء قد سمع الحديث من الأسترآبادي المذكور ، ومن هنا ذكر ابن حجر هذا الحديث شاهدا على اتّهام إسماعيل الأسترآبادي حيث قال :

« إسماعيل بن علي بن المثنّى الأسترآبادي الواعظ. كتب عنه أبو بكر الخطيب وقال : ليس بثقة. وقال ابن طاهر : مزّقوا حديثه بين يديه ببيت المقدس. وفي تاريخ الخطيب عنه : حدّثنا أبي ، حدّثنا محمد بن إسحاق الرّملي ، حدّثنا هشام بن عمار ، أنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد ، عن خالد عن شداد ابن أوس مرفوعا قال : بكى شعيب من حبّ الله حتى عمي. فذكر الحديث وفيه : فلذا أخدمتك موسى كليمي.

قلت : هذا حديث باطل لا أصل له. انتهى. وقد رواه الواحدي في تفسيره عن أبي الفتح محمد بن علي المكفوف عن علي بن الحسن بن بندار والد إسماعيل ، فبرئ إسماعيل من عهدته ، والتصقت الجناية بأبيه وسيأتي.

وإسماعيل مع ذلك متّهم ، قال غيث بن علي الصوري : حدّثني سهل بن بشير بلفظه غير مرة قال : كان إسماعيل يعظ بدمشق فقام إليه رجل فسأله عن حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. فقال : هذا مختصر وإنما هو : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. قال : فسألوه أن يخرج

__________________

(١) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ١ : ٣٣٥.

٧٣

لهم إسناده فوعدهم به.

قال الخطيب : سألته عن مولده فقال : ولدت بأسفراين سنة ٣٧٥ قال ومات في المحرّم سنة ٤٤٨.

وقال أبو سعد ابن السمعاني في الأنساب : كان يقال له كذّاب ابن كذّاب ، ثم نقل عن عبد العزيز النخشبي قال : وحدّث عن شافع بن أبي عوانة وأبي سعد ابن أبي بكر الإسماعيلي والحاكم والسلمي وأبي الفضل الخزاعي وغيرهم ، وكان يقص ويكذب ، ولم يكن على وجهه سيما المتّقين. قال النخشبي : دخلت على أبي نصر عبيد الله بن سعيد السجزي بمكة فسألته عنه فقال : هذا كذّاب ابن كذّاب لا يكتب عنه ولا كرامة. قال : وتبيّنت ذلك في حديثه وحديث أبيه ، يركّب المتون الموضوعة على الأسانيد الصحيحة ، ولم يكن موثوقا به في الرواية » (١).

وهذا هو النصّ الكامل لعبارة السمعاني بترجمة الرجل : « وأبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسين بن بندار بن مثنى التميمي الأسترآبادي العنبري ، من أهل أسترآباد. قيل : هو كذّاب ابن كذّاب يروي عن أبيه وأبوه أبو الحسن من الكذّابين أيضا. رحل إلى الشام والعراق والحجاز يروي عن شيوخ كثيرة مثل : أبي عبد الله محمد بن إسحاق الرّملي وابن كرمون الأنطاكي. روى عنه ابنه أبو سعد وأبو محمد بن إسماعيل بن كثير الأسترآبادي ، وهو آخر من روي عنه فيما أظن.

قال أبو محمد عبد العزيز بن محمد النخشبي : أبو سعد الأسترآبادي التميمي كذّاب وأبوه كذّاب ايضا ، يروي عن أبي بكر الجارودي ، وكان هذا الجارودي يروي عن يونس بن عبد الأعلى وطبقته الذين ماتوا بعد الستّين ومائتين ، فروى أبو الحسن بن المثنى عنه عن هشام بن عمار فكذب عليه ما لم يكن يجتري أن يكذب هو بنفسه ، لا يحلّ الرواية عنه إلاّ على وجه التعجّب.

قال أبو سعد : ولد والدي بآمل وأصله من البصرة عاش أظنه مائة وإحدى

__________________

(١) لسان الميزان ١ / ٤٢٢.

٧٤

عشر سنة كما سمعت ، قرأ الفقه على أبي إسحاق المروزي ، وشاهد أبا بكر بن مجاهد المقري ، وأبا الحسن الأشعري ، ونفطويه ، وغلام ثعلب ، وأبا بكر الشبلي وغيرهم من أئمة العلماء ، وتوفي باستراباد في رجب سنة أربعمائة. وابنه أبو سعد التميمي حدّث عن أبيه ، وشافع بن محمد بن أبي عوانة الإسفرائني ، وأبي العبّاس الضرير الرازي ، وأبي سعد بن أبي بكر الإسماعيلي ، وأبي عبد الله بن البيّع الحافظ ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وأبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي وغيرهم.

روى عنه عبد العزيز بن محمد النخشبي ، وأحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظان قال الخطيب : قدم علينا بغداد حاجّا سمعت منه حديثا واحدا مسندا منكرا. وذكره النخشبي في معجم شيوخه فقال : أبو سعد ابن المثنى التميمي ، وفي التميمي نظر ، شيخ كذّاب ابن كذّاب ، يقصّ ويكذب على الله وعلى رسوله ، ويجمع الذهب والفضّة ، لم يكن على وجهه سيما الإسلام. دخلت على الشيخ أبي نصر عبيد الله بن سعيد السجزي العالم بمكة فسألته عنه فقال : هو كذّاب ابن كذّاب ، لا يكتب عنه ولا كرامة ، تبيّنت ذلك في حديثه وحديث أبيه ، يركّب المتون الموضوعة على الأسانيد الصحاح ونعوذ بالله من الخذلان. قال أبو بكر الخطيب بعد أن روى حديثا وبيتين من الشعر عنه عن طاهر الخثعمي عن الشبلي ثم قال : هذا جميع ما سمعت من أبي سعد ببغداد. ولم يكن موثوقا به في الرواية ثم لقيته ببيت المقدس عند عودي من الحج سنة ٤٤٦ ، فحدّثني عن جماعة وسألته عن مولده فقال : ولدت باسفراين في سنة ٣٧٥ ومات ببيت المقدس في المحرّم سنة ٤٤٨ » (١).

فهذا هو الذي وضع هذه الزيادة ، وهذه هي حاله ، والأعور ذكر هذه الزيادة باختلاف في لفظها ، إمّا من نفسه وإمّا من بعض الكذّابين الآخرين ، إلاّ

__________________

(١) الأنساب ـ التميمي.

٧٥

أنّ أبا شكور السّلمي يذكرها بلفظ آخر حيث يقول :

« القول الخامس في تفضيل الصّحابة بعضهم على بعض رضي الله عنهم. قال أهل السّنة والجماعة : إنّ أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل والملائكة عليهم‌السلام كان أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم. وروي عن أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه أنّه قال : من السّنة أن تفضّل الشيخين وتحبّ الختنين. وروي عنه رضي‌الله‌عنه أنه قال : عليك أن تفضّل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وتحب عثمان وعليا رضي الله عنهما. وفي رواية وتحب عليا وعثمان رضي الله عنهما. ولم يرد بهذا أفضلية علي رضي‌الله‌عنه على عثمان رضي‌الله‌عنه ، لأن الترتيب في الذكر لا يوجب الترتيب في الحكم. وروي عن جماعة من الفقهاء قالوا : ما رأينا أحدا أحسن قولا في الصحابة رضي الله عنهم من أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه. ولما روى عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : أنه كان على المنبر بالكوفة فقال ابنه محمد ابن الحنفية رضي‌الله‌عنه : من خير هذه الامة بعد نبيّنا عليه‌السلام؟ فقال : أبو بكر رضي‌الله‌عنه. فقال : ثمّ من؟ فقال : عمر رضي‌الله‌عنه. فقال : ثم من؟ فقال : عثمان رضي‌الله‌عنه. فقال : ثم من؟ فسكت علي رضي‌الله‌عنه ، ثم قال : لو شئت لأنبأتكم بالرابع وسكت فقال محمد رضي‌الله‌عنه : أنت؟ فقال : أبوك امرؤ من المسلمين. وروي عن النبي عليه‌السلام : أنا مدينة العلم وأساسها أبو بكر وجدرانها عمر وسقفها عثمان وبابها علي » (١).

وسيجيء إن شاء الله تعالى شطر من الكلام في هذا الباب ، في ردّ هفوات ابن حجر.

دلالة الزّيادة على خلاف مرامهم

وخامسها : إن هذه الزيادة الموضوعة تدلّ على خلاف مرام واضعها ومن

__________________

(١) التمهيد في بيان التوحيد ـ القول الخامس من مباحث النبّوة.

٧٦

يحتجّ بها ، لأنّ كون الثلاثة حيطان المدينة وأركانها معناه كونهم الحائل والمانع عن الدخول إلى المدينة ومن حال دون وصول الامة إلى مدينة العلم فليس بأهل للإمامة. لكن الأعور قد أعمي قلبه فلم يتفطّن إلى ما يؤول إليه معنى هذه الزيادة المزعومة.

وقد أشار إلى ما ذكرنا بعض علماء أهل السنة في شرح حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها ، عند ذكر أسماء الإمام علي عليه‌السلام ، فقال : « ومنها : باب مدينة عن علي رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابها. رواه الطبري من تخريج أبي عمر. وأورده الامام الفقيه المذكور وقال كما في الحديث.

واعلم أنّ الباب سبب لزوال الحائل والمانع عن الدخول إلى البيت ، فمن أراد الدخول وأتى البيوت من غير أبوابها شقّ وعسر عليه دخول البيت ، فهكذا من طلب العلم ولم يطلب ذلك من علي رضي‌الله‌عنه وبيانه ، فإنه لا يدرك المقصود ، فإنه رضي‌الله‌عنه كان صاحب علم وعقل وبيان ، وربّ من كان عالما ولا يقدر على البيان والإفصاح ، وكان علي رضي‌الله‌عنه مشهورا من بين الصحابة بذلك ، فباب العلم وروايته واستنباطه من علي رضي‌الله‌عنه ، وهو كان بإجماع الصحّابة مرجوعا إليه في علمه ، موثوقا بفتواه ، وحكمه ، والصحابة كلّهم يراجعونه مهما أشكل عليهم ولا يسبقونه ، ومن هذا المعنى قال عمر : لو لا علي لهلك عمر. رضي الله تعالى عنهم » (١).

ثم إن قول الأعور : « والباب فضاء فارغ ، والحيطان والأركان طرف محيط ، فرجحانهنّ على الباب ظاهر » كلام سفيه لا يعقل ما يقول ، لأن كون الباب فضاء فارغا ممنوع أولا. وثانيا : لو سلّمنا ذلك ، فإنّ كونه كذلك كمال له وليس نقصا ، لأن الوصول إلى المدينة موقوف على أنّ يكون للباب فضاء ، بخلاف الحيطان

__________________

(١) توضيح الدلائل بتصحيح الفضائل ـ مخطوط.

٧٧

والأركان فإنها مانعة عن الوصول ، وحائلة دون الدخول ، وبطلان ترجيح المانع عن الدخول على سبب الدخول من أوضح الواضحات.

وأمّا الوجه الثالث فالجواب عنه أيضا من وجوه :

تأويل لفظ « علي » من صنع الخوارج

أحدها : إن تأويل « علي » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا مدينة العلم وعلى بابها » من أقبح وجوه التحريف والتّضليل ، ومن جملة صنائع الخوارج والنواصب ، لا يرتضيه من كان في قلبه أقل مراتب حبّ أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد نصّ أبو محمد أحمد بن على العاصمي في ( زين الفتى ) على أنّ الغرض من هذا التأويل هو « الوقيعة في المرتضى رضوان الله عليه والحطّ عن رتبته » وقد تقدمت عبارته سابقا.

إنّه خلاف ما فهمه الناس

والثاني : إنّ هذا التأويل تخطئة لفهم الناس أجمعين من هذا الحديث الشريف ، كما صرّح بذلك العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في عبارته الآتية.

يبطله ذكرهم الحديث في مناقب الامام

والثالث : إنّ هذا التأويل تسفيه وتجهيل للجماعات الكثيرة من أكابر العلماء وأئمة المحدثين ، الذين ذكروا حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ضمن مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام وفضائله ، فهل يرضى عاقل من أهل السنّة بتجهيل وتضليل هؤلاء الأئمة والمهرة في الحديث؟

٧٨

وضع الزيادة فيه دليل بطلان تأويله

والرابع : إنه إذا كان المراد من « علي » في الحديث هو « المرتفع » لا سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فلما ذا صدرت تلك التمحّلات والتكّلفات في ردّ الحديث؟ ولما ذا وضع بعضهم زيادة كون المشايخ حيطان المدينة وأركانها؟ إن هذا الحديث من فضائل الامام عليه‌السلام ، ولهذا أقحموا فيه أسماء المشايخ الثلاثة ، حتى لا يكون فضيلة خاصّة به ، فجعلوهم الحيطان والأركان كما جعله النبي صلّى الله عليه وسلّم وسلّم الباب. ومن العجيب جمع الأعور بين الأمرين ، حيث احتجّ بتلك الزيادة الموضوعة المزعومة في الوجه الثاني ، وتمسّك بهذا التأويل الباطل في الوجه الثالث.

طعن بعضهم في سنده دليل بطلان تأويله

والخامس : إنّ هذا الحديث من فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولو كان « علي » فيه بمعنى « مرتفع » لما كان فيه أي ضرر على الثلاثة وخلافتهم ، لكن طعن بعض متعصّبيهم في سند هذا الحديث دليل آخر على أن « علي » فيه اسم الامام ، وأنّ تأويله بمعنى « مرتفع » باطل حتى عند هؤلاء الطاعنين في سنده بالرغم من رواية الأئمة الأثبات إيّاه وإثباته.

قول الامام : أنا باب المدينة

والسادس : قول الامام علي عليه‌السلام ـ في خطبة رواها أبو سالم كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي ـ : « أنا باب المدينة » ، وإليك نصّ الخطبة :

« وقد ثبت عند علماء الطريقة ومشايخ الحقيقة بالنقل الصحيح والكشف الصريح أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قام على المنبر بالكوفة وهو يخطب فقال :

٧٩

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله بديع السّماوات والأرض وفاطرها وساطح المدحيات ووازرها ، ومطوّد الجبال وقافرها ، ومفجر العيون ونافرها ، ومرسل الرياح وزاجرها ، وناهي القواصف وآمرها ، ومزيّن السّماء وزاهرها ، ومدبّر الأفلاك ومسيّرها ، ومقسّم المنازل ومقدّرها ، ومنشئ السّحاب ومسخرّها ، ومولج الحنادس ومنوّرها ، ومحدث الأجسام ومقررها ، ومكوّر الدهور ومكرّرها ، ومورد الأمور ومصدرها ، وضامن الأرزاق ومدبّرها ، ومحي الرفات وناشرها.

أحمده على آلائه وتوافرها وأشكره على نعمائه وتواترها ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، شهادة تؤدّي إلى السّلامة ذاكرها ، وتؤمّن من العذاب ذاخرها ، وأشهد أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاتم لما سبق من الرسل وفاخرها ، ورسوله الفاتح لما استقبل من الدعوة وناشرها ، أرسله إلى أمة قد شعر بعبادة الأوثان شاعرها ، فأبلغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النصيحة وافرها ، وأنار منار أعلام الهداية ومنابرها ، ومحا بمعجز القرآن دعوة الشيطان ومكائرها ، وأرغم معاطيس غواة العرب وكافرها ، حتى أصبحت دعوته الحق بأوّل زائرها ، وشريعته المطهرة إلى المعاد يفخر فاخرها ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدوحة العليا وطيب عناصرها.

أيّها الناس سار المثل وحقق العمل ، وتسلّمت الخصيان وحكّمت النسوان ، واختلفت الأهواء وعظمت البلوى ، واشتدّت الشكوى واستمرت الدعوى ، وزلزلت الأرض وضيّع الفرض ، وكتمت الأمانة وبدت الخيانة ، وقام الأدعياء ونال الأشقياء ، وتقدّمت السفهاء وتأخر الصلحاء وازورّ القرآن واحمرّ الدبران ، وكملت الفترة ودرست الهجرة ، وظهرت الأفاطس فحسمت الملابس ، يملكون السرائر ويهتكون الحرائر ، ويجيئون كيسان ويخربون خراسان ، فيهدمون الحصون ويظهرون المصون ، ويفتحون العراق بدم يراق ، فآه آه ثم آه لعريض الأفواه وذبول الشفاه ، ثم التفت يمينا وشمالا وتنفّس الصعداء ، لا ملالا ، وتأوّه خضوعا وتغيّر خضوعا.

٨٠