نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

الإمام معصوما ، فيكون مجرّد النصب دليل العصمة.

الخامس : لقد دلّت الآية المباركة : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) ، على أن جملة أفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي من جانب الله عز وجل ، وعلى هذا يمكن أن يقال بكون الناصب للتبليغ هو الله عزّ وجل نفسه ، ولّما كان هذا النصب عين النصب للإمامة والخلافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي لا تثبت إلاّ للمعصوم ، فالنصب الإلهي للتبليغ كاشف عن اتّصاف المنصوب له بالعصمة.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن قوله : « وعصمته لا تثبت بمجرّد خبره ، قبل أن يعلم عصمته ، فإنّه دور » إذ لا توقف لثبوت عصمته على خبره ، لكن يمكن إثبات عصمته بخبره أيضا ، لأن خبره ليس مجردا بل مقرون بالمعجزات الباهرة المتواترة الموجبة للعلم بالعصمة ، فلا دور كذلك.

وأمّا قوله : « ولا تثبت بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها عند الإمامية ، وإنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الامام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرّد دعواه » فجوابه : أنه إن أراد نفي الإجماع من أصحاب الضلال فهذا لا يضرّنا أبدا ، إذ لا حجّية لإجماع هؤلاء أصلا ، وإن أراد نفي إجماع الامامية فهذا إنكار للبداهة ، لأن الإمامية أجمعين أكتعين قائلون بعصمة هذا الواحد المبلّغ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم إنّ المراد من هذا المبلّغ هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داخل في الإجماع المتحقّق على عصمته ـ وعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يرتاب فيها مؤمن ، وإن كان لأهل السنة فيها كلام ـ.

وأيضا : فإنّ الحسنين عليهما‌السلام داخلان في المجمعين ، وعصمتهما ثابتة بالدلائل القطعية الأخرى غير الإجماع.

وأيضا : في المجمعين سائر أئمة أهل البيت ، المعصومون بالأدلة من الكتاب والسنّة.

٤١

فظهر بطلان دعواه بعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرّد دعواه ، وظهر جواز الاستدلال بالإجماع لإثبات عصمة كلّ واحد من الأئمة الأطهار ، لأنه ليس من قبيل إثبات عصمة ذاك الامام بقول نفسه ليلزم الدور ، وأمّا عصمة كلّهم فقد ثبتت بالأدلة القطعيّة الأخرى غير الإجماع ، كما ثبت عصمة كلّ واحد واحد منهم بها كما أشرنا ، وظهر أيضا بطلان قوله بعد ذلك :

« فعلم أنّ عصمته لو كانت حقّا ، لا بدّ أن تعلم بطريق آخر غير خبره ».

لما عرفت من إمكان ثبوت عصمته بخبره ، لاقترانه بما يوجب العلم واليقين ، فضلا عن ثبوتها بالأدلّة والطرق الأخرى.

وإذ ظهر بطلان كلماته ، فقد ظهر بطلان ما قاله كنتيجة لتلك الكلمات ، وهو قوله :

« فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلاّ هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدّين ».

وتحصّل : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الباب لمدينة العلم ، وهو المبلّغ الوحيد عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإذا ثبت ذلك ثبتت عصمته وغير ذلك من امور الدين ، والحمد لله رب العالمين.

٧ ـ لازم قوله : هذا الحديث إنما افتراه زنديق

وأمّا ما تفوّه به ابن تيميّة لشدة عناده وحقده : « فعلم أنّ هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ، ظنّه مدحا وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ، إذ لم يبلّغه إلاّ واحد » فمن الكفريّات الشنيعة ، والله سبحانه وتعالى حسيبه والمنتقم منه يوم القيامة.

لقد علمت أنّ حديث مدينة العلم حديث رواه أكابر العلماء الثقات من أهل السّنة ، طبقة بعد طبقة ، وجيلا بعد جيل ، وفيهم من حكم بصحّته ، وجعله جماعة من أجلى فضائل ومناقب النبي والوصي عليهما وآلهما الصلاة والسّلام ...

٤٢

وقد وقفت على عبارات هؤلاء الكبار ، وإفادات أولئك الأحبار ، فيلزم من تقوّل ابن تيميّة هذا أنّ يكون كلّ أولئك الأئمة الكبار والمشايخ العظام :

عبدالله بن عثمان القارئ ، وسفيان بن سعيد الثوري ، وعبد الرزاق الصنعاني ، ويحيى بن معين ، وسويد بن سعيد الحدثاني شيخ مسلم ، وأحمد بن حنبل ، وعباد بن يعقوب الرواجني شيخ البخاري ، وأبو عيسى الترمذي ، والحسين بن فهم البغدادي ، وأبو بكر البزّار ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأبو بكر الباغندي ، وأبو العباس الأصم ، وأبو الحسن القنطري ، وأبو بكر الجعابي ، وأبو القاسم الطبراني ، وأبو بكر القفّال ، وأبو الشيخ الأصبهاني ، وابن السقاء الواسطي ، وأبو الليث السمرقندي ، ومحمد بن المظفر البغدادي ، وابن شاهين البغدادي ، وأبو الحسن السكري الحربي ، وابن بطة العكبري.

والحاكم النيسابوري ، وابن مردويه الأصبهاني ، وأبو نعيم الأصبهاني ، وأبو الحسن العطّار ، وأبو الحسن الماوردي ، وأبو بكر البيهقي ، وابن بشران ، والخطيب البغدادي ، وابن عبد البر ، وأبو محمد الغندجاني ، وابن المغازلي ، وابو المظفر السمعاني ، وأبو علي البيهقي ، وشيرويه الديلمي ، وعبد الكريم السمعاني ، وأخطب خوارزم ، وابن عساكر ، وأبو الحجاج الأندلسي ، ومجد الدين ابن الأثير ، وعز الدين ابن الأثير ، و ...

أن يكون كلّ واحد من هؤلاء زنديقا جاهلا!! ، وإذا كان هؤلاء زنادقة جهالا فهل تبقى لمذهب أهل السنة من باقية؟!.

وإنّ ما ذكره ابن تيميّة ينطبق على من روى حديث مدينة العلم ، من علماء أهل السنة المتأخرين عن ابن تيميّة ، وهم جماعات غير محصورة ، أمثال : جمال الدّين الزرندي ، وصلاح الدّين العلائي ، وعلي الهمداني ، ونور الدّين البدخشاني ، وبدر الدّين الزركشي ، وكمال الدّين الدميري ، ومجد الدّين الفيروزآبادي ، وإمام الدّين الهجروي ، وشمس الدّين الجزري ، وزين الدّين الخوافي ، وشهاب الدّين الدولت آبادي ، وابن حجر العسقلاني ، وشهاب الدّين

٤٣

أحمد ، وابن الصبّاغ المالكي ، وعبد الرحمن البسطامي ، وشمس الدّين الجيلاني ، وشمس الدّين السخاوي ، وحسين الواعظ الكاشفي ، وجلال الدّين السيوطي ، ونور الدّين السمهودي ، وفضل الله ابن روزبهان ، وعز الدّين بن فهد الهاشمي المكّي ، وشهاب الدّين القسطلاني ، وجلال الدّين الدواني ، وكمال الدّين الميبدي ، وغياث الدّين بن همام الدين ، وجلال الدّين البخاري ، وشمس الدّين الشامي ، وابن عراق الكناني.

وابن حجر المكي ، وعلي المتقي الهندي ، وإبراهيم الوصابي ، ومحمد طاهر الفتني ، وعباس بن معين الدّين الجرجاني ، وكمال الدّين الجهرمي ، والعيدروس اليمني ، وجمال الدّين المحدّث الشيرازي ، وعلي القاري الهروي ، وعبد الرءوف المنّاوي ، ويعقوب اللاهوري ، وأبي العباس المقري ، وأحمد بن الفضل المكّي ، ومحمود القادري ، وتاج الدّين السنبهلي ، وعبد الحق الدهلوي ، والسيد محمد البخاري ، وعبد الرحمن الجشتي ، وعلي بن محمد الجشتي ، وعلي بن محمد الجفري ، وعلي العزيزي ، ونور الدين الشبراملسي ، وإبراهيم الكردي ، وإسماعيل الكردي ، والزرقاني المالكي ، وسالم بن عبد الله البصري ، ومحمد بن عبد الرسول البرزنجي ، والميرزا محمد البدخشاني ، ومحمد صدر العالم ، وولي الله الدّهلوي ، ومحمد معين السندي ، والشيخ محمد الحفني ، ومحمد بن إسماعيل اليماني ، والصبّان المصري ، وسليمان جمل ، وقمر الدين الأورنقابادي ، وشهاب الدين العجيلي ، ومحمد مبين اللكهنوي ، وثناء الله باني بتي.

وعبد العزيز الدهلوي ، وجواد ساباط ، وعمر الخربوتي ، والقاضي الشوكاني ، ورشيد الدين الدهلوي ، وجمال الدين القرشي ، ونور الدين السليماني ، وولي الله اللكهنوي ، وشهاب الدين الآلوسي ، والقندوزي البلخي ، والبدايوني ، والمولوي حسن زمان ، وعلي الدمنتي ، وعبد الغني الغنيمي ، وغيرهم.

بل عرفت أنّ هذا الحديث الشريف قد رواه التابعون العظام ، عن صحابة النبي عليه وآله السلام ، فاعترفوا به وجعلوه فضيلة لمولانا أمير المؤمنين ، لا سيّما

٤٤

أصحاب الشورى ، الذين تلقّوه بالتسليم ، وقد صرّح بثبوته عبد الرحمن بن عوف منهم تصريحا تامّا.

ولقد عرفت سابقا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بمجرّد قوله أنا مدينة العلم وعلي بابها ، بل إنّه بذل غاية الاهتمام في إبلاغ ذلك إلى الامة ، إذ قاله في يوم الحديبيّة ، مادّا صوته ، وآخذا بعضد أمير المؤمنين ... إلى غير ذلك من الأمور الدالّة على اهتمامه بإبلاغ هذا المعنى إلى الامّة.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما قاله ابن تيميّة لا يقول به إلاّ « زنديق جاهل ، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ».

من الأحاديث الدالّة على أنّ عليا مبلّغ علوم النبي

ولا يخفى على ذوي النهى أنّ هذا الذي ذكره ابن تيميّة ليس إنكارا لحديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » فقط ، بل يستلزم إنكار أحاديث كثيرة رواها أعلام الحفّاظ من السّابقين واللاّحقين في حق مولانا أمير المؤمنين ، لابتناء كلامه على أنّ حديث مدينة العلم يدل على أنّ عليا هو المبلّغ الوحيد عن النبي ، لكن المبلّغ لا يكون واحدا وإلاّ فسد أمر الإسلام ، فهذا الحديث باطل.

إلاّ أنّه لا ريب لأهل الحق والإيقان في أنّه عليه‌السلام هو الباب الوحيد لمدينة العلم ، ولا مبلّغ عن النبي سواه ، وقد دلّت على ذلك الأحاديث الأخرى بالإضافة إلى حديث مدينة العلم ، مثل :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علي باب علمي ، ومبيّن لامّتي ما أرسلت به من بعدي ... ».

وقوله في حديث طويل : « ... وأنت باب علمي ... ».

وقوله في حديث في حق علي : « عيبة علمي ، وبابي الذي أوتى منه ».

وقوله : « هذا أول من آمن بي ، وأول من يصافحني يوم القيامة ... وهو بابي الذي أوتى منه ».

٤٥

وقوله : « علي باب حطّة ، من دخل منه كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ».

وقوله : « علي بن أبي طالب باب الدّين ، من دخل فيه كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ».

وقوله عليه وآله الصلاة والسلام : « يا علي! أنت حجة الله ، وأنت باب الله ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « علي مني وأنا منه ، ولا يؤدي عني إلاّ أنا أو علي ».

وقد وقفت على طرف من طرق هذه الأحاديث وغيرها من مؤيّدات حديث مدينة العلم ، وسنذكر طائفة أخرى من الأحاديث في مبحث الأعلميّة إن شاء الله تعالى.

ولقد تسالم الأصحاب على أنّ عليا عليه‌السلام هو الأعلم من بينهم ـ ولذا كانوا يرجعون إليه فيما أشكل عليهم ، ويسألون عمّا جهلوه أو أبهم عليهم ـ وأنه المبلّغ الوحيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى ورد عن ابن عباس وصفه بهذه الصّفة في كلام له في أهل البيت : « فروع طيّبة ، وأصول مباركة ، معدن الرحمة ، وورثة الأنبياء ، بقيّة النقباء ، وأوصياء الأوصياء ، منهم الطيّب ذكره ، المبارك اسمه ، أحمد الرضي ورسوله الامي ، من الشجرة المباركة ، صحيح الأديم ، واضح البرهان. والمبلّغ بعده ببيان التأويل وبحكم التفسير علي بن أبي طالب ، عليه من الله الصلاة الرضيّة والزكاة السنيّة ، لا يحبّه إلاّ مؤمن تقي ، ولا يبغضه إلاّ منافق شقي » (١).

فقد تسالم الأصحاب على هذه الحقيقة ، واقتفى أثرهم من بعدهم ، لثبوته عندهم بكلّ وضوح ، حتى اعترف به جماعة من مشاهير علماء أهل السّنة ، وأذعن

__________________

(١) زين الفتى في تفسير سورة هل أتى ـ مخطوط.

٤٦

بعض متعصّبيهم كابن روزبهان الشيرازي ، حيث نص على أنّ الامام عليه‌السلام « هو وصي النبي صلّى الله عليه وسلّم في إبلاغ العلم » بلا نزاع ، وهذه عبارته في جواب العلاّمة الحلّي رحمه‌الله : « وما ذكره من علم أمير المؤمنين فلا شكّ في أنّه من علماء الامة ، والناس محتاجون إليه فيه ، وكيف لا؟ وهو وصيّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف ، فلا نزاع فيه لأحد ».

٨ ـ انتشار العلم عن علي

ثم قال ابن تيميّة : « ثم إنّ هذا خلاف المعلوم بالتواتر ، فإنّ جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي ». وهذا كلام متعصّب سفيه لأنه : أولا : دعوى باطلة ظاهرة الكذب.

وثانيا : دعوى تواتره كذب آخر.

وثالثا : يخالف إفادات أكابر علماء أهل السنّة ، كما ستسمع ، وفيها التصريح بانتشار العلوم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في البلاد المختلفة.

ورابعا : لو سلّمنا بلوغ العلم إلى جميع المدائن الإسلامية من غير علي ، فمن أين يثبت أنّ ما بلغها كان « العلم عن الرسول » ، ومن الواضح أنّ مجرّد النسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يثبت كونه منه ، وإلاّ لزم تصديق كلّ من يدّعي الإبلاغ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، كيف وقد كثرت الكذّابة عليه على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قال : « من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار ».

وخامسا : سلّمنا كونه علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن هذا لا يضرّنا ، بل يضر الآخذين لذلك العلم العاملين به ، لأنهم أخذوه من غير باب مدينة العلم ، وكلّ ما أخذ عن غير باب مدينة العلم فلا يجوز العمل به ، بل إنّه من قبيل السرقة ويستتبع الحدّ الشرعي على ارتكابه ، ومن هنا قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : « نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى

٤٧

البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا ».

أقول : وهذا القدر كاف في ردّ ما ادّعاه ابن تيميّة ، وجميع ما بناه على هذا الكلام ، ولكن لّما كانت عبارته مشتملة على أكاذيب أخرى ، فنحن مضطرّون إلى التنبيه على مواضع كذبه بالتفصيل. قال ابن تيميّة : « أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما [ فيهم ] ظاهر. وكذلك الشام والبصرة ، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلاّ شيئا قليلا ».

قلت : هذه دعوى بلا دليل ، على أنه من الممكن بلوغ علم الرسول إليهم عن علي عليه‌السلام ولكنّهم لم يرووه عنه لعداوتهم له ، أو رووا ولكن سلاطين الجور وأمراء الفسق ـ الذين كانوا يمنعون من ذكر مجرّد اسمه ـ حالوا دون انتشار تلك الروايات ، على أنّ قلة الرواية ـ لو سلّمنا كونها كاشفة عن قلّة الأخذ ـ لا تنافي كون الامام عليه‌السلام باب مدينة العلم ، وإنّما تكشف عن إعراض هؤلاء عن باب مدينة العلم. وذلك عليك وعليهم ، لو كنت تعقل ويعقلون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

المدينة المنوّرة

ثم نقول : أما المدينة المنوّرة فقد قضى عليه الصّلاة والسلام فيها الشطر الأعظم من حياته المباركة ، وكان الرجوع إليه فيها في جميع المشكلات ، لمن تصدّى أمر الخلافة وغيرهم من الأصحاب ، وهذا مما لا ريب فيه لأحد ولا نزاع ، بل اعترف وأقرّ به جمع من العلماء الأعيان :

قال النووي : « وسؤال كبار الصحابة له ، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات ، مشهور » (١).

وقال ابن روزبهان : « رجوع الصّحابة إليه في الفتوى غير بعيد ، لأنه كان

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٣٤٦.

٤٨

من مفتي الصحابة ، والرجوع إلى المفتي من شأن المستفتين ، وإن رجوع عمر إليه كرجوع الأئمة وولاة العدل إلى علماء الأمة » (١).

وقال العجيلي : « ولم يكن يسأل منهم واحدا ، وكلّهم يسأله مسترشدا ، وما ذاك إلاّ لخمود نار السؤال تحت نور الاطّلاع » (٢).

إلى غير ذلك من كلماتهم الآتية في مبحث الأعلمية إن شاء الله تعالى.

مكّة المكرّمة

وأمّا مكّة المكرّمة فقد عاش فيها عليه الصلاة والسلام منذ الولادة حتى الهجرة ، وقد أتاها بعد الاستيطان في المدينة المنوّرة مرّات عديدة ، فكيف يقال بعدم بلوغ العلم عنه إلى أهل مكة؟

على أنّ تلميذه الخاص به « عبد الله بن عباس » أقام في مكة زمنا طويلا يعلّمهم القرآن وينشر العلم ، قال الذهبي بترجمة ابن عباس : « الأعمش ، عن أبي وائل قال : استعمل علي ابن عباس على الحج ، فخطب يومئذ خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا. ثم قرأ عليهم سورة النّور ، فجعل يفسّرها » (٣).

وقال ابن سعد : « أخبرنا محمد بن عمر حدّثني واقد بن أبي ياسر عن طلحة ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة : إنها نظرت إلى ابن عباس ـ ومعه الخلق ليالي الحج ، وهو يسئل عن المناسك ـ فقالت : هو أعلم من بقي بالمناسك » (٤).

وقال أبو عمر ابن عبد البر : « روينا : أن عبد الله بن صفوان مرّ يوما بدار عبد الله بن عباس بمكة ، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه ، ومرّ بدار عبيد الله بن

__________________

(١) إبطال الباطل لابن روزبهان الشيرازي ـ مخطوط.

(٢) ذخيرة المال ـ مخطوط.

(٣) تذكرة الحفّاظ ١ / ٣٨.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٣٦٩. وفيه « الحلق » بدل « الخلق ».

٤٩

عباس ، فرأى فيها جمعا يتناولونها للطّعام ، فدخل على ابن الزبير فقال له : أصبحت والله كما قال الشاعر :

فإن تصبك من الأيّام قارعة

لم تبك منك على دنيا ولا دين

قال : وما ذاك يا أعرج؟ قال : هذان ابنا عباس ، أحدهما يفقّه الناس ، والآخر يطعم الناس ، فما أبقيا لك مكرمة. فدعا عبد الله بن مطيع فقال : انطلق إلى ابني عباس ، فقل لهما : يقول لكما أمير المؤمنين أخرجا عنّي أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق ، وإلاّ فعلت وفعلت. فقال عبد الله بن عباس : قل لابن الزبير والله ما يأتينا من الناس إلاّ رجلين ، رجل يطلب فقها ، ورجل يطلب فضلا ، فأيّ هذين تمنع!. وكان يحضر أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني ، فجعل يقول :

لا درّ درّ الليالي كيف يضحكنا

منها خطوب أعاجيب وتبكينا

و مثل ما يحدث الأيام من غير

في ابن الزبير من الدنيا تسلينا

كنّا نجيء ابن عباس فيفتينا

فقها ويكسبنا أجرا ويهدينا

و لا يزال عبيد الله مترعة

جفانه مطعما ضيفا ومسكينا

فالبر والدين والدنيا بدارهما

ننال منها الذي نبغي إذا شينا

إلى آخر الأبيات » (١).

ولقد ثبت نشر ابن عبّاس ـ تلميذ أمير المؤمنين ـ تفسير القرآن في أهل مكة وتحقّق ، حتى اعترف بذلك ابن تيمية نفسه ، ومن هنا وصف أهل مكة بأنهم أعلم الناس بالتفسير ، ففي ( الإتقان ) : « قال ابن تيميّة : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة ، لأنهم أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما ، كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس ، وغيرهم » (٢).

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ٩٣٧.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٢ / ١٩٠.

٥٠

الشام

وأما أهل الشام فأعلمهم وأفقههم أبو الدرداء ، وهو أخذ من عبد الله بن مسعود ، وابن مسعود من تلامذة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال الذهبي بترجمة أبي الدرداء : « وكان عالم أهل الشام ، ومقرئ أهل دمشق ، وفقيههم وقاضيهم » (١).

وقال الموفّق بن أحمد المكي : « عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه : العلماء ثلاثة ، رجل بالشام ـ يعني نفسه ـ ، ورجل بالكوفة ـ يعني عبد الله بن مسعود ـ ، ورجل بالمدينة ـ يعني عليا. فالذي بالشام يسأل الذي بالكوفة ، والذي بالكوفة يسأل الذين بالمدينة ، والذي بالمدينة لا يسأل أحدا » (٢).

وقال محبّ الدّين الطبري : « عن أبي الزعراء عن عبد الله قال : علماء الأرض ثلاثة ، عالم بالشام ، وعالم بالحجاز ، وعالم بالعراق ، فأمّا عالم أهل الشام فهو أبو الدرداء ، وأمّا عالم أهل الحجاز فعلي بن أبي طالب ، وأما عالم أهل العراق فأخ لكم ، وعالم أهل الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلى عالم أهل الحجاز ، وعالم أهل الحجاز لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي » (٣).

هذا ، بالإضافة إلى رجوع معاوية ـ وهو حاكم أهل الشام ـ إلى أمير المؤمنين في المعضلات بكثرة ، كما ستطلّع على تفاصيل ذلك فيما بعد ، إن شاء الله ، في مبحث الأعلميّة.

البصرة

وأما البصرة فورود الامام عليه‌السلام إليها بنفسه ، وكثرة خطبه وإرشاداته ومواعظه فيها غير مخفي على أحد ، وإن شئت تفاصيل ذلك فارجع إلى التواريخ ،

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢٤.

(٢) مناقب أمير المؤمنين : ٥٥.

(٣) الرياض النضرة ٢ / ١٩٩.

٥١

كتاريخ ابن جرير الطبري وغيره.

كما لا يخفى على أحد ولاية ابن عباس على البصرة من قبله ، وأخذ أهلها منه الفقه والتفسير مدة إقامته فيها ، فلا يبقى أيّ ريب في بلوغ العلم من الإمام عليه‌السلام إلى أهل البصرة ، وإليك بعض الكلمات الصريحة في أخذ أهل البصرة من ابن عباس تلميذ الامام عليه‌السلام ، والوالي عليها من قبله :

« المدائني عن نعيم بن حفص قال أبو بكرة : قدم ابن عباس علينا البصرة ، وما في العرب مثله جسما وعلما وبيانا وجمالا وكمالا » (١).

وقال ابن سعد : « أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي نا معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال : أوّل من عرف بالبصرة عبد الله بن عباس ، قال : وكان مثجة كثير العلم. قال : فقرأ سورة البقرة ففسّرها آية آية » (٢).

وقال ابن حجر : « وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يعشي الناس في رمضان ، وهو أمير البصرة ، فما ينقضي الشهر حتى يفقّههم » (٣).

فظهر أنّ الامام عليه‌السلام قد انتشر علمه في جميع البلدان الإسلامية ، من مكة والمدينة والشام والبصرة وغيرها ، إلاّ أنّ ذلك لا يلزم أن يكون كلّ من أخذ منه أو بلغه علمه عليه‌السلام من التابعين له والقائلين بإمامته ، كما هو واضح.

الكوفة

وأمّا قول ابن تيميّة : « وإنّما كان غالب علمه بالكوفة » ففيه : أنّ علم الامام عليه‌السلام ـ وهو بعينه علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان في الكثرة

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٣٨. الاصابة ٢ / ٣٢٢. وفيه « حشما » بدل « جسما » و« ثيابا » بدل « بيانا ».

(٢) الطبقات ٢ / ٣٦٧.

(٣) الاصابة ٢ / ٣٢٥. وفيه « يغشى » بدل « يعشي ».

٥٢

والغزارة بحيث لو أخذ منه أهل العالم كلّهم أجمعون لوسعهم من غير أن تنفد علومه ، وأنّى كان للكوفة وأهلها أن يسعوا غالب علمه عليه‌السلام وهو القائل على منبر الكوفة : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنما بين الجوانح منّي علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا ما زقّني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زقا من غير وحي أوحى الله إلي ، فو الله لو ثنّيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل ، فيقول : صدق علي ، أفتاكم بما أنزل فيّ ، وأنتم تتلون الكتاب ، أفلا تعقلون ».

وكان يقول عليه‌السلام مشيرا إلى صدره الشريف : « كم من علوم هاهنا لو وجدت لها حاملا ».

وقال أيضا : « لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير سورة الفاتحة ».

وإن أراد ابن تيميّة أنّ غالب ما ظهر من علومه كان بالكوفة ، ففيه : إن غالب علمه كان بالمدينة لا بالكوفة ، فإن رجوع الشيوخ الثّلاثة وغيرهم من الأصحاب إليه في المعضلات والمشكلات كان بالمدينة ، وأمّا في الكوفة فلم يتفرّغ للتعليم والإرشاد ، لاشتغاله عليه‌السلام فيها غالبا بما يتعلّق بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

قال : « ومع هذا فأهل الكوفة قد تعلّموا القرآن والسنة من قبل أن يتولّى عثمان فضلا عن علي ».

أقول : يريد ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنة على عهد عمر بن الخطاب ، ولكن هذا توهّم باطل وخيال فاسد ، وذلك لوجوه :

الأول : إن الكوفة إنما اختطّت للمسلمين في السنة السابعة عشرة ، وقد كان موت عمر بن الخطاب في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة ، فكيف تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنة ـ أو أكثرهما ـ في مدة ستة سنوات ، مع أنّ عمر بن

٥٣

الخطاب قد تعلّم سورة البقرة وحدها في اثني عشرة سنة كما في ( الدر المنثور ) (١) وغيره؟.

الثاني : كيف يدعي ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة القرآن والسنة عن عمر بن الخطاب ، مع ما ثبت واشتهر من جهل عمر بألفاظ القرآن ومعانيه ، ومجانبته للسنّة الشريفة ومعالمها؟ فإن أراد تعلّمهم القرآن والسنة من أتباعه وأشياعه فهم أدنى مرتبة وأقلّ شأنا من إمامهم.

الثالث : إنّ الذي ورد الكوفة من قبل عمر بن الخطاب هو عمار بن ياسر يصحبه عبد الله بن مسعود ، فإن أراد ابن تيميّة تعلّم أهل الكوفة من هذين الرجلين فذاك يضرّه ولا ينفعه ، فإن هذين الصحابيّين الجليلين ـ وإن كان المرسل لهما إلى الكوفة هو عمر بن الخطّاب ـ من أشهر وأفضل تلامذة أمير المؤمنين عليه‌السلام والآخذين عنه ، فثبت أنّ أهل الكوفة قد تعلّموا القرآن والسنّة وأخذوهما عن باب مدينة العلم وهو علي ، والحمد لله على ظهور الحق. وإليك بعض الشواهد على ما ذكرناه :

قال ابن سعد : « أخبرنا عفان بن مسلم وموسى بن إسماعيل قالا : نا وهيب عن داود عن عامر : إن مهاجر عبد الله بن مسعود كان بحمص ، فحدره عمر إلى الكوفة وكتب إليهم : إني ـ والله الذي لا إله إلاّ هو ـ آثرتكم به على نفسي فخذوا منه » (٢).

وقال ابن سعد : « أخبرنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال : قرئ علينا كتاب عمر بن الخطاب أمّا بعد : فإني بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميرا وابن مسعود معلّما ووزيرا ، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم ، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ، من أهل بدر ، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما ، وقد آثرتكم بابن أم عبد على نفسي ،

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ١ / ٢١.

(٢) طبقات ابن سعد ٣ / ١٥٧.

٥٤

وبعثت عثمان بن حنيف على السواد ، ورزقتهم كل يوم شاة فاجعلوا شطرها وبطنها لعمار ، والشطر الباقي بين هؤلاء الثلاثة » (١).

وقال ابن عبد البر : « وبعثه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه إلى الكوفة ، مع عمار بن ياسر ، وكتب إليهم : إني بعثت عليكم بعمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود معلّما ووزيرا ، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل بدر ، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما ، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي » (٢).

وقال : « وروى شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن المضرب قال : قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة أمّا بعد : فإني بعثت إليكم عمّارا أميرا وعبد الله بن مسعود وزيرا ومعلما ، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما ، فإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة » (٣).

وقال ابن الأثير : « واستعمله عمر بن الخطاب على الكوفة ، وكتب إلى أهلها : أما بعد فإني قد بعثت إليكم عمّارا أميرا ، وعبد الله بن مسعود وزيرا ومعلّما ، وهما من نجباء أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ، فاقتدوا بهما » (٤).

وقال الذهبي : « الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب قال : قرئ علينا كتاب عمر : إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وعبد الله بن مسعود معلّما ووزيرا ، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم من أهل بدر ، فاقتدوا بهما واسمعوا ، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي » (٥).

وقال ابن حجر : « وسيّره عمر إلى الكوفة ، ليعلّمهم أمور دينهم ، وبعث عمارا

__________________

(١) المصدر نفسه ٣ / ٢٥٥.

(٢) الاستيعاب ٣ / ٩٩٢.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ١١٤٠.

(٤) أسد الغابة ٣ / ٢٥٨.

(٥) تذكرة الحفاظ ١ / ١٤.

٥٥

أميرا وقال : إنهما من النجباء من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاقتدوا بهما » (١).

وقال بترجمة عمّار : « ثم استعمله عمر على الكوفة ، وكتب إليهم أنه من النجباء من أصحاب محمد » (٢).

ومن جميع ما ذكرنا يظهر بطلان قوله الآخر : « وفقهاء أهل المدينة تعلّموا الدين في خلافة عمر ». بالإضافة إلى ما ثبت واشتهر من رجوع عمر بنفسه إلى الامام عليه‌السلام في المعضلات بكثرة ، فلو أنّ أهل المدينة تعلّموا الدّين في خلافة عمر فلا بدّ وأنهم قد تعلّموه من أمير المؤمنين ، باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا من عمر الذي اشتهر عنه قوله : « لو لا علي لهلك عمر » وقوله : « كلّ الناس أفقه من عمر حتى المخدّرات في الحجال » وقوله : « ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ، ناضلت إمامكم فنضلته ».

اليمن

وأمّا قوله : « وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي ، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي ». فيشتمل على دعاوى عديدة باطلة :

١ ـ تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن.

٢ ـ مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن.

٣ ـ إن تعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن أكثر من تعليم علي عليه‌السلام.

٤ ـ إن مقام معاذ فيهم أكثر من مقام علي عليه‌السلام.

٥ ـ رواية أهل اليمن عن معاذ.

٦ ـ إنّ ما رووه عن معاذ أكثر ممّا رووا عن علي عليه‌السلام.

__________________

(١) الاصابة ٢ / ٣٦١.

(٢) الاصابة ٢ / ٥٠٦.

٥٦

وليس لابن تيميّة أيّ دليل أو شاهد لشيء من هذه الدعاوى ، فذكر هذه الأمور في مقابلة الامامية ليس إلاّ سفاهة ورقاعة ، بل إنّ كثيرا منها لا يقبل الإثبات على ضوء كلمات أهل السنة ورواياتهم أيضا ، وتفصيل ذلك هو :

أنّ الأصل في هذا المطلب بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، لكن بعث الامام متّفق عليه بين الفريقين. أمّا بعث معاذ فممّا رواه أهل السّنة خاصة ، ولا يجوز لهم إلزام الشيعة به ، ولو سلّمنا ذلك لم يكن فيه نفع لابن تيميّة ، لعدم الريب في أنّ بعث الامام عليه‌السلام كان للتعليم والإرشاد ، وأنّ بعث معاذ بن جبل كان لأجل جبر حالته الدنيويّة كما دريت ممّا ذكرناه سابقا في جواب كلام العاصمي. وأما ما ذكره بعض أهل السنّة من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث معاذا إلى اليمن للقضاء فباطل محض ، وافتعال صرف ، لم يرد به حديث صحيح ، بل الأصل في ذلك الحديث الذي رواه الترمذي ، وقدح فيه هو وغيره من أكابر علمائهم ، وإن شئت تفصيل الكلام في إثبات وضع هذا الحديث حسب كلمات مشاهير أهل السنة ، فراجع كتاب ( استقصاء الإفحام في الرد على منتهى الكلام ).

وإذا كان بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لأمر دنيوي خاص به ، لم يجز القول بأنّه راح إليها للتعليم ، فضلا عن القول بأنّ تعلّم أهل اليمن منه كان أكثر من تعلّمهم من علي ، ولو فرض قيام معاذ ببعض التعليم مع ذلك ، فلا ريب في فساد ما ألقاه إليهم ، لما تقدّم سابقا من جهل معاذ بمسائل الحلال والحرام ، ومن شاء فليرجع إليه ، وحينئذ فلو كان معاذ قد عمّر عمر نوح وأقام في أهل اليمن كلّ تلك المدّة لما أفادهم مثل نقير ، فضلا عن أن يفوق على باب مدينة العلم في تعليمهم.

ومع تسليم أنّه بعث إلى اليمن للتعليم كما يدّعي المتخرّصون من أهل السنة ، فإنّ ترجيح تعليمه على تعليم الإمام عليه‌السلام غير جائز ، لعدم الخلاف بين المسلمين في أنّه عليه‌السلام أفضل من معاذ بن جبل ، وعلى هذا فلو

٥٧

بقي معاذ في أهل اليمن عمر نوح ، ولم يلبث فيهم الامام إلاّ يسيرا لرجح تعليم الامام على تعليم معاذ وكان أفضل وأشدّ تأثيرا وأكثر فائدة ، وستعلم فيما بعد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث خالد بن الوليد إليهم أولا ، ولبث فيهم خالد ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد ، ثم بعث الامام عليه‌السلام فأسلم على يده همدان في أول يوم ، وهذا أصدق شاهد على أنّ كلام الفاضل أشد تأثيرا من كلام المفضول ، وإن كانت إقامته أطول ودعوته أكثر ... من هنا يظهر بطلان قياس تعليم الامام عليه‌السلام بتعليم غيره ، فضلا عن تعليم معاذ على تعليمه ، ولنعم ما قال عليه‌السلام : « لا يقاس بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الامة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمته عليهم أبدا ».

وأمّا ما ادّعاه ابن تيميّة في قوله : « وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقّهوا على معاذ بن جبل » فكذب شنيع ، لا يمكن لأحد من أولياء ابن تيميّة تصحيحه على اصول السنّية ، فضلا عن طريق الإمامية ، فإنّ تعلّم شريح من معاذ لم يذكره إلاّ علي بن المديني غير جازم به ، بل حكاه عن قائل مجهول ، ففي ( الإصابة ) بترجمة شريح : « وقال ابن المديني : ولي قضاء الكوفة ثلاثا وخمسين سنة ، ونزل البصرة سبع سنين ، ويقال : إنه تعلم من معاذ ، إذ كان باليمن » (١) ، ومن الواضح أنّ هكذا أمر لا يثبت بمجرد قول من مجهول.

بل إنّ التتبّع لكتب الرجال والتراجم يفيد بعض القرائن على النفي ، منها : عدم ذكر معاذ فيمن روى عنه شريح ، ولو كان متفقّها عليه لذكر اسمه فيمن روي عنه قبل غيره قطعا ، ولا أقل من ذكره فيما بينهم. وإليك نصّ ترجمة ابن حبان لشريح : « شريح بن الحارث القاضي الكندي حليف لهم ... كنيته أبو أمية ، وقد قيل : أبو عبد الرحمن ، كان قائفا ، وكان شاعرا ، وكان قاضيا ، يروي عن عمر بن الخطاب ، روى عنه الشعبي ، مات سنة ثمان وسبعين أو سبع

__________________

(١) الاصابة ٢ / ١٤٤.

٥٨

وثمانين ، وهو ابن مائة وعشر سنين ، وقد قيل : ابن مائة وعشرين سنة ، وكان قد بقي على القضاء خمسا وسبعين سنة ، ما تعطّل فيه الاّ ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير » (١).

وقال النووي : « أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يلقه ، وقيل : لقيه ، والمشهور الأول ، قال يحيى بن معين : كان في زمن النبي ولم يسمع منه. روى عن : عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعروة البارقي رضي الله عنهم » (٢).

وقال ابن حجر : « روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلا ، وعن عمر وعلي وابن مسعود وعروة البارقي وعبد الرحمن بن أبي بكر » (٣).

وقال الخزرجي : « كان من أجلّة العلماء وأذكى العالم ، عن : علي وابن مسعود. وعنه : الشعبي وأبو وائل » (٤).

وعدم ذكرهم معاذا فيمن روى عنه شريح قرينة جليّة على عدم روايته عنه ، لأنه لو روى عنه ولو قليلا لذكر ، لأن ابن تيميّة يرى أنّ قلّة الرواية دليل على قلّة الأخذ ، فإذ لم يذكر أصلا فإنه لم يأخذ عنه أبدا.

هذا كلّه بالنسبة إلى دعوى تفقّه شريح على معاذ.

وأما دعوى تفقّه غيره من أكابر التابعين على معاذ بن جبل ، فهي دعوى عارية عن الدليل ، ولم يقل بها قائل معروف ولا مجهول.

وأمّا قوله : « ولمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا » فكلام لا نفع له فيه أبدا ، فأيّ دليل على صحّة قضاءه في الكوفة قبل ورود الامام عليه‌السلام ، وما أكثر الذين نصبوا للقضاء وهم جهال؟ سلّمنا لكنّه ممّن روى عن أمير المؤمنين

__________________

(١) الثقات لابن حبان ٤ / ٣٥٢.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٢٤٣.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٢٦.

(٤) خلاصة تذهيب التهذيب : ١٦٥.

٥٩

عليه‌السلام كما عرفت. هذا مع أنّه كان يرجع في المعضلات الواردة عليه إلى الإمام عليه‌السلام وعبيدة السلماني وهو من تلامذة الامام ... كما ستعرف عن قريب ، فلم يكن مستغنيا عن الأخذ من الامام عليه‌السلام ، كما لم يستغن عنه الثلاثة وأكابر الصحابة.

فقوله : « وهو وعبيدة السلماني تفقّها على غيره » مردود ، لأنّ تفقّه شريح على غير الإمام عليه‌السلام دعوى بلا دليل ، أمّا تفقّهه على معاذ بن جبل ـ كما زعم ـ فقد عرفت عدم الدليل عليه ، بل الدليل على عدمه ، وأمّا تفقّهه على غير معاذ فمن هو ذلك الغير؟

وأمّا دعوى تفقّه عبيدة السلماني على غير الإمام عليه‌السلام فمن أعاجيب الأكاذيب ، لإجماع علماء الرجال على تفقه عبيدة السلماني على الامام وعبد الله بن مسعود ، قال السمعاني : « هو من أصحاب علي وابن مسعود ، حديثه مخرّج في الصحيحين ... وقال أحمد بن عبد الله العجلي : عبيدة السلماني كان أعور ، وكان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرؤن ويفتون. وكان شريح إذا أشكل عليه الشيء قال : إن هاهنا رجلا في بني سلمة فيه خبرة ، فيرسلهم إلى عبيدة ، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه ، وكلّ شيء روى ابن سيرين عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي. ومات سنة اثنتين وسبعين أو ثلاث من الهجرة » (١).

وقال النووي : « هو مشهور بصحبة علي. روى عنه : الشعبي والنخعي وأبو حصين وابن سيرين وآخرون ، نزل الكوفة ، وورد المدينة ، وحضر مع علي قتال الخوارج ، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يقرؤن ويفتون ، وكان شريح إذا أشكل عليه شيء أرسل إلى عبيدة ... » (٢).

وقال المزي : « قال العجلي : كوفي تابعي ثقة ، أسلم قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين ، ولم ير النبي ، وكان من أصحاب علي وابن مسعود ، وكان

__________________

(١) الأنساب ـ السّلماني.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٣١٧. وفيه : « أرسلهم » بدل « أرسل ».

٦٠