نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

عنه أنّه بعث الأفراد إلى الآفاق ، مثل علي ومعاذ وعتاب بن أسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم ، وهذا أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يخفى. وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجّوا بها ، قد ذكر محمد رحمه‌الله في هذا غير حديث في كتاب الاستحسان ، واقتصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها.

وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والرسل والمضاربين وغيرهم.

وأما المعقول فلأن الخبر يصير حجة بصفة الصدق ، والخبر يحتمل الصدق والكذب ، وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجّح الصدق ، وبالفسق الكذب ، فوجب العمل برجحان الصّدق ليصير حجة للعمل ، ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط علم اليقين ، وهذا لأن العمل صحيح من غير علم اليقين ، ألا ترى أنّ العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي ، وعمل الحكام بالبيّنات صحيح بلا يقين ، فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علما بغالب الرأي ، وذلك كاف للعمل ، وهذا ضرب علم فيه اضطراب ، فكان دون علم الطمأنينة » (١).

ولقد أكّد هذا المعنى وأوضح دلالة الأدلة عليه من الكتاب والسنة والإجماع والعقل : عبد العزيز بن أحمد البخاري في ( كشف الأسرار ـ شرح أصول البزدوي ) ، وهذا نصّ عبارته بطولها :

« قوله : وهذا أي خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا ، أي لا يوجب علم يقين ولا علم طمأنينة وهو مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء ، وذهب بعض الناس إلى أن العمل بخبر الواحد لا يجوز أصلا وهو المراد من قوله : لا يوجب العمل. ثم منهم من أبى جواز العمل به عقلا مثل الجبائي وجماعة من المتكلمين ، ومنهم من منعه سمعا مثل القاساني وأبي داود والرافضة. واحتجّ من منع عنه سمعا بقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أي لا تتّبع ما لا

__________________

(١) الأصول ـ بشرح البخاري ٢ / ٦٧٨ ـ ٦٩٤.

٢١

علم لك به وخبر الواحد لا يوجب العلم ، فلا يجوز اتّباعه والعمل به بظاهر هذا النص.

قالوا : ولا معنى لقول من قال : إن العلم ذكر نكرة في موضع النفي فيقتضي انتفاءه أصلا ، وخبر الواحد يوجب نوع علم وهو علم غالب الظن الذي سماه الله تعالى علما في قوله تعالى ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ) فلا يتناوله النهي. لأنّا إن سلّمنا أنه يفيد الظن فهو محرّم الاتّباع أيضا بقوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ).

ثم أشار الشيخ إلى شبهة من منع عنه عقلا بقوله : وهذا أي عدم جواز العمل به لأنّ صاحب الشرع أي من يتولى وضع الشرائع ـ وهو الله تعالى إذ الرسول مبلّغ عنه ـ موصوف بكمال القدرة ، فكان قادرا على إثبات ما شرعه بأوضح دليل ، فأي ضرورة له في التجاوز عن الدليل القطعي إلى ما لا يفيد إلاّ الظن؟ كيف وإنه يؤدّي إلى مفسدة عظيمة ، وهي أن الواحد لو روى خبرا في سفك دم أو استحلال بضع وربّما يكذب فنظر أنّ السفك والإباحة بأمر الله تعالى ولا يكونان بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل؟ ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه لا يجوز الهجوم بالشك ، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم ، بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرّفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون ، بخلاف المعاملات فإنّ خبر الواحد يقبل فيها بلا خلاف ، لأنّها من ضروراتنا أي قبوله فيها من باب الضرورة لأنّا نعجز عن إظهار كلّ حق لنا بطريق لا يبقى فيه شبهة ، فلهذا جوّزنا الاعتماد فيها على خبر الواحد.

وقوله : وكذلك الرأي من ضروراتنا جواب عن تمسّكهم بالقياس في الأحكام ، مع أنّه لا يفيد إلاّ الظن فقال : هو من باب الضرورة أيضا ، لأن الحادثة إذا وقعت ولم يكن فيها نص يعمل به يحتاج إلى القياس ضرورة ، ولأن القياس ليس بمثبت بل هو مظهر ، وخبر الواحد مثبت ، والإظهار دون الإثبات ، وهذا على قول من جوّز التمسّك بالقياس منهم ، فأمّا على قول من لم يجعل القياس

٢٢

حجة مثل النظام وأهل الظاهر فلا حاجة إلى الفرق.

قوله : وقال بعض أصحاب الحديث ، كذا ذهب أكثر الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجب علم اليقين بطريق الضرورة ، وهو مذهب أحمد بن حنبل ، وذهب داود الظاهري إلى أنها توجب علما استدلاليا. وأشار الشيخ إلى شبهة الفريقين ، فمن قال بأنه يوجب العلم الاستدلالي تمسك بأن خبر الواحد لو لم يفد العلم لما جاز اتّباعه لنهيه تعالى عن اتّباع الظنّ بقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وذمّه على اتّباعه في قوله جلّ جلاله : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). وقد انعقد الإجماع على وجوب الاتباع على ما تبيّن ، فيستلزم إفادة العلم لا محالة. ومن قال إنه يوجب علما ضروريا قال : إنا نجد في أنفسنا في خبر الواحد الذي وجد شرائط صحته العلم بالمخبر به ضرورة من غير استدلال ونظر بمنزلة العلم الحاصل بالمتواتر. ويرد عليهم : أنه لو كان ضروريا لما وقع الاختلاف فيه ، ولا استوى الكل فيه. فقالوا هذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى فيجوز أن يختص به البعض ، ووقوع الاختلاف لا يمنع من كونه ضروريا كالعلم الحاصل بالمتواتر فإنه ضروري وقد وقع الاختلاف فيه.

قوله : قال الله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الآية ، أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق والعهد من الذين أوتوا الكتاب ليبيّنوه للناس ولا يكتموه منهم ، فكان هذا أمرا بالبيان لكلّ واحد منهم ونهيا له عن الكتمان ، لأنهم إنما يكلّفون بما في وسعهم ، وليس في وسعهم أن يجتمعوا ذاهبين إلى كل واحد من الخلق شرقا وغربا للبيان ، فيتعين أن الواجب على كلّ واحد منهم أداء ما عنده من الأمانة والوفاء بالعهد ، ولأن الحكم في الجمع المضاف إلى الجماعة أنه يتناول كل واحد منهم ، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كلّ واحد من الأفراد ، ثم ضرورة توجه الأمر بالإظهار إلى كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به ، إذ أمر الشرع لا يخلو عن فائدة حميدة ، ولا

٢٣

فائدة في الأمر بالبيان والنهي عن الكتمان سوى هذا.

واعترض عليه : بأن انحصار الفائدة على القبول غير مسلّم ، بل الفائدة هي الابتلاء فيستحق الثواب إن امتثلوا والعقاب إن لم يمتثلوا. ألا ترى أنّ الفاسق منهم داخل في هذا الخطاب مأمور بالبيان بحيث لو امتنع عنه يأثم ثم لا يقبل ذلك منه ، وكذا الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين مأمورون بالتبليغ ، وإن علم قطعا بالوحي أنه لا يقبل منهم.

وأجيب عنه : بأن للبيان والتبليغ طرفين ، طرف المبلّغ وطرف السامع ، ولا بدّ من أن يتعلّق بكل طرف فائدة ، ثم ما ذكرتم من الفائدة مختص بجانب المبلّغ وليس في طرف السامع فائدة سوى وجوب القبول والعمل به.

ولا يقال : بل فيه فائدة أخرى وهي جواز العمل به. لأنا نقول : جواز العمل مستلزم لوجوبه ، لأن من قال بالجواز قال بالوجوب ، ومن أنكر الوجوب أنكر الجواز. وأما الفاسق فلا نسلّم وجوب البيان عليه قبل التوبة ، بل الواجب عليه التوبة ثم ترتيب البيان عليه ، فعلى هذا بيانه يفيد وجوب القبول عليه والعمل به كذا قال شمس الأئمة.

قوله : وقال : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) الآية ، وجه التمسك به : إنه تعالى أوجب على كلّ طائفة خرجت من فرقة الإنذار ـ وهو الإخبار المخوف ـ عند الرجوع إليهم ، وإنما أوجب الإنذار طلبا للحذر لقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) والترجّي من الله تعالى محال ، فيحمل على الطلب اللازم وهو من الله تعالى أمر فيقتضي وجوب الحذر ، والثلاثة فرقة والطائفة منها إمّا واحد أو اثنان ، فإذا روى الراوي ما يقتضي المنع من فعل وجب تركه لوجوب الحذر على السامع ، وإذا وجب العمل بخبر الواحد والاثنين هاهنا وجب مطلقا ، إذ لا قائل بالفرق.

ولا يقال : الطائفة اسم للجماعة ، بدليل لحوق هاء التأنيث بها فلا يصح حملها على الواحد والاثنين. لأنا نقول : اختلف المتقدّمون في تفسيرها ، فقيل : هي اسم لعشرة ، وقيل : لثلاثة ، وقيل : لاثنين ، وقيل : لواحد وهو الأصح ، فإنّ

٢٤

المراد من قوله تعالى : ( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الواحد فصاعدا. كذا قال قتادة ، وكذا نقل في سبب نزول قوله تعالى : ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) إنهما كانا رجلين أنصاريين بينهما مدافعة في حق فجاء أحدهما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم دون الآخر. وقيل : كان أحدهما من أصحاب النبي عليه‌السلام والآخر من أتباع عبد الله بن أبي المنافق على ما عرف. على أنّا لو حملناها على أكثر ما قيل وهو العشرة لا ينتفي توهّم الكذب عن خبرهم ، ولا يخرج خبرهم عن الآحاد إلى التواتر.

ولا يقال : سلّمنا أن الراجع مأمور بالإنذار بما سمعه ، ولكن لا نسلّم أن السامع مأمور بالقبول ، كالشاهد الواحد مأمور بأداء الشهادة ولا يجب القبول ما لم يتم نصاب الشهادة وتظهر العدالة بالتزكية. لأنا نقول : وجوب الإنذار مستلزم لوجوب القبول على السامع كما بيّنا ، كيف وقوله تعالى : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يشير إلى وجوب القبول والعمل. فأما الشاهد الواحد فلا نسلّم أن عليه وجوب أداء الشهادة ، لأن ذلك لا ينفع المدعي وربما يضرّ بالشاهد بأن يحدّ حد القذف إذا كان المشهود به زنا ولم يتم نصاب الشهادة.

وهذا أي الدليل على قبول خبر الواحد في كتاب الله أكثر من أن يحصى. منه :

قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أمر بسؤال أهل الذكر ولم يفرّق بين المجتهد وغيره ، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الاخبار بما سمع دون الفتوى ، ولو لم يكن القبول واجبا لما كان السؤال واجبا.

ومنه : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ ) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله. ومن أخبر عن الرسول بما سمع فقد قام بالقسط وشهد لله وكان ذلك واجبا عليه بالأمر ، وإنما يكون واجبا لو كان القبول واجبا وإلاّ كان وجوب الشهادة كعدمها وهو ممتنع.

ومنه : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى )

٢٥

الآية. أوعد على كتمان الهدى فيجب على من سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا إظهاره ، فلو لم يجب علينا قبوله لكان الاظهار كعدمه.

ومنه : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ) أمر بالتبيّن والتثبّت ، وعلّل بمجيء الفاسق بالخبر ، إذ ترتيب الحكم على الوصف لمناسب يشعر بالعليّة ، ولو كان كون الخبر من أخبار الآحاد مانعا من القبول لم يكن لهذا التعليل فائدة ، إذ علّية الوصف اللازم تمنع من عليّة الوصف العارض ، فإنّ من قال : الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده يستقبح ويسفّه ، لأن الموت ما كان وصفا لازما صالحا لعلية امتناع صدور الكتابة عن الميت استحال تعليل امتناع الكتابة بالوصف العارض وهو عدم الدواة والقلم.

وفي كلّ من هذا التمسكات اعتراضات مع أجوبتها تركناها احترازا عن لإطناب.

قوله : مثل خبر بريرة في الهدية. فإنه روي أنه عليه‌السلام قبل قولها في الهدية. وخبر سلمان في الهدية والصدقة ، فإنه روي أنّ سلمان رضي‌الله‌عنه كان من قوم يعبدون الخيل البلق ، فوقع عنده أنه ليس على شيء ، وجعل ينتقل من دين إلى دين طالبا للحق حتى قال له بعض أصحاب الصوامع : لعلّك تطلب الحنيفية وقد قرب أوانها فعليك بيثرب ، ومن علامات النبي المبعوث أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة. فتوجّه نحو المدينة فأسره بعض العرب وباعه من اليهود بالمدينة ، وكان يعمل في نخيل مولاه بإذنه ، حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ، فلما سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام أتاه بطبق فيه رطب ووضعه بين يديه فقال : ما هذا؟ فقال : صدقة. فقال لأصحابه : كلوا ، ولم يأكل. فقال سلمان في نفسه : هذه واحدة. ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب فقال : ما هذا يا سلمان؟ فقال : هدية. فجعل يأكل ويقول لأصحابه : كلوا. فقال سلمان : هذه أخرى. ثم تحوّل خلفه فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مراده فألقى الرداء من كتفيه حتى نظر سلمان إلى خاتم النبوّة

٢٦

بين كتفيه فأسلم. فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله في الصدقة والهدية ، مع أنه كان عبدا حينئذ.

وذلك أي قبول خبر الواحد منه كثير ، فإنّه قبل خبر أم سلمى في الهدايا أيضا. وكانت الملوك يهدون إليه على أيدي الرسل وكان يقبل قولهم ، ولا شك أن الإهداء منهم لم يكن على أيدي قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب. وكان يجيب دعوة المملوك ويعتمد على خبره أني مأذون. وقبل شهادة الأعرابي في الهلال ، وقبل خبر الوليد بن عقبة حين بعثه ساعيا إلى قوم فأخبر أنهم ارتدّوا حتى أجمع النبي صلّى الله عليه وسلّم على غزوهم فنزل قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) الآية. وكان يقبل أخبار الجواسيس والعيون المبعوثة إلى أرض العدو.

ومشهور عنه أي قد اشتهر واستفاض بطريق التواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه بعث الأفراد إلى الآفاق لتبليغ الرسالة وتعليم الأحكام ، فإنه بعث عليا رضي‌الله‌عنه إلى اليمن أميرا ، وبعده بعث معاذا أيضا إلى اليمن أميرا لتعليم الأحكام والشرائع ، وبعث دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى قيصر وهرقل بالروم ، وبعث عتّاب بن أسيد إلى مكة أميرا معلّما للشرائع ، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى ، وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة ، وعثمان ابن أبي العاص إلى الطائف وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية ، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق ، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن خليفة باليمامة ، وأنفذ عثمان بن عفان إلى أهل مكة عام الحديبية ، وولّى على الصدقات عمر ، وقيس بن عاصم ، ومالك بن نويرة ، والزبرقان بن بدر ، وزيد بن حارثة ، وعمرو بن العاص ، وعمرو ابن حزم ، وأسامة بن زيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وإنما بعث هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقيموا الحجة ، ولم يذكر في موضع مّا أنه بعث في وجه واحد عددا يبلغون حدّ التواتر وقد ثبت باتفاق أهل السير أنّه كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته وحكامه ، وإن احتاج في كل رسالة

٢٧

إلى إنفاذ عدد التواتر لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره ، وتمكّن منه أعداؤه وفسد النظام والتدبير ، وذلك وهم باطل قطعا.

فتبين بهذا أنّ خبر الواحد موجب للعمل مثل التواتر ، وهذا دليل قطعي لا يبقى معه عذر في المخالفة. كذا ذكر الغزالي وصاحب القواطع.

قوله : وكذلك الصحابة عملوا بالآحاد وحاجّوا بها في وقائع خارجة عن العد والحصر من غير نكير منكر ولا مدافعة دافع ، فكان ذلك منهم إجماعا على قبولها وصحة الإحتجاج بها.

فمنها : ما تواتر أن يوم السقيفة لّما احتجّ أبو بكر رضي‌الله‌عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام : الأئمة من قريش ، قبلوه من غير إنكار عليه.

ومنها : رجوعهم إلى خبر أبي بكر رضي‌الله‌عنه في قوله عليه الصلاة والسلام : الأنبياء يدفنون حيث يموتون. وقوله عليه الصلاة والسلام : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة. ومنها : رجوعه إلى توريث الجدّة بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطاها السدس ، ونقضه حكمه في القضية التي أخبر بلال أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكم فيها بخلاف ما حكم هو فيها.

ورجوع عمر رضي‌الله‌عنه عن تفصيل الأصابع في الدية ـ حيث كان يجعل في الخنصر ستة من الإبل وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الإبهام خمسة عشر ـ إلى خبر عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرة. وعن عدم توريث المرأة من دية زوجها إلى توريثها منها بقول الضحاك بن مزاحم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ، وعمله بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله عليه الصلاة والسلام : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، وعمله بخبر حمل بن مالك وهو قوله : كنت بين جارتين لي يعني ضرّتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميّتا ، فقضى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغرّة.

فقال عمر رضي‌الله‌عنه : لو لم

٢٨

نسمع هذا لقضينا فيه برأينا.

ومنها : إن عثمان رضي‌الله‌عنه أخذ برواية فريعة بنت مالك حين قالت : جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال : امكثي حتى تنقضي عدّتك ، ولم ينكر الخروج للاستفتاء في أن المتوفى عنها زوجها تعتدّ في منزل الزوج ولا تخرج ليلا ولا نهارا إذا وجدت من يقوم بأمرها.

ومنها : ما اشتهر من عمل علي رضي‌الله‌عنه برواية المقداد في حكم المذي ، ومن قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور : كنت إذا سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدّثني غيره حلّفته فإذا حلف صدّقته. والتحليف إنما كان للاحتياط في سياق الحديث على وجهه ، ولئلا يقدم على الرواية بالظن ، لا لتهمة الكذب.

ومنها : رجوع الجمهور إلى خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل بالتقاء الختانين.

ومنها : عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الرّبا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة. ومنها : عمل زيد بن ثابت رضي‌الله‌عنه بخبر امرأة من الأنصار أنّ الحائض تنفر بلا وداع ، بعد أن كان لا يرى ذلك. ومنها : ما روي عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا إذ أتانا آت وقال : إن الخمر قد حرّمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقمت إلى مهر ليس لنا فضربتها إلى أسفله حتى تكسّرت. ومنها : ما اشتهر من عمل أهل قبا في التحوّل عن القبلة إلى الكعبة حيث أخبرهم واحد أن القبلة نسخت. ومنها : ما روي عن ابن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسا ، حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المخابرة فانتهينا.

وعلى ذلك جرت سنّة التابعين كعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وسعيد ابن جبير ، ونافع بن جبير ، وخارجة بن زيد ، وأبي سليمان بن عبد الرحمن ، وسليمان

٢٩

ابن بشار ، وعطاء بن بشار ، وطاوس ، وسعيد بن المسيب ، وفقهاء الحرمين. وفقهاء البصرة ، كالحسن ، وابن سيرين. وفقهاء الكوفة وتابعيهم ، كعلقمة والأسود والشعبي ، ومسروق. وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء من غير إنكار عليهم من أحد في عصر.

واعلم أنّ هذه الأخبار وإن كانت أخبار آحاد لكنها متواترة من جهة المعنى ، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة علي رضي‌الله‌عنه. فلا يكون لقائل أن يقول : ما ذكرتموه في إثبات كون خبر الواحد حجة هي أخبار آحاد ، وذلك يتوقف على كونها حجة فيدور. ولئن قال الخصوم : لا نسلّم أنهم عملوا بها بل لعلّهم عملوا بغيرها من نصوص متواترة أو أخبار آحاد مع ما اقترن بها من المقاييس وقرائن الأحوال. فلا وجه له ، لأنه عرف من سياق تلك الأخبار أنهم إنما عملوا بها على ما قال عمر رضي‌الله‌عنه : لو لم نسمع بهذا لقضينا برأينا ، وحيث قال ابنه : حتى روى رافع بن خديج إلى آخره.

فإن قيل : ما ذكرتم من قبولهم خبر الواحد معارض بإنكارهم إيّاه في وقائع كثيرة ، فإن أبا بكر رضي‌الله‌عنه أنكر خبر المغيرة في ميراث الجدّة حتى انضمّ إليه رواية محمد بن مسلمة ، وأنكر عمر رضي‌الله‌عنه خبر فاطمة بنت قيس في السكنى ، وأنكرت عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ، وردّ علي رضي‌الله‌عنه خبر معقل بن سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق. قلنا : إنهم إنما أنكروا لأسباب عارضة ، من وجود معارض أو فوات شرط ، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها. فلا يدل على بطلان الأصل ، كما أن ردّهم بعض ظواهر الكتاب وتركهم بعض أنواع القياس ، وردّ القاضي بعض الشهادات لا يدل على بطلان الأصل.

قوله : وقد ذكر محمد في هذا أي قبول خبر الواحد غير حديث أي أحاديث كثيرة ، وقد ذكرنا أكثرها فيما أوردناه واختصرنا هذه الجملة ، أي اكتفينا بإيراد ما ذكرنا من خبر بريرة وسلمان وتبليغ معاذ وغيرها ولوضوحها. أو معناه : لم نذكر ما

٣٠

أورده محمد لشهرتها. ولفظ التقويم : ونحن سكتنا عنها اختصارا واكتفاء بما فعل الناس.

قوله : وأجمعت الامة على كذا. أي الإجماع منهم في هذه الصور على القبول يدل على ثبوت الحكم في المتنازع فيه. وبيانه : إن الإجماع قد انعقد منهم على قبول خبر الواحد في المعاملات ، فإن العقود كلّها بنيت على أخبار الآحاد ، مع أنّه قد يترتّب على خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى كما في الإخبار بطهارة الماء ونجاسته ، والإخبار بأن هذا الشيء أو هذه الجارية أهدى إليك فلان ، وأنّ فلانا وكّلني ببيع هذه الجارية ، أو بيع هذا الشيء. وأجمعوا أيضا على قبول شهادة من لا يقع العلم بقوله ، مع أنها قد يكون في إباحة دم وإقامة حدّ واستباحة فرج ، وعلى قبول قول المفتي للمستفتي مع أنه قد يجيب بما بلغه عن الرسول عليه التحية والسلام بطريق الآحاد ، فإذا جاز القبول فيما ذكرنا من أمر الدين والدنيا جاز في سائر المواضع.

فإن قيل : الفرق بين المحلّين ثابت ، فإنّ في بعض المعاملات قد يقبل خبر من يسكن القلب إلى صدقه من صبي وفاسق بل كافر ، ولا يقبل خبر هؤلاء في أخبار الدين ، فكيف يحتجّ بهذا الفصل مع وقوع الفرق بينهما؟ قلنا : محل الاستدلال هو استعمال قول من لا يؤمن الغلط عليه ووقوع الكذب منه وهو موجود في الأمرين ، وإن كان أحدهما يتساهل فيه ما لا يتساهل في الآخر ، وإنما يراعى في الجمع والفرق الوصف الذي يتعلق به الحكم دون ما عداه. وما ذكروا من الفرق بين المعاملات وأخبار الدين ليس بصحيح ، لأن الضرورة متحققة في الأخبار كتحققها في المعاملات ، لأن المتواتر لا يوجد في كل حادثة ولو ردّ خبر الواحد بشبهة في النقل لتعطّلت الأحكام ، فأسقطنا اعتبارها في حق العمل كما في القياس والشهادة.

وأما الجواب عن تمسّكهم بالآيتين فنقول : لا نسلّم أن المراد منهما المنع عن اتّباع الظن مطلقا ، بل المراد المنع من اتّباعه فيما المطلوب منه العلم اليقين من

٣١

اصول الدين وفروعه. وقيل : المراد من الآية أعني قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) منع الشاهد من جزم الشهادة إلاّ بما يتحقق. على أنّا ما اتّبعنا الظن فيه وإنما اتّبعنا الدليل القاطع الذي يوجب العمل بخبر الواحد من السنّة المتواترة والإجماع » (١).

وقال الفخر الرازي ما نصه : « المسلك الرابع : الإجماع. العمل بالخبر الذي لا يقطع مجمع عليه بين الصحابة ، فيكون العمل به حقّا. إنما قلنا : إنه مجمع عليه بين الصحابة ، لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع على صحته ، ولم يبد من أحدهم إنكار على فاعله ، وذلك يقتضي حصول الإجماع. وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين :

الأول : وهو أنه روي بالتواتر أن يوم السقيفة لّما احتج أبو بكر رضي‌الله‌عنه على الأنصار بقوله عليه‌السلام : الأئمة من قريش ، مع كونه مخصصا لعموم قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قبلوه ولم ينكر عليه أحد ، ولم يقل أحد : كيف تحتجّ علينا بخبر لا نقطع بصحته ، فلمّا لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كالأصل المقرّر عندهم.

الثاني : الاستدلال بأمور لا ندّعي التواتر في كلّ واحد منها بل في مجموعها ، وتقريره : إن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد ، ثم نبيّن أنهم عملوا به لا بغيره. وأما المقام الأول فبيانه بصور :

( أ ) رجوع الصحابة إلى خبر الصديق رضي الله عنهم في قوله عليه‌السلام : الأنبياء يدفنون حيث يموتون. وفي قوله : الأئمة من قريش. وفي قوله عليه‌السلام : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.

( ب ) روي أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه رجع في توريث الجدّة إلى خبر المغيرة ابن شعبة ومحمد بن مسلمة ، ونقل عنه أيضا أنه قضى بقضيّة بين اثنين فأخبره

__________________

(١) كشف الأسرار ٢ / ٦٧٨ ـ ٦٩٤.

٣٢

بلال أنه عليه‌السلام قضى بخلاف قضائه فنقضه.

( ج ) روي أن عمر رضي‌الله‌عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينهما ، فيجعل في الخنصر ستّة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة ، وفي الإبهام خمسة عشر ، فلما روي له في كتاب عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرة رجع من رأيه. وقال في الجنين : رحم الله أمرأ سمع من رسول الله عليه‌السلام شيئا. فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بغرّة. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : لو لا سمعنا هذا لقضينا فيه بغيره.

( د ) وإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها ، فأخبره الضحاك أنه عليه‌السلام كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع إليه.

( ه‍ ) تظاهرت الرواية أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في المجوس : ما أدري ما الذي أصنع بهم ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : سنّوا بهم سنة أهل الكتاب ، فأخذ منهم الجزية وأقرّهم على دينهم.

( و) أنه ترك رأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن.

( ز ) روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك اخت أبي سعيد الخدري حين قالت : جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال عليه‌السلام : امكثي في بيتك حتى تنقضي عدّتك ، ولم ينكر عليها الاستفتاء ، فأخذ عمر روايتها في الحال في أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ، ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها.

( ح ) اشتهر عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يحلّف الراوي ، وقبل رواية أبي بكر رضي‌الله‌عنه من غير حلف. وأيضا : قبل رواية المقداد في حكم المذي.

( ط ) رجوع الجماهير إلى قول عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من التقاء الختانين.

( ي ) رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد.

٣٣

( يا ) قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنّا نخابر أربعين سنة ولا نرى بها بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه‌السلام عن المخابرة.

( يب ) قال أنس : كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيّ بن كعب شرابا أتانا آت فقال : حرمت الخمر. فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقمت فكسرتها.

( يج ) اشتهر عمل أهل قبا في التحوّل عن القبلة بخبر الواحد.

( يد ) قيل لابن عباس رضي الله عنهما : إن فلانا يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل فقال ابن عبّاس : كذب عدو الله ، أخبرني أبيّ بن كعب قال : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.

( يه ) عن أبي الدرداء أنّه لّما باع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضّة بأكثر من وزنها قال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عنه. فقال معاوية : لا أرى به بأسا. فقال أبو الدرداء : من معذري من معاوية! أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وهو يخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أبدا.

فهذه الأخبار قطرة من بحار هذا الباب ، ومن نظر في كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حدّ له ولا حصر ، وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكنّ القدر المشترك بين الكلّ وهو العمل على وفق الخبر الذي لا يعلم صحته معلوم ، فصار ذلك متواترا في المعنى.

أما المقام الثاني ، وهو أنهم إنما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها ، فبيانه من وجهين : الأول : لو لم يعملوا لأجلها بل لأمر آخر ، إما لاجتهاد تجدّد لهم ، أو ذكروا شيئا سمعوه من الرسول عليه‌السلام ، لوجب من جهة الدين والعادة أن ينقلوا ذلك. أما العادة : فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس عليهم ، ثم زال اللبس عنهم فيه بدليل سمعوه أو لرأي حدث لهم فإنّه لا بدّ لهم

٣٤

من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر والعجب من ذهاب ذلك عليهم ، فإن جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز ذلك في الكل. وأما الدين : فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب آية سمعوها على أنهم عملوا لأجلها. وإيهام الباطل غير جائز » (١).

وقال عضد الدين الإيجي بشرح مختصر ابن الحاجب : « قد ثبت جواز التعبّد بخبر الواحد وهو واقع ، بمعنى أنه يجب العمل بخبر الواحد ، وقد أنكره القاشاني والرافضة وابن داود. والقائلون بالوقوع قد اختلفوا في طريق إثباته ، والجمهور على أنه يجب بدليل السمع ، وقال أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصري بدليل العقل.

لنا : إجماع الصحابة والتابعين ، بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى ، وقد تكرّر ذلك مرة بعد أخرى وشاع وذاع بينهم ، ولم ينكر عليهم أحد وإلاّ نقل ، وذلك يوجب العلم العادي باتّفاقهم كالقول الصريح ، وإن كان احتمال غيره قائما في واحد.

فمن ذلك : عمل أبو بكر بخبر المغيرة في ميراث الجدّة ، وعمل عمر بخبر عبد الرحمن في جزية المجوس ، وبخبر حمل بن مالك في وجوب الغرة بالجنين ، وبخبر الضحاك في ميراث الزوجة من دية الزوج ، وبخبر عمرو بن حزم في دية الأصابع. وعمل عثمان وعلي بخبر فريعة في أن عدّة الوفاة في منزل الزوج ، وعمل ابن عباس بخبر أبي سعيد بالربا في النقد ، وعمل الصحابة بخبر أبي بكر : الأئمة من قريش ، والأنبياء يدفنون حيث يموتون ، ونحن معاشر الأنبياء لا نورّث. إلى غير ذلك مما لا يجدي استيعاب النظر فيه إلاّ التطويل ، وموضعه كتب السير.

وقد اعترض عليه بوجوه ، الأول : قولهم : لا نسلّم أن العمل في هذه

__________________

(١) المحصول في علم الأصول ٢ / ١٨٠ ـ ١٨٤.

٣٥

الوقائع كان بهذه الأخبار ، إذ لعلّه بغيرها ، ولا يلزم من موافقة العمل الخبر أن يكون به على أنه السبب للعمل. والجواب : إنه قد علم من سياقها أن العمل بها ، والعادة تحيل كون العمل بغيرها.

الثاني : قولهم : هذا معارض بأنه أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد ابن مسلمة ، وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستيذان حتى رواه أبو سعيد ، وأنكر خبر فاطمة بنت قيس وقال : كيف نترك كتاب الله بقول امرأة لا نعلم أصدقت أم كذبت ، وردّ علي خبر أبي سنان وكان يحلّف غير أبي بكر ، وأنكرت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. والجواب : إنهم إنما أنكروه مع الارتياب وقصروه في إفادة الظن ، وذلك مما لا نزاع فيه. وأيضا : فلا يخرج بانضمام ما ذكرتم من كونه خبر واحد وقد قبل مع ذلك فهو دليل عليكم لا لكم.

الثالث : إنهم انما قالوا لعلّها أخبار مخصوصة تلقّوها بالقبول ، فلا يلزم في كلّ خبر. الجواب : إنا نعلم أنهم عملوا بها لظهورها وإفادتها الظن لا بخصوصياتها كظواهر الكتاب المتواتر ، وهو اتفاق على وجوب العمل بما أفاد الظن.

ولنا أيضا : تواتر أنه كان صلّى الله عليه وسلّم ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام ، مع العلم بأن المبعوث إليهم كانوا مكلّفين بالعمل بمقتضاه ».

وقال التفتازاني في شرح التوضيح : « واستدلّ على كون الخبر الواحد موجبا للعمل بالكتاب والسنّة. أمّا الكتاب : فقوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ) الآية. وذلك أن لعلّ هنا للطلب أي الإيجاب لامتناع الترجي على الله تعالى ، والطائفة بعض من الفرقة واحد واثنان ، إذ الفرقة هي الثلاثة فصاعدا. وبالجملة لا يلزم أن يبلغ حد التواتر ، فدل على أن قول الآحاد يوجب الحذر. وقد يجاب : بأن المراد الفتوى في الفروع بقرينة التفقّه ، ويلزم تخصيص القوم بغير المجتهدين بقرينة أن المجتهد لا يلزمه وجوب الحذر بخبر الواحد ، لأنه ظنّي وللمجتهد فيه مساغ ومجال. على أن كون لعلّ للإيجاب والطلب محل نظر. ثم قوله تعالى : ( كُلِ )

٣٦

( فِرْقَةٍ ) وإن كان عاما إلاّ أنه قد خصّ بالإجماع على عدم خروج واحد من كل ثلاثة.

وأما السنّة فلأنّه عليه‌السلام قبل خبر بريرة في الهدية ، وخبر سلمان في الهدية والصدقة حين أتى بطبق رطب فقال : هذا صدقة فلم يأكل منه ، وأمر أصحابه بالأكل ، ثمّ أتى بطبق رطب وقال : هذا هدية ، فأكل وأمر أصحابه بالأكل. ولأنه عليه‌السلام كان يرسل الأفراد من أصحابه إلى الآفاق لتبليغ الأحكام وإيجاب قبولها على الأنام. وهذا أولى من الأول لجواز أن يحصل للنبي عليه‌السلام علم بصدقهما ، على أنه إنما يدل على القبول دون وجوبه.

فإن قيل : هذه أخبار آحاد فكيف يثبت به كون خبر الواحد حجة وهو مصادرة على المطلوب؟ قلنا : تفاصيل ذلك وإن كانت آحادا إلاّ أن جملتها بلغت حد التواتر ، كشجاعة علي رضي‌الله‌عنه وجود حاتم ، وإن لم يلزم التواتر فلا أقل من الشهرة.

وربما يستدل بالإجماع ، وهو أنه نقل من الصحابة وغيرهم الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى ، وتكرّر ذلك وشاع من غير نكير ، وذلك يوجب العلم عادة بإجماعهم كالقول الصريح ، وقد دلّ سياق الأخبار على أن العمل في تلك الوقائع كان بنفس خبر الواحد ، وما نقل من إنكارهم بعض أخبار الآحاد إنما كان عن قصور في إفادة الظن ووقوع ريبة في الصدق » (١).

ولقد أكثر العلماء من الأدلة المختلفة في هذه المسألة ، وبلغ القول بحجيّة خبر الواحد حدا من الخطورة ، حتّى ألّف الكثيرون من علماء أهل السنة في هذه المسألة مصنّفات مستقلاّت ، نصّ على ذلك الحافظ النووي حيث قال : « وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعيّة والحجج العقليّة ، على وجوب العمل بخبر.

__________________

(١) التلويح في شرح التوضيح ـ مبحث خبر الواحد.

٣٧

الواحد ، وقد قرّر العلماء في كتب الفقه والأصول ذلك بدلائله ، وأوضحوه أوضح [ أبلغ ] إيضاح ، وصنّف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنّفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد ووجوب العمل به. والله أعلم » (١).

٥ ـ قوله : « خبر الواحد لا يفيد العلم الا بقرائن

وتلك قد تكون منتفية أو خفيّة عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة » والكلام عليه في وجوه :

١ ) قال أحمد : خبر الواحد يفيد العلم مطلقا

إنّ هذا الكلام ردّ على أحمد بن حنبل ، القائل بإفادة خبر الواحد العلم حتى مع عدم القرينة ، فقد ذكر القاضي عضد الدين الإيجي ما نصّه : « قد اختلف في خبر الواحد العدل هل يفيد العلم أو لا؟ والمختار : إنه يفيد العلم لانضمام القرائن ، وعنى به الزائدة على ما لا ينفك التعريف عنه عادة. وقال قوم : يحصل العلم به بغير قرينة أيضا. ثم اختلفوا فقال أحمد في قول : يحصل العلم به بلا قرينة ويطرد ، أي كلّما حصل خبر الواحد حصل العلم. وقال قوم : لا يطرد ، أي قد يحصل العلم به ، لكن ليس كلما حصل حصل العلم به. وقال الأكثرون : لا يحصل العلم به ، لا بقرينة ولا بغير قرينة » (٢).

وقال جلال الدين المحلّي في ( شرح جمع الجوامع ) : « [ مسألة : خبر الواحد لا يفيد العلم إلاّ بقرينة ] كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت ، مع قرينة البكاء ، وإحضار الكفن والنعش. [ وقال الأكثر لا يفيد مطلقا ] وما ذكره من القرينة يوجد مع الإغماء. [ وقال ] الإمام [ أحمد ] يفيد [ مطلقا ] بشرط العدالة ... ».

وقد ردّ عليه العالم الحنفي عبد العلي الملقّب ببحر العلوم حيث قال :

__________________

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم ١ / ٨٥ هامش القسطلاني.

(٢) شرح المختصر ٢ / ٥٥ ـ ٥٦.

٣٨

« وقيل : خبر الواحد العدل يفيد العلم مطلقا ، محفوفا بالقرائن أو لا. فعن الامام أحمد : هذا الحكم مطرد ، فيكون كلّما أخبر العدل حصل العلم. وهذا بعيد عن مثله ، فإنه مكابرة ظاهرة ، قال الإمام فخر الإسلام : وأما دعوى علم اليقين فباطل بلا شبهة ، لأن العيان يردّه من قبل ، وإنّا قد بيّنا أن المشهور لا يوجب علم اليقين ، فهذا أولى ، وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة ، ولا يقين مع الاحتمال ، ومن أنكر هذا فقد أسفه نفسه ، وأضلّ عقله. وقيل : لا يطرد هذا الحاكم بل قد يفيد في بعض الصور ، كرامة من الله تعالى. وهو فاسد أيضا ، لأنه تحكّم صريح » (١).

بل قد علمت من عبارة شرح العضد على مختصر ابن الحاجب أنّ القول بإفادة خبر الواحد للعلم مطلقا هو قول جماعة.

٢ ) قال الأكثر : لا يفيد العلم مطلقا

ومن ناحية أخرى : قد عرفت من عبارة القاضي العضد والجلال المحلّي : أنّ القول بعدم إفادة خبر الواحد للعلم مطلقا هو مذهب أكثر الأصوليين من أهل السنة.

٣ ) لا حاجة إلى القرينة بعد النّص

ثم إنّ الحق الحقيق بالقبول هو : أنّه لا بدّ للمنصوب من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأجل الإخبار والتبليغ عنه إلى الأمّة ، من حجة ـ من نص أو دليل ـ تثبت حقيّته ، كي تقبل منه الأمّة ما يبلّغه إليها ، ومع وجود النّص أو الدليل لا حاجة إلى احتفاف خبره بقرينة ، حتى يقال بأنها : « قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة » ، بل إنّ خبره يكون ـ بسبب النص عليه ـ مفيدا للعلم. وهذا المعنى ثابت فيما نحن فيه ، لإفادة حديث مدينة العلم نصب علي عليه‌السلام لهذا المنصب ، فخبره عليه

__________________

(١) فواتح الرحموت ـ شرح مسلم الثبوت ٢ / ١٢١ هامش المستصفى.

٣٩

السلام مفيد للعلم واليقين.

ومن هنا يظهر أنّ قياس خبره عليه الصلاة والسلام على خبر غيره من آحاد المخبرين كقياس الماء على السّراب ، وهو يخالف الحق والصواب.

٤ ) لما ذا التخصيص بالقرآن والسنة المتواترة؟

ثم إنّ التخصيص بالقرآن والسنة لا وجه له ، لأنه بناء على ما توهّمه ابن تيميّة لا يثبت بخبر هذا المخبر علم مطلقا ، سواء كان قرآنا أو سنة متواترة ، أو سنة غير متواترة ، فقصر نفي العلم على القرآن والسنّة المتواترة لا وجه له ، بل كان مقتضى القاعدة أن يقول : « بالقرآن والسنة غير المتواترة ، بل السنّة المتواترة » كما لا يخفى على البصير بأساليب الكلام.

٦ ـ الإشارة إلى أدلّة عصمة علي عليه‌السلام

وأمّا قوله : « وإذا قالوا : ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم : فلا بدّ من العلم بعصمته أولا » فالكلام عليه بوجوه :

الأول : كأنّ ابن تيميّة لا يعلم بأنّ مقتضى مذهب الإمامية هو القول بعصمة هذا المبلّغ المنصوب للتبليغ!!.

الثاني : إنّ عصمة هذا المبلّغ الواحد ثابتة من حديث مدينة العلم كما عرفت ذلك سابقا ، وقد اعترف به بعض المنصفين من أهل السّنة ، فيكون حديث مدينة العلم دالا على مبلّغية أمير المؤمنين عليه‌السلام وعصمته معا. فبطل قوله : « فلا بدّ من العلم بعصمته أوّلا ».

الثالث : إن عصمة أمير المؤمنين عليه‌السلام ثابتة من آيات من الكتاب ، وأحاديث كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفصيل هذا المطلب موكول إلى محلّه.

الرابع : إن نصب هذا المبلّغ من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ـ عند التأمل ـ عين النصب للإمامة والخلافة ، وقد ثبت في محلّه ضرورة كون

٤٠