نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

(١٢)

مع البنباني

في كلامه حول الحديث

وقال الملاّ محمد يعقوب البنباني في ( عقائده ) في الجواب على استدلال الشيعة بحديث « أنا مدينة العلم » وحديث « أنا دار الحكمة » ما نصّه : « واستدلّ الخصم على تفضيل علي رضي‌الله‌عنه بأنه أعلم ، وهو أولى بالخلافة لأنه تعالى فضّل آدم عليه‌السلام على الملائكة واختاره للخلافة بالعلم. أمّا أنّه كان أعلم فلقوله عليه الصلاة والسلام : أنا مدينة العلم وعليّ بابها. وأنا دار الحكمة وعليّ بابها. وعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم كما هو أزيد كذلك علم عليّ ، وأنه لا يخرج ما في الدار إلاّ من الباب. فعلمه صلّى الله عليه وسلّم إنما وصل بمن وصل من قبل علي رضي‌الله‌عنه.

والجواب : إنّ هذا يوجب أنه لم يبلّغ النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أرسل به إلاّ عليّا ، ثم هو بلّغ غيره. ولا يخفى أنه مما لا يقول به الخصم أيضا. والمراد من الحديث المذكور ـ والله أعلم ـ بيان أن عليّا باب العلوم بالنسبة إلى جماعة لم يدركوا شرف الصحبة. وهذا مبني على أمر وهو : إن أعلم الصحابة هم الخلفاء الراشدون ، وقد كان أبو بكر رضي‌الله‌عنه مقيّدا بأمر الخلافة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة حياته ، ثم عمر رضي‌الله‌عنه كذلك ، ثم عثمان كذلك رضي‌الله‌عنه ، وقد كان علي رضي‌الله‌عنه في أيام خلافتهم مشغولا بالإفادة والإفاضة ، فالذين لم يدركوا شرف الصحبة أتوا اليه وأخذوا منه رضي‌الله‌عنه.

ثم لا أدري أيّ لفظ في الحديث يدل على أن ليس لمدينة العلم إلاّ باب واحد هو علي رضي‌الله‌عنه ، بل يجوز أن يكون لها أبواب ويكون علي كرّم الله وجهه بابا منها ».

والجواب عنه من وجوه :

١٨١

أحدها : إن أساس استدلال الشيعة بحديث « أنا مدينة العلم » كما ذكر البنباني أيضا هو بدلالته على أعلمية الامام أمير المؤمنين ، وهي تكشف عن الأفضلية وتستلزم الخلافة والامامة كما يدلّ عليه قصة آدم عليه‌السلام ... وقد علمت أنّ دلالة الحديث على الأعلميّة تامّة بكلّ وضوح ، حتى اعترف بها جماعة من علماء أهل السنّة ، وذكر المنّاوي أنها مما اتّفق عليه الموافق والمخالف ، ومن هنا ترى البنباني عاجزا عن الجواب على هذا الاستدلال القوي المتين ، بل زاد في تقريره جملة : « وعلم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما هو أزيد كذلك علم علي ».

الثاني : قد ذكر البنباني وجه استدلال الشيعة بحديث « أنا دار الحكمة » بقوله : « وأنه لا يخرج ما في الدار ... ». لكنّه لم يفهم مراد الشيعة من ذلك ، وإلاّ لم يقل في الجواب : « والجواب ـ إن هذا يوجب ... » إذ ليس مرادهم ذلك أبدا ، بل المراد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أودع جميع علوم الشريعة ـ المعبّر عنها بالحكمة ـ عند علي عليه‌السلام ، وأمر الأمة بالرجوع إليه والأخذ منه ، وأنّه لم يصل شيء من علومه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأمّة إلاّ بواسطة الإمام عليه‌السلام.

على أنّه لا يخفى على المتأمّل الفرق بين تبليغ النبي ما أرسل به ، وتبليغه علم ما أرسل به ، ومن هنا ترى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلّغ ما أرسل به ـ وهو القرآن ـ إلى جميع الناس ، ولكن لا يمكن القول بأنّه بلّغ علم القرآن إلى جميع الناس كذلك ، نعم علّمه أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعله مبلّغا لعلوم القرآن إلى الناس قاطبة ، ومن هنا ذكروا أن فهم كتاب الله منحصر إلى علمه عليه‌السلام ، قال المناوي : « قال الحرالي : قد علم الأوّلون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب [ الغيوب ] الحجاب ، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه » (١) ... فإذا كان هذا حال علم القرآن الذي أمر

__________________

(١) فيض القدير ٣ / ٤٧.

١٨٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه إلى جميع الناس ، فالعلوم الأخرى منحصرة إلى فهمه عليه‌السلام بالأولوية القطعيّة.

دعوى تخصيص كونه بابا لغير الصحابة

الثالث : دعوى تخصيص كون الامام عليه‌السلام باب العلوم إلى جماعة لم يدركوا شرف الصحبة ، هذه الدعوى التي ذكرها بقوله : « والمراد من الحديث المذكور ـ والله أعلم ـ بيان أن عليا باب العلوم الشّرعيّة ... » تخرّص باطل ، فإنّه تخصيص بلا مخصّص ، ويبطله اعتراف أصحاب الشورى ـ فيما رواه المحدّث الشيرازي في ( روضة الأحباب ) بأنّ حديث : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » جاء ليعلم الصحابة بأنّ عليا باب مدينة علم الأوّلين والآخرين ، فكيف تختص با بيّته بجماعة لم يدركوا شرف الصحبة؟ بل لو كان معنى الحديث ما ذكره البنباني لما احتج به الامام عليه‌السلام ـ فيما احتج به ـ على أصحاب الشورى ، ولما اعترف القوم بما أراد الامام من الاحتجاج به.

ومما يبطل هذا المعنى الذي ذكره البنباني إقرار الأصحاب بأعلميّة الإمام عليه‌السلام ، فهذا ابن عباس يقول ـ فيما يرويه الشيخاني القادري في ( الصراط السوي ) ـ : « من أتى العلم فليأت الباب وهو علي رضي‌الله‌عنه » ، وهذا عمرو ابن العاص يحتجّ بهذا الحديث على معاوية في كتاب له إليه ـ فيما رواه الخوارزمي في ( المناقب ) ويقول : « وأكّد القول عليك وعلى جميع المسلمين وقال : إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي ، وقد قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

ومن هنا ترى الحافظ الزرندي يقول في عنوان الحديث : « فضيلة أخرى اعترف بها الأصحاب وابتهجوا ، وسلكوا طريق الوفاق وانتهجوا ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد بابها فليأت عليا ».

١٨٣

دعوى أنّ أعلم الصحابة هم الخلفاء

ثم إنّ الأمر الذي بنى عليه البنباني المعنى الذي ذكره لحديث المدينة ، وهو : « أنّ أعلم الصحابة هم الخلفاء الراشدون ... » باطل من وجوه أيضا.

أمّا أولا : فإن الثلاثة ليسوا من الخلفاء الراشدين عن رسول رب العالمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصومين.

وأمّا ثانيا : فلأن أحدا من أهل الإنصاف لا يرتضي القول بأعلميّة الثلاثة من : سلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمار ، وابن عباس ، وحذيفة ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأبي الدرداء ، وجابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري ، وأمثالهم من مشاهير الأصحاب ... بل إنّ هؤلاء ، بل ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وزيد ابن ثابت وأضرابهم ... أعلم من الثلاثة قطعا ... بل الحق أن الثلاثة لم يحصلوا على شيء من العلوم ، وتلك آثار جهلهم بالأمور الواضحة مشهودة ومشهورة ، وستقف على ذلك فيما بعد بالتفصيل إن شاء الله.

وأمّا ثالثا : فلأنهم لو كانوا علماء لأفادوا وأفاضوا ، وظهرت الآثار واشتهرت الشواهد على بلوغهم المراتب العلميّة في الموارد المختلفة ، وانتشرت بواسطتهم أحكام الحلال والحرام ، من غير أن يمنعهم عن ذلك الخلافة ، بل إنه من أجلّ وأهمّ أعمال خليفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ألا ترى أنّ الامام عليه‌السلام ـ على قصر مدّته ـ لم تشغله الحروب عن نشر العلوم الجليلة والمعارف السّامية ، ولقد صدق ضرار حيث قال في وصفه عليه‌السلام : « يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه » كما رواه ابن عبد البر القرطبي بترجمته عليه‌السلام في ( الاستيعاب ).

وأمّا رابعا : سلّمنا أنّ تقيّدهم بأمر الخلافة منعهم عن الإفادة ، فما الذي منعهم عنها في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وما الذي منع عمر وعثمان عنها أيام أبي بكر؟ وما الذي منع عثمان عنها أيام عمر؟ نعم إنهم يقولون بأن عمر

١٨٤

وعثمان كانا يفتيان في خلافة أبي بكر ، وأن عثمان كان يفتي في خلافة عمر ... ، قال ابن سعد : « أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي ، نا جارية بن أبي عمران ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه : إن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه ، دعا رجالا من المهاجرين والأنصار ، دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ، وكلّ هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر ، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء ، فمضى أبو بكر على ذلك ، ثمّ ولّي عمر فكان يدعو هؤلاء النفر ، وكانت الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان وأبي وزيد » (١).

لكن ما السّبب في عدم ظهور آثار أعلميّة عمر وعثمان للمستفيدين والمستفتين بل لغيرهم؟ بل لم تظهر آثار عالميّتهم ، ولم نعثر على ما يدلّ على رسوخ قدم لهم في العلم ...

وقد رووا أيضا : إنّ عمر كان يشغل منصب القضاء على عهد أبي بكر ، روى ابن عبد البرّ عن إبراهيم النخعي : « قال : أول من ولّي شيئا من أمور المسلمين عمر بن الخطاب ، ولاّه أبو بكر القضاء ، وكان أول قاض في الإسلام ، وقال : اقض بين الناس فإني في شغل » (٢) ، وروى الطبري : « واستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب ، فكان على القضاء أيام خلافته » (٣). وروى ابن الأثير : « وفيها استقضى أبو بكر عمر بن الخطاب ، وكان يقضي بين الناس خلافته كلّها » (٤) ، والقضاء من أحسن أسباب ظهور الآثار ، فأين قضايا عمر الدالّة على سعة علمه فضلا عن أعلميّته؟ ولما ذا لم يذكروا قضية واحدة ـ ولو مفتعلة ـ من قضاياه على عهد أبي بكر ، تدلّ على عالميّته فضلا عن أعلميّته؟

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٥٠.

(٢) الاستيعاب ٣ / ١١٥٠.

(٣) تاريخ الطبري حوادث سنة ١١.

(٤) الكامل في التاريخ. حوادث سنة ١١.

١٨٥

بل إنهم يروون اشتغال الثلاثة بالقضاء أيّام خلافتهم ... قال السيوطي : « وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الأمر سنّة قضى به ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال : أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلّهم يذكر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه قضاء ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا ، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع رؤس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به. وكان عمر رضي‌الله‌عنه يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنّة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء ، فإن وجد أبا بكر قد قضى فيه بقضاء قضى به وإلاّ دعا رؤس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به » (١). وقد رواه المتقي في ( كنز العمال ) والمحبّ الطبري ـ قبل السيوطي ـ في ( الرياض النضرة ).

ولكن أين آثار أعلميّتهم؟ بل إنّ أكثر تلك الأخبار يشتمل على شواهد بيّنة على جهلهم وبلادتهم ... وسنذكر بعضهم فيما بعد إن شاء تعالى فانتظر.

وأمّا خامسا : فرضنا أنّ تقيّدهم بأمر الخلافة منعهم عن الإفادة ونشر العلوم والآثار الدالّة على أعلمّيتهم ، لكنّ التقيّد بأمر الخلافة لا يوجب ظهور آثار الجهل والضلال منهم ، فإذا كان من المعقول اختفاء أعلميّة شخص أو علم عالم بوجه من الوجوه ، فإن شيئا لا يكون سببا في ظهور جهله ، بل لا يعقل ذلك مع فرض عالميّته فضلا عن كونه الأعلم ، لأن العلم والجهل ضدّان ، مع أنّ آثار الجهل المنقولة عنهم كثيرة جدّا بحيث لا تقبل الستر والكتمان.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٤٢.

١٨٦

أخذ الخلفاء وغيرهم من الامام

وأمّا قول البنباني : « وقد كان علي رضي‌الله‌عنه في أيام خلافتهم مشغولا بالإفادة والإفاضة ، فالذين لم يدركوا شرف الصحّبة أتوا إليه وأخذوا منه رضي‌الله‌عنه » ففيه : إنّ الامام عليه‌السلام كان مشغولا بالإفادة والإفاضة وسائر شئون الإمامة والخلافة طيلة أيام حياته الكريمة الشّريفة ، ولم يكن الأخذ منه منحصرا بالذين لم يدركوا شرف الصحّبة ، بل لقد أخذ منه كبار الصحابة ، والخلفاء الثلاثة ، وأئمة التابعين ... كما عرفت وستعرف إن شاء الله ربّ العالمين ... ولقد اشتهر عن عمر قوله : « لو لا علي لهلك عمر » وقوله : « أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن » حتى صار من الأمثال ... واشتهر رجوعهم إليه حتى اعترف بذلك كبار علماء أهل السنة سلفا وخلفا :

قال ابن الأثير : « وله أخبار كثيرة نقتصر على هذا منها ، ولو ذكرنا ما سأله الصحابة مثل عمر وغيره رضي الله عنهم لأطلنا » (١).

وقال الكنجي : « ومع هذا ، فقد قال العلماء من الصحابة والتابعين وأهل بيته بتفضيل علي ، وزيادة علمه وغزارته وحدّة فهمه ووفور حكمته وحسن قضاياه وصحة فتواه ، وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام ، ويأخذون بقوله في النقض والإبرام ، اعترافا منهم بعلمه ووفور فضله ورجاحة عقله وصحة حكمه » (٢).

وقال النووي : « وسؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور » (٣).

وقال شهاب الدين أحمد : « وهو كان بإجماع الصحابة مرجوعا إليه في

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٢٣.

(٢) كفاية الطالب : ٢٢٣.

(٣) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٣٤٦.

١٨٧

علمه ، موثوقا بفتواه وحكمه ، والصحابة كلّهم يراجعونه فيما أشكل عليهم ولا يسبقونه ، ومن هذا المعنى قال عمر : لو لا علي لهلك عمر. رضي الله تعالى عنهم » (١).

وقال القاري : « والمعضلات التي سأله كبار الصحابة ورجعوا إلى فتواه فيها [ فيها ] فضائل كثيرة شهيرة ، تحقق قوله عليه‌السلام : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وقوله عليه‌السلام : أقضاكم علي » (٢).

وقال عبد الحق الدهلوي : « وسؤال كبار الصحابة ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه يرجع إليه ويسأله ولا يحكم حتى يسأله ، وكان يقول : أقضانا علي » (٣).

وقال نصر الله الكابلي ـ في مبحث حديث السفينة ، في ذكر أهل البيت ـ :

« ولا شك أن الفلاح منوط بولائهم وهداهم ، والهلاك بالتخلّف عنهم ، ومن ثمة كان الخلفاء والصحابة يرجعون إلى أفضلهم فيما أشكل عليهم من المسائل » (٤).

وقال العجيلي : « ولم يكن يسأل منهم واحدا ، وكلّهم يسأله مسترشدا ، وما ذلك إلاّ لخمود نار السؤال تحت نور الإطّلاع » (٥).

وقال الحفني : « قوله : عيبة علمي. أي وعاء علمي الحافظ له ، فإنه باب مدينة العلم ، ولذا كانت الصحابة تحتاج إليه في فكّ المشكلات » (٦).

وقال البنباني نفسه : « وكفاك شاهدا على كونه أعلم : إن سلاسل العلماء من المفسرين وأهل العربية وغيرهم والعرفاء تنتهي إليه ، وأن الحكماء كانوا يعظّمونه غاية التعظيم ، والكبراء من الصحابة كانوا يرجعون إليه فيما كان يشكل

__________________

(١) توضيح الدلائل ـ مخطوط.

(٢) شرح الفقه الأكبر : ١١٣.

(٣) أسماء رجال المشكاة ـ ترجمة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٤) الصواقع الموبقة ـ مخطوط.

(٥) ذخيرة المآل ـ مخطوط.

(٦) حاشية الجامع الصغير : ١٧٦.

١٨٨

عليهم ، وهو المجيب عن شبهات اليهود وظلمات النصارى ، كما هو المعروف والمشهور » (١).

فهذه كلمات القوم في رجوع الصحابة والخلفاء إلى الامام عليه‌السلام ، وهذا كلام البنباني نفسه ، وكفى بذلك شاهدا على خزيه وافتضاحه.

دلالة الحديث على أنّ للمدينة بابا واحدا فقط

وآخر ما قال البنباني هنا هو قوله : « ثم لا أدري أيّ لفظ في الحديث يدلّ على أن ليس لمدينة العلم إلاّ باب واحد هو علي رضي‌الله‌عنه ، بل يجوز أن يكون لها أبواب ، ويكون علي كرّم الله وجهه بابا » وهو يدلّ على شدة جهله ، إذ لا ريب في وجود لفظ « بابها » في هذا الحديث ، ومن كان له أدنى شعور فهم منه وحدة الباب.

وأيضا : يدل على وحدة الباب سياق الحديث بجميع ألفاظه ، الدال على أنّ غرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختصاص شرف البابية بعلي عليه‌السلام ، كما اختصّ بنفسه الشريفة شرف كونه مدينة العلم ... وللحديث ذيل في كثير من طرقه يزيد معنى الحديث وضوحا ويؤكّده ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فمن أراد العلم فليأت الباب » وقوله : « فمن أراد العلم فليأت باب المدينة » وقوله : « فمن أراد المدينة فليأت الباب » وقوله : « فمن أراد المدينة فليأتها من بابها » وقوله : « فمن أراد العلم فليأته من بابه » وقوله : « أنا مدينة العلم وأنت بابها يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها » وقوله : « أنا مدينة العلم وأنت الباب ، كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلاّ من قبل الباب » ... وهذه الألفاظ وردت في طرق الحاكم ، والحدثاني ، والطبري ، والطبراني ، والحربي ، وابن المغازلي ، كما دريت سابقا فلا تكن من الذاهلين.

__________________

(١) شرح تهذيب الكلام ـ مبحث الامامة.

١٨٩

مضافا : إلى ما سبق عن كتاب ( المناقب لابن المغازلي ) من أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري روى الحديث قائلا : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم الحديبيّة ـ وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ـ : هذا أمير البررة وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، ثم مدّ بها صوته فقال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب » (١).

ومن هنا : رأيت الأصحاب متّفقين على هذا المعنى ، احتج به الامام على أصحاب الشورى واعترفوا به ، واحتج به ابن عباس في مقابلة عائشة ، وعمرو بن العاص في مقابلة معاوية ...

ولمّا رأى علماء أهل السنّة ذلك : اعترفوا بهذا المعنى ولم يكن لهم مناص من ذلك :

قال الكنجي : « الباب الثامن والخمسون ـ في تخصيص علي رضي‌الله‌عنه بقوله صلّى الله عليه وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها » (٢).

وقال محبّ الدين الطبري : « ذكر اختصاصه بأنه باب دار العلم وباب مدينة العلم ـ عن علي رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا دار العلم وعلي بابها. أخرجه في المصابيح في الحسان ، وأخرجه أبو عمر وقال : أنا مدينة العلم ، وزاد : فمن أراد العلم فليأته من بابه » (٣).

وقال الحسين بن محمد الفوزي في ( نزهة الأرواح ) في مدح الامام : « هو الذي لولاه لم يكن لمدينة العلم باب ، ومعه لا حاجة لملك الدين إلى باب ».

وقال نظام الدين محمد بن أحمد البخاري في ( ملفوظاته ): « ... وهو المخصوص من بين جملة الصحابة بكثرة العلم ، لقول رسول الله : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ولهذا قال عمر بن الخطاب : لو لا علي لهلك عمر ».

__________________

(١) المناقب لابن المغازلي : ٨٤.

(٢) كفاية الطالب : ٢٢٠.

(٣) الرياض النضرة ٢ / ١٥٩.

١٩٠

وقال مغلطاي بن قليج في ( التلويح ـ شرح البخاري ) على ما نقله بدر الدين العيني حيث قال : « وفي التلويح : ومن خواصّه ـ أي خواص علي رضي الله تعالى عنه ـ فيما ذكره أبو الثناء : إنه كان أقضى الصحابة ، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلّف عن أصحابه لأجله ، وأنه باب مدينة العلم ، وإنّه لما أراد كسر الأصنام التي في الكعبة المشرفة أصعده النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم برجليه على منكبيه ، وإنّه حاز سهم جبرئيل عليه الصلاة والسلام بتبوك فقيل فيه :

علي حوى سهمين من غير أن غزا

غزاة تبوك حبّذا سهم مسهم

وأنّ النظر إلى وجهه عبادة ، روته عائشة رضي الله تعالى عنها ، وأنه أحبّ الخلق إلى الله بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. رواه أنس في حديث الطائر. وسمّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم يعسوب الدين ، وسمّاه أيضا زر الأرض. وقد رويت هذه اللفظة مهموزة ومليّنة ... » (١).

وقال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في ( الروضة الندية ) بعد أن بيّن معنى حديث أنا مدينة العلم كما مرّ : « وإذا عرفت هذا عرفت أنه قد خصّ الله الوصي عليه‌السلام بهذه الفضيلة العجيبة ، ونوّه شأنه إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم ، وأن منه يستمد ذلك من أراده. ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم الدينية ، ثم لأجمع خلق الله علما وهو سيد رسله صلّى الله عليه وسلّم. وأن هذا الشرف يتضاءل عنه كل شرف ، ويطأطئ رأسه تعظيما له كلّ من سلف وخلف.

وكما خصّه الله بأنه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من ذلك قريبا ».

فتلخص : أن دعوى عدم دلالة الحديث على اختصاص الأمير عليه‌السلام بالبابيّة ... مندفعة ، وأنّه لا يدّعيها إلاّ المكابر للحق ، والمعاند لأهل

__________________

(١) عمدة القاري ١٦ / ٢١٥.

١٩١

البيت الطاهرين ، والمخالف لما عليه جميع الأصحاب وأعاظم علماء أهل مذهبه.

ومع التنزّل عن جميع ما ذكر نقول : من المراد من الأبواب في قول البنباني : « بل يجوز أن يكون لها أبواب ، ويكون علي كرم الله وجهه بابا منها »؟ وما الدليل على كونهم أبوابا؟ إن أريد من الأبواب المشايخ الثلاثة ، فيكون للمدينة أربعة أبواب ، فهذا ما ادّعاه العاصمي وأجبنا عنه بالتفصيل. وإن أريد منهم الثلاثة وأبي ومعاذ وزيد بن ثابت وأبو عبيدة وأبو ذر ... فهذا قد ادّعاه العاصمي أيضا ، وسبق أن أجبنا عنه في محلّه. وإن أريد أن جميع الأصحاب هم الأبواب لها ، فهذا ما زعمه القاري ، وقد أبطلناه. وإن أريد من قوله : « يجوز أن يكون لها أبواب » جعل أبواب تخييلية للمدينة ، فإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الباب الحقيقي لمدينة العلم ، والبابيّة الحقيقية منحصرة في وجوده الشريف ، ومن هنا قال فخر الدين ابن مكانس المصري في مدحه :

« يا ابن عم النبي إن أناسا

قد توالوك بالسعادة فازوا

أنت للعلم في الحقيقة باب

يا إماما وما سواك مجاز » (١)

على أنّ جعل بعض الأصحاب أبوابا للمدينة ـ مع أنّه ثبت بطلانه بوجوه غير محصورة ـ لا ينفع البنباني وغيره على حال من الأحوال ، ومن هنا لم يتفّوه به أحد قبل العاصمي ، وكيف يتخيّل أحد ذلك مع أنه لا مجال له في الحديث أبدا ، ومن هنا ترى الوضّاعين يتصرّفون في الحديث ويضعون له زيادات وألفاظا ركيكة كما رأيت ، ولا تجد أحدا منهم يجرأ على افتعال حديث بلفظ : أنا مدينة العلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية أبوابها ، فلو جاز ذلك لوضعوه كما وضعوا الألفاظ الأخرى.

ثم أنّه لو لا دلالة الحديث على اختصاص هذا المقام العظيم بالإمام عليه‌السلام لما كانت تلك المكابرات الفاضحة في مقابلة هذا الحديث المخرّج في

__________________

(١) خزانة الأدب لابن حجة الحموي : ٧٥.

١٩٢

الصّحاح والمسانيد والجوامع المعتبرة الأخرى ، لكنّهم لما رأوا دلالته على الإختصاص المذكور المقتضي للأعلميّة المستلزمة للامامة قدحوا فيه ، لأنه يهدم أساس مذهبهم ويبطل كيان خلافتهم ، ألا ترى إلى ابن تيميّة كيف لا يمكنه المناقشة في دلالة هذا الحديث ، وأنّ الداعي على الطعن فيه هو نفس دلالته على الإختصاص؟! إنّه يقول : « والكذب يعرف من نفس متنه ، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مدينة العلم ولم يكن لها إلاّ باب واحد ولم يبلّغ عنه عنه العلم إلاّ واحد فسد أمر الإسلام » وحينئذ يقع التنافر والتهافت بين كلام ابن تيميّة وكلام يعقوب البنباني ، فبكلام ابن تيميّة أيضا يسقط كلام البنباني ... أما كلام ابن تيميّة فقد أبطلناه في موضعه ، فراجع ما ذكرناه هناك إن شئت ... بل إنّ كلام البنباني نفسه متناقض متهافت ، فإنّ الناظر فيه لا يشك في دلالة الحديث على أنّ للمدينة بابا واحدا عند البنباني أيضا ، وهو يعترف بأنّ الباب هو علي ، ويعتذر للخلفاء بتقيّدهم بأمر الخلافة ، غاية ما في الباب إنّه يزعم كونه بابا للتابعين فقط لا للصّحابة ـ وهذا أمر آخر بيّنا بطلانه فيما سبق ـ ... والحمد لله رب العالمين.

* * *

١٩٣

(١٣)

مع القادري

في كلامه حول الحديث

وانتحل محمود بن محمد بن علي الشيخاني القادري كلام السمهودي في تأويل حديث مدينة العلم فقال : « وروى الإمام أحمد في الفضائل والترمذي مرفوعا : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها. ولهذا كان ابن عباس يقول : من أتى العلم فليأت الباب. وهو علي رضي‌الله‌عنه.

وقال الترمذي عقب هذا : إنه منكر. وكذا قال شيخه البخاري. وصحّحه الحاكم. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الحافظ أبو سعيد العلائي : الصواب إنه حسن باعتبار طرقه لا صحيح ولا ضعيف ، فضلا عن أن يكون موضوعا. وكذا قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في فتوى له.

ولا ينافيه تفضيل أبي بكر عنه مطلقا بشهادة علي وغيره بذلك له ، وشهد له بالعلم أيضا ، فقد قال علي : أبو بكر أعلمهم وأفضلهم. وما اختلفوا في شيء إلاّ كان الحق معه ، وعدم اشتهار علمه لعدم طول مدته بعد الاحتياج بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم » (١).

وهذا عين ألفاظ السمهودي في ( جواهر العقدين ) انتحلها الشيخاني من غير أن يشير إلى ذلك ، وأمّا تصرّفه الطفيف في أوّل الكلام فلا يخرجه عن دائرة الانتحال ، بل يكشف عن قلّة فهمه ، كما لا يخفى على من طابق بين الكلامين.

وعلى كلّ حال ، يكفي في الجواب عما قاله الشيخاني ما ذكرناه في جواب كلام السمهودي ، فراجعه لتظهر لك حقيقة الحال.

ثم إنّه كما ذكر السّمهودي ـ قبل كلامه المتعلّق بحديث مدينة العلم وبعده ـ بعض الأخبار والآثار المثبتة لأعلميّة الإمام عليه‌السلام ، والكاشفة عن

__________________

(١) الصراط السوي ـ مخطوط.

١٩٤

جهل الشيخين ، كذلك القادري ذكر تلك الآثار والأخبار ، وأبطل بها مقالته حول حديث مدينة العلم من حيث لا يشعر ، وهذا نصّ ما ذكره القادري قبل مقالته ، بعد ذكر رواية حكم عمر برجم المرأة المجنونة : « وفي رواية فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر. وروى بعضهم : إنه اتّفق لعلي مع أبي بكر رضي الله عنهما نحو ذلك ، وكان عمر يقول لعلي : لا أبقاني الله بعدك يا علي. كذا أخرجه ابن السّمان. وكان عمر يقول : أقضانا علي ، وكان يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو حسن. رواه الدارقطني. ولفظ التعوذ : أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. وكان عمر يقول : أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم أبا حسن ، وكان عمر لا يبعث عليا لبعوث لأخذ رأيه ومشاورته. وكان عطا يقول : والله ما علمت أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفقه من علي. كذا أخرجه الحافظ الذهبي » (١).

وقال بعد مقالته : « وقول عمر رضي‌الله‌عنه : علي أقضانا. رواه البخاري في صحيحه ونحوه عن جماعة من الصحابة. وللحاكم في المستدرك عن ابن مسعود قال : كنّا نتحدّث أنّ أقضى أهل المدينة علي وقال : إنه صحيح ، ولم يخرجاه. وأصل ذلك قصة بعثه صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي‌الله‌عنه إلى اليمن قاضيا فقال : يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء!! فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صدره وقال : اللهم اهده وثبّت لسانه. قال : فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين. رواه أبو داود والحاكم وقال : صحيح الإسناد ».

وقال أيضا : « وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لفاطمة : أما ترضين أن زوّجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما؟!. رواه أحمد والطبراني برجال وثقوا بهم ».

والله يحقّ بكلماته ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) الصراط السوي ـ مخطوط.

١٩٥

(١٤)

مع عبد الحق

في كلامه حول الحديث

وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في تأويل حديث : « أنا دار الحكمة » ما نصه :

« قوله : أنا دار الحكمة وعلي بابها. قيل : لا شك أنّ العلم قد جاء منه صلّى الله عليه وسلّم من قبل باقي الصحابة ، وليس بمنحصر في علي المرتضى رضي‌الله‌عنه ، فلا بدّ أن يكونوا أبواب العلم ، لكن لا بدّ للتخصيص من وجه ، بأن يكون متميّزا من سائر الأبواب بالسّعة والفتح والعظمة ونحوها ، والله أعلم » (١).

أقول : وما ذكره مردود من وجوه :

أحدها : دعوى مجيء العلم من قبل باقي الصحابة باطلة بالضّرورة ، فقد كان في الصحابة من لا حظّ له من العلم ولا كلمة ، وعليك بمراجعة أسامي الصحابة في ( الإستيعاب ) و ( أسد الغابة ) و ( الإصابة ) وأمثالها ليتّضح لك واقع الأمر.

والثاني : إنه لا يكفي نقل شيء من العلم عن رجل لأن يكون بابا للعلم ، لما قرّرنا بالتفصيل من أنّ باب مدينة العلم محيط بجميع علم المدينة ، وتحقّق هذه المرتبة لجميع أفراد الأصحاب من المستحيلات.

والثالث : إنه ليس كلّ ما نقل عن كلّ صحابي بعلم ، فبعض ما يرويه أهل السنّة عن الصحابة وأودعوه في أسفارهم وجوامعهم ليس بعلم ، فإنّ كثيرا من الأشياء المنقولة عندهم تكذّبها الآيات القرآنية وأحاديث اهل بيت العصمة عليهم‌السلام بصراحة ، ومن الواضح أنّ نقلة هكذا أشياء لا يعدّون علماء ولا

__________________

(١) اللّمعات في شرح المشكاة ـ باب مناقب علي.

١٩٦

يكونون أبوابا للعلوم.

بل كان فيهم أشخاص معروفون بالكذب والاختلاق كأبي هريرة وأمثاله ، ومنافاة الكذب والافتراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبابيّة مدينة العلم ، وبعد المتّصف بهذه الصفة عن مدينة العلم في غاية الوضوح.

والرابع : إن الصحابة كلّهم ـ كما صرّح به العجيلي في ( ذخيرة المآل ) ـ كانوا يسألون الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويرجعون إليه في القضايا والأحكام ، ولا سيّما الثلاثة منهم ، فإن رجوعهم إليه في نهاية الشّهرة والتواتر ، فكيف يكونون أبوابا لمدينة العلم كما هو سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام؟!

بل إنّ بعضهم اشتهر ـ على العكس من ذلك ـ بالجهالات الفاضحة حتى ضرب به المثل ، فالقول بأنّ العلم قد جاء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل باقي الصّحابة مكابرة واضحة.

والخامس : إن كثيرا من الصحابة كانت لهم مطاعن عظيمة ومعايب بادية ـ كما فصّل في ( تشييد المطاعن ) ـ خرجوا بها عن العدالة ، بل لقد صدرت من بعضهم أعمال شنيعة خرجوا بها عن الإسلام ـ كما فصّل في كتب الأصحاب لا سيّما ( تشييد المطاعن ) ـ وحينئذ كيف يكون باقي الصحابة كلّهم أبواب العلم.

السادس : لقد كان في الصحابة أناس كثيرون يعادون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعاندونه ، وكان فيهم جميع كثير يبغضون أمير المؤمنين عليه‌السلام ... فهل يجوّز العاقل أن يكونوا أبواب العلم؟!

دعوى أنّ وجه التخصيص تميّزه بالسّعة

فظهر أنّ غير الامام عليه‌السلام ليس بابا لمدينة العلم ، فلا وجه لقول عبد الحق بعدئذ : « لكن لا بدّ للتخصيص من وجه بأن يكون متميّزا من سائر الأبواب بالسعة والفتح والعظمة ونحوها » لكن قائله بعد أن فرض كون باقي الصّحابة أبوابا لما لم يجد في الحديث ذكرا لغير الامام عليه‌السلام استدرك قائلا ذلك ، لكنّه

١٩٧

غير نافع له أبدا ، لأنّ كلمات أهل السنّة الصريحة في اختصاص هذا الشرف العظيم والمقام الجليل بسيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام تردّه وتبطله ، بل اعترف بذلك أكابر الأصحاب من الموالين والمخالفين لأمير المؤمنين ، بالاضافة إلى احتجاج الامام نفسه بهذا الاختصاص.

ولو سلّمنا كلام القائل هذا ، فإنّ التميّز الذي ذكره هو دليل الأعلميّة ، والأعلمية دليل الخلافة ، فبطلت خلافة المتقدّمين عليه.

فظهر من هاهنا أن صاحب القيل في هذا التوجيه والتأويل لا يحصل الاّ على ما يورث له التعيير والتخجيل ، ويجعل كيده في تضليل.

فهذا جواب ما ذكره عبد الحق الدّهلوي عن قائل لم يصرّح باسمه.

ثم قال عبد الحق الدهلوي بعد كلام له : « ولكن لا يقتضي ذلك الحصر في هذا الباب ، وهذا باب خاص ومخصوص بدخول العلم ، فقد جاء أقضاكم علي ، ولكل من الخيرات والمبرّات والأنوار والأسماء التي أشرقت وظهرت من شمس النبوّة لها مظاهر ومجالي متعددة ، بل لا تعدّ ولا تحصى :

فإنه شمس فضل هم كواكبها

يظهرن أنوارها للناس في الظلم

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

وفي الحقيقة لمسألة الفضيلة وجوه وحيثيّات ، وهذا هو المخلص والمسلك في هذا الباب ، والله أعلم بالحق والصواب ، وإليه المرجع والمآب ».

وهو أيضا مردود من وجوه :

أحدها : قد عرفت مرارا أن حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » يقتضي ذلك الحصر ، وأنّ بعض رواياته صريح في ذلك ، مع اعتراف الصحابة به سواء كانوا من الموالين المؤالفين أو من المعاندين المخالفين.

والثاني : قوله : « وهذا باب خاص ومخصوص بدخول العلم فقد جاء أقضاكم علي » من غرائب الكلام ، لأنه إن أراد ـ كما هو ظاهر العبارة ـ أن هذا الباب ـ يعني الإمام عليه‌السلام ـ خاص ومخصوص بدخول العلم منه إلى

١٩٨

المدينة ، فبطلانه ظاهر جدّا ، وإن أراد أنّ الامام عليه‌السلام خاص ومخصوص بدخول مدينة العلم لأخذ العلم ، أي إنّ من أراد الدخول إلى مدينة العلم فلا بدّ أن يدخل من هذا الباب الخاص المخصوص. فهذا حق وصدق ، لكنّ عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى ، وهو حينئذ يبطل ما ذكره سابقا عن قائل مجهول ، وكذا قوله هنا : ولكن لا يقتضي ذلك الحصر ، اللهم إلاّ أن يقول بأنّ كلّ واحد من الأصحاب باب في صفة من الصفات ، فأبو بكر في الرأفة ، وعمر في الشّدة ... وإلى هذا الوجه يوحي استدلاله بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقضاكم علي » فيبطله وجوه :

١ ـ إنّ عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى.

٢ ـ إنّ كون كلّ واحد من الأصحاب بابا في صفة من الصفات ... ذكره العاصمي استنادا إلى حديث موضوع ، وقد تكلّمنا عليه سابقا بالتفصيل ، فراجع إن شئت.

٣ ـ إن كون الإمام عليه‌السلام أقضى الأصحاب يستلزم كونه بابا لمدينة العلم في جميع علومها ، وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله تعالى.

لا مظاهر لصفات النبوة إلاّ أهل البيت

الثالث : وقوله : « ولكل من الخيرات والمبرات والأنوار والأسرار التي أشرقت من شمس النبوة لها مظاهر ومجالي متعدّدة بل لا تعدّ ولا تحصى » زعم فاسد ، لأنّ مظاهر ومجالي ذلك كلّه هم أهل البيت المعصومون ، لأنّهم المخلوقون من نوره وطينته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تحقّق في ( قسم حديث النور ) من ( كتابنا ) ... ولو كان وراءهم من الأصحاب أحد له الأهليّة لهذه المنزلة فهم أشخاص معدودون ، فقوله : « لا تعد ولا تحصى » ساقط ... على أنّ من حصل على ذلك فبواسطة أهل البيت عليهم‌السلام حصل ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلاّ من

١٩٩

أبوابها » ... فهم أفضل من هؤلاء الأصحاب المعدودين قطعا.

العلم أجلّ الصفات

والرابع : إنّ العلم أجل الصّفات وأعلاها ، فمن كان مظهر العلم ومجلاة فهو أفضل من غيره الذي هو مظهر صفة من الصّفات الأخرى ، وهذا في غاية الوضوح.

ثم إنه إن أراد عبد الحق : أنّ لكلّ واحد من « الخيرات والمبرات والأنوار والأسرار » مظاهر ومجالي متعددة بل لا تعد ولا تحصى ، فلا يرتاب عاقل في بطلانه ، إذ لم يتحقق لواحد من الأنوار والأسرار مظاهر ومجالي لا تعد ولا تحصى ، فكيف بكل واحد واحد منها؟! نعم لّما كان أهل بيته جميعا مظاهر ومجالي الخيرات والمبرّات والأنوار والأسرار ، وكانوا متعدّدين ، أمكن إثبات المظاهر والمجالي لكل واحد واحد من الخيرات والمبرات ...

وإن أراد : أنّ لمجموع الخيرات والمبرات ... من حيث المجموع مظاهر ومجالي لا تعد ولا تحصى ... فهذا أقلّ شناعة من الفرض الأول ، لكنّه باطل كذلك قطعا ، إلاّ أهل البيت الأطهار عليهم الصلاة والسلام ، الذين لم يختلفوا عنه لا خلقا ولا خلقا ... بالأدلّة المتكاثرة من الكتاب والسنّة المتواترة ...

والخامس : الشعر الذي استشهد به هو من أبيات البردة البوصيريّة والمراد من الضمير في « فإنه » هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي « هم كواكبها » هم الأنبياء عليهم‌السلام :

قال الشيخ خالد الأزهري بشرحه :

وكل آي أتى الرسل الكرام بها

فإنما اتّصلت من نوره بهم

فإنه شمس فضل هم كواكبها

يظهرن أنوارها للناس في الظلم

( اللغة ) أي جمع آية بمعنى علامة ، وأتى أي جاء ، والرسل جمع رسول وهو إنسان أوحي إليه بالعمل والتبليغ ، والكرام جمع كريم ، والاتصال ضدّ الانقطاع

٢٠٠