نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

جوابنا عن ذكر محمد بن محمد الحافظي المعروف بخواجة بارسا في ( فصل الخطاب ) وحسين بن محمد الديار بكري في ( الخميس في أحوال أنفس نفيس ) هذا الحديث الموضوع المصنوع عن كتاب ( الفردوس ) من غير ردّ ونكير ...

وبعد كلّ هذا الذي ذكرناه يسقط قول ابن حجر بعد ذلك : « فهذه صريحة في أنّ أبا بكر أعلمهم ، وحينئذ فالأمر بقصد الباب إنما هو لنحو ما قلناه ، لا لزيادة شرفه على ما قبله ... » لما عرفت من سقوط هذا الحديث سندا ودلالة ، فكيف بمعارضته مع حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ، فكيف بالاستدلال به على أعلميّة أبي بكر من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكيف بدعوى صرف دلالة الجملة : « فمن أراد العلم فليأت الباب » عن مدلولها الصريح في أعلمية الامام عليه‌السلام بسبب هذا الحديث الموضوع؟!! ...

وكذا ما ذكره في نهاية كلامه تعليلا لدعواه السابقة قائلا : « لما هو معلوم بالضرورة أنّ كلاّ من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب ». لأنّه يبتني على الحديث المذكور ، وقد عرفت كونه موضوعا وباطلا سندا ودلالة.

ثم ما أراد من العلو في هذا الكلام؟ فإن أراد من العلو : العلوّ الظاهري الحسيّ فهو باطل لوجهين : أحدهما : أنّ ذلك يصادم العيان ويخالف الحس والوجدان ، فإنّ كل ذي عينين يرى أنّ الباب أعلى من الأساس ، وإذا كان الأعلى أزيد شرفا ـ كما زعم ـ فأمير المؤمنين عليه‌السلام الأشرف والأعلم.

والثاني : إنه إذا كان المدار على العلو الظاهري ، فلا ريب في أن الحيطان أعلى من الأساس ، والسقف أعلى من الحيطان ، فيلزم أن يكون عمر أعلم من أبي بكر ، وأن يكون عثمان أعلم من كليهما. وهذا مع كونه خلاف الواقع لا يرضى به أحد منهم.

وإن أراد من العلوّ : العلوّ المعنوي الحقيقي ، فإنّ الباب أعلى واشرف من الأساس والحيطان والسقف بلا شبهة وارتياب ، وإن هذه الأجزاء من المدينة أو الدار ـ مجموعة أو كلا على انفراد ـ ليس لها أدنى مراتب العلو المعنوي ، بل الباب

١٦١

أعلى وأرفع منها بمراتب لا تعدّ ولا تحصى ، علوّا معنويا حقيقيا ، وبالنظر إلى المعاني المقصودة من الباب والآثار المترتبة على وجوده ، اعترف أكابر علماء أهل السنّة بالأعلميّة المطلقة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، بسبب كونه باب مدينة العلم وأثبتوا له فضائل عظيمة وخصائص جليلة كلّها مستنبطة من حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

فظهر أنّ العلوّ الحقيقي المعنوي ثابت للباب ، لا للأساس المرفوض الموهوم والحيطان والسقف المهدوم المعدوم ، فالأعلمية المطلقة ثابتة له عليه‌السلام على كلا التقديرين المذكورين في « العلو » ، وإنكار ابن حجر المكي هذا المعنى لا أساس له ، وذلك منه عجيب جدا ، وقد اعترف هو في ( المنح المكيّة ) وفي ( تطهير الجنان ) بما ذكرناه ... وقد تقدّمت عبارته في الكتابين.

رأي ابن حجر في تأويل « علي »

ثم إن ابن حجر تعرّض في ( الصواعق ) إلى تأويل « علي » في الحديث الشّريف قائلا : « وشذّ بعضهم فأجاب بأن معنى : وعلي بابها. أي من العلو ، على حدّ قراءة : هذا صراط علي مستقيم ، برفع علي وتنوينه كما قرأ به يعقوب » فعبّر عن هذا التأويل بـ « الشذوذ » ولم يصرّح ببطلانه وسخافته ، وقد تقدّم منا الجواب على هذا التأويل في جواب كلام الأعور ، فراجع.

أمّا في ( المنح المكيّة ) فقد ردّ على هذا التأويل وأجاد بقوله : « واحتجّ بعض من لا تحقيق عنده علي الشيعة ، بأنّ « علي » اسم فاعل من العلو ، أي عال بابها فلا ينال لكلّ أحد ، وهو بالسفساف أشبه ، لا سيّما في رواية رواها ابن عبد البر في استيعابه : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه ، إذ مع تحديق النّظر في هذه الرّواية لا يبقى تردّد في بطلان ذلك الرأي ، فاستفده بهذا ».

١٦٢

قوله تعالى : ( هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) في قراءة أهل البيت

وأمّا الآية الكريمة التي أشار إليها ابن حجر في عبارته فإنّ لفظ « علي » فيها هو اسم سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ كما هو الحال في حديث : « أنا مدينة العلم » فالصراط مضاف إلى علي ، وهذه هي قراءة أهل البيت ، الذين هم أدرى بما في البيت ، وهم المقرونون بالكتاب في حديث الثقلين ... وهي أيضا قراءة الحسن البصري كما عن أبي بكر الشيرازي ، ففي كتاب ( مناقب آل أبي طالب ) : « أبو بكر الشيرازي في كتابه ، بالإسناد عن شعبة عن قتادة ، سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف : هذا صراط علي مستقيم. قلت : ما معناه؟ قال : هذا طريق علي بن أبي طالب ودينه طريق ودين مستقيم ، فاتّبعوه وتمسّكوا به ، فإنه واضح لا عوج فيه (١).

وكتاب أبي بكر الشيرازي ـ الموسوم بكتاب ما نزل من القرآن في علي ـ يرويه ابن شهر آشوب عن مؤلّفه أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي بالاجازة كما قال رحمه‌الله في أول كتابه : « وحدّثني محمود بن عمر الزمخشري بكتاب الكشاف والفائق وربيع الأبرار. وأخبرني الكياشيرويه بن شهردار الديلمي بالفردوس. وأنبأني أبو العلاء العطار الهمداني بزاد المسافر ، وكاتبني الموفق بن احمد المكي خطيب خوارزم بالأربعين ، وروى لي القاضي أبو السعادات الفضائل ، وناولني أبو عبد الله محمد ابن أحمد النطنزي بالخصائص العلوية ، وأجاز لي أبو بكر محمد بن مؤمن الشيرازي رواية كتاب ما نزل من القرآن في علي عليه‌السلام ، وكثيرا ما أسند إلى أبي العزيز كادش العكبري ، وأبي الحسن العاصمي الخوارزمي ، ويحيى بن سعدون القرطبي ، وأشباههم ».

والكتاب المذكور لأبي بكر الشيرازي من الكتب المعتمدة عند أهل السنة ،

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٣ / ١٠٧.

١٦٣

بل هو من جملة الكتب التي يفتخر ( الدهلوي ) بتأليف أهل السنة إيّاها في مناقب أهل البيت كما في حاشية التعصّب الثالث عشر ، من الباب الحادي عشر ، من كتابه ( التحفة ) ....

وحلقتها معاوية ...!!

وزاد بعض الوضّاعين في حديث « أنا مدينة العلم » جملة في فضل معاوية ، فقد روى الديلمي في ( فردوس الأخبار ) هذا الحديث باللفظ التالي : « أنا مدينة العلم وعلي بابها وحلقتها معاوية » (١) ... فهذا إفك شنيع ، وقد كفانا مؤنة الردّ عليه السخاوي في ( المقاصد الحسنة ) وابن حجر المكّي في ( الفتاوى الحديثية ) ، حيث صرّحا بعدم صحّته ، فمن العجيب نقل المناوي إيّاه في ( كنوز الحقائق ) بقوله : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها. فر » (٢). أي أخرجه الديلمي في الفردوس.

لا يصحّ عن النبي في فضل معاوية شيء

بل لقد نصّ كبار الأئمة والحفّاظ على أنّه لا يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل معاوية شيء ، وهذا من الأمور المسلّمة بينهم ، ولمزيد الفائدة والبيان نذكر بعض نصوصهم في هذا المقام :

قال ابن الجوزي : « أنبأنا زاهر بن طاهر ، قال : أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي ، قال : ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم ، قال : سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب بن يوسف يقول : سمعت أبي يقول : سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في فضل معاوية

__________________

(١) فردوس الأخبار ١ / ٤٤ رقم ١٠٨.

(٢) كنوز الحقائق هامش الجامع الصغير : ٨١.

١٦٤

ابن أبي سفيان شيء.

أنبأنا هبة الله بن أحمد الحريري قال : أنبأنا محمد بن علي بن الفتح ، قال أنبأ الدارقطني قال حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن جعفر بن بيان الرزاز قال : ثنا أبو سعيد الخرقي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي فقلت : ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال : انشر قولي فيهما : اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتّش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيادا منهم له » (١).

وقال ابن حجر العسقلاني : « تنبيه : عبّر البخاري في هذه الترجمة بقوله : « ذكر » ولم يقل « فضيلة » ولا « منقبة » لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب ، إلاّ أنّ ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالّة على الفضل الكثير. وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه ، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب ، وأبو بكر النقاش. وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال : لم يصح في فضائل معاوية شيء. فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادا على قول شيخه لكن بدقيق نظره استنبط ما يدمغ به رؤس الروافض وقصة النسائي في ذلك مشهورة وكأنه اعتمد أيضا على قول شيخه إسحاق ، وكذلك في قصة الحاكم.

وأخرج ابن الجوزي أيضا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي : ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال : اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتّش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا ، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي. فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد ، وبذلك جزم إسحاق ابن راهويه والنسائي وغيرهما والله أعلم » (٢).

__________________

(١) الموضوعات ٢ / ٢٤.

(٢) فتح الباري ٧ / ٨٣.

١٦٥

وقال العيني : « مطابقته للترجمة من حيث أن فيه ذكر معاوية ، ولا يدل هذا على فضيلته. فإن قلت : قد ورد في فضيلته أحاديث كثيرة. قلت : نعم ، ولكن ليس فيها حديث يصح من طريق الإسناد ، نصّ عليه إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما ، ولذلك قال : باب ذكر معاوية ولم يقل فضيلة ولا منقبة » (١).

وقال ابن خلكان بترجمة النسائي : « قال محمد بن إسحاق الأصبهاني سمعت مشايخنا بمصر يقولون : إنّ أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره وخرج إلى دمشق ، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل! وفي رواية أخرى : ما أعرف له فضيلة إلاّ لا أشبع الله بطنك » (٢).

وقال أبو الفداء بترجمته : « ثم عاد إلى دمشق فامتحن في معاوية وطلب منه أن يروي شيئا من فضائله فامتنع وقال : ما يرضى معاوية أن يكون رأسا برأس حتى يفضل! » (٣).

وقال أبو الحجاج المزي نقلا عن أبي بكر المأموني : « وقيل له وأنا حاضر : ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال : أي شيء أخرج! اللهم لا تشبع بطنه! وسكت وسكت السائل ». قال « قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ : سمعت علي بن عمر يقول : كان أبو عبد الرحمن أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار ، وأعلمهم بالرجال. فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه ، فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية ، فأمسك عنه ، فضربوه في الجامع فقال : أخرجوني إلى مكة ، فأخرجوه إلى مكة وهو عليل وتوفي بها مقتولا شهيدا. قال الحاكم أبو عبد الله : ومع ما جمع أبو عبد الرحمن من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره ، فحدّثني محمد بن إسحاق الأصبهاني قال : سمعت مسائخنا بمصر

__________________

(١) عمدة القاري ١٦ / ٢٤٨.

(٢) وفيات الأعيان ١ / ٥٩.

(٣) المختصر في أخبار البشر حوادث : ٣٠٣.

١٦٦

يذكرون أن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره وخرج إلى دمشق ، فسئل بها عن معاوية بن أبي سفيان وما روي من فضائله فقال : ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل! فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد ، ثم حمل إلى مكة ومات بها » (١).

وقال الذهبي نقلا عن المأموني « سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب الخصائص لعلي رضي‌الله‌عنه وتركه تصنيف فضائل الشيخين ، فذكرت له ذلك فقال : دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير ، فصنّفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله. ثم إنه صنّف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له وأنا أسمع : ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال : أي شيء أخرج! حديث اللهم لا تشبع بطنه! فسكت السائل. قلت : لعلّ هذه منقبة معاوية لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة ».

قال : « قال أبو عبد الله ابن مندة عن حمزة العقبي المصري وغيره : إن النسائي خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق ، فسئل بها عمّا جاء من فضائله فقال : ألا يرضى رأسا برأس حتى يفضل! قال : فما زالوا يدفعون في خصيته حتى أخرج من المسجد ، ثم حمل إلى مكة فتوفي بها. كذا في هذه الرواية إلى مكة وصوابه : الرملة » (٢).

وقال ابن الوردي : « وعاد إلى دمشق فامتحن في معاوية وطلب منه أن يروي شيئا من فضائله فقال : ما يرضى معاوية أن يكون رأسا برأس حتى يفضل » (٣).

وقال صلاح الدين الصفدي : « وأنكر عليه قوم كتاب الخصائص لعلي رضي‌الله‌عنه وتركه تصنيفه فضائل الشيخين ، فذكر له ذلك فقال : دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير ، فصنّفت الخصائص رجاء أن يهديهم الله تعالى. ثم

__________________

(١) تهذيب الكمال ١ / ٣٢٨.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ / ٦٩٨.

(٣) تتمة المختصر حوادث : ٣٠٣.

١٦٧

صنف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له : ألا تخرج فضائل معاوية! فقال : أي شيء أخرج! اللهم لا تشبع بطنه! فسكت السائل. قال شمس الدين : لعل هذا فضيلة له لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : اللهم من لعنته وسببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة » قال « ولما خرج من مصر إلى دمشق في آخر عمره سئل عن معاوية رضي‌الله‌عنه وما دوّن من فضائله فقال : لا يرضى رأسا برأس حتى يفضل! فما زالوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد ، ثم حمل إلى مكة وقيل الرملة ، وتوفي بها » (١).

وقال اليافعي : « وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل! وفي رواية أخرى : ما أعرف له فضيلة إلاّ لا أشبع الله بطنك » (٢).

وقال الفاسي : « قال الدار قطني : وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال ، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه ، فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه ، فضربوه في الجامع فقال : أخرجوني إلى مكة ، فأخرجوه إلى مكة وهو عليل ، وتوفي بها مقتولا شهيدا » (٣).

وقال ابن حجر العسقلاني بترجمة النسائي نقلا عن الحاكم : « سمعت علي ابن عمر يقول : النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم وأعلمهم بالرجال. فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه ، فضربوه في الجامع فقال : أخرجوني إلى مكة فأخرجوه وهو عليل وتوفي مقتولا شهيدا » قال « وقال أبو بكر المأموني سألته عن تصنيفه كتاب الخصائص فقال : دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير ، فصنفت كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله تعالى. ثم صنف بعد ذلك كتاب فضائل

__________________

(١) الوافي بالوفيات ٦ / ٤١٦.

(٢) مرآة الجنان حوادث : ٣٠٣.

(٣) العقد الثمين ٣ / ٤٥.

١٦٨

الصحابة وقرأها على الناس وقيل له ـ وأنا حاضر ـ ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال : أي شيء أخرج! اللهم لا تشبع بطنه! وسكت وسكت السائل » (١).

وقال المناوي بترجمة النسائي : « دخل دمشق فذكر فضائل عليّ فقيل له فمعاوية؟ قال : ما كفاه أن يذهب رأسا برأس حتى يذكر له فضائل. فدفع في خصيتيه حتى أشرف على الموت فأخرج فمات في الرملة أو فلسطين سنة ثلاث وثلاثمائة. وحمل للمقدس أو مكة فدفن بين الصفا والمروة » (٢).

وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في رجال المشكاة بترجمة النسائي : « قال الأمير جمال الدين المحدّث عن الشيخ الإمام عبد الله اليافعي أنه ذكر في تأريخه : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب المصنفات ومقتدى زمانه ، سكن مصر ثم جاء بدمشق ، فقال له أهل تلك الناحية يوما في المسجد : ما تقول في معاوية وما ورد في فضله؟ فأجاب : أما يرضى معاوية أن يخرج عني رأسا برأس حتى يفضل! وفي رواية : قال : لا أعرف له فضيلة إلاّ لا أشبع الله بطنه. فقام الناس ووقعوا فيه وأهانوه وضربوه وجرّوه من المسجد ، وأذهبوه برملة فمرض فمات بذلك.

وفي رواية : أذهبوه بمكة فمرض ومات بمكة. ودفنوه بين الصّفا والمروة » وقال ابن تيمية الحرّاني : « ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح ، لكن قد شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينا والطائف وغزوة تبوك ، وحجّ معه حجة الوداع ، وكان يكتب الوحي ، فهو ممّن ائتمنه النبي صلّى الله عليه وسلّم على كتابة الوحي ، كما ائتمن غيره من الصحابة » قال « بل قد رووا في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ، وصنّف في ذلك مصنفات ، وأهل العلم بالحديث لا يصحّحون لا هذا ولا هذا » (٣).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١ / ٣٢.

(٢) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ١ / ٢٥.

(٣) منهاج السنة ٢ / ٢٠٧.

١٦٩

بطلان الجملة الموضوعة معنى

ثم إنّ « معاوية حلقتها » باطل من وجوه :

أحدها : المدينة مطلقا لا حاجة لها إلى الحلقة ، بل لا ينسبها أحد من العقلاء إليها أصلا ، ومن ادّعى فعليه البيان ، وعلينا دمغ رأسه بمقمعة البرهان.

والثاني : مدينة العلم بالخصوص لا حاجة لها إلى الحلقة.

والثالث : جعل معاوية كالحلقة لمدينة العلم عيب للمدينة ، لا يجرأ على التفوّه بذلك إلاّ من خرج عن الإيمان بل عن العقل والشّعور.

والرابع : معنى احتياج المدينة إلى الحلقة هو احتياج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية في العلم ، وهذا مما يهدم أركان الدين.

والخامس : معنى كونه حلقة المدينة أنّ معاوية له حظ من العلم ، لكنّ جهله بالأحكام الشرعيّة فضلا عن المعارف العالية والحقائق السامية أظهر من أن يذكر.

والسادس : إنّ لمعاوية مطاعن عظيمة ومعايب كثيرة ، تمنعه من أن يكون له أدنى اتّصال بالنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والسابع : ولو قيل معنى الجملة هو كونه حلقة الباب ، أي : أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقة بابها ، فيبطله أنّ باب مدينة العلم غير محتاج إلى الحلقة كنفس المدينة. وأيضا : جهل معاوية خير دليل على بطلان كونه حلقة باب مدينة العلم. وأيضا : مطاعنه تمنع من أن يكون له هذا الاتصال بالمدينة. أضف إلى ذلك عدائه لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

وهناك وجوه أخرى تبطل هذه الجملة الموضوعة من حيث المعنى ، نحيل استنباطها واستخراجها إلى الناظر فيها وفي الوجوه التي ذكرناها.

١٧٠

حديث المدينة بلفظ آخر موضوع

إلى هنا تمّ الكلام على تصرّفات بعض القوم في لفظ حديث : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ... واختلق بعضهم لفظا آخر لحديث المدينة يتّضح بطلانه سندا ودلالة من البحوث المذكورة في الألفاظ المتقدمة ... وذلك ما جاء في كتاب ( كنج سعادت ) لمعين الدين بن خواجة خاوند محمود الخوارزمي النقشبندي من أنه : « قال عليه‌السلام : أنا مدينة الصدق وأبو بكر بابها ، وأنا مدينة العدل وعمر بابها ، وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها ، وأنا مدينة العلم وعلي بابها ».

لكن العجيب استناد بعضهم إلى هذا الحديث الموضوع في مسألة المفاضلة بين الأصحاب ، وهو الشيخ رجب بن أحمد التيري في كتابه ( الوسيلة الأحمدية والذريعة السّرمدية في شرح الطريقة المحمدية ) حيث قال في مبحث التفضيل : « ونحن نقول : الأولى في تفضيل الخلفاء الأربعة : أن كلّ واحد منهم أفضل من الآخر باعتبار الوصف الذي اشتهر به ، لأنّ فضيلة الإنسان ليست من حيث ذاته ، بل باعتبار أوصافه ، وقد قال عليه‌السلام : أنا مدينة الصّدق وأبو بكر بابها ، وأنا مدينة العدل وعمر بابها ، وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها ، وأنا مدينة العلم وعلي بابها. رواه الزاهدي في كتابه عن بعض الأفاضل. وعلى هذا نقول : إن أبا بكر الصديق أفضل الصحابة باعتبار ، كثرة صدقه واشتهاره فيما بينهم به ، وعمر أفضلهم من جهة العدل ، وعثمان أفضلهم من جهة الحياء ، وعلي أفضلهم من جهة العلم واشتهاره به ، وبهذا يستقيم المرام ويتم الكلام ».

فإنّ ما ذكره في التفضيل شيء لم يقل به أحد ، فهو خرق للإجماع المركّب ، والحديث موضوع مختلق ، وفي كلّ فقرة من فقره بحث واضح طويل الذيل ، يتجلّى جانب منه بمراجعة كتاب ( تشييد المطاعن ) وغيره من كتب الباب.

بل الحق الثابت بالأدلة القطعيّة أنّ الامام عليا عليه‌السلام أفضل القوم من جميع الجهات ، بل هو الأفضل من جميع الخلائق بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٧١

وسلّم من الأولين والآخرين ... على أنّ هذا الحديث الموضوع اشتمل على جملة « وعلي بابها » ، وقد عرفت أنّ كونه باب مدينة العلم يوجب الأعلمية الموجبة للأفضلية على الإطلاق ، حسب إفادات المحقّقين من أهل السنّة ، فيكون هذا الحديث الموضوع أيضا مفيدا للافضليّة المطلقة للإمام ، خلافا لمن أراد إثبات الأفضلية له من جهة واحدة ... والحمد لله رب العالمين.

* * *

١٧٢

(١١)

مع القاري

في كلامه حول الحديث

وقال الملاّ علي القاري بشرح حديث « أنا دار الحكمة » ما نصّه :

« وعنه أي عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا دار الحكمة ـ وفي رواية : أنا مدينة العلم. وفي رواية المصابيح : أنا دار العلم ـ وعلي بابها. وفي رواية زيادة : فمن أراد العلم فليأته من بابه. والمعنى : عليّ باب من أبوابها ، ولكن التخصيص يفيد نوعا من التعظيم وهو كذلك. لأنه بالنسبة إلى بعض الصحابة أعظمهم وأعلمهم. ومما يدلّ على أن جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله صلّى الله عليه وسلّم : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، مع الإيماء إلى اختلاف مراتب أنوارها في الاهتداء.

ومما يحقق ذلك أن التابعين أخذوا أنواع العلوم الشرعيّة من القراءة والتفسير والحديث والفقه من سائر الصحابة غير علي رضي‌الله‌عنه أيضا ، فعلم عدم انحصار البابية في حقّه. اللهم إلاّ أن يختص بباب القضاء فإنه ورد في شأنه إنّه : أقضاكم. كما أنه جاء في حق أبي : أقرؤكم. وفي حق زيد بن ثابت : إنه أفرضكم. وفي حق معاذ بن جبل : إنه أعلمكم بالحلال والحرام.

وممّا يدل على جزالة علمه ما في الرياض عن معقل بن يسار قال : وضّأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال هل لك في فاطمة نعودها؟ فقلت : نعم ، فقام متوكئا عليّ فقال : إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك. قال : فكأنّه لم يكن عليّ شيء ، حتى دخلنا على فاطمة فقلنا : كيف تجدينك؟ قالت : لقد اشتد حزني واشتدّ فاقتي وطال سقمي. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : وجدت بخط أبي في هذا الحديث قال : أو ما ترضين أنّ زوجك أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما. أخرجه أحمد.

وعن ابن عباس وقد سأله الناس فقالوا : أيّ رجل كان علي؟

١٧٣

قال : كان قد ملئ جوفه حكما وعلما وبأسا ونجدة ، مع قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أخرجه أحمد في المناقب. وعن سعيد بن المسيب قال : كان عمر يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو حسن. أخرجه أحمد.

قال الطيبي : لعلّ الشيعة تتمسك بهذا التمثيل : أن أخذ العلم والحكمة منه مختص به لا يتجاوزه إلى غيره إلاّ بواسطته رضي‌الله‌عنه ، لأن الدار إنما يدخل إليها من بابها وقد قال تعالى : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ). ولا حجة لهم فيه ، إذ ليس دار الجنة بأوسع من دار الحكمة ولها ثمانية أبواب. رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب. أي إسنادا وقال أي الترمذي : روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ، وهو شريك بن عبد الله قاضي بغداد ذكره الشارح ، ولم يذكروا أي ذلك البعض فيه أي في إسناد هذا الحديث عن الصنابحي بضم صاد وكسر موحدة ومهملة ، ولا نعرف أي نحن هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك بالنصب على الاستثناء ، وفي نسخة بالجرّ على أنه بدل من أحد ، قيل : وفي بعض نسخ الترمذي : عن شريك بدل غير شريك. والله أعلم.

ثم اعلم أن حديث : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، رواه الحاكم في المناقب من مستدركه من حديث ابن عباس وقال صحيح. وتعقّبه الذهبي فقال : بل هو موضوع. وقال أبو زرعة : كم خلق افتضحوا فيه. وقال يحيى بن معين : لا أصل له. كذا قال أبو حاتم ويحيى بن سعيد وقال الدار قطني ثابت. ورواه الترمذي في المناقب من جامعه وقال : إنه منكر ، وكذا قال البخاري : إنه ليس له وجه صحيح. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال ابن دقيق العيد : هذا الحديث لم يثبتوه. وقيل : إنه باطل. لكن قال الحافظ أبو سعيد العلائي : الصواب إنه حسن باعتبار طرقه لا صحيح ولا ضعيف ، فضلا عن أن يكون موضوعا. ذكره الزركشي. وسئل الحافظ العسقلاني عنه فقال : إنه حسن لا صحيح كما قال الحاكم ولا موضوع كما قال ابن الجوزي. قال السيوطي : وقد بسطت كلام العلائي والعسقلاني في التعقبات التي على الموضوعات. انتهى. وفي خبر

١٧٤

الفردوس : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعليّ بابها. وشذّ بعضهم فأجاب : إن معنى وعليّ بابها إنه فعيل من العلوّ على حد قراءة صراط عليّ مستقيم برفع علي وتنوينه كما قرأ به يعقوب » (١).

علي باب المدينة لا سواه

أقول : وفي هذا الكلام خلط بين الغث والسّمين ، ونحن نشير إلى ما فيه بالإجمال :

أمّا أن يكون المعنى : « علي باب من أبوابها » فأوّل من قاله هو العاصمي ، وقد بيّنا بطلانه بالتفصيل ، وهنا نقول باختصار : إنّ لفظ الحديث يدلّ على انحصار البابيّة في الامام عليه‌السلام ، وغيره لا يليق لأن يكون بابا لدار الحكمة ومدينة العلم ، فلا يجوز دعوى ذلك لأحد إلاّ بنص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. على أنّ لهؤلاء الثلاثة قبائح ومطاعن تمنعهم من أن يكونوا أبوابا لمدينة العلم ، بل تمنعهم عن أن يكون لهم أقل اتّصال به ، وقد تكفّل كتاب ( تشييد المطاعن ) بذكر بعضها فراجعه إن شئت.

ثم إنّ كون الشخص بابا لمدينة العلم والحكمة يستلزم العصمة له ، وأن يكون محيطا لما في المدينة من حكمة وعلم ... وقد كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يكن غيره كذلك ، ويشهد بذلك استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه كما هو معروف عند الكلّ.

على أنّه جاء في بعض ألفاظ الحديث الأمر بإتيان علي عليه‌السلام ، ففي لفظ : « أنا دار الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب ، وفي آخر : « أنا دار الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب » ، والناس بين مطيع وعاص ، فمن أتاه عليه‌السلام وأخذ الحكمة منه فهو محتاج إليه ولا يكون بابا لها

__________________

(١) المرقاة ـ شرح المشكاة ٥ / ٥٧١.

١٧٥

مثله ، ومن لم يمتثل أمر الرّسول فغير لائق لأن يكون بابا له ، فليس للمدينة باب سوى الامام عليه‌السلام.

وبما ذكرنا يظهر ما في قوله :

« ولكنّ التّخصيص يفيد نوعا من التعظيم ، وهو كذلك ، لأنه بالنسبة إلى بعض الصحابة أعظمهم وأعلمهم ».

لأنّ التخصيص المذكور في الحديث تخصيص حقيقي لا إضافي ، وقد عرفت سابقا دلالة الحديث على أنه عليه‌السلام من الصحابة كلّهم أعظمهم وأعلمهم ، لا بالنسبة إلى بعضهم.

حديث النجوم موضوع

وأمّا قوله : « ومما يدلّ على أنّ جميع الأصحاب بمنزلة الأبواب قوله ... ».

ففيه : إنّ حديث أصحابي كالنّجوم ممّا ثبت وضعه واختلاقه ، وقد تكلّمنا عليه سابقا في الردّ على كلام الأعور ، ولو سلّمنا صحته فإنه لا يقتضي أن يكون الأصحاب كلّهم أبوابا ، لما عرفت من أن هذا الشرف العظيم والمنصب الجليل مخصوص بسيدنا علي عليه‌السلام ، وإن دلّ على شيء فإنّما يدل على حصول بعضهم على العلم ، وهذا لا يكفي لأن يكونوا أبوابا لمدينة العلم ، لأن باب المدينة يجب أن يكون محيطا بجميع علوم المدينة ، فبين كون الرّجل ذا علم في الجملة ، وبين كونه بابا لدار الحكمة ومدينة العلم بون بعيد ، ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ).

ومن العجيب استدلال القاري بهذا الحديث ، وهو يذكر في كتابه ( المرقاة ) كلمات أعلام طائفته في قدحه ، فقد قال بشرحه ما نصّه :

« قال ابن الديبع : اعلم أن حديث أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. أخرجه ابن ماجة كذا ذكره الجلال السيوطي في تخريج أحاديث الشفاء ، ولم أجده في سنن ابن ماجة بعد البحث عنه. وقد ذكره ابن حجر

١٧٦

العسقلاني في تخريج أحاديث الرافعي في باب أدب القضاء وأطال الكلام عليه ، وذكر أنه ضعيف واه ، بل ذكر عن ابن حزم أنه موضوع باطل. لكن ذكر عن البيهقي أنه قال : إن حديث مسلم يؤدّي بعض معناه ، يعني قوله صلّى الله عليه وسلّم : النجوم أمنة للسماء. الحديث. قال ابن حجر : صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم أما في الاقتداء فلا يظهر. نعم يمكن أن يتلمّح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم. قلت : الظاهر إن الاهتداء فرع الاقتداء. قال : وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض الصحابة من طمس السنن وظهور البدع ونشر الجور في أقطار الأرض انتهى.

وتكلّم على هذا الحديث ابن السبكي في شرح ابن الحاجب الأصلي في الكلام على عدالة الصحابة ولم يعزه لابن ماجة ، وذكره في جامع الأصول ولفظه : عن ابن المسبب عن عمر بن الخطاب مرفوعا : سألت ربي. الحديث إلى قوله اهتديتم. وكتب بعده : أخرجه. فهو من الأحاديث التي ذكرها رزين في تجريد الأصول ولم يقف عليها ابن الأثير في الأصول المذكورة ، وذكره صاحب المشكاة وقال : أخرجه رزين » (١).

وما ذكره القاري في تأييد الاستدلال بحديث النجوم بقوله : « وممّا يحقّق ذلك أن التابعين أخذوا أنواع العلوم الشرعية من القراءة والتفسير والحديث والفقه من سائر الصحابة غير علي رضي‌الله‌عنه ، فعلم عدم انحصار البابيّة فيه » فركيك في الغاية ، لأنّه استدلال بفعل التابعين في مقابلة النصّ الصريح من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو غير جائز ، فليس هناك إلاّ انّهم خالفوا أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكيف يقول القاري بعدم انحصار البابيّة فيه عليه‌السلام؟ والنبي نفسه ينصّ على هذا الانحصار ويقول : « يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير

__________________

(١) المرقاة ـ شرح المشكاة ٥ / ٥٢٢.

١٧٧

بابها » ، ويقول : « كذب من زعم أنّه يصل إلى المدينة لا من قبل الباب » ... وقد كان هذا المعنى هو ما اعترف به الأصحاب وابتهجوا كما ظهر سابقا من إفادة الزرندي في ( نظم درر السمطين ) ومن حديث الشورى الذي ذكره جمال الدين المحدّث الشيرازي.

ثم إنّ التّابعين الآخذين من غيره عليه‌السلام ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما ، فالقسم الأول من أخذ عمّن أخذ من الإمام عليه‌السلام كسلمان ، والمقداد ، وأبي ذر ، وعمار ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس وأمثالهم ... وهؤلاء التابعون لا يرون أولئك الصحابة أبوابا للعلوم ، بل أخذهم في الحقيقة من الامام عليه‌السلام ... والقسم الثاني من خالف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن أراد العلم فليأت الباب ومن أراد الحكمة فليأتها من بابها » وأعرض عنه عنادا وانحرافا عن باب مدينة العلم وباب دار الحكمة ، ومن الواضح أنّ هؤلاء لا يعبأ بأقوالهم وأفعالهم أبدا ...

دعوى تخصيص الحديث باب القضاء

وأمّا ما ذكره القاري : « أللهم إلاّ أن يختص بباب القضاء ، فإنه ورد في شأنه أنه أقضاكم ، كما أنه جاء في حق أبيّ أنه أقرؤكم ، وفي حقّ زيد بن ثابت أنه أفرضكم ، وفي حق معاذ بن جبل : أنه أعلمكم بالحلال والحرام » فقد عرفت الجواب عنه في الردّ على كلام العاصمي ، وعلى فرض التسليم فإن هذا الاختصاص يفيد الأعلميّة المطلقة له عليه‌السلام ، لأنّ كونه أقضى الأصحاب يستلزم إحاطته بأنواع العلوم الشرعيّة ، مع المزيّة والأفضليّة من غيره في هذا الباب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك فيما بعد إن شاء الله.

أمّا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقضاكم علي » فممّا لا ريب فيه ولا كلام ، كما ستعرف فيما بعد إن شاء الله تعالى مفصّلا ، لكنّ ما ذكره في حقّ غيره موضوع وباطل سندا ودلالة ، كما بيّناه بالتفصيل في جواب كلام العاصمي ،

١٧٨

فراجع إن شئت.

وقوله : « ومما يدل على جزالة علمه ... » وإن اشتمل على بعض فضائل الامام عليه‌السلام ، فلا يخفى ما فيه ، لأنّ ما ذكره يدلّ على أعلمية الإمام بصراحة كاملة ، ـ لا أنّه يدلّ على جزالة علمه ـ أضف إلى ذلك النصوص الصريحة الواردة عن مشاهير الأصحاب ـ من الموافقين له والمعادين ـ في أعلميّته ، ومن هنا قال المناوي : « وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤالف والمعادي والمخالف » (١) بل قال القاري نفسه في ( شرح الفقه الأكبر ) بشرح قول الماتن : « ثم علي بن أبي طالب » قال ما نصه :

« أي ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، القرشي الهاشمي ، وهو المرتضى زوج فاطمة الزهراء وابن عمّ المصطفى ، والعالم في الدرجة العليا ، والمعضلات التي سأله كبار الصحابة ورجعوا إلى فتواه فيها فضائل كثيرة شهيرة تحقق قوله عليه‌السلام : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وقوله عليه‌السلام : أقضاكم علي » (٢).

فظهر أنّ الامام عليه‌السلام هو الأعلم من جميع الأصحاب ، لا في القضاء بل في جميع الأبواب ...

الاشارة إلى جواب سائر كلمات القاري

وأمّا كلمات القاري الأخرى فنشير إليها وإلى الجواب عنها :

١ ـ قوله : « قال الطيّبي ... ». وقد تقدّم الجواب عن كلام الطيبي هذا في موضعه فلا نعيد.

٢ ـ قوله : « رواه الترمذي ... ». قد عرفت الكلام عليه في جواب كلام النووي.

__________________

(١) فيض القدير ٣ / ٤٣.

(٢) شرح الفقه الأكبر : ١١٣.

١٧٩

٣ ـ قوله : « ثم اعلم أن حديث ... ». فيه اعتراف بتصحيح الحاكم ... وأما أقوال القادحين في الحديث فقد تعرّضنا لها في مواضعها.

٤ ـ قوله : « وفي خبر الفردوس ... » وقد تقدّم الكلام على هذا الحديث الموضوع في جواب كلام الأعور وابن حجر المكي ...

٥ ـ قوله : « وشذّ بعضهم ... ». هذا كلام ابن حجر المكي في ( الصواعق ) وقد عرفت ما فيه.

وليكن هذا آخر ما نردّ به كلام القاري العاري ، والحمد لله الفاطر الباري.

* * *

١٨٠