نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

(٩)

مع ابن روزبهان

في كلامه حول الحديث

وقال الفضل بن روزبهان الشيرازي ـ وهو من مشاهير المتكلّمين من أهل السنة ، والمتأخرون عنه عيال عليه ـ في جواب احتجاج العلاّمة الحلّي بقول الامام عليه‌السلام « سلوني قبل أن تفقدوني » وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » قال ما نصه : « أقول : هذا يدل على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع واطّلاعه على أشتات العلوم والمعارف. وكلّ هذه الأمور مسلّمة ، ولا دليل على النص ، حيث أنّه لا يجب أن يكون الأعلم خليفة ، بل الأحفظ للحوزة والأصلح للأمة ، ولو لم يكن أبو بكر أصلح للإمامة لما اختاروه ».

أقول : لم يجد ابن روزبهان مناصا من الاعتراف بدلالة حديث أنا مدينة العلم على الأعلميّة المطلقة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، غير أنّه ينكر اشتراط الأعلميّة في الخليفة ، ومن هنا يقول بأنّ هذا الحديث لا يكون نصّا على خلافة الامام عليه‌السلام ، ويستدل باختيار الأمة أبا بكر للإمامة مع كونه غير أعلم ، وما ذكره مردود من وجوه :

أحدها : إنّ حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » من الأدلة الواضحة على خلافة سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد بيّنا ذلك بوجوه عديدة فيما سبق من الكتاب.

والثاني : لقد دلّ الكتاب والسنة المتأيدة بأقوال المفسرين من أهل السنّة ، على تعيّن الأعلم للإمامة والخلافة ، وقد تقدّم بيان ذلك بالدلائل الكثيرة المفيدة للقطع واليقين ، ولو لم يكن فيها سوى ما ذكره الله سبحانه في قصة آدم ، وقصة طالوت ، لكفى في ذلك دليلا وبرهانا.

١٢١

والثالث : إنّه لا ريب في كون الأعلم هو الأحفظ للحوزة والأصلح للأمة ، ومن هنا يظهر بطلان دعوى كون أبي بكر الأحفظ للحوزة والأصلح للأمة ، مع الاعتراف بكونه غير أعلم ، متى كان أبو بكر أحفظ للحوزة؟ أفي ميادين القتال والجهاد مع الكفار؟ أو في حلّ المشكلات والمعضلات؟

والرّابع : إنّ الاستدلال باختيار الناس أبا بكر للخلافة واضح الفساد ، إذ لو سلّمنا وقوع الاختيار من الناس ، فإنّ الاشكال يرد أوّلا على الذين اختاروه ، ثم على الذين يستدلّون بهذا الاختيار على صحّة إمامة أبي بكر ...

كلام آخر لابن روزبهان

ولابن روزبهان في باب حديث مدينة العلم وحديث أنا دار الحكمة ، كلام آخر هو أعجب وأغرب من كلامه الذي ذكرناه ، وبيان ذلك : أن العلاّمة الحلي رحمه‌الله يقول : « المطلب الثاني ـ العلم. والناس كلّهم بلا خلاف عيال علي عليه‌السلام ، في المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والأحكام الشرعيّة والقضايا النقلية ، لأنه عليه‌السلام كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم ، وملازمته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشفق الناس عليه عظيمة جدا ، لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا ، فيكون بالضرورة أعلم من غيره. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه : أقضاكم علي. والقضاء يستلزم العلم والدين. وروى الترمذي في صحيحه : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها. وروى البغوي في الصحاح : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا دار الحكمة وعلي بابها ».

فقال ابن روزبهان في جواب هذا الكلام : « ما ذكره المصنف من علم أمير المؤمنين فلا شك في أنه من علماء الأمة ، والناس محتاجون إليه فيه ، وكيف لا وهو وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف ، فلا نزاع فيه لأحد. وأما ما ذكره من صحيح الترمذي فصحيح. وما ذكره من صحاح

١٢٢

البغوي فإنه قال : الحديث غريب لا يعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك ، وإسناده مضطرب ، فكان ينبغي أن يذكر ما ذكره من معايب الحديث ، ليكون أمينا في النقل ».

وهذا الكلام غريب من وجوه :

١ ـ علي أعلم الأمة لا أنه من علماء الأمة فقط

إن قول ابن روزبهان : « ما ذكره المصنف من علم أمير المؤمنين فلا شك أنّه من علماء الأمة » تفريط في حق الامام عليه‌السلام ، لأنّ الامام عليه‌السلام أعلم الأمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أثبتناه سالفا. هذا بالإضافة إلى اعتراف ابن روزبهان في كلامه السابق بأعلميّة الامام عليه الصلاة والسلام.

٢ ـ الناس محتاجون اليه كاحتياجهم الى النبي

وليس احتياج الناس إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام كاحتياجهم إلى واحد من علماء الأمة ، بل إنّ الناس كلّهم عيال عليه في جميع العلوم والأحكام ـ كما ذكر العلاّمة الحلي ـ لأنّه أقرب الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثرهم ملازمة له ، فهم كانوا يحتاجون إليه في العلم لكونه أعلمهم ، فإن أراد ابن روزبهان من قوله : « والناس محتاجون إليه فيه » هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، لانّ هذا المعنى يثبت خلافة الامام بعد النبي بلا فصل ، لقبح تأمير المحتاج البيّن الاحتياج العظيم الاحواج ، على من هو غني ملي بعلم صاحب المعراج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإن أراد ابن روزبهان معنى آخر فقد كابر مكابرة بيّنة ، وأغلب الظّن أنّه يريد المعنى الأوّل ، لأنه اعترف بأعلميته عليه‌السلام في الكلام السابق.

٣ ـ اعتراف ابن روزبهان بكون الامام وصي النبي في إبلاغ العلم

وقول ابن روزبهان في هذا الكلام : « كيف لا ، وهو وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف » صريح في أنه الامام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لا يعقل أن يكون وصي النبي في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف غير الأعلم وغير الامام من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

١٢٣

لعدم انفكاك الأعلمية عن مثل هذا العلم المنصوب ، المخصوص بالعلم المصبوب ، ولقبح ترجيح المرجوح وبطلان تفضيل المفضول.

ثم إنّ قوله : « فلا نزاع فيه لأحد » كلمة حق جرت على لسانه ، لكنّ ما استشهد به العلاّمة الحلّي يدلّ على أعلمية الامام عليه‌السلام ، وهذا هو المطلوب من الاستشهاد والاستدلال ، والأعلمية تلازم الامامة والخلافة كما مرّ غير مرة. فإذا كان على ابن روزبهان التسليم بإمامة الامام ، وترك النزاع في إمامته أيضا.

٤ ـ اعترافه برواية الترمذي

وقول ابن روزبهان : « وأما ما ذكره من صحيح الترمذي فصحيح » اعتراف بصحة حديث « أنا مدينة العلم » سندا ، وقد اعترف ابن روزبهان بدلالة هذا الحديث على أعلميّة الامام عليه‌السلام بالرغم من قيام البراهين المحكمة على تعيّن الأعلم للخلافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأيضا ، فإن حديث مدينة العلم يدل بالوجوه العديدة المذكورة سابقا على إمامة الامام عليه‌السلام ، فكان على ابن روزبهان الاعتراف بالنتيجة كما اعترف بالمقدّمة.

٥ ـ دفع إيراد ابن روزبهان على العلامة الحلي

وأمّا ما ذكره ابن روزبهان للطعن على العلامة الحلي بقوله : « وما ذكره من صحاح البغوي فإنه قال : الحديث غريب لا يعرف هذا من أحد من الثقات غير شريك ، وإسناده مضطرب. فكان ينبغي أن يذكر ما ذكره من معايب الحديث ، ليكون أمينا في النقل » فمردود بوجوه عديدة :

اسقاطهم حديث أنا مدينة العلم من صحيح الترمذي

أحدها : ـ ما الدلّيل على وجود الجملة التي ذكرها ابن روزبهان في نسخة العلاّمة الحلي؟

إن اختلاف النسخ في كتب الحديث غير عزيز ، بل إنّ الكتب الموصوفة بالصّحاح عند أهل السنة مختلفة زيادة ونقيصة وتغييرا وتبديلا ، كما لا يخفى على

١٢٤

من راجع ( جامع الأصول لابن كثير ) و ( مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي ) و ( المرقاة لعلي القاري ) ... ومن الشواهد على ذلك حديث « أنا مدينة العلم » و ( صحيح الترمذي ). فقد عرفت أنّ العلامة الحلي رحمه‌الله ينقل هذا الحديث عن ( صحيح الترمذي ) ، ويعترف ابن روزبهان بصحة ذلك قائلا : « وأمّا ما ذكره من صحيح الترمذي فصحيح » ، وقد نقله عن الترمذي قبل العلاّمة : ابن الأثير الجزري في ( جامع الأصول ) ومحمد بن طلحة الشافعي في ( مطالب السؤول ).

واعترف ابن تيمية الحراني ـ وهو معاصر العلامة ـ في ( منهاج السنة ) برواية الترمذي حديث مدينة العلم.

ونقله عن الترمذي جماعة من علماء السنّة المتأخرين عن العلامة الحلّي رحمه‌الله أمثال :

السيد شهاب الدين أحمد في كتابه ( توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل ).

وجلال الدين السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ).

وحسين بن معين الدين الميبدي في ( الفواتح ـ شرح ديوان علي ).

ومحمد بن يوسف الشامي في سيرته ( سبل الهدى والرشاد ).

وابن حجر المكي في ( الصواعق المحرقة ).

والميرزا مخدوم في كتابه ( نواقض الروافض ).

وشيخ بن عبد الله العيدروس في ( العقد النبوي ).

ومحمود الشيخاني القادري في ( الصراط السوّي ).

والشيخ عبد الحق الدهلوي في ( أسماء رجال المشكاة ).

ونور الدين الشبراملسي في ( تيسير المطالب السنية ).

وإبراهيم الكردي الكوراني في ( النبراس ).

ومحمد بن عبد الباقي الزرقاني في ( شرح المواهب اللدنّية ).

ومحمد الصبّان المصري في ( إسعاف الراغبين ).

١٢٥

وشهاب الدين العجيلي الشافعي في ( ذخيرة المآل ).

والمولوي عبد العلي المشهور ببحر العلوم في ( شرح المثنوي ) ....

ومع ذلك كلّه ... فإنّ حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » غير مذكور في نسخ ( الترمذي ) الموجودة ، والموجود فيها هو حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها ».

التّحريف في المصابيح للبغوي

وكذلك الحال في كتاب مصابيح السنة للبغوي ، فكما أخرج فيه حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » أخرج حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ، وقد نقل جماعة من أكابر علماء أهل السنة كالمحبّ الطبري في ( الرياض النضرة ) وفي ( ذخائر العقبى ) والقاري في ( المرقاة ) وأحمد بن الفضل المكي في ( وسيلة المآل ) وغيرهم ... حديث مدينة العلم عن ( المصابيح للبغوي ) ، بل صرّح بعضهم بإخراج البغوي إيّاه في قسم الحسان من أحاديث الكتاب المذكور ... لكنّ النسخ التي وقفنا عليها من ( المصابيح ) خالية عن حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

فهذا تحريف في ( المصابيح ) حذفا وإسقاطا ، ولهم فيه تحريف زيادة وإلحاق ، ففي الوقت الذي يلتزم البغوي بعدم إخراج المناكير في كتابه ، ويصرّح في أوّل كتابه بأن « ما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه ، وأعرضت عن ذكر ما كان منكرا أو موضوعا » تجد فيه حديثا وصف بأنه « منكر » ، وهذا نصّه :

« عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : كنّا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاءه رجل أحسبه من قيس ، فقال يا رسول الله : ألعن حميرا؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : رحم الله حميرا أفواههم سلام وأيديهم طعام وهم أهل أمن وإيمان ـ منكر » (١)

__________________

(١) مصابيح السنة ـ باب مناقب قريش وذكر القبائل ٤ / ١٤١.

١٢٦

ومن هنا ترى المحققين من علمائهم يعترفون بأن لفظ « منكر » إلحاق وإقحام في الكتاب ، من قبل بعض من وصفوه بأهل المعرفة بالحديث ، قال شمس الدين محمد بن مظفر الخلخالي : « قوله : منكر. أي هذا الحديث منكر. يحتمل أن إلحاق لفظ المنكر هاهنا من غير المؤلّف ، من بعض أهل المعرفة بالحديث ، لأنه لو كان يعلم أنه منكر لم يتعرّض له ، لأنه قد التزم الإعراض عن ذكر المنكر في عنوان الكتاب ».

وفي ( المرقاة ) : « قال شارح المصابيح : قوله منكر. هذا إلحاق من بعض أهل المعرفة بالحديث ، لأن المؤلف رحمه‌الله ـ يعني محيي السنة ـ لو كان يعلم أنه منكر لم يتعرّض له ، لأنه قد التزم الإعراض عن ذكر المنكر في عنوان الكتاب ، والله أعلم بالصواب ».

وبعد ... فإنّا لا نستبعد أن تكون العبارة التي ذكرها ابن روزبهان من المقحمات في كتاب ( المصابيح ) من قبل بعض المتعصّبين ، وإن وصفوا بأهل المعرفة بالحديث ... وأنّها لم تكن في نسخة العلاّمة الحلّي رحمه‌الله ولذا لم يذكرها ، فإشكال ابن روزبهان على العلامة في غير محلّه.

والثاني : لو فرضنا كون العبارة من كلام البغوي ، وأنّها كانت موجودة في نسخة العلامة الحلّي رحمه‌الله ، فإنّ الذي تفوّه به ابن روزبهان غير وارد كذلك ، لأنا نقول حينئذ : بأنّ إعراض العلامة الحلّي عن ذكر العبارة مبني على ما تقرّر من أنّ « إقرار العقلاء على أنفسهم مقبول وعلى غيرهم مردود » ، وأنّ « الإنكار بعد الإقرار غير مسموع ».

وتوضيح ذلك هو : أنّ البغوي قال في صدر كتابه المعروف بالمصابيح : « أمّا بعد : فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوّة ، وسنن سارت عن معدن الرّسالة ، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيّين ، هنّ مصابيح الدجى خرجت عن مشكاة التقوى ، مما أورده الأئمة في كتبهم ، جمعتها للمنقطعين إلى العبادة ، لتكون لهم بعد كتاب الله حظا من السنن ، وعونا على ما هم فيه الطاعة ، وتركت ذكر

١٢٧

أسانيدها حذرا من الإطالة عليهم ، واعتمادا على نقل الأئمة ».

فهذا ما وصف به أحاديث كتابه ، فالأوصاف هذه منطبقة على حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » باعترافه ، فلو كان ادّعى البغوي بعد ذلك كون الحديث منكرا فقد أنكر بعد أن أقر ، والإنكار بعد الإقرار غير مسموع ، ولذا أعرض العلامة عن ذكر إنكاره.

الثالث : سلّمنا ، لكنّ إعراض العلاّمة عن ذكر الكلام المزبور ستر لمعائب البغوي ، لا ستر لمعائب الحديث كما زعم ابن روزبهان.

وبيان ذلك هو : أنّ قوله : « الحديث غريب لا يعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك ، وإسناده مضطرب » يشتمل على دعويين :

أحداهما : إن الحديث غريب لا يعرف عن أحد من الثقات غير شريك. وهذه الدعوى تدلّ على قصر باعه وقلّة اطّلاعه ، لأنّ الأمر ليس كذلك كما لا يخفى على المتتبّع الخبير ، بل إنّه حديث مشهور رواه غير شريك من الثقات ، كما دريت سابقا بالتّفصيل.

على أنّه لو كان كذلك فهو مما تفرّد به شريك ، وهذا لا يمنع صحته أو حسنه ، ومن هنا حسّنه الترمذي كما صرح به المحبّ الطبري في ( الرّياض النضرة ) و ( ذخائر العقبى ) ، مع أنّ رواية الترمذي مقتصرة على طريق شريك ، وصحّحه ابن جرير الطبري في ( تهذيب الآثار ) كما نقله السّيوطي في ( جمع الجوامع ) وهو أيضا لم يروه إلاّ عن شريك ، وصحّحه الحاكم أيضا كما صرّح به الشامي في ( سبل الهدى والرشاد ) والشبراملسي في ( تيسير المطالب السنية ) والزرقاني في ( شرح المواهب اللدنّية ). وحسّنه الحافظ العلائي والمجد الفيروزآبادي ، فقد قال العلائي ـ كما في ( اللآلي المصنوعة ) نقلا عن أجوبة عن اعتراضات السّراج القزويني على أحاديث المصابيح للبغوي ـ : « وشريك هو ابن عبد الله النخعي القاضي ، احتجّ به مسلم ، وعلّق له البخاري ، ووثّقه يحيى بن معين ، وقال العجلي : ثقة حسن الحديث ، وقال عيسى بن يونس : ما رأيت أحدا قط أورع في

١٢٨

علمه من شريك. فعلى هذا يكون تفرّده حسنا ».

وكذا قال الفيروزآبادي في كتابه ( نقد الصحيح ) بعد حديث : أنا دار الحكمة.

فعلى هذا لا يكون تفرّد شريك بمانع عن صحة الحديث أو حسنه ، ولا يوجب وهنا فيه أبدا ، فكيف مع اشتراك غير شريك من الثقات في رواية هذا الحديث الشريف!!

والثانية : إن إسناده مضطرب. وهذا باطل بحت ، فإن من نظر في أسانيد هذا الحديث وجدها متعددة ، وكلّها ثابتة بلا تزلزل واضطراب ، وأغلب الظن في سبب هذه الدعوى الباطلة هو الغلط في فهم كلام الترمذي في هذا المقام. وبيان ذلك هو : أنّ الترمذي أخرج حديث « أنا دار الحكمة » بإسناده عن : شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن الصنابحي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثم قال : « روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ، ولم يذكروا فيه عن الصنابحي » وهذا الكلام مفاده رواية بعض المحدّثين هذا الحديث عن : شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلمّا رأى البغوي وجود « الصنابحي » في رواية بعضهم ، وعدم وجوده في رواية البعض الآخر ، توهّم كون إسناده مضطربا ، ولم يتفطّن إلى أنّ كلا السندين صحيح ، لأن « سويد بن غفلة » من التابعين الرواة عن الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بلا واسطة ، فهو يروي الحديث عنه عليه‌السلام بلا واسطة تارة ، وبواسطة « الصنابحي » تارة أخرى ، فكلا الروايتين صحيح متّصل ، وذكر الصنابحي في أحدهما من باب المزيد في متّصل الأسانيد.

وبما ذكرنا صرّح بعض المحققين من أعلام السّنة ، فقد قال الحافظ صلاح الدّين العلائي : « ولا يرد عليه رواية من أسقط منه الصنابحي ، لأن سويد بن غفلة تابعي مخضرم ، أدرك الخلفاء الأربعة وسمع منهم ، فذكر الصنابحي فيه من المزيد في متّصل الأسانيد ».

١٢٩

وقال الفيروزآبادي : « ولا يرد عليه رواية من أسقط الصنابحي منه ، لأن سويد بن غفلة تابعي مخضرم ، روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وسمع منهم ، فيكون ذكر الصنابحي من باب المزيد في متّصل الأسانيد ».

وعلى تقدير تسليم الغلط في إسقاط الصنابحي من الأسناد ، وأن سويد بن غفلة لم يسمع هذا الحديث من الامام عليه‌السلام بل سمعه من الصنابحي ، فإنّ هذا لا يوجب الاضطراب في الإسناد ، فإنّ من أسقط « الصنابحي » من الإسناد فقد أخطأ ، والصحيح رواية البعض الآخر المذكور فيها الصنابحي ، وخطأ الراوي في إسناد لا يوجب العيب في إسناد آخر صحيح ، ولا يضرّ بأصل سند الحديث ... فالتعلّل بمثل هذه الأمور للقدح في الأحاديث المسندة الصحيحة من كثرة التعنّت وقلّة الحياء ، كما نصّ عليه ابن حزم في ( المحّلى ). وقد سبق كلامه حيث ذكرنا مؤيدات حديث « أنا مدينة العلم » ، وأثبتنا حديث « أنا مدينة الحكمة وعلي بابها » ، وتكلّمنا على كلام الدار قطني في هذا الحديث ، فراجعه إن شئت ، فهو أحرى بالرجوع لمثل هذا التحقيق ، والله ولي التوفيق.

فظهر أنّ دعوى اضطراب إسناد حديث « أنا دار الحكمة » ليست إلاّ توهّما وسوء فهم ، فلو أنّ العلاّمة الحلّي رحمه‌الله أعرض عن ذكرها ، فقد ستر معايب البغوي وليس في الحديث عيب أبدا ... وإنّ هذا الذي زعمه ابن روزبهان لم يثمر إلاّ الكشف عن توهّم البغوي وقلّة فهمه للدقائق العلميّة ، قال الله تعالى : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ).

وان تشدّق القوم وتعنّتوا قطعنا ألسنتهم بنقل كمال الدين ابن طلحة الشافعي ـ وهو أقدم زمانا من العلامة الحلّي رحمه‌الله ، وقد ترجم له بكل تبجيل في ( مرآة الجنان ) و ( طبقات الشافعية ) للسبكي والاسنوي وغيرها ـ حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » ـ عن ( المصابيح للبغوي ) كما نقل العلاّمة الحلي ، وهذا عين عبارته في بيان أدلّة علم الامام عليه‌السلام :

١٣٠

« ومن ذلك : ما رواه الامام الترمذي في صحيحه بسنده ، وقد تقدّم ذكره في الاستشهاد في صفة أمير المؤمنين بالأنزع البطين : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها. ونقل الامام أبو محمد الحسين بن مسعود القاضي البغوي في كتابه الموسوم بالمصابيح : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : أنا دار الحكمة وعلي بابها.

لكنّه صلّى الله عليه وسلّم خص العلم بالمدينة والدار بالحكمة ، لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فنونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعم نفعا من الحكمة ، خصّص الأعم بالأكبر والأخصّ بالأصغر » (١).

فهذا نقل هذا الفقيه المحدّث الشافعي ، المتقدم زمانا على العلاّمة الحلّي ، وهو يطابق نقل العلاّمة الحلّي ، وليس فيه العبارة التي زعمها ابن روزبهان ، فالعلامة أمين في النقل ، ولكن نسخ المصابيح حرّفتها الأيدي الأثيمة ، والله ولي التوفيق ، وهو المستعان.

* * *

__________________

(١) مطالب السؤول : ٦٢.

١٣١

(١٠)

مع ابن حجر المكي

في كلامه حول الحديث

وقال ابن حجر المكي في مبحث أعلمية أبي بكر بزعمه : « لا يقال : بل علي أعلم منه للخبر الآتي في فضائله : أنا مدينة العلم وعلي بابها. لأنا نقول : سيأتي أن ذلك الحديث مطعون فيه ، وعلى تسليم صحّته أو حسنه فأبو بكر محرابها ، ورواية : فمن أراد العلم فليأت الباب لا تقتضي الأعلمية ، فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإيضاح والبيان والتفرغّ للناس ، بخلاف الأعلم. على أنّ تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها.

فهذه صريحة في أنّ أبا بكر أعلمهم ، وحينئذ فالأمر بقصد الباب إنما هو لنحو ما قلناه ، لا لزيادة شرفه على ما قبله ، لما هو معلوم ضرورة أن كلا من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب. وشذّ بعضهم فأجاب بأنّ معنى : وعلي بابها. أي من العلو ، على حدّ قراءة : هذا صراط علي مستقيم ، برفع علي وتنويه ، كما قرأ به يعقوب » (١).

علي الأعلم لحديث مدينة العلم

أقول : إنّ حديث مدينة العلم يدل على أعلميّة الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام كما سبق تقريره منّا ، فهو أعلم الخلائق بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين ، فهذه دلالة حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ، وقد شهدت بذلك كلمات كثير من أعلام أهل السنّة ، وكان منها عبارات ابن حجر المكي نفسه في كتابه ( المنح المكية ) ، فمن الغريب بعدئذ دعواه في

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٠.

١٣٢

( الصواعق ) أعلميّة من جهل حتى معنى « الأب » و« الكلالة » ، استنادا إلى دعاوى فارغة وأكاذيب واضحة كما سيأتي ، فإذن ، من الحق أن يقال : علي أعلم.

١ ـ دعوى أنّ الحديث مطعون باطلة

وأمّا قوله : « لأنا نقول : سيأتي أن ذلك الحديث مطعون » فمن فظائع المناقشات ، لما عرفت من صحة هذا الحديث وثبوته بل تواتره وقطعية صدوره ، حسب إفادات أكابر الأعلام والمحقّقين من أهل السنّة ، بحيث لا يبقى مجال لأيّ قيل وقال ...

ثم إنّ كلام ابن حجر في الموضع الذي أحال إليه بقوله « سيأتي » يتضمّن وجوها عديدة على فساد زعمه « أنّ ذلك الحديث مطعون » ... وشرح ذلك هو :

أن ابن حجر قال في الفصل الثاني من الباب التاسع من ( الصواعق ) : « ثم اعلم أنه سيأتي في فضائل أهل البيت أحاديث مستكثرة من فضائل علي رضي‌الله‌عنه ، فلتكن منك على ذكر ، وأنّه مرّ في كثير من الأحاديث السابقة في فضائل أبي بكر جمل من فضائل علي ، واقتصرت هنا على أربعين حديثا ، لأنها من غرر فضائله » ثم قال : « الحديث التاسع ـ أخرج البزار والطبراني في الأوسط عن جابر ابن عبد الله ، والطبراني والحاكم والعقيلي في الضعفاء ، وابن عدي عن ابن عمر ، والترمذي والحاكم عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنا مدينة العلم وعلي بابها. وفي رواية : فمن أراد العلم فليأت الباب. وفي أخرى عند الترمذي عن علي : أنا دار الحكمة وعلي بابها ، وفي أخرى عند ابن عدي : علي باب علمي.

وقد اضطرب الناس في هذا الحديث ، فجماعة على أنه موضوع ، منهم ابن الجوزي والنووي ، وناهيك بهما معرفة بالحديث وطرقه ، حتى قال بعض محققي المحدّثين : لم يأت بعد النووي من يدانيه في علم الحديث فضلا عن أن يساويه. وبالغ الحاكم على عادته فقال : إن الحديث صحيح ، وصوّب بعض محققي

١٣٣

المتأخرين المطلعين على الحديث : أنه حديث حسن. ومرّ الكلام عليه » (١).

وهذا الكلام ـ الذي أوردناه في مبحث الردّ على قدح النووي ـ أعدناه هنا بنصه ليعلم أنّ ابن حجر يعدّ حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » من فضائل الامام عليه‌السلام ، و« غرر فضائله » ومن « الأربعين حديثا » التي رجّحها في الذكر على سائر فضائله عليه‌السلام. ثم ينصّ على إخراج « البزار » و« الطبراني » و« العقيلي » و« ابن عدي » و« الترمذي » و« الحاكم » له عن عدة من الصحابة ، و« العقيلي » وان كان قد أخرجه في الضعفاء ، إلاّ أن ابن حجر يرى روايته صالحة للتأييد ، وكذا رواية ابن عدي ... وهؤلاء الحفّاظ كما تعلم من مشاهير أئمة الحديث عند اهل السنّة ، ومن بينهم الترمذي وكتابه يعدّ من الصحاح الستة عندهم.

ثم إن ابن حجر يقول : « وفي رواية : فمن أراد العلم فليأت الباب » وهذا ظاهر في ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم يقول : « وفي أخرى عند الترمذي عن علي : أنا دار الحكمة » وهذا من مؤيّدات حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ومن هنا ذكره ابن حجر في هذا المقام ، وكذا حديث « علي باب علمي ».

ثم إنّه ينص على تصحيح الحاكم حديث « أنا مدينة العلم » وعلى أنه قد « صوّب بعض محققي المتأخّرين المطّلعين على الحديث أنه حديث حسن ».

فإذن الحديث من غرر فضائل الامام ، وقد أخرجه جماعة من الأئمة الحفّاظ عن جماعة من الصحابة ، وله مؤيّدات أخرجها جماعة منهم كذلك ، وهو صحيح عند الحاكم ، وصوّب بعض المحققين أنه حديث حسن ، هذه أمور اعترف بها ابن حجر المكي في كلامه الذي أحال إليه بقوله « سيأتي » وهذه الأمور تكفينا في مقام الاحتجاج وإلزام الخصم ، ولإبطال قوله « مطعون » .. والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) الصواعق : ٧٢.

١٣٤

وأما قوله : « وقد اضطرب الناس » ففيه : إن المنصفين لم يضطربوا في هذا الحديث. وأمّا المتعصّبون فلا يلتفت إليهم البتّة.

آراء العلماء في ابن الجوزي

وأمّا قوله : « فجماعة على أنه موضوع منهم ابن الجوزي والنووي » ففيه أوّلا : إن ما ذكراه حول الحديث باطل مردود ، كما تقدّم في الكتاب بالتفصيل. وثانيا : ان المحقّقين من أهل السنّة لا يعبئون بقدح ابن الجوزي وطعنه في الأحاديث ، وقد نصّ جماعة منهم على معايب لابن الجوزي ، وصدرت منهم كلمات مختلفة في ذمّه والطعن عليه ... ومن هؤلاء :

ابن الأثير في الكامل في التأريخ.

وأبي الفداء الأيوبي في المختصر في أحوال البشر.

وعبد الله بن أسعد اليافعي في مرآة الجنان.

وخواجه بارسا في الفصول الستة.

وشمس الدين الذهبي في ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، وفي تذكرة الحفاظ.

وابن حجر العسقلاني في لسان الميزان.

وجلال الدين السيوطي في طبقات الحفاظ.

وشمس الدين الداودي في طبقات المفسرين.

والشيخ عبد الحق الدهلوي في أسماء رجال المشكاة.

كما نصّ جماعة منهم على تسرّع ابن الجوزي في الطعن في الأحاديث الصّحيحة في كتابه ( الموضوعات ). ومن هؤلاء :

ابن الصلاح في علوم الحديث ، وابن جماعة في المنهل الروي ، والطيبي في الكاشف ، وابن كثير في الباعث الحثيث ، والزين العراقي في ألفيّة الحديث وشرحها ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري والقول المسدّد ، والسخاوي في

١٣٥

فتح المغيث ، والسيوطي في اللآلي المصنوعة والنكت البديعات وتدريب الراوي ، ومحمد بن يوسف الشامي في سبل الهدى والرشاد ، ورحمة الله السندي في مختصر تنزيه الشريعة ، ومحمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات ، والشيخ عبد الحق في أسماء رجال المشكاة ، والجلبي في كشف الظنون ، وإبراهيم الكردي في المسلك الوسط الداني ، والزرقاني في شرح المواهب ، والسندي في دراسات اللبيب ، ومحمد ابن إسماعيل الأمير في الروضة الندية ، والشوكاني في الفوائد المجموعة وفي نيل الأوطار ، والمولوي حسن الزمان في القول المستحسن ، والمولوي القنوجي في إتحاف النبلاء المتقين.

ردّ العلماء على طعن ابن الجوزي في حديث مدينة العلم

فهذه آراؤهم في ابن الجوزي وآرائه في الأحاديث بصورة عامّة ، وقد ردّ عليه في خصوص طعنه في حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » جماعة من مشاهير علماء أهل السنّة النحارير ، ونقدة الحديث والمطّلعين على الأخبار ، منهم :

الحافظ صلاح الدين العلائي في أجوبة سؤالات السّراج القزويني.

والمحقق بدر الدين الزركشي في اللآلي المنثورة.

والعلامة مجد الدين الفيروزآبادي في نقد الصحيح.

وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في فتوى له.

والعلامة شمس الدين السخاوي في المقاصد الحسنة.

والحافظ جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء ، والنكت البديعات ، واللآلي المصنوعة ، وقوت المغتذي ، وجمع الجوامع.

والعلامة نور الدين السمهودي في جواهر العقدين.

والعلامة ابن عراق في تنزيه الشريعة.

وعلي بن حسام الدين المتقي في كنز العمال.

ومحمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات.

١٣٦

وعلي القاري الهروي في المرقاة.

والعلامة الزرقاني في شرح المواهب اللدّنية.

والميرزا محمد البدخشاني في نزل الأبرار ، ومفتاح النجاة ، وتحفة المحبين.

ومحمد صدر العلم في معارج العلى.

ومحمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في الروضة الندية.

ومحمد الصبان المصري في إسعاف الراغبين.

والقاضي ثناء الله باني بتي في السيف المسلول.

وقاضي القضاة الشوكاني في الفوائد المجموعة.

والميرزا حسن على المحدّث في تفريح الأحباب.

وولي الله اللكهنوي في مرآة المؤمنين.

والمولوي حسن الزمان في القول المستحسن.

وامّا « النووي » فلا يجوز الاستناد إلى كلامه في المقام ، لما عرفت سابقا من أنّ النووي يقدح في حديث « أنا دار الحكمة » وقد بينّا بطلان قدحه ، وأوردنا كلمات كبار الحفاظ في ردّ كلامه ... وأمّا قدحه في حديث « أنا مدينة العلم » المستفاد من لحن كلامه ، فقد بلغ في السخافة حدّا حمل جماعة من الأعلام على الردّ عليه بصراحة : كالسيوطي في تاريخ الخلفاء ، والشيخ عبد الحق في أسماء رجال المشكاة ، والصّبان المصري في إسعاف الراغبين ، والقاضي ثناء الله في السيف المسلول ، وحسن على المحدّث في تفريح الأحباب.

وبما ذكرنا يظهر سقوط قول ابن حجر المكي في تعظيم الرجلين : « وناهيك بهما معرفة بالحديث وطرقه ... » فإن هذا المدح لهما ليس بنافع في المقام ، بعد الكلمات التي قالها الأعلام في ابن الجوزي ، وفي الردّ على طعن ابن الجوزي والنووي في خصوص حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » بل إنّ ما ذكره ابن حجر كذب صريح ، وتعصّب مقيت ، إذ من المستبعد جدّا أن تخفى هذه الكلمات في القدح في ابن الجوزي ونسبته إلى كثرة الغلط والوهم وشدة الغفلة والاشتباه ...

١٣٧

على مثل ابن حجر المكي ... وكذا الكلام في مدحه للنّووي ، فإن ما ذكرناه سابقا في ردّ كلامه يكشف عن تعصّبه ، ويعلن للملإ العلمي قصر باعه وعدم معرفته بالحديث وطرقه.

وأمّا قول ابن حجر : « وبالغ الحاكم على عادته فقال : إن الحديث صحيح » ففيه : أنّه قد سبقه يحيى بن معين ، ومحمد بن جرير الطبري ، إلى الحكم بصّحة هذا الحديث الشريف ، كما سبق بالتّفصيل ... إذن لم يكن الحاكم مبالغا في هذا القول ، على أن الحاكم ـ بالإضافة إلى تصحيح الحديث ـ يذكر الدلائل السديدة والبراهين العديدة على صحته كما لا يخفى على من راجع كلماته.

ومن هنا يظهر وجه آخر من وجوه تعصّب ابن حجر ، فهو يذكر أنّ بعض المحققين صوّب حسن الحديث ، ولا يذكر الذين نصّوا على صحتّه كيحيى بن معين والطبري ، وأما الحاكم فيصفه بالمبالغة .. فاعترافه بتحسين بعض المحققين ـ وإن كان يردّ على طعن الطاعنين كابن الجوزي ـ لكنّه في نفس الوقت محاولة لستر حقيقة راهنة لا تقبل الستر بنحو من الأنحاء ، والله العاصم عن بغي كل معاند لدود.

٢ ـ تحسين ابن حجر في المنح المكيّة

ويرد كلام ابن حجر ما ذكره هو في كتاب ( المنح المكية ـ شرح القصيدة الهمزية ) من تحسين حديث « أنا مدينة العلم » بكلّ صراحة ، والاستدلال به على أن الامام عليه‌السلام ورث علوم القرآن عن النبي عليه وآله الصلاة والسلام ، فقد قال بشرح قول البوصيري :

« كم أبانت آياته من علوم

عن حروف أبان عنها الهجاء »

قال ابن حجر بعد أن ذكر أقوالا عن الشافعي : « وتبعه ـ يعني الشافعي ـ العلماء على ذلك فقال واحد : ما قال صلّى الله عليه وسلّم شيئا أو قضى أو حكم

١٣٨

بشيء إلاّ وهو أو أصله في القرآن قرب أو بعد. وقال آخر : ما من شيء في العالم إلاّ وهو فيه ، فقيل له : أين ذكر الخانات فيه؟ فقال : في قوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) فهي الخانات. وقال آخر : ما من شيء إلاّ ويمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث وستّون سنة استنبط من آخر سورة المنافقين ، لأنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن لظهوره بفقده صلّى الله عليه وسلّم. قال آخر : لم يحط بالقرآن إلاّ المتكلّم به ، ثم نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، فيما عدا ما استأثر الله تعالى بعلمه.

ثم ورث عنه معظم ذلك أعلام الصحابة مع تفاوتهم فيه بحسب تفاوت علومهم ، كأبي بكر ، فإنه أعلمهم بنص ابن عمر وغيره ، وكعلي كرّم الله وجهه لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الحسن خلافا لمن زعم وضعه : أنا مدينة العلم وعلي بابها. ومن ثمّ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : جميع ما أبرزته لكم من التفسير فإنما هو عن علي كرم الله وجهه. وكابن عباس حتى أنه قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى. ثم ورث عنه التابعون معظم ذلك ، ثم تقاصرت الهمم عن حمل ما حمله أولئك من علومه وفنونه ، فنوّعوا علومه أنواعا ليضبط كل طائفة علما وفنّا ويتوسّعوا فيه بحسب مقدرتهم ، ثم أفرد غالب تلك العلوم وتلك الفنون التي كادت أن تخرج عن الحصر وقد بيّن هذا القائل وجه استنباط غالبها منه بتآليف لا تحصى ».

فبطل قوله : « إن الحديث مطعون » بكلام نفسه.

وأمّا دعواه أنّ أبا بكر أعلمهم بنص ابن عمر وغيره ، فمن غرائب الكلام ، إذ كيف يدّعى أعلمية من جهل « الكلالة » و« الأب »؟ ونصّ ابن عمر ـ إن صّح ـ لا ينفع في مثل المقام ، إذ الاستشهاد به فيه من قبيل استشهاد ابن آوى بذنبه ، بل هو أوضح شناعة منه ، لكثرة ما اشتهر من الجهل عن ابن عمر.

أمّا نصّ غيره على ذلك ، فدعوى كاذبة ، ومن ادّعى فعليه البيان ، وعلينا

١٣٩

ردّه وإبطاله بأمنع دليل وأتم برهان.

وأيضا : لا نسلّم كون ابن عباس قد ورث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم القرآن ، لدلالة الأدلّة الكثيرة المتقنة مثل حديث : إني تارك فيكم الثقلين ، وحديث باب حطّة .. وغيرهما .. على اختصاص علم القرآن وسائر علوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأئمة المعصومين من أهل بيته الطّاهرين ... نعم ، لا ريب في تحصيل ابن عباس طرفا كبيرا من علم التفسير والتأويل ببركة تتلمذه على سيّدنا أمير المؤمنين باب مدينة العلم عليه‌السلام ، كما اعترف بذلك في كلامه الذي أورده ابن حجر ، أعني قوله : « جميع ما أبرزته لكم من التفسير فإنما هو من علي » ، وقد رويت عنه كلمات أخرى في هذا المضمار ستسمع جانبا منها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقال ابن حجر المكي في موضع آخر من ( المنح المكية ) بشرح قول البوصيري :

« لم يزده كشف الغطاء يقينا

بل هو الشمس ما عليه غطاء »

قال ما نصّه : « تنبيه : مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى اختص عليّا من العلوم بما تقصر عنه العبارات قوله صلّى الله عليه وسلّم : أقضاكم علي. وهو حديث صحيح لا نزاع فيه. وقوله : أنا دار الحكمة ، ورواية أنا مدينة العلم وعلي بابها قد كثر اختلاف الحفّاظ وتناقضهم فيه بما يطول بسطه وملخصه : إن لهم فيه أربعة آراء :

صحيح ، وهو ما ذهب إليه الحاكم ويوافقه قول الحافظ العلائي ، وقد ذكر له طرقا وبيّن عدالة رجالها ، ولم يأت أحد ممن تكلّم في هذا الحديث بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن يحيى بن معين ، وبيّن ردّ ما طعن فيه في بعض رواته كشريك القاضي ، بأن مسلما احتج به وكفاه بذلك فخرا له واعتمادا عليه ، وقد قال النووي في حديث رواه في البسملة ردّا على من طعن فيه : يكفينا أن نحتج

١٤٠