إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

التفصيل الرابع

بين الأحكام التكليفية والوضعية

وقبل الخوض في المقصود ، نقدّم أُموراً :

١. الحكم لغة واصطلاحاً

الحكم في اللغة بمعنى المنع ، قال الشاعر :

أبني حنيفة حكِّموا سفهاءَكم

إنّي أخاف عليكم أن أُغْضِبـا

أي امنعوا سفهاءَكم من التعرّض لعشيرتي ، وبهذه المناسبة استعملت في المعاني التالية :

١. حَكَمَة الفرس ، لأنّها تمنعه من مخالفة راكبه.

٢. الحكمة لأنّها تمنع الإنسان عن الضلال.

٣. الحكيم لأنّه بإعمال القواعد يمنع عن تطرّق الفساد إلى فعله.

وأمّا إطلاقه على الحكم الشرعي ، فلأنّه يمنع المكلّف من التجاوز عن الحدّ المقرر له.

وربّما يطلق الحكم في اللغة ويراد منه الفصل ، وبهذه المناسبة يطلق على القاضي الحاكم ، لأنّه يفصل الخصومات والمنازعات ، ويطلق على التشريع ،

٨١

الحكم ، لأنّه يفصل بين الحقّ والباطل.

وأمّا اصطلاحاً ، فهو ينقسم إلى تكليفي ووضعي.

أمّا الأوّل : فهو ما يشتمل على إنشاء البعث أو الزجر أو الترخيص. ثمّ البعث تارة يكون مع المنع من الترك ، وأُخرى لامعه ، كما أنّ الزجر أيضاً كذلك ، وبذلك تنحصر الأحكام التكليفية في الخمسة : الوجوب ، الاستحباب ، الحرمة ، الكراهة ، والإباحة.

وإن شئت قلت : الحكم التكليفي عبارة عمّا يحدِّد فعل المكلّف من حيث الاقتضاء فإمّا فيه اقتضاء الفعل بقسميه ، أو اقتضاء الترك بقسميه أيضاً ، أو اقتضاء التساوي.

وبذلك يعلم أنّ الإباحة الشرعية عبارة عن الفعل الذي فيه اقتضاء المساواة ، وأمّا إذا كان الفعل متجلّياً بصورة اللا اقتضاء ، فالإباحة فيه عقلية لاشرعية.

وأمّا الثاني : فهو ما لايشتمل على بعث ولازجر ولا اقتضاء المساواة ، بل جعل حكم ، له صلة بفعل المكلّف بلاواسطة كالملكية والزوجية أو مع الواسطة مثل طهارة الماء ونجاسة الدم.

٢. تقسيم المفاهيم إلى مراتب أربع

تنقسم الماهيات إلى أربعة أقسام :

١. الجوهر : وهو ماهية إذا وجد في الخارج وجد لا في موضوع ، كالإنسان.

٢. العرض : وهو ماهية إذا وجد في الخارج وجد في موضوع ، كالبياض

٨٢

والسواد.

٣. الانتزاعيات : وهي ماهية ليس لها مصداق في الخارج ، ولكن الخارج مشتمل على خصوصية وجودية تؤهّل الذهن لانتزاع ذلك المفهوم من تلك الخصوصية ، وهذا كالفوقية والتحتية ، إذ ليس لهما مصداق في الخارج ، كالجوهر والعرض ، ولكن الخصوصية الوجودية للفوق والتحت تصحّح انتقال الذهن من مشاهدتها إلى انتزاع ذينك المفهومين ، وهذا ما يقال في لغة الفلسفة بأنّ الانتزاعيات لها حظ من الوجود.

والحقّ انّ الحظ لمنشأ الانتزاع لاللمفهوم الانتزاعي وإنّما هو مفهوم يصنعه الذهن بعد الإحاطة بما في الخارج والاطّلاع على الخصوصية.

٤. الاعتباريات : وهي المفاهيم التي يصنعها الذهن لأغراض وهمية أو عقلائية ، ولايقوم الذهن بصنعها إلاّ بعد التشبيه والمحاكاة.

أمّا الوهمي كتصوير إنسان له مائة رأس ، أو غول له ناب ؛ وأمّا العقلائي كالرئيس ، وهي مأخوذة من الرأس ، وله مصداق تكويني وهو رأس الإنسان الذي يدير البدن ، ومصداق اعتباري وهو تنزيل من يدير دفة المؤسسة منزلة الرأس من البدن.

والزوجية فلها مصداق تكويني كالغصنين النابتين على أساس واحد ، ومصداق اعتباري ، وهو تنزيل الزوجين منزلة ذينك الغصنين. وهكذا سائر المفاهيم الاعتبارية.

وبذلك يعلم أنّ كلّ مفهوم اعتباري ، ذو منشأ واقعي ، بمعنى أنّ الواقع يكون سبباً لانتقال الذهن إلى صنع مفاهيم لأجل غايات اجتماعية.

٨٣

ومن ذلك يعلم أنّ الشرطية والجزئية والمانعية والقاطعية للصلاة أُمور اعتبارية تنزل ما هو الجزء أو الشرط أو المانع أو القاطع للصلاة منزلة الجزء والشرط والمانع والقاطع التكوينيين. فكأنّ الخارج نموذج لصنع الذهن مثله لغايات اجتماعية وسياسية.

٣. ذكر الأقوال في مجعولية الأحكام الوضعية

هل الحكم الوضعي يناله الجعل؟

لا شكّ انّ الحكم التكليفي ممّا تناله يد الجعل ، كالأمر بالصلاة والزكاة والنهي عن الكذب والغيبة ، ففي الأوّلين إنشاء البعث إلى الفعل وفي الأخيرين إنشاء الزجر عنه. إنّما الكلام في الأحكام الوضعية ، فهل هي منتزعة من الأحكام التكليفية فلاتنالها يد الجعل إلاّ تبعاً ، أو انّها أيضاً مجعولة مستقلة مثل التكليفية ، أو انّ قسماً منها لاتناله يد الجعل التشريعي لاتبعاً ولا أصالة وقسماً منها منتزعة تنالها يد الجعل تبعاً وقسماً منها مجعولة بالأصالة؟

والأوّل مختار الشيخ ، والثاني لشارح الوافية ، والثالث للمحقّق الخراساني ، وإليك دراسة الأقوال واحداً تلو الآخر.

أمّا الأوّل : فقد أفاد الشيخ في توضيحه : أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي وانّ كون الشيء سبباً لواجب ، هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ، فمعنى قولنا : إتلاف الصبي سبب لضمانه : أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها.

٨٤

وإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله : « اغرم ما أتلفته في حال صغرك » ، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبـّر عنه بسببية الإتلاف للضمان ، ويقال انّه ضامن بمعنى انّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف.

وكذا الكلام في غير السبب فانّ شرطية الطهارة للصلاة ، ليست مجعولة بجعل مغائر لإنشاء وجوب الصلاة الواقعية حال الطهارة ، وكذا مانعية النجاسة ليست إلاّ منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس ، وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره في هذه الموارد ، أعني : السببية والشرطية والمانعية ، كلام تام ، ولكنّه استقراء ناقص ، ولايكون دليلاً على أنّ الحكم الوضعي في عامّة الموارد منتزع من التكليفي ، كيف؟ وربما يكون الحكم الوضعي مجعولاً بالأصالة في قولك : « زوّجت موكّلتي » ، أوقوله : « أنت حرّ » فالأوّل ناظر إلى إنشاء الزوجية ، والثاني لإنشاء الحرية.

أمّا القول الثاني : فإن أراد انّهما متلازمان معاً وانّ انشاء أحدهما يلازم إنشاء الآخر ، كما هوالظاهر من كلامه المنقول في « الفرائد ». (٢)

ففيه : انّ القول بتعدد الجعل مع أنّ جعل أحدهما يغني عن الآخر ، أمر لغو ، فهنا جعل واحد هو الأصيل والآخر أمر منتزع ، فالمجعول إمّا سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، فوجوب الصلاة أمر منتزع ، أو وجوب الصلاة لدى الدلوك ، فالسببية أمر منتزع.

وإن أراد انّ هنا جعلاً واحداً ، وهو متعلّق بالحكم الوضعي مطلقاً ،

__________________

١. الفرائد : ٣٥١.

٢. الفرائد : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

٨٥

والتكليفي منتزع ، فهو ليس بصحيح على إطلاقه ، إذ ربّما يكون الكلام ظاهراً في جعل الحكم التكليفي دون الوضعي ، كما في قوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْل ) ، فالآية ظاهرة في جعل الوجوب للصلاة لدى دلوك الشمس.

وإن أراد انّ الجعل ربما يتعلّق بالوضع ويكون التكليف تابعاً له ، فهو صحيح كما مثلنا في إنشاء الزوجية والحريّة.

وأمّا القول الثالث : فقد قسّم الوضعي إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأول : مالا تناله يد الجعل التشريعي لاتبعاً التكليفي ) ولا استقلالاً :

وحاصل كلامه في هذا القسم : انّ الحكم الوضعي ، لامنتزع من الحكم التكليفي ولامجعول بالاستقلال ، وهكذا كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه أو مانعه ورافعه ، حيث إنّه لايكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتاً ، حدوثاً وارتفاعاً.

كما أنّ اتصافها بها ليس إلاّ لأجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكويناً ، للزوم أن يكون في العلة بأجزائها ربط خاص ، به كان مؤثراً في معلولها لا في غيره ولا غيرها فيه ، وإلاّ لزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كلّ شيء وتلك الخصوصية لاتكاد توجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين مثل قول : « دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاءً لا اخباراً » ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له ، من كونه واجداً لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقداً لها ، وانّ الصلاة لاتكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ومعه تكون واجبة لامحالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلاً.

٨٦

ومنه انقدح عدم صحّة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة. (١)

أقول : إنّ ما ذكره من أنّ السببية وما عطف إليها ، غير مجعولة لاتبعاً ولا أصالة مبني على مقدمتين :

المقدمة الأُولى : أنّ السبب ، والشرط والمانع ، والرافع ، كالدلوك ، والطهارة ، والحيض ، والإغماء في أثناء الصلاة ، متقدمة على التكليف ـ أي وجوب الصلاة ـ أمّا الثلاث الأُول فلأنّها من أجزاء العلة متقدّمة على المعلول ( وجوب الصلاة ).

وأمّا الرافع فلأنّه علّة لعدم وجوب الصلاة ، ومتقدّم عليه بحكم العلية ، وعدم وجوب الصلاة في رتبة وجوب الصلاة ، لأنّ المتناقضين في رتبة واحدة ، فينتج أنّ الرافع متقدّم على وجوب الصلاة.

وبذلك علم أنّ الأُمور الأربعة متقدمة على التكليف ، بمعنى وجوب الصلاة غير أنّ الثلاثة الأُولى مؤثرة في حدوث التكليف ، والرابع مؤثر في ارتفاع التكليف ، وإلى ذلك يشير بقوله حدوثاً وارتفاعاً.

المقدمة الثانية : انّوصف الأُمور الأربعة المذكورة سالفاً بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية ، لأجل خصوصية كامنة في جوهر هذه الأُمور الأربعة التي بها تكون مؤثرة في وجوب الصلاة حدوثاً ، أو ارتفاعاً ، ولولا تلك الخصوصية لما أثّرت في التكليف ورفعه ، لما ثبت في محله من أنّه يجب أن يكون بين العلة والمعلول ربط وخصوصية لاتوجد في غيرها ، وإلاّ يلزم أن يكون كلّ شيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو رافعاً لكلّ شيء.

__________________

١. الكفاية : ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٨٧

والدليل على أنّ تأثير هذه الأُمور رهن خصوصية كامنة فيها هو أنّك لو قلت : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة بصورة الإنشاء لايكون الدلوك سبباً ، بل لو كانت الخصوصية موجودة لاستغنت عن الإنشاء ، وإلاّ فهذا النوع من الإنشاء غير مؤثر في حدوث الخصوصية.

إذا تضح ذلك فنقول : إنّ للمحقّق الخراساني دعويين :

الأُولى : انّ هذا النوع من الأحكام الوضعية غير منتزع من الأحكام التكليفية ، أي ليست مجعولة تبعاً.

الثانية : انّ هذا النوع من الأحكام الوضعية غير مجعول على نحو الاستقلال.

أمّا الدعوى الأُولى فتستنتج من كون السبب والسببية ، أو الشرط والشرطية وغيرهما من الأُمور المتقدمة على الحكم التكليفي ، فكيف ينتزع المتقدّم ( السبب والسببية ) من المتأخّر ( أي وجوب الصلاة )؟

أمّا الدعوى الثانية : فقد استنتجها من القول بأنّ السببية أمر تكويني لاتناله يد الجعل التشريعي ، فلو كانت الخصوصية موجودة فإنشاء السببية مستقلاً أمر لغو لايؤثِّر فيه شيء ، وإن كانت فاقدة لتلك الخصوصية لايضفي إنشاء السببية عليه وصف السببية.

وبذلك علم أنّ المحقّق الخراساني أثبت كلا الدعويين ، وأنّ الحكم الوضعي فيه غير منتزع ، بحكم تقدّم السبب والسببية على الحكم التكليفي ، ولامجعول مستقل ، لأنّه أمر تكويني لايقبل إلاّ الجعل التكويني لا التشريع.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من البيانين صحيح ، لكن في العلل والأسباب التكوينيّة ، والسبب وسببيته متقدّمان على المعلول كالنار بالنسبة إلى الإحراق ، كما

٨٨

أنّ السببية رهن خصوصية كامنة في صلب العلّة وجوهرها.

فعند ذلك يأتي كلا البيانين :

أ : لايصحّ انتزاع وصف السببية التي في جوهر العلة عن المعلول المتأخّر.

ب : لايصحّ جعل السببية جعلاً تشريعياً بعد تحقّقها تكويناً.

فيترتب على ذينك البيانين أنّ السببية والشرطية والمانعية والرافعية في العلل التكوينية ليست منتزعة من المسببات والمعاليل ، ولامجعولة بالجعل التشريعي بعد تحقّقها تكويناً.

وأمّا إذا كانت الأسباب والشرائط للتكليف أُموراً اعتبارية من دون توفّر رابطة تكوينية بين السبب والمسبب سوى لحاظ الشارع أو المقنِّن أحدهما بعد الآخر في عالم الاعتبار واللحاظ ، فمثل ذلك قابل للجعل استقلالاً ، كما هو قابل للجعل تبعاً وانتزاعاً.

أمّا استقلالاً : كما إذا قال : جعلتُ الدلوك سبباً لوجوب الصلاة ، أو جعلتُ الإيجاب والقبول سبباً للملكية ، أو قول القائل : « أنت طالق » سبباً لحل عقدة النكاح.

كما أنّه يجوز انتزاعُ تلك الأُمور من الحكم التكليفي بالصلاة عند الدلوك ، فإذا قال : ( أَقم الصلاة لدلوك الشمس ) ينتزع منه سببيّة الدلوك بوجوب الصلاة ، فتكون مجعولة جعلاً تبعياً.

ويرشدك إلى ذلك أمران :

الأمر الأوّل : انّ النطق بهذه الأسباب ليس مؤثراً في إيجاد المسببات قبل جعل الشارع أو العقلاء ، وهذا خير شاهد على فقدان الرابطة التكوينية بين ما

٨٩

جعل سبباً وما جعل مسبباً.

الأمر الثاني : انّ سنخ الأثر يكشف عن سنخ المؤثر ، فإذا كان المعلول في قوله : ( أقم الصلاة ) وجوب الصلاة أو كان المعلول اعتبار الملكية فلابدّ أن يكون السبب من سنخ ذلك الأثر لاسبباً تكوينياً.

وخلاصة القول : إنّ الذي حدا بالمحقّق الخراساني إلى القول بامتناع الجعل في هذه الأقسام هو قياس العلل الاعتبارية بالعلل التكوينية مع البون الشاسع بين العلّتين.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني برهن على عدم مجعولية السببية بوجهين.

وحاصل الوجه الأوّل : أنّ المجعول بالوجدان هو الحكم التكليفي لا الوضعي قال :

لو قلنا بجعل السببية في التكليف ، كجعل السببية للدلوك ، أو في الوضع ، كجعلها للعقد المركب من الإيجاب والقبول ، يلزم أن لايكون الوجوبُ في الأوّل ، والملكية في الثاني ، فعلاً اختيارياً للشارع ، بل كانا من الأُمور الحاصلة قهراً بلا إنشاء من الشارع ، فانّ ترتب المسبب على سببية أمر قهري لايعقل فيه التخلّف ولايمكن أن يدخله الاختيار.

يلاحظ عليه : المدّعى هو امتناع تعلّق الجعل بالسببية ولكن الدليل لايثبت أزيد من عدم الوقوع ، حيث نعلم وجداناً أنّ الوجوب بعد الدلوك ، والملكية بعد الإيجاب والقبول ، فعل للشارع ، ولو قلنا بجعل السببية يلزم الغنى عن جعل المسببات والأحكام.

أضف إلى ذلك أنّه لا مانع من نسبة الوجوب والملكية إلى الشارع حتى على

٩٠

القول بجعل السببية ، فانّهما من أفعال الشارع ، غاية الأمر فعلاً تسبيبيّاً لامباشرياً.

وحاصل الوجه الثاني : انّ السببية غير مجعولة لاتشريعاً ( خلافاً للمشهور ) ولاتكويناً ( خلافاً للمحقّق الخراساني ) على وجه الاستقلال ، بل جعلها ، بجعل ذات السبب قال :

انّ المجعول إنّما هو ذات السبب ، أمّا السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة ، فانّ السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب ، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لايمكن أن تنالها يد الجعل التكويني ، فضلاً عن الجعل التشريعي ، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنّما يكون بتكوين الماهية ، وإفاضة الوجود إلى الذات ، فعلّية العلّة وسببيّة السبب كوجوب الواجب وإمكان الممكن وامتناع الممتنع ، إنّما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء ، لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، فالعلية لاتقبل الإيجاد التكويني فضلاً عن الإنشاء التشريعي. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره صحيح في السببية التكوينية حيث إنّ السببية بالنسبة إلى المسبب من قبيل ذاتي باب البرهان والخارج المحمول ، وما هو مثله لاتتعلّق به يد الجعل ، لأنّ مناط الجعل الفقر والحاجة ، والسببية بعد جعل السبب متحقّقة ضرورة فلاحاجة إلى جعل آخر ، وهذا من خواص ذاتي باب البرهان حيث إنّ جعل الموضوع يلازم جعل المحمول الذاتي ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة.

وأمّا المقام فليست السببية أمراً ذاتياً بالنسبة إلى السبب أي الدلوك حتى لا

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٩١

تتعلّق بها يد الجعل ، لإمكان التفكيك بين الدلوك والسببية ، وعلى ذلك فلا مانع من تعلّق الجعل التشريعي بالسببية ، بعد إيجاد الدلوك تكويناً.

القسم الثاني : ما تناله يد الجعل تبعاً لا استقلالاً

إنّ القسم الثاني عبارة عن الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه ، فقد اختار أنّه لايتطرق إليها الجعل التشريعي بالأصالة ، فلايصحّ جعلها ابتداء وإنّما يجعل تبعاً للأحكام التكليفية ـ قال : وجه ذلك انّ اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لايكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة أُمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولايتصف شيء بذلك أي كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به إلاّ بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيداً بأمر آخر ، وما لم يتعلّق به الأمر كذلك لما صحّ وصفه بالجزئية أو الشرطية وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ابتداءً.

وجعل الماهية وأجزائها ليس إلاّ تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها ، فتصورها بأجزائها وقيودها لايوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته قبل الأمر بها ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنّما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الأمر به لا اتصاف بها أصلاً وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة. (١)

وحاصل ما أفاده : أنّ أمر هذه الأُمور دائر بين كون الجعل فيها محالاً ، أو تحصيلاً للحاصل ، فلو استقل بالجعل قبل الأمر بالمأمور به ، فهو محال ، لعدم اتصاف الأجزاء بالمأمور به قبل الأمر ولو قام بالجعل بعد الأمر بالكل ، فهو أمر

__________________

١. الكفاية : ٣ / ٣٠٥.

٩٢

لغو وتحصيل للحاصل لاتصافها بها بعد الأمر بالكل.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ جعل الجزئية الفعلية لجزء من أجزاء المأمور ، فرع تعلّق الأمر بالمركّب المأمور به ، وبعد تعلّق الأمر بالكلّ الذي يدخل فيه هذا الجزء ، يكون جعل الجزئية له أمراً لغواً وتحصيلاً للحاصل ، وأمّا جعل الجزئية الشأنية للمركب المأمور به شأناً لافعلاً بمكان من الإمكان كأن يقول الحمد جزء للصلاة التي سوف أمر بها.

وثانياً : يكفي في جعل الجزئية الفعلية تعلّق أمر بعنوان ، وضع لاجزاء لايشمل الجزء الذي نحن بصدد جعلها له ، كما إذا كانت الصلاة أسماء للأركان ، غير شامل للحمد ، أو للمنع عن بعض الموانع كإقامتها مع ما لايؤكل لحمه ، إلى غير ذلك ، فيقول : جعلت الحمد جزءاً للصلاة المأمور بها ، وهكذا المانع.

بل يمكن أن يقول إنّ قوله سبحانه : ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (١) وقوله : « لاتصل في وبر ما لايؤكل لحمه » إرشاداً إلى جعل الشرطية للاستقبال ، والمانعية لما لايؤكل لحمه ، فعندئذ يتعلّق الجعل الاستقلالي بالجزئية والشرطية والمانعية للمكلّف به.

القسم الثالث : ما تناله الجعل استقلالاً

فقد مثّل المحقّق الخراساني لهذا القسم بالحجّية والقضاوة ، والولاية والنيابة والحريّة والرقيّة والزوجيّة والملكيّة ، وقال : إنّ من الممكن انتزاع هذه الأُمور من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها كما يمكن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلاّ أنّه لا شكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى أو مَنْ بيده الأمر من قبله ـ جل

__________________

١. البقرة : ١٤٤.

٩٣

وعلا ـ بإنشائها بحيث يترتب عليها آثارها ، وذلك بوجوه ثلاثة :

١. صحّة انتزاع الملكية والزوجيّة والطلاق والحرّية بمجرد العقد والإيقاع ممّن بيده الاختيار من دون ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلاّ بملاحظتها.

٢. لو كانت هذه العناوين منتزعة من الأحكام التكليفية في موردها لزم أن لايقع ما قُصِد ووقع ما لم يقصد ، فانّ العاقد لايقصد إلاّ جعل الزوجية ، لاشيئاً آخر.

٣. لاينبغي أن يشكّ في عدم حجية انتزاعها من مجرّد التكليف في موردها فلاينتزع الملكية عن إباحة التصرفات ، والزوجية من جواز الوطء لأنّ النسبة بين إباحة التصرّف والملكية ، وهكذا بين جواز المس والزوجيّة عموم من وجه ، وهكذا سائر الاعتبارات من أبواب العقود والإيقاعات.

تحقيق فيه تفصيل

أقول : إنّ المحقّق الخراساني ذكر نماذج من هذا القسم ولم يستقص ، وزعم أنّ الجميع مجعول بجعل استقلالي ، ولكن الظاهر أنّ الأحكام الوضعية الباقية غير الداخلة في القسمين الأوّلين على أصناف أربعة :

١. ما لايقبل الجعل أصلاً ، لا استقلالاً ولاتبعاً للأحكام التكليفية ، وذلك كالتنجّز والتعذّر ، والطريقية والكاشفية ، والنظافة والقذارة العرفيتين.

أمّا الأوّلان فلأنّهما يدوران حول إصابة القطع ـ مثلاً ـ الواقع ، فلو أصاب يكون منجزاً الواقع وإلاّ معذِّراً ، وهذا حكم عقلي ، ومعه لاحاجة إلى جعلهما استقلالاً أو بتبع الأحكام التكليفية.

٩٤

وأمّا المتوسطان : أعني : الكاشفية والطريقية ، فهما من الأُمور التكوينية لاتنالهما يد الجعل التشريعي فلو كان الشيء طريقاً بالذات ، سواء كان طريقاً كاملاً أو ناقصاً ، لاستغنى عن إفاضتهما عليه ، وإلاّ فلايكون إفاضتهما عليه ، طريقاً ولاكاشفاً.

نعم كان بعض مشايخنا السادة (١) يقول بأنّ المجعول في باب الأمارة هو تتميم الكشف أو إكمال طريقيته ، فلو أراد تتميمها تكويناً فهو غير ممكن بالجعل الاعتباري ، وإن أراد تتميمها بالاعتبار فهو وإن كان أمراً ممكناً ، لأنّ الاعتبار خفيف المؤنة ، لكنّه بعيد عن الأذهان ، أعني : تتميم الأمر الحقيقي بالأمر الاعتباري.

أمّا الأخيرتان : أي النظافة والقذارة العرفيتين ، فهما بهذا المعنى من الأُمور التكوينية الخارجة عن حدود الجعل والاعتبار قال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (٢) ( كُلُوا مِنْ طَيِّبات ما رَزَقْناكُمْ ) (٣).

٢. ما تناله يد الجعل استقلالاً ، وليس منتزعاً من الأحكام التكليفية الموجودة في مورده ، وهذا كالزوجية والملكية ، وقد برهن المحقّق الخراساني على كونهما مجعولين مستقلاً لاتبعاً للأحكام الشرعية بوجوه ثلاثة كما عرفت.

٣. ما يكون منتزعاً من الأحكام التكليفية ، غير مجعول استقلالاً ، وهذا كالرخصة والعزيمة فانّهما أمران انتزاعيان من حكم الشارع بجواز الترك أو لزومه ، والأوّل كسقوط الأذان والإقامة لمن دخل وقد أُقيمت صلاة الجماعة ، والثاني

__________________

١. السيد الحجّة الكوهكمري قدس‌سره في درسه الشريف.

٢. الفرقان : ٤٨.

٣. البقرة : ٥٧.

٩٥

كسقوط الركعتين في حال السفر.

٤. ما يصحّ فيه كلا الأمرين : جعله مستقلاً ، وانتزاعه من الأحكام التكليفية لكن الأظهر انّه مجعول مستقلاً وهو المتبادر من الروايات ، وإليك بيان أفراد هذا الصنف ، أعني :

١. الخلافة ، ٢. الحكومة ، ٣. القضاء ، ٤. الولاية ، ٥. الحجية ، ٦. الضمان ، ٧. الكفالة ، ٨. الصحة ، ٩ و ١٠. الطهارة ، والنجاسة الشرعيتين ، وإليك بيانها :

أمّا الخلافة : فيكفي في تعلّق الجعل الاستقلالي بها قوله سبحانه : ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَليفَةً في الأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبعِ الهَوَى فَيضلَّكَ عَنْ سَبيلِ اللّه ). (١)

أمّا الحكومة : فقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة : « ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ». (٢)

وأمّا القضاء : فقد ورد في رواية سالم بن مُكْرَم المعروف بأبي خديجة عن الصادق عليه‌السلام : « ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فانّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه ». (٣)

وأمّا الولاية : فيكفي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ علي يوم الغدير : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي أنت وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة ».

أمّا الحجّية : بمعنى إفاضة الحجية للشيء بعدما لم يكن حجّة بالفعل ، فهذا

__________________

١. ص : ٢٦.

٢. الكافي : ١ / ٦٨ ، ط دار الكتب الإسلامية.

٣. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٩٦

يقبل الجعل الاستقلالي كما إذا قال : خبر الثقة حجّة ، كما يمكن انتزاعها من الأحكام التكليفية في مورده ، كما إذا أوجب العمل على وفق خبره في مقام الطاعة.

أمّا الضمان والكفالة : فيتقبلان الجعل الاستقلالي كما في قوله سبحانه : ( وَأَنَا بِهِ زَعيم ) (١) يمكن انتزاعهما من الأحكام التكليفية في موردهما ، أعني : إلزام الشخص برد مثل ما اشتغلت به ذمّة المضمون عنه ، أو إلزام الشخص بتسليم المكفول عنه.

أمّا الصحّة : فالعقلية منها غير قابلة للجعل ، أعني : مطابقة المأمور به للمأتي به ، وأمّا الشرعية منها أعني : قبول الناقص مكان الكامل كما في مورد قاعدتي الفراغ والتجاوز ، فيصح جعلها استقلالاً ، كما في قوله : « كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فامضه ولا إعادة عليك » (٢) فالمتبادر جعل الصحة الشرعية على العمل الناقص كما يمكن انتزاعها من الحكم التكليفي الوارد في موردها كالحكم بعدم الإعادة.

أمّا الطهارة والنجاسة الشرعيتان : فهما أعم من العرفية ، إذ قد يعدّ الشرعُ القِذر طاهراً ، كما في عرق الإنسان ، والديدان والوذي والمذي والدم المتخلّف في عروق الحيوان ، أو يحكم بنجاسة ما لايعدّه العرف قذِراً كنجاسة الكفّار وأولادهم ، ونجاسة الخمر ، فهما قابلتان للجعل استقلالاً ، مثل قوله : ( إِنَّما المُشْرِكُون نَجس ) (٣) بناء على أن الآية بصدد جعل النجاسة عليهم ، كما هما قابلتان للجعل تبعاً للآثار والأحكام التكليفية ، كوجوب الاجتناب عن الخمر والكافر.

__________________

١. يوسف : ٧٢.

٢. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٤١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

٣. التوبة : ٢٨.

٩٧

ومن هنا تبيّن أنّما عدّه من القسم الثالث ليس على نمط واحد بل هو على أقسام أربعة :

١. مالا يقبل الجعل أصلاً لا استقلالاً ولاتبعاً.

٢. ما يقبل الجعل التبعي ، لا الاستقلالي.

٣. ما يقبل الاستقلالي دون التبعي.

٤. ما يقبل كلا الأمرين.

فلاحظ

وأمّا ثمرة البحث : فتظهر في جريان الاستصحاب في كلا الحكمين إذا كان مجعولاً مستقلاً أو تبعاً للحكم التكليفي ، إذ يلزم أن يكون المستصحب إمّا حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والحكم الشرعي عبارة عمّا يكون مستنداً إليه ومجعولاً بنحو من أقسام الجعل.

تمّ الكلام حول التفاصيل في حجّية الاستصحاب وبقي هناك تفصيلان :

١. التفصيل بين استصحاب الحكم الشرعيّ المستنبط من الكتاب والسنّة والمستنبط من حكم العقل ، فيجري في الأوّل دون الثاني ، اختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

٢. التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي ، والحكم الجزئي ، والموضوعات الخارجية ، فلايجري في الأوّل دون الأخيرين وهو خيرة المحقّق النراقي والمحقّق الخوئي ( قدّس سرّهما ) وسيأتي الكلام فيهما في ضمن التنبيهات.

٩٨

التنبيهات

١

جريان الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية (١)

لا شكّ في جريان الاستصحاب إذا تعلّق الشكّ بالأمر الحالي ـ كما إذا شكّ المتطهّر في بقاء طهارته ـ إنّما الكلام في جريانه إذا كان متعلّقه أمراً استقبالياً ، كما إذا كان أوّل الوقت فاقداً للساتر أو واجداً له وكان نجساً وشكّ في بقاء العذر إلى آخر الوقت فيستصحب بقاءه إلى آخره ويترتّب عليه جواز البدار كما إذا علم بقاءه على نفس الحالة.

يظهر من السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي كجريانه في الأمر الحالي.

وقد أفتى على وفق الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية ، نذكر منها ما يلي :

١. إذا كان جنباً في شهر رمضان في الليل لايجوز له أن ينام قبل الاغتسال إذا علم أنّه لايستيقظ قبل الفجر للاغتسال ، فلو شكّ في الاستيقاظ فقال : الصحيح حرمته ، لأنّ النوم المحتمل فيه عدم الاستيقاظ ، محكوم بالاستمرار إلى الفجر ، بمقتضى الاستصحاب ، فهذا نوم مستمر إلى الصباح متعمّداً وقد صدر باختياره فهو عامداً إليه. (٢)

__________________

١. هذا التنبيه من إضافات شيخنا الأُستاذ ـ مدّظلّه ـ.

٢. مستند العروة الوثقى : كتاب الصوم : ٢٠٧.

٩٩

ومثله إذا عجز عن خصال الكفّارة ، ولكن يحتمل تجدّد القدرة. فهل يجوز أن ينتقل إلى البدل ، أعني : صيام ثمانية عشر يوماً ، أو التصدّق بما يطيق؟ فقيل نعم استناداً إلى استصحاب العجز بناءً على جريانه في الأُمور الاستقبالية كما هو الصحيح.

فالمحكّم في الأُمور الاستقبالية هو الحكم باستمرار ما سبق إلى المستقبل فيترتب عليه البدار إلاّ إذا دلّ الدليل على عدم الجواز ، كما هو الحال في المعذور في الطهارة الحدثية كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : « إذا لم تجد ماء وأردتَ التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض ». (١) فمقتضى الاستصحاب هو بقاء العذر والبدار إلى البدل لكن منع عنه النص. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ أدلّة الاستصحاب إمضاء لما عليه العقلاء في حياتهم ومعاشهم وهو عندهم الحكم ببقاء ما مضى إلى زمان الحال ، وأمّا الحكم بالبقاء من زمان الحكم إلى الوقت المستقبل فليس بمعهود عندهم.

ولو صحّ ما ذكر يلزم أن يحكم على الدم في أيّام الاستظهار ، بالحيض تارة والاستحاضة أُخرى ، فلو قذفت الدم في غير أيام العادة ولكن تحتمل انقطاعها قبل الثلاثة ، فمقتضى الاستصحاب استمرارها فلابدّ أن تكون محكومة بالحيض.

وإذا تجاوز الدم عن أيّام العادة ولم يتجاوز العشرة ، فمقتضى الاستصحاب الحكم باستمرارها بعد العشر ولابدّ من الحكم عليها بالاستحاضة ، لأنّ دم الحيض لايتجاوز أيّام العادة إلاّ إذا انقطعت قبل العشرة.

__________________

١. الوسائل : الجزء ٢ ، الباب ٢٢ من أبواب التيمم ، الحديث ١.

٢. مستند العروة : كتاب الصوم : ٣٥٥.

١٠٠