إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

إنّ الصدر بصدد بيان قاعدتي الطهارة والحلية ، والذيل بصدد بيان استصحابها ، قال : إنّ الرواية تدل على أصلين :

أحدهما : انّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهراً هي الطهارة إلاّ مع العلم بالنجاسة ، وهذا لاتعلّق له بالاستصحاب.

الثاني : انّ هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الاستصحاب عبارة عن جرّ الحكم الواقعي الثابت للموضوع بما هو هو ، إلى ظرف الشكّ حتى يحصل اليقين بخلافه ، لاجرّ الحكم الظاهري الثابت للموضوع بما هو مشكوك الحكم ، كما في المقام ، مثلاً إذا توضّأ الإنسان لصلاة الفجر يكون متوضئ واقعاً ، ثمّ شكّ بعد فترة في بقاء الطهارة ، يُحكم عليه بجرّ الطهارة الواقعية إلى ظرف الشك. فلو قلنا : بأنّ الصدر لبيان حكم مشكوك الطهارة والحلية ، تكون الطهارة أو الحلية المجعولتان طهارة أو حلّية ظاهريّة ، فلايكون استمرارها استصحاباً وكأنّه زعم أنّ كلّ استمرار استصحاب وغفل عن أنّ الاستصحاب عبارة عن إطالة الحكم الواقعي الذي تعلّق به اليقين ، إلى ظرف الشك.

وثانياً : أنّ قاعدتي الطهارة والحلية كافيتان لإثبات الحكم الظاهري في الآنات المتلاحقة إلى أن يعلم خلافه ولايحتاج إلى الاستصحاب أبداً ، وذلك لأنّ كلّ شيء يكفي صرف الشك في الحكم عليه بالطهارة والحلية لغنيّ عن لحاظ السابقة وجرّها إلى الحالة اللاحقة ، وهذه ضابطة كلية في الفقه ، لأنّ قاعدتي الطهارة والحلية أقل مؤونة ، والاستصحاب أكثر مؤونة لاحتياجه وراء الشك ، إلى لحاظ الحالة السابقة وجرّها.

٦١

ومنه يعلم تقدّم قاعدة الاشتغال على استصحاب الاشتغال ، فإذا شكّ قُبيلَ الغروب أنّه صلّى الظهر أو لا ، فصِرْفُ الشكّ كاف في حكم العقل بالاشتغال ، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، ولاحاجة إلى استصحاب الاشتغال.

وثالثاً : أنّ قوله : « طاهر » إذا كان من متمّمات القاعدة يكون معناه محكوماً بالطهارة ، وإذا كان راجعاً إلى الاستصحاب يكون معناه انّه مستمرّ في طهارته ، وإطلاق اللفظ وإرادة المعنيين منه يحتاج إلى قرينة ، وهي مفقودة في المقام.

اللّهمّ إلاّ أن يقدّر هناك كلام بأن يقال :

كلّ شيء طاهر ( وهذه الطهارة مستمرة ) حتى تعلم أنّه قذر. وهو كما ترى.

ورابعاً : أنّ الحديث لو كان بصدد بيان قاعدتي الطهارة والحلية تكون الغاية قيداً للموضوع ، ويكون معناه ، كلّ شيء ( حتى تعلم أنّه قذر ) طاهر.

ولو كان بصدد بيان الاستصحاب يكون قيداً للمحمول ( أي طاهر حتى تعلم أنّه قذر ) وكيف يمكن أن تكون كلمة واحدة قيداً للموضوع ، وقيداً للمحمول فانّ مقتضى الأوّل تقدّم الغاية على الحكم ( طاهر ) ومقتضى الثاني ( تأخّرها عنه ).

وبعبارة أُخرى : انّ الحكم باستمرار الطهارة أو الحلية المستفادتين من القاعدتين يتوقف على تماميتهما من حيث المغيّى والغاية ، فلو جعلت الغاية متمّمة للقاعدة لما صحّ جعلها غاية للاستصحاب ، ولو جعلت غاية للاستصحاب تكون القاعدة بلا غاية ، وبالتالي يكون الاستصحاب أيضاً بلا موضوع.

٦٢

النظرية الثالثة

هذه النظرية هي التي أكّد عليها المحقّق الخراساني في « الكفاية » ، فانّه لمّا وقف على الإشكالات الواردة على نظرية صاحب الفصول ، عدل عنها إلى نظرية ثالثة وحاصلها :

إنّ الصدر لبيان جعل الطهارة والحلية الواقعيتين لذات الأشياء ، والذيل لبيان الاستصحاب ، وبما انّ ما ذكره في « الكفاية » غير خال عن التعقيد نشرح مراده في ضمن أُمور أربعة :

١. انّ الموضوع في قوله : « كلّ شيء طاهر » أو « كلّ شيء حلال » هو العناوين الأوّلية التي يصدق عليه عنوان الشيء ، وكأنّ القائل يقول : إنّ كلّ ما صدق عليه عنوان الشيء كالجماد والنبات والحيوان ، فهو بهذا العنوان الأوّلي طاهر أو حلال.

وليس الموضوع ، الشيء المشكوك الحكم من حيث الطهارة والحلية ، وعلى هذا ليست الغاية مأخوذة في ناحية الموضوع أصلاً ، ولو قال القائل : « كلّ شيء طاهر » وسكت أو قال : « كلّ شيء حلال » ، ولم ينطق بشيء كان الكلام تامّاً ، وكان ظاهراً في جعلهما على ذوات الأشياء.

٢. إذا كان الصدر ظاهراً في جعل الطهارة الواقعية للشيء بما هو هو فغايتها هو ملاقاة الشيء بالنجس ، أو طروء عنوان يوجب كونه حراماً ، كانقلاب الخل ، خمراً أو غليان العصير العنبي كما هو كذلك في صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لايفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب ريحه ويطيب طعمه ». حيث جعلت الغاية نفس

٦٣

التغيّر (١) لا العلم ، ولو أراد الإمام أن يصرّح بالغاية في الحديثين كان عليه أن يقول : كلّ شيء طاهر إلى أن يلاقي نجساً ، أو كلّ شيء حلال إلى أن ينطبق عليه أحد العناوين المحرّمة ، ولو قال كذلك ، لايعد مثل هذا الاستمرار استصحاباً ، إذ ليس كلّ استمرار استصحاباً ، بل الاستمرار في ظرف الشكّ ، والمفروض كون الموضوع الشيء بما هو هو.

٣. انّ الغاية الواردة في الحديث ، لاتصلح أن تكون غاية للطهارة الواقعية لما عرفت من أنّ غايتها الملاقاة بالنجس ، لا العلم به ، فيجب أن تكون الغاية الواردة فيه ناظرة إلى تأسيس حكم ظاهري مبني على أنّه لو شكّ في حصول غاية الطهارة الواقعية وعدمها كالملاقاة وعدمها ، فالأصل هو بقاء الطهارة الواقعية ، وعندئذ يكون الذيل ناظراً لبيان استمرار حكم الطهارة الواقعية في ظرف الشكّ في حصول غايتها. (٢) ويكون الذيل ناظراً لبيان الاستصحاب.

٤. لايتوجه إلى هذه النظرية ما سبق من الإشكالات الأربعة وذلك :

أ : لما عرفت من أنّ الذيل لبيان جرّ الحكم الواقعي لا الظاهري.

ب : انّ ثبوت الحكم في جميع آنات الشكّ رهن الاستصحاب فقط ، لارهن القاعدة إذ المجعول هو الاستصحاب لاقاعدة الطهارة.

ج : انّ قوله : « طاهر » جزء من القضية الأُولى ، ولا صلة له بالقضية الثانية ليلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين.

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦ ، ٧.

٢. وإلى هذا أشار في « الكفاية » بقوله : ظاهره في استمرار الحكم الواقعي ظاهراً ما لم يعلم بطروء ضده ( إذا كانت الطهارة والنجاسة من قبيل الضدين ) أو نقيضه ( إذا كانتا من قبيل النقيضين ).

٦٤

د : انّ الغاية ليست من قيود الموضوع وحدوده ، بل غاية لاستمرار الحكم الواقعي في ظرف الشكّ في طروء الملاقاة أو عروض ما يحرّم ، فلايلزم كون الشيء متقدماً ومتأخراً.

يلاحظ عليه بأُمور :

الأوّل : انّ ظهور الحديثين في جعل الطهارة أو الحلية الواقعيتين ، إنّما يتم فيما إذا كان العنوان الأوّلي موضوعاً للحكم كما إذا قال : « الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر » (١) فالموضوع طبيعة الماء ، ويناسبها جعل الطهارة الواقعية ، لافيما إذا أخذ العنوان المبهم كلفظ الشيء الفاقد لذلك الظهور. بل يمكن أن يقال انّ الموضوع هو الشيء بما هو مشكوك الطهارة والنجاسة ، أو مشكوك الحلية والحرمة بشهادة أنّ الغاية الواردة فيها هو العلم بالنجاسة لانفسها ، وهو مناسب لحمل الصدر ، على جعل الحكم الظاهري للشيء المشكوك لاللشيء بما هو هو.

الثاني : انّ تفكيك القضية الثانية عن الأُولى ، وانّها ليست غاية لها بل بصدد إفادة جعل حكم ظاهري في ظرف الشك في طروء ما يوجب النجاسة أو الحرمة ، مخالف للظاهر ، فانّ المتبادر انّها غاية للصدر ، وبما انّ الغاية هو العلم بالنجاسة نستكشف أنّ الصدر بصدد بيان أصل الحكم الظاهري لمشكوك الطهارة أو مشكوك الحلية ، فانّ حمل الصدر على أنّه بصدد بيان الطهارة الواقعية ، مبنيّ على التفكيك ، وأمّا مع ملاحظته مع الذيل يكون الصدر ، ظاهراً في غيرها.

الثالث : سلمنا كلّ ما أفاده ، لكن استفادة الحكم الظاهري أي استمرار الطهارة الواقعية في ظرف الشكّ في طروء ما ينجس أو يحرم يتوقف على تقدير جملة : بأن يقول : « وهذه الطهارة مستمرة حتى تعلم أنّه قذر ، أو هذه الحلية

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢ و ٥.

٦٥

مستمرة إلى أن تعلم أنّه حرام » ، إذ المفروض في كلامه أنّ قوله : « طاهر » من متمّمات القضية الأُولى ولا صلة له بالجملة الثانية ومن المعلوم أنّ الجملة الثانية بوحدتها لاتقيد استمرار الطهارة إلاّ بتقدير جملة ، نظير ما ذكرناه وهو خلاف الظاهر.

النظرية الرابعة

وحاصل هذه النظرية : إمكان استفادة القواعد الثلاث من الحديثين ، بيانه :

أنّ الصدر بصدد بيان أمرين :

١. الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية.

٢. الطهارة الظاهرية لها عند طروء ما ينجسه أو يحرّمه.

أمّا الذيل فهو بصدد بيان استمرار الطهارة الواقعية إلى العلم بطروء ما ينجسه.

وقد اختاره صاحب الكفاية في تعليقته على الفرائد. (١)

أمّا استفادة جعل الطهارة الواقعية واستمرارها دون الطهارة الظاهرية فقد تقدّم برهانه في كلامه المنقول عن الكفاية ، إنّما تختص هذه باستفادة الطهارة الظاهرية وراء الطهارة الواقعية ، فاللازم بيان كيفية استفادتها فنقول :

إنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء طاهر » ـ مع قطع النظر عن الغاية ـ يدل بعمومه على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية كالماء والتراب وغيرهما ليكون دليلاً

__________________

١. تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد : ١٩١ ـ ١٩٢.

٦٦

اجتهادياً على طهارة الأشياء ، ويدل بإطلاقه بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه مشتبه الطهارة والنجاسة بالشبهة الحكمية أو الموضوعية على قاعدة الطهارة فيما اشتبهت طهارته كذلك.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ استفادة الطهارة الواقعية والظاهرية من قوله : « طاهر » متعسر ، لأنّ الموضوع في الأوّل ، هو الشيء بما هو هو ، وفي الثاني هو الموضوع بما هو مشكوك الحكم ، فيلزم أن يكون الشيء عارياً من القيد ، وجامعاً معه موضوعاً للحكم في آن واحد.

ثانياً : أنّ جعل الطهارتين : الواقعية على الأشياء بما هي هي ، والطهارة الظاهرية في ظرف الشك في طروء ما ينجّسه ، يغني عن جعل الاستصحاب ، أي استصحاب الطهارة الواقعية ، لما عرفت من أنّ نفس الشكّ كاف في الحكم بالطهارة من دون حاجة إلى جرّ الحكم الواقعي في ظرف الشكّ.

ثالثاً : انّ معنى الإطلاق ، كون ما وقع تحت دائرة الطلب ، تمام الموضوع للحكم ، وانّ الشيء بما هو هو من دون مدخلية أي قيد ، محكوم بالطهارة ، وأمّاتفسير الإطلاق بأنّ الشيء بما هو هو موضوع للطهارة الواقعية وانّها بعنوان مشتبه الحكم والموضوع ، موضوع للطهارة الظاهرية ، غير تام لما ذكرنا غير مرّة : أنّ الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود ، وثبوت الحكم في تلك الأحوال ، ليس دليلاً على أنّه محكوم بالطهارة بهذا العنوان ، وإلاّ لزم تكثّر الأحكام حسب تكثر الأحوال ، وهي كثيرة لاتحصى.

تمّ الكلام في أدلّة الاستصحاب ، بقي الكلام في مفادها من حيث دلالتها على حجّية الاستصحاب مطلقاً ، أو في بعض الصور. ولذلك مسّت الحاجة إلى التعرّض لبعض التفاصيل في حجية الاستصحاب.

٦٧

تفاصيل في حجّية الاستصحاب

قد ذكر الشيخ أحد عشر قولاً في حجّية الاستصحاب ، وأطنب الكلام في بيان أدلّة الأقوال ، ونحن نذكر ما هو المهم من التفاصيل :

الأوّل : التفصيل بين الشكّ في الرافع والشكّ في المقتضي والقول بحجّية الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، وهو خيرة الشيخ الأعظم.

الثاني : ذلك التفصيل ، لكنّه حجّة في قسم خاص من الشكّ في الرافع ، وهو الشكّ في وجود الرافع لا في رافعية الأمر الموجود ، فلو شكّ المتطهر في أصل النوم أو البول يجري الاستصحاب ، دون ما إذا شكّ في رافعيّة الأمر الموجود ، كالبلل المردّد بين البول والمذي.

الثالث : الاستصحاب حجّة ، إلاّ إذا كان منشأ الشك هو إجمال الغاية ، فليس الاستصحاب حجّة ، كما إذا دار مفهوم المغرب أو الليل في قوله : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل ) (١) بين استتار القرص أو مع ذهاب الحمرة المشرقية ، فلايجوز استصحاب النهار عند الشكّ في رافعية الاستتار.

الرابع : التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وكونه حجّة في إحداهما دون الأُخرى.

__________________

١. البقرة : ١٨٧.

٦٨

الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي المستنبط من دليل شرعي فيستصحب دون المستنبط من حكم عقلي.

السادس : التفصيل بين الأحكام الشرعية الكلية فلايجري الاستصحاب فيها وبين الحكم الجزئي ، والموضوع الخارجي كوجوب النفقة على زيد ، أو بقاء حياة زيد فيجري الاستصحاب.

وهذا هو خيرة المحقّق النراقي وتبعه المحقّق الخوئي ( قدّس سرّهما ) ، وبذلك صار الاستصحاب عندهما قاعدة فقهية تعالج الشبهات الموضوعية نظير قاعدة الطهارة والفراغ.

ونحن نذكر منها في المقام التفاصيل الأربعة الأُولى ونحيل البحث في التفصيل الخامس والسادس إلى التنبيهات.

٦٩

التفصيل الأوّل

التفصيل بين الشكّ في المقتضي والرافع

ذهب الشيخ إلى حجّية الاستصحاب عند الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي ، وأمّا ما هو مراده من الشكّ فيهما فيظهر ممّا ذكره الشيخ عند تقسيم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه قال : إنّ الشكّ في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به الشكّ من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء ، كالشكّ في بقاء الليل والنهار ، وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل وقد يكون من جهة طروء الرافع مع القطع باستعداده للبقاء. (١)

أ : انّ الشيخ أخذ هذا التقسيم عن طريق النظر إلى الكون ، فإنّ عالم الكون مليء بالموجودات وهي على قسمين ، فتارة يُحرز اقتضاء بقاء الموجود ويُشكّ في حدوث الرافع ، كالمصباح المشتعل المليء بالزيت فنشكّ في إصباحه لأجل هبوب الرياح عليه ، فالمقتضي موجود والشكّ في رافع أثر المقتضي ، بخلاف ما إذا شككنا في إصباحه لأجل وجود الزيت فيه ، أو لا.

ونظير ذلك ما إذا شككنا في بقاء حياة الفيل في حديقة الحيوانات أو الغابات والأحراش لأجل طروء مرض عليه ، فالمقتضي موجود والشكّ في الرافع ، بخلاف ما إذا تردّد الحيوان بين كونه فيلاً أو بقّاً بعد مضي زمن لايعيش فيه البقُّ ،

__________________

١. الفرائد : ٣٢٧ ، طبعة رحمة اللّه.

٧٠

فالشكّ في قابلية الموجود للبقاء ، لتردّده بين الفيل والبق ، إلى غير ذلك من الأمثلة التكوينيّة ، وعلى غرار ذلك الأحكام التشريعية ، فتارة يحرز اقتضاء بقائها إلى أن يرفعها رافع كالملكيّة والطهارة والزوجية في الأُمور الجزئية فهي باقية إلى أن ترفَع بالرافع كالبيع في الملكية ، والحدث في الطهارة أو الطلاق في الزوجية.

وأُخرى يكون اقتضاء البقاء مشكوكاً غير محرز كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن ، وتمكّنه من إعمال خياره ، والمسامحة فيه فنشكّ في بقائه لا لأجل وجود رافع بل للشكّ في قابلية بقائه ، لأنّ ملاك الخيار هو الضرر ، والضرر مدفوع لجعل الخيار له في الزمان الأوّل. ولاملاك لبقائه في الزمان الثاني والثالث.

إلى غير ذلك من الأمثلة الشرعية ، ولو أردنا أن نذكر ضابطة لكلا القسمين ، فنقول : كلّ حكم أو موضوع لو ترك لبقي إلى أن يرفعه الرافع ، فلو شكّ في وجود الرافع فهو من قبيل الشكّ في الرافع ، وكلّ حكم أو موضوع لو ترك لانتهى بنفسه ، وإن لم يكن هناك رافع ، فلو شكّ فيه فهو من قبيل الشكّ في المقتضي ، إذا عرفت ذلك فقد ذهب الشيخ إلى عدم الحجّية بوجهين :

الوجه الأوّل : الاستدلال بمادة النقض في قوله : « لاتنقض » فإنّ النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية ، فيقال نقضت الحبل ، قال سبحانه : ( وَلا تَكُونُوا كَالّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّة أَنكاثاً ). (١)

فإذا كان هذا هو المعنى الحقيقي فهو غير متوفر في مورد اليقين والشكّ ، ويكون ممّا يتعذر فيه المعنى الحقيقي ، فلابدّ أن يقوم مقامه المعنى المجازي ، وله معنيان مجازيّان أحدهما أقرب إلى الحقيقة ( رفع الهيئة الاتصالية ) والآخر أبعد عنها أي مطلق رفع اليد عن الشيء.

__________________

١. النحل : ٩٢.

٧١

أمّا الأقرب فهو حمله على ما أحرز فيه المقتضي للبقاء وشكّ في تحقّق الرافع كالوضوء إذا شكّ في حدوث النوم.

وأمّا الأبعد فهو رفع اليد عن مطلق الشيء وإن شكّ في أصل اقتضائه للبقاءه مع غض النظر عن الرافع.

وبما أنّ المعنى الأوّل أقرب إلى الحقيقة فيتعيـّن هو دون المعنى الثاني الذي هو أبعد ، وقد قيل : « إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى ».

الوجه الثاني : الاستدلال من جانب الهيئة ، وهو أنّ النهي عن نقض اليقين بالشك تكليف بالمحال لانتقاض اليقين بحدوث الشكّ فلاتصل النوبة إلى النقض ، لانتقاضه قبلاً ، وإن لم يرده المكلف ، فعلى ذلك لابدّ أن نقول بأنّ اليقين في الروايات بمعنى المتيقّن أي لاتنقض المتيقّن بالشك ، سواء كان المتيقّن هو الحكم الشرعي ، كما إذا كان المستصحب حكماً كذلك ، أو موضوعاً ذا حكم شرعي كما إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية ذات الآثار.

فإذا كان المنهي عنه هو نقض المتيقن بما أنه أثر شرعي أو له أثر شرعي فالأقرب إلى المعنى الحقيقي هو المتيقّن الذي أحرز وجود المقتضي فيه وشكّ في الرافع ، لا ما إذا كان أصل الاقتضاء مشكوكاً مع غض النظر عن الرافع ، وبذلك يكون النقض بمادته وهيئته قرينة على تحريم نقض ما يكون ذا اقتضاء ، كالطهارة وحياة زيد. (١)

يلاحظ على الوجه الأوّل : بأنّه لا دليل على أنّ النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية الحسية ، بل هو حقيقة في رفع الأمر المبرم والمستحكم ، سواء أكان أمراً

__________________

١. فرائد الأُصول : ٣٣٦ ، بتقرير منّا.

٧٢

حسيّاً كالغزل ، أم قلبيّاً كاليمين والميثاق والعهد ، بشهادة أنّه سبحانه نسب النقض إلى هذه الأُمور الثلاثة التي تفقِد الهيئة الاتصالية ولكن فيها الإبرام والاستحكام قال سبحانه : ( وَلاتَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ). (١) وقال سبحانه : ( وَالّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) (٢) وقال سبحانه : ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّه ... ) (٣) إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ اليقين أمر فيه إبرام واستحكام ـ كالأُمور الثلاثة السالفة الذكر ـ تصح نسبة النقض إليه بلا تجوّز ، ولاحاجة إلى تفسير اليقين بالمتيقن ، ويكون المقصود ، حرمة نقض مطلق اليقين سواء تعلّق بما أحرز فيه المقتضي أم لا.

وأمّا الوجه الثاني : فاليقين والمتيقن في امتناع التكليف بعدم نقضها سواء ، أمّا اليقين فكما مرّ ، وأمّا المتيقن فهو لايخلو إمّا أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً خارجياً ؛ أمّا الحكم الشرعي فرفعه بيد اللّه سبحانه ، وأمّا الموضوع الخارجي كحياة زيد فهو على عاتق العلل التكوينية ، ولا صلة لها بالمكلف.

نعم إذا أُريد من حرمة نقض المتيقّن حرمة نقض آثار المتيقّن كالصلاة مع الوضوء المستصحب فهو أمر داخل تحت الاختيار ولكنّه لايختص بآثار المتيقّن ، بل يعمّ حرمة آثار اليقين أيضاً ، فهي أيضاً أمر اختياري.

فإن قلت : إذا كان الهدف إبقاء اليقين بما له من الآثار فتنحصر حجّية الاستصحاب باليقين الموضوعي ، دون الطريقي ، إذ ليس لليقين أثر شرعي إلاّ في اليقين الموضوعي ، فإذا قال : للّه عليّ أن أُصدِّق إذا علمتُ بحياة زيد ، فالأثر

__________________

١. النحل : ٩١.

٢. الرعد : ٢٥.

٣. النساء : ١٥٥.

٧٣

مترتب على اليقين بالحياة ، لا على نفس الحياة ، فليس لليقين الطريقي أثر حتى يكون حرمة النقض بلحاظ إبقاء أثر اليقين؟

قلت : المراد من اليقين في الروايات هو اليقين الطريقي بمعنى أنّ اليقين غير ملتفت إليه ، وإنّما الملتفت هو المتيقّن بماله من الآثار ، فيكون المراد من إبقاء اليقين إبقاء المتيقّن بما له من الآثار ، ولكن حرمة النقض متعلّق باليقين وإن كان اليقين طريقاً إلى المتيقّن. وبعبارة أُخرى المراد الجدي غير المراد الاستعمالي.

هذه هي الإشكالات التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى الشيخ الأنصاري ، وهناك إشكالات أُخرى نذكرها تباعاً.

الأوّل : انّ هذا التفصيل مبني على أنّ التعبير المنحصر في حجّية الاستصحاب هو نقض اليقين ، ولكنّه غير تام ، وقد عبّر عنها بجمل خالية عن لفظ « النقض ».

أ : ففي ذيل الصحيحة الثالثة لزرارة : « ويتمّ على اليقين ، فيبني على اليقين ، ولايعتدّ بالشكّ من الحالات ».

ب : وفي حديث الأربعمائة : « من كان على يقين ثمّ شكّ ، فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لاينقض اليقين » والموضوع هو المضيّ على اليقين ، لانقض اليقين.

ج : وفي رواية القاساني : « اليقين لايدخل في الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » ومورد الاستصحاب في هذا الحديث من قبيل الشكّ في المقتضي للشكّ في اقتضاء شهر شعبان في بقائه إلى يوم الشكّ.

د : وفي رواية عبد اللّه بن سنان : « أنت أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه

٧٤

نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن ».

نعم قد قورنت هذه التعابير في أكثر هذه الروايات بقوله : « لاتنقض » إمّا في صدر الروايات ، أو في ذيلها ، لكنّه لايكون دليلاً على تقييد المطلق ، لأنّه ليست قرينة واضحة لصرف المطلقات عن إطلاقها وإرجاعها إلى المقيدات.

وبذلك ظهر أنّه ليس لاختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع دليل.

نعم قد أيّد مقالة الشيخ ، المحقّق الهمداني في تعليقته على فرائد الشيخ ، وقال ما هذا نصّه :

إنّ إضافة النقض إلى اليقين في الاستصحاب ليس باعتبار وجوده السابق ، بل باعتبار تحقّقه في زمان الشكّ بنحو من المسامحة والاعتبار ، إذ لاترفع اليد عن اليقين السابق وإن قلنا بعدم حجّية الاستصحاب ، بل غاية الأمر ترفع اليد عن حكمه في زمان الشكّ ( إذا قلنا بعدم حجّيته ) فلابدّ في تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشكّ من اعتبار وجود تقديري لليقين بحيث يصدق عليه بهذه الملاحظة : أنّ الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين ، ورفع اليد عنه ، نقض له. ومن المعلوم أنّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفاً ، بل لوجوده التقديري حينئذ وجود حقيقي يطلق عليه لفظ اليقين ، ألا ترى أنّ العرف يقولون : ما عملت بيقيني ، أمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المقتضي فبعيد لايساعد عليه استعمال العرف أصلاً. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من أنّ التعبد بلحاظ اليقين الفعلي الاعتباري ،

__________________

١. الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية : ١٥١.

٧٥

ينافي ما في صحيحة زرارة الأُولى ، فانّ التعبد فيها بملاك اليقين السابق الحقيقي ، قال : « فانّه على يقين من وضوئه ولاينقض اليقين بالشكّ أبداً » ، واللام في قوله : اليقين في الكبرى إشارة إلى اليقين الماضي في الصغرى.

وثانياً : أنّ التأكيد على تعدّد اليقين : ( حقيقي باق في ظرفه ، واعتباريّ أُمر بحفظه ) ينافي ما عليه المشايخ من لزوم وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة بإلغاء قيد الزمان والنظر إلى المتيقّن بما هو هو من غير تقسيمه إلى السابق واللاحق ، والإصرار على تعدّد اليقين بجعل القضيتين متباينتين ، وهو يمنع عن جريان الاستصحاب وصدق مفهوم النقض.

٧٦

التفصيل الثاني

التفصيل بين الشكّ في الرافع والرافعية

ذهب المحقّق السبزواري إلى أنّ الاستصحاب حجّة فيما إذا تعلّق الشكّ بأصل الوافع كما إذا شكّ في أنّه نام أو لا ، لافيما إذا تعلّق بوصف الأمر الموجود ، كالشكّ في أنّ البلل الموجود بول حتى يكون رافعاً له ، أو مذي حتى لايكون كذلك ، ومثله إذا شكّ في أنّ الرعاف ناقض للوضوء أو لا.

حاصل دليله : انّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ إنّما يعقل في الشكّ في الرافع دون غيره ، لأنّه لو نقض الحكم في الثاني ـ بوجود الأمر الذي شكّ في كونه رافعاً ـ لم يكن النقض بالشكّ ، بل إنّما يحصل باليقين بوجود ما شكّ من كونه رافعاً ، أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه لا بالشك. (١)

يلاحظ عليه : ليس الاستصحاب محدَّداً ، بحدِّ مطلق اليقين بوجود الشيء ، بل اليقين الذي يزيل الشكّ في البقاء ، ويبدّله إلى اليقين بعدم البقاء ، وهذا الشرط غير موجود ، ولم يتبدّل اليقين السابق ، المتعلِّق بالطهارة إلى اليقين بالحدث ، بل صار حدوث اليقين الثاني مبدأ الشكّ في بقاء الحالة السابقة.

ومنشأ الاشتباه : الخلط بين كون الغاية مطلق حدوث اليقين ، أو اليقين المزيل للشكّ في البقاء ، وما هو الحادث هو الأوّل ، وما هو الغاية لعدم جريان

__________________

١. الفرائد : ٣٦٢ عند بيان القول العاشر.

٧٧

الاستصحاب هو الثاني.

وإن شئت قلت : إنّ الغاية هي اليقين الآخر المتعلّق بضدّ ما تعلّق به اليقين الأوّل كما إذا تعلّق اليقين بالرافع القطعي ، دون الرافع المشكوك كالبلل في الشبهة الموضوعية أو دم الرعاف في الشبهة الحكمية ، فقد تعلّق اليقين الأوّل بالطهارة ، والثاني بوجود البلل أو دم الرعاف ، ولم يثبت كون البلل أو دم الرعاف ضدّاً للطهارة ، بل يحتمل الضدية.

٧٨

التفصيل الثالث

عدم الحجّية إذا كان منشأ الشكّ إجمال الغاية

ذهب المحقّق الخوانساري إلى كون الاستصحاب حجّة مطلقاً إلاّ في قسم واحد ، وهو : ما إذا كان منشأ الشكّ إجمال مفهوم لفظ جُعل غاية للحكم.

وعلى هذا هويفصل في الشكّ في الرافعية بين كون منشأ الشكّ ، خلط الأُمور الخارجية كما إذا دار أمر البلل بين البول والمذي ، فالاستصحاب حجّة ، وما إذا كان منشؤه إجمال مفهوم لفظ جعل غاية للحكم ، كما إذا وجبت الصلاة إلى المغرب أداءً ولكن تردّد مفهومه بين كونه هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة الشرقية ففي مثله لايجوز استصحاب بقاء النهار ولايترتب عليه الأثر الشرعي وهو كون إقامة الصلاة فيه أداءً ، أو وجوب الإمساك. وقد نقل الشيخ الأنصاري عبارة المحقّق الخوانساري ، فلاحظ. وعلى أيّ تقدير فالتفصيل عندي وجيه وذلك :

لأنّ الاستصحاب عند العقلاء والذي أمضاه الشارع بنفس المعنى الموجود عندهم عبارة عن جرّ الحالة السابقة وامتداد عمر اليقين ، عند الشكّ إذا كان منشؤه الإبهام السائد على الخارج ، كما إذا شكّ في بقاء حياة زيد ، أو طهارة زيد ، فمنشؤه في الجميع ، هو كون الخارج مستوراً على المستصحِب ، والغاية من الاستصحاب رفع الإبهام عن الخارج.

٧٩

وأمّا إذا كان الخارج أمراً معلوماً له ، كما في مثال النهار ، فإنّ الإنسان يرى بعينه استتار القرص وبقاء الحمرة المشرقية ، وليس هنا أي شك يرتبط بالخارج وإنّما طرأ الشك عليه في بقاء النهار لأجل الجهل بما وضع له لفظ المغرب ، فهل الموضوع له استتار القرص ، أو هو مع زوال الحمرة؟ فالإبهام في ناحية الموضوع له صار سبباً للشكّ في بقاء النهار لا الإبهام السائد على الخارج ، ففي مثله لايكون الاستصحاب حجّة ، عند العقلاء وتكون الروايات منصرفة عنها.

نظير ذلك إذا علمنا بأنّ زيداً كان عالماً ولكن طرأ عليه النسيان فشكّ في كونه مصداقاً له أو لا ، والشكّ في كونه عالماً أو ليس بعالم ليس نابعاً من إبهام الخارج ، بل نابع من الجهل بالموضوع له ، وأنّ المشتق موضوع للمتلبس ، أو للأعم منه ومن انقضى عنه المبدأ ، ومثل هذا النوع من الشكّ غير الناجم من الإبهام السائد على الخارج ، خارج عن مدلول أدلّة الاستصحاب.

٨٠