إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

١. الترجيح بصفات الراوي

قد ورد الترجيح بصفات الراوي في عدة من الروايات ، إلاّ أنّ الكلام في كونها مرجّحة للخبر في مقام الإفتاء أو مرجّحة لحكم القاضي عند الاختلاف.

وعلى كلّ تقدير فقد ورد الترجيح بها في الروايات التالية :

أ : رواية عمر بن حنظلة

ما رواه الكليني بسند صحيح عن عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال : « من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر اللّه أن يُكفر به ، قال تعالى : ( يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوت وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بهِ ) ».

قلت : فكيف يصنعان؟ قال : « ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه ، فإنّما استخف بحكم اللّه ، وعلينا ردّ ، والرّادّ علينا ، الرادُّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه ».

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ،

٥٢١

ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر ». (١)

وقد أخذنا الحديث من كتاب الكافي لا من الوسائل ، لأنّه جزّأ الحديث إلى مقاطع أورد كل جزء في باب خاص. وقد آثار الحديث جدلاً واسعاً في السند والمتن.

أمّا السند ، فلانتهائه إلى عمر بن حنظلة الذي لم يرد في حقّه مدح ولاتوثيق ، وقد حاول بعض المتأخرين إثبات وثاقته بروايتين تاليتين :

الأُولى : ما رواه محمد بن يعقوب بسند صحيح عن يونس ، عن يزيد بن خليفة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إذاً لايكذب علينا ». (٢)

ولكن الكلام في يزيد بن خليفة فانّه لم يوثّق. قال النجاشي : له كتاب ، يرويه جماعة. وقال الطوسي : إنّه واقفي ، إلاّ أن يوثّق لأجل رواية صفوان بن يحيى عنه ، (٣) وهو لايروي إلاّ عن ثقة.

الثانية : ما رواه الكليني بسند صحيح عن علي بن الحكم ، عن عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « يا عمر لاتُحملوا على شيعتنا وأرفقوا بهم ، فإنّ الناس لايحتملون ما تحملون ». (٤)

__________________

١. الكافي : ١ / ٦٧ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠ ، وسيوافيك ذيل الحديث في أقسام المرجحات.

٢. الكافي : ٣ ، باب وقت الظهر والعصر من كتاب الصلاة ، الحديث ١. وما في معجم رجال الحديث : ١٣ / ٢٧ يونس بن يزيد بن خليفة مصحّف تبدّلت لفظة « عن » إلى « بن ».

٣. الكافي : ٢ / ٧٦.

٤. روضة الكافي : ٨ ، الحديث برقم ٣٣٤ ؛ ولاحظ أيضاً الوسائل الجزء ٤ ، الباب ٥ من أبواب القنوت ، الحديث ٥ ففيه : قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : القنوت يوم الجمعة : فقال : أنت رسولي إليهم في هذا إلى غير ذلك من الروايات التي نقلها في قاموس الرجال : ٨ / ١٦٧.

٥٢٢

وإثبات الوثاقة بها دوري ، لأنّ الراوي هو نفس بن حنظلة.

والعمدة ما ذكرنا من نقل صفوان بن يحيى وابن مسكان عنه ، مضافاً إلى اتّفاق المشهور على قبول تلك الرواية ولذلك وصفت بالمقبولة.

وأمّا الإشكالات على المتن فربما تناهز العشرة أو يقرب منها ، وقد ذكرنا بعضها في مبحث القضاء ، وسيوافيك بعضها الآخر في مبحث الاجتهاد والتقليد ولاحاجة لنذكرها هنا. فالأولى عطف عنان الحكم إلى تحليل الرواية.

لا شكّ انّ الإمام عليه‌السلام رجّح حكم الأعدل والأفقه والأصدق والأورع في الحديث على ما ليس كذلك.

لكن مورد الترجيح هو تقديم حكم أحد القاضيين على الآخر ، وهو لايدل على تقديم رواية أحد الراويين على الآخر ، وذلك للفرق بين باب القضاء والإفتاء ، فإنّ الأوّل شُرّع لرفع المنازعة وفضّ الخصومة ، وهو لايقبل التأخير ، إذ فيه مظانة النزاع والنقاش في حين انّ الإفتاء ليس كذلك.

وإلى ذلك يشير المحقّق الخراساني بقوله : لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة ، ولا وجه معه للتعدّي منه إلى غيره كما لايخفى. (١)

ب : رواية داود بن الحصين

ما رواه الصدوق بسند كالصحيح (٢) عن داود بن الحصين ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ،

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ٣٩٢.

٢. لما في طريقه إلى داود ، الحكم بن مسكين وهو من رجال ابن أبي عمير.

٥٢٣

فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولايلتفت إلى الآخر ». (١)

ويرد على الاستدلال ما أوردناه على سابقتها من أنّ مورد الترجيح هو حكم أحد القاضيين على الآخر ، ولايكون دليلاً على المقام.

ج : رواية موسى بن أكيل

ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح عن ذُبيان بن حُكَيم ، عن موسى بن أُكْيَل ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سُئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ، فيتفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما ، فاختلفا فيما حكما ، قال : « وكيف يختلفان؟ » قال : حكم كلّ واحد منهما للّذي اختاره الخصمان ، فقال : « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه ، فيمضي حكمه ». (٢)

والحديث أجنبي عن المقام ، لأنّ الضمائر ترجع إلى الحكمين اللّذين اختار كلّ واحد من المتحاكمين ، وبما انّ القضاء أمر لايخلو تأخيره من مضارّ ناسب أن تكون الأورعية من المزايا ، بخلاف الإفتاء.

نعم اختلاف الحكمين وإن نشأ عن الاختلاف في الحديث المروي عنهما عليهم‌السلام ، لكنّه سبب الاختلاف في القضاء وليس هو مورداً للترجيح.

إلى هنا تم الكلام في المرجح الأوّل ، وثبت انّه لايمت إلى ترجيح الرواية بصلة.

__________________

١. الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

٢. الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥. ولم يوثّق ذُبيان لكن موسى بن أُكيل النميري كوفي ثقة.

٥٢٤

٢. الترجيح بالشهرة العملية

قد ورد الترجيح بالشهرة العملية في رواية واحدة ، وهي نفس رواية عمر بن حنظلة الآنفة الذكر ، وقد سبق نقل صدرها في المرجح الأوّل ، وإليك نقل مقطع آخر من الرواية يمت إلى هذا المرجح بصلة.

قلت : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لايفضَّل واحد منهما على الآخر.

قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به ، المجمعَ عليه من أصحابنا فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأُمور ثلاثة : أمرٌ بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لايعلم ». (١)

ويرد على الاستدلال بالحديث انّ الشهرة العملية تُميِّز الحجة عن اللا حجة ، بخلاف المرجح فانّه يرجح إحدى الحجّتين على الحجة الأُخرى ، ويعلم ذلك من تحليل ذلك المقطع من الرواية في ضمن أُمور :

١. المراد من « المجمع عليه » ليس ما اتّفق الكل على روايته ، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور ، والدليل على ذلك قول الإمام عليه‌السلام : « ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ».

٢. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب هو اشتهارها مع الإفتاء

__________________

١. الكافي : ١ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠.

٥٢٥

بمضمونها ، إذ هو الذي يمكن أن يكون مصداقاً لما لا ريب فيه ، وإلاّ فلو نقلوا الرواية بلا إفتاء وفقَ مضمونها ففيه كلّ الريب والشك.

٣. المراد من قوله : « لا ريب فيه » هو نفي الريب على وجه الإطلاق ، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، فالرواية المشهورة نقلاً وعملاً ليس فيها أي ريب وشك.

وأمّا ما يقابلها ، أعني : الشاذ ، فبما انّه نقيضه يكون محكوماً بحكم خلافه ، فلو كان المشهور ممّا لا ريب فيه يكون الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ، وذلك لأنّه إذا كانت النسبة في إحدى القضيتين صحيحة قطعاً تكون النسبة في القضية المناقضة لها باطلة قطعاً ، وهذا هو المهم فيما ترتئيه.

٤. إنّ هذا البيان يثبت انّ الخبر المشهور المفتى به داخل في « بيّن الرشد » في تثليث الإمام عليه‌السلام والخبر الشاذ داخل في « البيّن الغي » من تثليثه ، وذلك لما تبيّن انّ المشهور لا ريب في صحته والمخالف لا ريب في بطلانه.

ويظهر من ذلك ما ذكرنا في صدر البحث ، وهو انّ الشهرة العملية إذا كانت سبباً لطرد الريب عن نفسها وإلصاقه بمخالفها تكون أمارة على تمييز الحجة عن اللا حجة ، وبيّن الرشد عن بيّن الغيّ. ومثل ذلك لايعد مرجحاً أصلاً.

٣. الترجيح بالكتاب والسنّة

لا شكّ انّ الرواية الموافقة للكتاب والسنّة قد تخلو من رواية معارضة وقد لاتخلو منها ، وها نحن نذكر في هذا المقام الروايات التي ترجع إلى المتعارضين :

١. مقبولة عمر بن حنظلة ، وجاء في مقطع منها قلتُ : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

٥٢٦

قال : « ينظر فما وافق حكمه حكمَ الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة ». (١)

فإن قلت : قد تقدّم انّ مورد الترجيح في المقبولة ، هو تقديم حكم أحد القاضيين على الآخر ، لا ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى.

قلت : إنّ الإمعان في المقبولة يثبت بأنّ صدر الحديث وإن كان بصدد بيان مرجّحات القضاء وانّه يقدّم القاضي الأعدل ، والأفقه ، والأصدق والأورع على غيره ، لكن لمّا فرض السائل تساويهما في الصفات وانّه لايُفضّل واحد منهما على الآخر ، أرجعه الإمام إلى أنّه يؤخذ بقول من يكون مستنده ذا مزية من كونه مشهوراً أو موافقاً للكتاب والسنّة ، فانتهى الكلام إلى بيان مرجّحات نفس الخبرين المتعارضين أنفسهما ، فقال السائل : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ... » فكون الصدر بصدد بيان مرجّحات القضاء ، لايمنع عن كون سائر الفقرات لبيان مرجّحات الخبر في الأثناء.

٢. ما رواه الميثمي ، عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : « فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً ، فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام ، ومأموراً به عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره ». (٢)

٣. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا ورد

__________________

١. الكافي : ١ / ٦٨ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠.

٢. الوسائل : ١٨ / ٨١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

٥٢٧

عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه ». (١)

٤. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟

فقال : « ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّوجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا ». (٢)

٥. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : « إذا جاءك الحديثان المختلفان ، فقسهما على كتاب اللّه وأحاديثنا ، فإن أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل ». (٣)

وذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تقديم الموافق للكتاب والسنّة القطعية من باب تمييز الحجّة عن اللا حجة ، فقال ما هذا حاصله :

إنّ في كون موافقة الكتاب من المرجّحات نظراً ، وجهه : قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة بشهادة ما ورد في أنّه زخرف وباطل وليس بشيء ، أو انّه لم نقله ـ إلى أن قال : ـ إنّ الصدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً بحيث لاتعمه أدلّة اعتبار السند ولا الظهور ، فتكون هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن اللا حجة لا ترجيح الحجّة على الحجّة. (٤)

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٨٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

٢. الوسائل : ١٨ / ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٣. الوسائل : ١٨ / ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٨.

٤. كفاية الأُصول : ٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٥.

٥٢٨

قد عرفت أنّ الأخبار الواردة حول الخبر المخالف للكتاب على صنفين :

١. ما يصف الخبر المخالف ـ وإن لم يكن له معارض ـ بكونه زخرفاً. (١) وانّه ممّا لم أقله. (٢) أو لايصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه. (٣) إلى غير ذلك ، وما ذكره المحقّق الخراساني من العناوين فانّما ورد في هذا الصنف ، وكان عليه الاستظهار لمختاره ، بما ورد في الصنف الثاني أي في الخبر المخالف للكتاب ، مع وجود المعارض له والحقّ انّ عناوين ذلك الصنف أيضاً ، تناسب كون المخالفة من قبيل تمييز الحجّة عن اللا حجة لا ترجيح أحد الخبرين على الآخر ، وذلك بشهادة قوله عليه‌السلام « فردّوه » أو « فليس منّا » أو « فهو باطل » فإنّ هذه التعابير تناسب كون غير المخالف ، ممّا لم يصدر عن الأئمة عليهم‌السلام.

أضف إلى ذلك انّ العناوين الواردة في الخبر المخالف ، المجرّد عن المعارض يفيدنا هنا أيضاً ، فانّ وصفه بالزخرف وما شابهه ، لأجل كونه مخالفاً ، وهذا الملاك موجود في المخالف الذي له معارض ، فقوام هذه الأوصاف هو مجرّد المخالفة ولا دور للمعارض وعدمه فيها كما لايخفى.

فإن قلت : ما هي الثمرة العملية بين كونه مميّزاً أو مرجّحاً إذ على كلّ تقدير يجب الأخذ بذات المزية؟

قلت : تظهر الثمرة في أنّه لو كان مميّزاً لايعاد له شيء ، فيقدم الموافق على المخالف وإن كان في جانب الآخر مرجحات كثيرة ، بخلاف ما إذا كان مرجّحاً ، فعندئذ يلاحظ الخبران من حيث كثرة المرجّح وقلّته في جانب المخالف ، فربما يقدّم المخالف إذا كانت فيه مرجّحات كثيرة.

وهل المراد من المخالفة للكتاب والسنّة ، هي المخالفة على وجه التباين

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ ، ١٥ ، ٤٧.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ ، ١٥ ، ٤٧.

٣. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ ، ١٥ ، ٤٧.

٥٢٩

الكلّي ، أو المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق؟ الظاهر هو الثاني ، لصدور الخبر المخالف على النحو الثاني عنهم عليهم‌السلام في مختلف الأبواب ، فانّ دور الخبر الواحد غالباً هو تقييد المطلقات أو تخصيص العمومات. والخبر المخالف على نحو التباين الكلي قليل في الأحكام جداً ولكنّه في مجال العقائد والمعارف غير عزيز ، كما هو الحال في مجال الرؤية والقضاء والقدر ومقامات الأنبياء والأولياء من روايات الغلوّ.

٤. الترجيح بمخالفة العامّة

تضافرت الروايات على أنّه إذا اختلفت الأخبار ، يُقدَّم ما خالف العامة ، وما ذلك إلاّ لأنّ الظروف القاسية دفعت بالأئمة إلى الإفتاء وفقَ مذاهبهم صيانة لدمائهم وصيانة نفوس شيعتهم ، ولذلك جعل ما يشبه قولهم ممّا فيه التقية. (١) وإليك نقل ما ورد في هذا المجال :

١. ما رواه عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في مقبولته : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟

قال : « ما خالف العامة ففيه الرَّشاد ».

فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟

قال : « ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ». (٢)

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٦.

٢. الكافي : ١ / ٦٨ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠.

٥٣٠

وقد مرّ آنفاً انّ صدر الحديث وإن كان راجعاً إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على حكم الآخر ، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات أرجع الإمام السائلَ إلى ملاحظة مصدر فتاواهما وإنّه يقدّم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب ، على من قضى بمصدر شاذ.

ومن هنا توجه كلام الإمام إلى بيان مرجحات الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً ، وكلّ ما جاء بعد كلامه في المجمع عليه يرجع إلى مرجحات الرواية.

٢. ما رواه سعيد بن هبة اللّه الراوندي بسنده إلى عبدالرحمن بن أبي عبد اللّه ، عن الصادق عليه‌السلام في الخبرين المختلفين أنّه قال : « فأعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه ». (١)

٣. رواية الحسين بن السري ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم ». (٢)

٤. روى الحسن بن الجهم ، قال : قلت للعبد الصالح عليه‌السلام : « فيروى عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام شيء ويروى عنه خلافه ، فبأيّهما نأخذ؟ فقال : « خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه ». (٣)

٥. ما رواه محمد بن عبد اللّه ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : « إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه ، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه ». (٤)

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٨٤ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

٢. الوسائل : ١٨ / ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٠.

٣. الوسائل : ١٨ / ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣١.

٤. الوسائل : ١٨ / ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤.

٥٣١

هذه بعض ما ورد في الترجيح بمخالفة العامة ، ولو كان هناك مرجّح لتقديم إحدى الروايتين على الأُخرى فليس هو إلاّ هذا المرجّح ، وأمّا الباقي فقد عرفت أنّ الترجيح بصفات الراوي يرجع إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على الآخر.

وأمّا الترجيح بالشهرة العملية أو موافقة الكتاب والسنّة ، فقد عرفت أنّها من قبيل تمييز الحجة عن اللا حجة ، وانّ لسان الروايات صريحة في ذلك ، فلم يبق فيما يمكن عدّه مرجِّحاً إلاّ مخالفة العامة.

ولكن في النفس من كونها من هذا الباب أيضاً شيء ، لأنّ المتبادر أيضاً من لسان الروايات هو نفس ما يتبادر من المرجّحات الأُخرى فقوله : « ما خالف العامة ففيه الرشاد » معناه انّ ما وافقهم ففيه الضلال ، ويقرب منه قوله : « فما وافق أخبارهم فذروه » أو « فدعوه » وهذه التعابير أنسب لتمييز الحجة عن اللا حجّة.

٥. الترجيح بالأحدثية

هناك روايات عديدة تدل على لزوم الأخذ بالأحدث من الحكمين ، وإليك بعض ما يدل عليه :

١. روى المعلّى بن خنيس ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال : « خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله ». (١)

ولكن هذا القسم لا صلة له بباب المرجّحات ، لأنّ الأخذ بالأحدث ليس

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨ وانظر أيضاً الحديث ٩ و ١٧ من نفس الباب.

٥٣٢

لأجل كونه بياناً للحكم الواقعي والآخر على خلافه بل يمكن أن يكون على العكس ، وإنّما وجب الأخذ بالأحدث ، لأجل انّ إمام كلّ عصر أعرف بمصالح شيعته ، مع أنّ كلاً من الخبرين بالنسبة إلى بيان الحكم الواقعي وعدمه سواء ، وعلى هذا يختص الترجيح بهذه المزيّة لعصرهم دون عصر الغيبة ، لأنّه بالنسبة إلى الخبرين متساو.

نعم الأخذ بالأحدث إذا كان في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربما يكون لأجل كونه ناسخاً للأول ، وأمّا في كلام الإمامين أو الإمام الواحد فلايتصور فيه ذلك. وهنا كلام لصاحب الوافية يقول :

« ولا أعلم أحداً عمل بهذه الروايات غير ابن بابويه في الفقيه في باب « الرجل يوصي إلى رجلين » فقال : لو صحّ الخبران جميعاً ، لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام ، وذلك لانّ الأخبار لها وجوه ومعان ، وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس.

وقال أيضاً : العمل بالروايات الدالّة على العمل بالأحدث في الأحاديث النبوية قريب ، لما ورد منه انّ الأحاديث ينسخ بعضها بعضاً ، وأمّا في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام بالنسبة إلى مكلّفي هذه الأعصار فمشكل غاية الإشكال. (١)

إلى هنا تمّ الكلام في الجهة الأُولى وهي التعرف على المرجِّحات ، وحان البحث في الجهة الثانية ، وهي لزوم الأخذ بالمرجِّحات وعدمه.

__________________

١. لاحظ الوافية : ٣٠١ ، ٣٣٥ ؛ والفقيه : ٤ / ١٥١ برقم ٥٢٤.

٥٣٣

الجهة الثانية

في لزوم الأخذ بالمرجِّح وعدمه

المشهور هو لزوم الأخذ بذات المزية من الخبرين. وعليه الشيخ الأنصاري ، غير انّ المحقّق الخراساني حمل الروايات على الاستحباب.

وقد استدلّ على القول المشهور بوجوه نشير إلى بعضها بوجه موجز :

أ : دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين.

ب : لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.

إلى غيرها من الوجوه التي ربما ترتقي إلى خمسة ، كما أشار إليها المحقّق المشكيني ، وقد ناقش المحقّق الخراساني في هذه الوجوه بما لاملزم لذكرها وما في مناقشاته ، والأولى أن يُستدلّ على وجوب الأخذ بالوجه التالي :

إنّ لسان الروايات هو لزوم الأخذ لا استحبابه ، أمّا على القول بأنّ الجميع يرجع إلى مميّز الحجة عن اللا حجة فواضح ، وأمّا على القول بأنّها من مقولة المرجحات بعد وصف الخبرين بالحجية ، فلأنّ المتبادر من الجمل التالية هو اللزوم لا الفضل والاستحباب.

أ : انّ المجمع عليه لا ريب فيه.

ب : ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ويترك ما خالف.

٥٣٤

ج : ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

د : ما وافق القوم فاجتنبه.

إلى غير ذلك من العناوين الصريحة في لزوم الأخذ بالمرجّح وترك الآخر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لمّا لم يدرس الروايات واحدة تلو الأُخرى وإنّما نظر إليها نظرة عابرة ذهب إلى عدم لزوم الأخذ بذي المزية ، واستدل على ذلك بوجوه أربعة ، وإليك تحليل تلك الوجوه :

الأوّل : إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة هو المقبولة والمرفوعة ـ مع اختلافهما ـ وضعف سند المرفوعة جداً ، والاحتجاج بالمقبولة مشكل ، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها في مورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردها ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح بالنسبة إلى الترجيح بالصفات وأمّا بالنسبة إلى غيرها فلا ، وذلك لأنّه قد انتهى كلام الإمام أخيراً إلى بيان مرجِّحات الرواية التي بها أيضاً يقدّم أحد الحكمين على الآخر ، وذلك بأن يكون مستند حكمه مجمعاً عليه أو موافقاً للكتاب والسنّة أو مخالفاً للعامة ، فتكون النتيجة هو انّ ما أشار إليه من المرجِّحات مرجِّحاً للخبر بما هو هو سواء استخدمه القاضي أو المفتي.

الثاني : لامجال لتقييد إطلاقات أخبار التخيير في مثل زماننا ممّا لايتمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام بهما ، وذلك بوجهين :

أ : قصور المرفوعة سنداً وقصور المقبولة دلالة لاختصاصها بزمان التمكّن

__________________

١. الكفاية : ٢ / ٣٩٢.

٥٣٥

من لقائه عليه‌السلام ، والشاهد عليه عدم حكم الإمام بالتخيير بعد فقدان المرجّح ، بل أمره بالإرجاء حتى يلقى إمامه.

ب : لو قلنا بلزوم التقييد يلزم حمل أخبار التخيير على مورد نادر إذ قلّما يتفق أن لايكون هناك مرجِّح. (١)

يلاحظ على الأوّل : أنّ مقتضى قاعدة الاشتراك في التكليف عدم الفرق في الحكم بين الزمانين ، مضافاً إلى أنّه إذا كان الترجيح واجباً في زمن الحضور مع إمكان لقاء الإمام يكون الترجيح في زمان الغيبة وعدم التمكّن من الإمام أمراً أولى.

ويلاحظ على الثاني : أنّه إنّما يلزم إذا قلنا بالتعدّي من المنصوص ، إلى غير المنصوص وبما انّ غير المنصوص من المرجحات متوفِّر بكثرة ، فلو كان العمل بذات المزية واجباً يلزم حمل أخبار التخيير على الفرد النادر ، وأمّا إذا قلنا باختصاص الترجيح بمورد النص وهو لايتجاوز عن أربعة مرجِّحات فلايلزم حملها على الفرد النادر.

الثالث : انّ الأخذ بموافق الكتاب أو مخالف القوم يحتمل أن يكون من باب تمييز الحجة عن اللا حجة.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً ولكنّه يكون دليلاً على لزوم الأخذ بذي المزية ، سواء أكان مرجّحاً لأحد الخبرين أو مميّزاً للحجة منهما.

نعم هناك ثمرة بين القولين قد بيّناها فيما مضى.

الرابع : ما أشار إليه بقوله : إنّه لولا الحمل على الاستحباب للزم التقييد في

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ٣٩٣.

٥٣٦

أخبار المرجِّحات ، وهي آبية عنه ، إذ كيف يمكن تقييد مثل : ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل. (١)

ولا يخفى انّ كلامه مجمل ، والمراد انّ الترجيح بالشهرة العملية ورد في المقبولة قبل الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، ولو قلنا بلزوم العمل بالمرجّحات يلزم تقييد الترجيح بموافقة الكتاب ، بما إذا لم يكن في الجانب المخالف شهرة ، وإلاّ فيقدّم المخالف ، وذلك لأنّ المقبولة قدّمت الترجيح بالشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب ، فيكون الترجيح بالشهرة مقدّماً على الترجيح بموافقة الكتاب ، وتكون النتيجة أنّ مخالف الكتاب الموافق للشهرة يكون مقدَّماً على موافق الكتاب وتختص مرجحيته بما إذا لم يكن المخالف موافقاً للشهرة ، فيلزم تخصيص مرجّحية الكتاب بغير صورة وجود الشهرة مع أنّ لسان الأخبار في طرد مخالف المخالف آب عن التقييد ، إذ معناه انّ مخالف الكتاب زخرف إلاّ إذا كان موافقاً للمشهور.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من لسان الروايات ، أعني قوله : « زخرف » ، أو « ما خالف قول ربّنا لم نَقُلْه » لم يردا في الخبرين المتعارضين وإنّما وردا في الخبر المخالف للقرآن ، المجرّد عن التعارض وقد خلط المحقّق الخراساني بين هذين الصنفين ، كما نبهنا به سابقاً.

وثانياً : أنّ التقييد إنّما يلزم إذا قلنا بكونها مرجِّحات للرواية ، وأمّا لو قلنا بكونها مميزات للحجة فالتقييد غير لازم ولا معقول ، لأنّ الجميع على هذا الفرض على صعيد واحد ليس لواحد منها مزية على الآخر ، بل الكل يجعل الخبر الآخر في مدحرة البطلان.

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ٣٩٥.

٥٣٧

وثالثاً : أنّ ما ذكره من الفرض أمر ذهني ليس له مصداق في الخارج ، إذ كيف يتصور أن يكون المخالف المبائن للقرآن ، مُجْمعاً عليه ، والموافق شاذاً؟؟!

ورابعاً : أنّ أقصى ما يلزم هو إلغاء الترتيب الوارد في رواية ابن حنظلة وبما انّ الترتيب ورد في كلام الراوي بمعنى انّه هيّأ الأرضية بسؤالاته لأن يذكر الإمام كلاً بعد الآخر فلايعبأ بذلك الترتيب. وبالتالي يكون كلّ من الأُمور الأربعة أو الثلاثة أمارة لتشخيص الحقّ عن الباطل ، في مستوى واحد كما لايخفى.

الجهة الثالثة

في التعدّي من المنصوص إلى غيره

لو افترضنا انّ ما ذكر من المزايا مرجِّحات للرواية ، فهل يقتصر عليها في مقام الترجيح أو يتعدى عنه إلى غيره كموافقه الأصل أو موافقة الإجماع المنقول وغيرهما؟ ذهب الشيخ الأعظم إلى لزوم التعدّي خلافاً للمحقّق الخراساني ، واستدلّ الشيخ الأنصاري على التعدّي بوجوه أربعة :

الوجه الأوّل : انّ الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة ليس إلاّ لأجل كونهما موجبتين للأقربية ويجب الأخذ بكلّ ما يوجب أقربية أحدهما من الآخر ، وعلى ضوء هذا ينتقل إلى الترجيح بكلّ صفة في الراوي والرواية توجب أقربية أحد الخبرين ، ككون الراوي مُجيداً للغة العربية دون الآخر ، أو كون إحدى الروايتين منقولة بالمعنى دون الأُخرى.

٥٣٨

يلاحظ عليه : أنّ الترجيح بهذين الوصفين لايوجد إلاّ في المرفوعة والمقبولة ، فالمرفوعة لاسند لها ، وأمّا المقبولة فموردها ترجيح رأي أحد القاضيين على الآخر ، فلو قيل بالتعدّي فإنّما يصحّ التعدّي في مورد القضاء أي يتعدّى من الأوصاف المنصوصة في القاضي إلى غير المنصوصة فيه لا إلى مورد الإفتاء الذي هو خارج عن موضوع البحث.

أضف إلى ذلك انّ إيجاب الترجيح في القضاء لأجل انّ فصل الخصومة لايتم إلاّ بصدور الرأي القاطع من القاضي ولايصح تخيير المتحاكمين بين مضموني الروايتين ، إذ عندئذ لايحسم النزاع وأمّا باب الإفتاء فلايجب فيه الترجيح لجواز الإفتاء بالتخيير بين الخبرين ولايترتب عليه الفساد المترتب عليه في باب القضاء.

الوجه الثاني : ليس المراد من المجمع عليه ـ الذي وصفه الإمام بأنّه لا ريب فيه ـ الروايةَ المتواترة بل المراد الخبر الواحد المعروف بين الرواة ، وعليه يكون المراد من قوله : « لا ريب فيه » هو عدم الريب بالإضافة إلى الرواية الشاذة التي لم تكن معروفة عند الأصحاب ، فتكون المشهورة أقرب من الشاذة إلى الصدور ، إذ يحتمل فيه ما لايحتمل في المجمع عليه ، ولازم ذلك هو التعدّي إلى كلّ مزية توجب نفي الريب في واحدة دون الأُخرى ، ويؤيد انّ المراد من الريب هو الريب النسبي لا الريب المطلق أمران :

١. فرض الراوي خبرين مشهورين ، إذ لايصحّ فرض خبرين مشهورين ممّا لا ريب فيهما على وجه الإطلاق.

٢. إنّه لو كان المراد هو نفي الريب على وجه الإطلاق لم يكن وجه لتقديم الترجيح بصفات الراوي على الشهرة ، فانّ الإرجاع إلى الأمارة الظنية إنّما يصحّ إذا فقدت الأمارة القطعية.

٥٣٩

يلاحظ عليه : بأنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الريب المنفي هو الريب النسبي لا الريب على وجه الإطلاق ، بمعنى انّ الريب الموجود في الشاذ ليس بموجود في المشهور وإن كان المشهور محتمل الريب من جهات أُخرى ، فعلى هذا يصحّ التعدي لكن الظاهر انّ المنفي هو الريب على وجه الإطلاق كما هو مقتضى « لا النافية للجنس ».

يقول ابن مالك في نكته على مقدمة ابن الحاجب بأنّ « لا » قد تكون نافية للجنس ويُفرَّق بين إرادة الجنس وغيره بالقرائن وإنّما أعملت « اعمال ما ولا » لأنّها لما قصد بها نفي الجنس على سبيل الاستغراق اختصت بالجنس. (١)

وعلى هذا فاحتمال انّ الريب المنفي هو الريب النسبي على خلاف الظاهر. غير انّ « لما لا ريب فيه » مصداقين :

أحدهما : الخبر المتواتر ، وليس هو المراد في المقام ، لأنّ الراوي افترض بعد هذا السؤال خبرين مشهورين ، ومن المعلوم عدم إمكان فرض خبرين متواترين متعارضين ولا وجه للسؤال عن غير الممكن.

وثانيهما : الخبر الواحد الذي تطمئن به النفس وتسكن إليه ، لنقل الأصحاب وعملهم به دون الآخر الذي أعرض عنه الأصحاب نقلاً وعملاً أو عملاً فقط ، فالأوّل لا ريب فيه عرفاً ، والثاني فيه كلّ الريب ولايدخل مثل ذلك في عنوان الخبر المتواتر ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لو قلنا بالتعدي فانّما يصحّ لو كان المتعدَّى إليه مثل الشهرة العملية للرواية التي تجعل الخبر مسكوناً إليه لا مطلق المرجِّح الذي لايجعل الخبر بلا ريب.

إلى هنا تبيّن ما هو المراد من الحديث ، وإليك تحليل ما استشهد به من

__________________

١. البهجة المرضية : ٦٧ ، طبعة المكتبة الإسلامية.

٥٤٠