إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

الملاك في أحدهما أقوى من الآخر.

٢. ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين الصور :

الأُولى : إذا كانت السببية المقتضية للحجّية مختصة بما إذا لم يعلم كذب الخبر لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، يكون مقتضى القاعدة هو التساقط لفقدان الشرط ، وهو عدم العلم بكذب أحد الخبرين ، فتخرج هذه الصورة من أقسام السببية وتدخل في الطريقية. وإلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « لو كان الحجّة خصوص ما لم يعلم كذبه ... ».

الثانية : لو قلنا بأنّ المقتضي للحجّية هو مطلق الخبر وإن علم كذب أحدهما إجمالاً ، فيكون المتعارضان من باب تزاحم الواجبين ، سواء أدّيا إلى وجوب الضدين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الحركة والآخر على وجوب السكون ، أو إلى لزوم المتناقضين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الشيء والآخر على عدمه.

الثالثة : لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على حكم غير إلزامي كالإباحة ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم التزاحم ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه ( الإباحة ) أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ( كالوجوب ) ، وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « لافيما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي ». (١)

الرابعة : هذا إذا كانت الإباحة بمعنى عدم الاقتضاء لحكم من الأحكام ، وأمّا لو كانت الإباحة عن اقتضاء بأن كانت المصلحة مقتضية للتساوي بحيث تكون الإباحة عن اقتضاء التساوي لا عن عدم الاقتضاء فيزاحم حينئذ ما يقتضي الإلزام ، فيتعامل معهما معاملة المتزاحمين.

__________________

١. والفرق بين هذه الصورة وما في الصورة الثانية من لزوم المتناقضين ، هو انّ عدم الوجوب فيها ليس حكماً شرعياً بخلاف الإباحة فانّه حكم شرعي.

٥٠١

الخامسة : هذا إذا كان موضوع المصلحة مؤدّى الأمارة ، وأمّا لو كان موضوعها هو الإلزام القلبي بكلّ من التكليفين بأن يجب الالتزام بالوجوب كما يجب الالتزام بالإباحة ، فتدخل في باب المتزاحمين ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام.

هذه هي الصورة التي ذكرها المحقّق الخراساني فأدخل بعضها في التزاحم وأخرج بعضها الآخر عنه.

يرد على كلامه أمران :

الأوّل : اختصاص المصلحة السلوكية بالخبر الذي يحتجّ به ، أعني : غير المعارض ، لا بالخبرين المتعارضين اللّذين لايحتج بهما حسب ما عرفت.

الثاني : عدم انطباق حدّ التزاحم على الصور التي جعلها منه.

وإليك بيان الأمرين :

أمّا الأوّل : فلأنّ معنى المصلحة السلوكية مختصة بالخبر غير المعارض ( الحجة ) دون الخبرين المتعارضين ، ويعلم ذلك من الدافع الذي دفع الشيخ إلى تصويره حيث إنّ الشارع أمر بالعمل بالأمارة مطلقاً مع أنّها ربما تخطأ في بعض الموارد. وهي مستلزمة لتفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة.

فهذا ما دفع الشيخ إلى التخلّص عنه بتصوير المصلحة السلوكية الجابرة ، وعلى ذلك فالمصلحة السلوكية لها إطار ضيق لايعم إلاّ الخبر غير المعارض الذي أمر الشارع بالعمل به.

وأمّا الخبران المتعارضان فالمفروض عدم حجّيتهما ، لما دلّت المنفصلة السابقة على عدم صحة الاحتجاج بهما ، وذلك لأنّ التعبّد بهما تعبّد بأمرين مختلفين في

٥٠٢

زمان واحد ، والتعبّد بأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح وبأحدهما المفهومي لا معنى له ، وبأحدهما المصداقي لا واقعية له. فصارت النتيجة عدم صحّة الاحتجاج بالمتعارضين ، ومعه كيف يمكن تصوير المصلحة السلوكية فيهما ، التي تختص بالخبر الذي أمر الشارع بالعمل به؟!

وأمّا الثاني فقد عرفت أنّ التزاحم عبارة عن عدم الاحتكاك والتدافع في مقام الجعل والملاك وإنّما يرجع التدافع إلى ظرف العمل والامتثال ، فإذا كان هذا حد التزاحم ، فكيف ينطبق ذلك التعريف على الموارد الثلاثة التي جعلها من أقسام التزاحم؟!

أ : الخبران المؤدّيان إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين ، والمفروض انّ التدافع قائم على قدم وساق في كلتا الصورتين ، فإذا دلّ أحدهما على وجوب الحركة والآخر على وجوب السكون في زمان واحد ، فهما يتكاذبان في الجعل والإنشاء ، كما أنّ بينهما تدافعاً في محل الملاك.

ب : إذا دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الإباحة عن اقتضاء ، فقد جعله المحقّق من قبيل المتزاحمين مع عدم انطباق تعريفهما على المورد لوجود التدافع في مقام الجعل أوّلاً والملاك ثانياً ، فالوجوب يكذب الإباحة وبالعكس ، كما أنّ كونه واجباً بمعنى وجود المصلحة الملزمة في الفعل وكونه مباحاً بمعنى عدم وجود المصلحة الملزمة في الفعل.

ج : إذا كان موضوع المصلحة هو الالتزام القلبي ، فكيف يدخل في باب المتزاحمين ، وذلك لاستلزامه التدافع في مقام الجعل فإيجاب الالتزام القلبي بالوجوب يطارده وجوب الالتزام القلبي بالحرمة.

٥٠٣

فقد ظهر ممّا ذكرنا أمران :

الأوّل : انّ المصلحة السلوكية مختصة بالخبر غير المعارض ولاتعمّ المتعارضين.

الثاني : انّ حد التزاحم لاينطبق على الصور الثلاث التي جعلها من المتزاحمين.

وبذلك يظهر المذهب المختار في الخبرين المتعارضين على القول بالسببية.

نعم والذي يسهل الخطب عدم ترتب ثمرة مهمة على هذا البحث ، لأنّ القول بالسببية افتراض عقلي لا دليل عليه.

المبحث الرابع

مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين

قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط ، على كلا المسلكين : الطريقية والسببية.

ويقع الكلام في المقام في مقتضى القاعدة الثانوية ، وانّه هل ورد دليل يخالف مقتضى القاعدة الأوّلية أو لا؟ فعلى الأوّل يؤخذ بمقتضى الدليل الوارد ، وقد ذهب الأصحاب إلى عدم سقوط الخبرين من رأس اعتماداً على روايات وردت عنهم عليهم‌السلام تشهد على عدم سقوطهما من رأس ، ولكنّها مع التأكيد على ذلك يختلفان في جهات أُخرى ، ولذلك تشعبت الروايات إلى طوائف ثلاث :

٥٠٤

الطائفة الأُولى : ما يدل على التخيير

إنّ هنا لفيفاً من الروايات تدلّ على أنّ المرجع عند التعارض بين الخبرين في مقام العمل ، وقد ادّعى الشيخ تواترها في الفرائد ، ومع ذلك ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ التخيير عند فقد المرجح ممّا لا دليل عليه ، بل عمل الأصحاب في الفقه على خلافه ، فانّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم. (١)

وكان سيدنا الأُستاذ يقول بتضافر الروايات الدالة على التخيير ، وقد ظفرنا بروايات ثمان في هذا الصدد ، ولكن أكثرها لاتخلو من ليت ولعل ، حيث إنّ بعضها واردة في المستحبات ، إلى أُخرى غير ظاهرة في المتعارضين ، إلى ثالثة ضعيفة السند ، وإليك نقل ما عثرنا عليه مع هذه الجهات :

١. ما رواه الحسن بن جهم (٢) ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال : « ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّوجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبهها فليس منّا ».

قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ، ولانعلم أيّهما الحقّ؟ قال : « فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت ». (٣)

وروى صدره العياشي عن الحسن بن الجهم ، عن العبد الصالح. (٤)

فإن قلت : تدل على التخيير بعد فقد الترجيح والمطلوب هو إثبات التخيير مطلقاً.

__________________

١. مصباح الأُصول : ٣ / ٤٢٦.

٢. الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين الشيباني ، الثقة ، ترجمه النجاشي والشيخ في رجالهما.

٣. الوسائل : ١٨ / ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٤. الوسائل : ١٨ / ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٨.

٥٠٥

قلت : المطلوب هو ثبوت التخيير على وجه الإجمال ولا مانع من تخصيص ما دلّ عليه بالروايات الدالّة على الترجيح بالمرجِّحات. والرواية حجّة على خلاف ما اختاره المحقّق الخوئي حيث حكم بالتخيير عند فقد المرجّح.

٢. ما رواه الحارث بن المغيرة (١) ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة ، فموسّع عليك حتى ترى القائم عليه‌السلام فترد عليه ». (٢)

وربما يقال بأنّ الحديث ناظر إلى حجّية قول الثقة وليس بناظر إلى الحديثين المختلفين ، ويمكن أن يقال : بأنّ الحديث ناظر إلى الخبرين المتعارضين بشهادة انّ قول الإمام عليه‌السلام : « فموسع عليك ... » حيث إنّه ورد في الحديث المتقدم الذي مورده هو تعارض الخبرين ، كما أنّه ورد أيضاً في حديث علي بن مهزيار الآتي ومورده أيضاً الخبران المتعارضان.

أضف إلى ذلك أنّ الغاية « حتى ترى القائم » تناسب حجّية الخبرين المتعارضين ، وأمّا الخبر الواحد فهو حجّة إلى يوم القيامة.

وأمّا قوله : « فكلّهم ثقة » فاشتراط وثاقة الجميع ، لأجل تعدّد الروايات ، وإلاّ فلو كانت الرواية واحدة لايشترط فيه سوى وثاقة راويها ، لاوثاقة جميع الأصحاب.

٣. ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم صلّها في المحمل ، وروى

__________________

١. الحارث بن المغيرة النصري ، قال النجاشي : ثقة ، ثقة ، وله أكثر من أربعين رواية.

٢. الوسائل : ١٨ / ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

٥٠٦

بعضهم لاتصلّها إلاّ على الأرض؟ فوقّع عليه‌السلام : « موسّع عليك بأيّة عملت ». (١)

ولكن موردها هو النافلة ، لأنّ ركعتي الفجر كناية عن نافلة الفجر ، فالتخيير في المستحبات بين الخبرين لايكون دليلاً على التخيير في غيرها ، ومع ذلك يحتمل أن يكون المراد نفس صلاة الفجر.

واحتمل المحقّق الخوئي أنّ التخيير في الرواية تخيير واقعي وليس تخييراً ظاهرياً بمعنى جواز العمل بالخبرين ، وذلك لأنّه لو كان الحكم الواقعي غيره كان عليه البيان لا الحكم بالتخيير بين الحديثين.

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره مخالف لظاهر قوله : « موسّع عليك بأيّة عملت » حيث إنّه ظاهر في الجواب عن المسألة الأُصولية ، وأمّا لماذا لم يُجب بالحكم الواقعي واكتفى بالحكم الظاهري ، وهو جواز العمل بالروايتين فليس وجهه بمعلوم.

٤. ما رواه الطبرسي في « الاحتجاج » مرسلاً في جواب مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري (٢) إلى صاحب الزمان ـ عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ.

أدام اللّه عزّك يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ، فانّ بعض أصحابنا ، قال : لايجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد؟

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

٢. محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري ، عرّفه النجاشي بقوله : أبو جعفر القمي كان ثقة وجهاً ، كاتب صاحب الأمر عليه‌السلام.

وأمّا والده ، أعني : عبد اللّه بن جعفر ، فعرّفه النجاشي بقوله : أبو العباس القمي ، شيخ القميّين ووجههم قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين وسمع أهلها منه فأكثروا ، فهو مؤلّف كتاب « قرب الاسناد » إلى الرضا عليه‌السلام.

٥٠٧

الجواب : إنّ فيه حديثين :

أمّا أحدهما فانّه إذا انتقل من حالة إلى أُخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فانّه روي : أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ، وكبّر ، ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً. (١)

ودلالة الحديث على التخيير بين الخبرين المتعارضين فرع كون السؤال عن المسألة الأُصولية والإجابة على وفقها ، وأمّا لو كان السؤال عن حكم الواقعة وكان الجواب لبيان حكم الواقعة فلايكون دليلاً على ما نحن فيه.

ذهب سيدنا الأُستاذ إلى الثاني ، ولكن القرائن تشهد على الأوّل وذلك :

أوّلاً : لأنّه لو كان السؤال عن حكم الواقعة وكان الجواب لبيان حكمها كان على الإمام تخصيص الرواية الأُولى بالثانية ، لأنّ نسبة الثانية إلى الأوّل نسبة المخصص إلى العام ، وهذا يدل على أنّ الإمام لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي للمسألة.

وثانياً : لو كان الإمام بصدد بيان الحكم الواقعي ، لما كان هناك أي ملزم لبيان انّه وردت هناك روايتان إحداهما كذا والأُخرى كذا ، بل كان عليه أن يفتي بالحكم الواقعي.

وثالثاً : أنّ التعبير « بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » قد ورد في الخبرين المختلفين كما عرفت في رواية الحسن بن الجهم وعلي بن مهزيار ، فيكون قرينة على أنّ الغرض هو بيان حكم المسألة الأُصولية.

نعم يرد على الاستدلال بالرواية بأنّ موردها هو المستحبّات والتخيير فيها

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

٥٠٨

بين الخبرين لايكون دليلاً عليه في غيرها.

٥. ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن أحمد بن الحسن الميثمي (١) ، انّه سأل الرضا عليه‌السلام يوماً ، إلى أن قال : « فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً ، فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما كان في السنّة موجوداً منهياً عنه نهي حرام ، ومأموراً به عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ، ثمّ كان الخبر الأخير خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرهه ، ولم يحرِّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً ، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ». (٢)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ التخيير في المقام بين ترك المكروه وفعله والمستحب تركه ، فيكون التخيير فيه تخييراً واقعياً راجعاً إلى حكم الواقعة ، ويشهد على ذلك قوله : « وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً ».

ويمكن أن يقال بخروج الرواية عن محطّ البحث.

٦. ما رواه الكليني في ذيل حديث سماعة (٣) الذي سيوافيك في الطائفة

__________________

١. أحمد بن الحسن الميثمي ، قال النجاشي : أحمد بن الحسن بن إسماعيل ، كان واقفاً. وقال الطوسي : كوفي ، ثقة.

٢. الوسائل : ١٨ / ٨١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

٣. الوسائل : ١٨ / ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٥٠٩

الآمرة بالتوقّف حيث قال الكليني ، وفي رواية أُخرى : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك ». (١)

والظاهر انـّها ليست رواية مستقلة ، بل هي نفس رواية محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري بتبديل قوله : « كان صواباً » إلى قوله : « وسعك ».

٧. ما في الفقه الرضوي : والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيّام حيضها ـ إلى أن قال : وقد روي ثمانية عشر يوماً ، وروي ثلاثة وعشرين يوماً ، وبأيّ هذه الأحاديث أخذ من باب التسليم جاز. (٢)

والحديث يصلح للتأييد لاللتأسيس.

٨. ما رواه صاحب « غوالي اللآلي » عن العلاّمة ، عن زرارة ، قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ ... فقلت : إنّهما معاً موافقان للعامة أو مخالفان فكيف أصنع؟ فقال : « إذاً فخذ ما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط ».

فقلت : إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : « إذن فتخيّر أحدهما ، وتأخذ به وتدع الآخر ». (٣)

يلاحظ على الرواية بأنّها من المراسيل التي لايقام لها وزن حيث رواه صاحب المستدرك ( المتوفّى عام ١٣٢٠ هـ ) عن « غوالي اللآلي » الذي ألّفه ابن أبي جمهور ( المتوفّـى حوالي ٩٠٠ هـ ) عن زرارة ( المتوفّـى عام ١٥٠ هـ ).

مضافاً إلى أنّ التعبير عن الخبرين المختلفين بالمتعارضين اصطلاح جديد

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

٢. المستدرك : ١٧ / ٣٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢.

٣. المستدرك : ١٧ / ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٥١٠

بين الفقهاء ولم يكن له ذكر في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وإنّما الوارد في كلماتهم « المختلفين ».

فتلخص من ذلك : انّ ما يدل على التخيير قليل جداً وأوضحها هو رواية الحسن بن الجهم ثمّ الحارث بن المغيرة مع ما في الضعف في الاسناد. ولعلّ المجموع من حيث المجموع كاف في إثبات المطلوب.

الطائفة الثانية : ما يدل على التوقّف

هناك طائفة من الروايات تدلّ على أنّ الأصل في الخبرين المتعارضين هو التوقّف إلى أن يلتقي الإمام عليه‌السلام ، وإليك ما يدلّ عليه :

١. روى الكليني عن سماعة ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟

قال : « يُرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه ». (١)

٢. ما رواه صاحب الاحتجاج عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قلت : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه ، قال : « لاتعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله » ، قلت : لابدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : « خذ بما فيه خلاف العامة ». (٢)

ويحتمل وحدة الحديثين لوحدة الراوي عن الإمام وإن اشتمل الحديث الثاني على زيادة.

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٧٧ ، الباب٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٢. الوسائل : ١٨ / ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

٥١١

٣. ما رواه الكليني عن عمر بن حنظلة (١) في مقبولته المعروفة عند ما يفترض الراوي مساواة الخبرين في المرجّحات ، فأجاب : « إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ». (٢)

٤. ما رواه صاحب السرائر عن كتاب « مسائل الرجال » انّ محمد بن علي ابن عيسى (٣) كتب إلى الإمام الهادي عليه‌السلام يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك وقد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه ، أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟

فكتب عليه‌السلام : « ما علمتم أنّه قولنا فألزموه ، وما لم تعلموا فردّوه إلينا ». (٤)

وروى صاحب المستدرك عن محمد بن علي بن عيسى القمي ما يقرب من هذا. (٥)

٥. ما رواه صاحب غوالي اللآلي في مرسلة عن العلاّمة ، عن زرارة عند ما يفترض الراوي مساواة الروايتين في المرجحات ، فقال الإمام : « إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر ». قال : وفي رواية أنّه عليه‌السلام قال : « إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله ». (٦)

__________________

١. عمر بن حنظلة أبو صخر العجلي البكري الكوفي ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، تلقّى المشهور روايتَه بالقبول ، وله أكثر من سبعين رواية.

٢. الوسائل : ١٨ / ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣. محمد بن علي بن عيسى القمي ، كان وجهاً بقم وأميراً عليها من قبل السلطان ، وكذلك كان أبوه يعرف بالطلحي ، له مسائل لأبي محمد العسكري.

٤. الوسائل : ١٨ / ٨٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٦.

٥. المستدرك : ١٧ / ٣٠٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠. وفيه محمد بن عيسى مكان محمد بن علي بن عيسى ، ولعلّهما شخصان ، أو سقط « علي » من قلم الناسخ.

٦. المستدرك : ١٧ / ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٥١٢

إلى هنا تمّ ما وقفنا عليه. نعم ورد الأمر بالتوقّف في حديث جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام لكن مورده هو تشابه الحديث بين المعنيين لا الخبرين المتعارضين ، فلاحظ. (١)

الجمع بين الطائفتين

قد قام غير واحد من المحقّقين بالجمع بين الطائفتين بوجوه ، أوضحها ما أفاده الشيخ الأعظم من حمل روايات التوقف على صورة التمكّن من لقاء الإمام ، ويشهد على ذلك أُمور :

١. قوله عليه‌السلام في حديث سماعة : يُرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه.

٢. قوله عليه‌السلام في حديث آخر عنه : لاتعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله.

٣. ما في رواية عمر بن حنظلة : فارجئه حتى تلقى إمامك.

٤. وفي كتاب مسائل الرجال : فردّوه إلينا.

٥. وفي رواية غوالي اللآلي : فارجئه حتى تلقى إمامك فتسأله.

وهذه التعابير تحكي عن أنّ ظرف الأمر بالوقوف هو تمكّن الراوي من الرجوع إلى من يُوقفه على جليّة الحال. وهذا بخلاف أخبار التخيير ، فهي واردة إمّا في الأعم من المتمكن وغيره ، أو في خصوص صورة العجز العرفي.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أورد على هذا الجمع ما هذا حاصله :

إن أُريد من التمكّن في أخبار التوقّف هو التمكّن الفعلي بأن يكون الإمام

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٨٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

٥١٣

حاضراً في البلد ، فهو مخالف لسياق الأخبار ، حيث إنّ الظاهر من بعضها انّه لم يكن للراوي طريق إلى حكم الواقعة يحسم مادة الخلاف ، ولذا أمر الإمام عليه‌السلام سماعة بالتوقّف في حال لم يكن متمكّناً من لقاء الإمام ، بشهادة أنّه لمّا قال سماعة إنّه لابدّ من العمل بأحدهما ، فأجاب الإمام بالأخذ بما خالف العامة. (١) ولو كان متمكناً أمره بالسؤال لا العمل بما خالف العامة.

وإن أُريد من التمكّن الأعم من الحال والاستقبال في مقابل عدم التمكّن مطلقاً يلزم حمل أخبار التخيير على الفرد النادر ، وأمّا حمل أخبار التخيير على زمان الغيبة فبعيد ، لصدورها في عصر الحضور ، كما هو الحال في حديث الحسن بن جهم والحارث بن المغيرة. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ المراد من التمكّن وعدمه ليس هو التمكّن العقلي حتى يرد عليه ما ذكر ، بل المراد التمكّن العرفي وعدمه ، فانّ الرواة حسب ظروفهم كانوا على صنفين :

فصنف كان يتمكّن من لقاء الإمام ولو بطيّ مسافة يسيرة.

وصنف آخر لايتمكّن من لقاء الإمام إلاّ بطيّ مسافة بعيدة ، كما هو الحال في شأن علي بن المسيب (٣) قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : « من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا ». (٤)

__________________

١. لاحظ الحديث الثاني.

٢. الإمام الخميني : الرسائل : ٢ / ٥١.

٣. علي بن المسيب عربي تيمي ينسب إلى قبيلة هَمْدان ، وثّقه الطوسي في رجال الرضا عليه‌السلام.

٤. الوسائل : ١٨ / ١٠٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

٥١٤

وعلى ضوء ذلك فأخبار التخيير محمول على غير المتمكّن عرفاً ، وما أكثره بين الناس ، وعندئذ لايلزم حملها على الفرد النادر.

وأمّا حديث سماعة فقد أمره الإمام بالتوقّف ، لأنّه كان متمكّناً من لقاء الإمام ، ولو بعد أيام وكان تكليفه التوقّف ، ولكن لمّا كان المورد من الأُمور المضيّقة التي لاتقبل الاستمهال ولو مدّة يسيرة رخّص الإمام أن يعمل بمخالف قول العامة.

ثمّ إنّ هناك وجوهاً أُخرى ذكرت للجمع بين الروايات ليس لها شاهد يدعمها ، وقد أشرنا إلى بعضها. (١)

وقبل أن نذكر الطائفة الثالثة نشير إلى نكات في أخبار التخيير :

الأُولى : هل الأخذ بأحد الخبرين لازم؟

هل الأخذ بأحد الخبرين لازم أو لا؟ وجهان :

١. لزوم الأخذ ، لأنّ الظاهر منها إفاضة الحجّية على المتعارضين بعد سقوطهما عند العقل والعقلاء ، وما هذا شأنه لايوصف بالجواز ، بل يكون منجِّزاً لو أصاب ومعذِّراً لو خالف.

٢. عدم اللزوم ، لأنّه المتبادر من قوله : « فموسَّع عليك بأيّهما أخذت ».

الظاهر هو الأوّل ، لما ذكرنا من أنّ المتبادر إفاضة الحجّية على الخبرين عند التعارض لمن لم يتمكن عرفاً من لقاء الإمام ، فيكون العمل به واجباً.

وأمّا قوله : « فموسّع عليك » ، فليس بصدد بيان انّ الأخذ بأحدهما جائز

__________________

١. لاحظ الكافي : ١ / ٦٦ ، وقد ذكرناها على التفصيل في الدورة الثالثة.

٥١٥

وليس بواجب ، بل هو لدفع توهّم الحظر ، وذلك لأنّه لمّا كان حكم الخبرين المتعارضين عند العقلاء هو السقوط وعدم الاعتماد على واحد منهما ، وكان الحكم الشرعي غير ذلك ، حاول الإمام تخطئة ذلك الرأي ، فعبَّر بالتوسع لردّ الحظر والمنع ، لالتحديد الموضوع من حيث لزوم الأخذ وعدمه

الثانية : هل مصبّ التخيير هو المسألة الأُصولية أو الفقهية

إذا قلنا بالتخيير بين المتعارضين ، فهل مصبّه هو المسألة الأُصولية ( التخيير بين الحجّتين ) فيكون المجتهد هو المخاطب ، أو المسألة الفقهية ( التخيير بين المضمونين ) ، فيعم الخطاب للمجتهد والمقلّد غير انّ الأوّل ينوب عن الثاني ، فيكون التخيير في المقام نظير التخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة. فعلى الأوّل يجب على المفتي الإفتاء بما أخذوا بالتخيير بين مضموني الخبرين ، بخلاف الثاني إذ يجب عليه الإفتاء بالتخيير بين المضمونين؟ وجهان والمشهور هو الثاني كما حكاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره.

استدل للوجه الأوّل بأنّ التخيير حكم للمتحيّر ، وهو المجتهد ، ولايقاس هذا بالشك الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي « ببيان انّ حكمه ـ البناء على الحالة السابقة ـ مشترك بينه وبين المقلِّد » وذلك لأنّ الشكّ هناك في معنى الحكم الفرعي المشترك ، والتخيير هنا في الطريق إلى الحكم فعلاً ، فالتخيير مختص بمن يتصدّى لتعيين الطريق كما أنّ العلاج بالترجيح مختص به.

استدل للوجه الثاني بأنّ نصب الشارع للأمارات يشمل كلا الصنفين ، إلاّ أنّ المقلد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ورفع موانعها ، فإذا أثبت ذلك المجتهد جوازَ العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين

٥١٦

المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّد كالمجتهد ، ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم دليل عليه فهو تشريع.

هكذا ذكر الشيخ الأنصاري دليل كلا الوجهين وأضاف : « والمسألة محتاجة إلى التأمّل ، وإن كان وجه المشهور أقوى ». (١)

وجه كونه أقوى هو ظهور روايات التخيير في التخيير بين مضمون الخبرين في مقام العمل مثل قولهم : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » وقد تكرّر لفظه أو مضمونه فيها ، غير انّ الظاهر من مرفوعة العلاّمة كون التخيير في المسألة الأُصولية حيث قال : « إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » وهو لايخرج عن حدّ الإشعار مع ضعف سنده كما مرّ.

ومع الاعتراف ببعض الظهورات المقتضية لكون مصب التخيير هو الحكم الفرعي ، يمكن أن يقال انّ مصبَّه هو المسألة الأُصولية ، وذلك لأنّ الروايات بصدد إفاضة الحجّية لكلّ من المتعارضين في الظاهر ، لأجل صيانة الحجّة الواقعية مهما أمكن ، فلو حكم بالتخيير ، فمعناه هو التخيير بين الحجّتين لابين المضمونين إلاّ إذا كان هناك ملازمة بين التخييرين.

ولو شك في مصبِّه ولم تَظهر قوة أحد الوجهين يدخل المقام في باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، حيث نعلم بحجّية ما اختاره المجتهد وأفتى به ونشك في حجيّة الآخر ، فالعقل يحكم بالأخذ بالأوّل ، وتكون النتيجة خلاف ما عليه المشهور.

__________________

١. الفرائد : ٤٤٠.

٥١٧

الثالثة : هل التخيير بدوي أو استمراري؟

هل التخيير بين الخبرين بدوي بمعنى انّه إذا طبق العمل على مضمون أحد الخبرين ، فليس له العدول عنه في الواقعة الثانية ، أو استمراري بمعنى ثبوته طيلة عمره ، فلو صلّى صلاة الجمعة في يومها فله أن يصلّـي صلاة الظهر في يومها الآخر؟ والأوّل خيرة الشيخ الأعظم ، والثاني خيرة المحقّق الخراساني ، وفصّل المحقق النائيني بين كون مصب التخيير هو المسألة الأُصولية فالتخيير بدوي ، وكونه المسألة الفقهية فالتخيير استمراريّ. (١)

استدل الشيخ بأنّ مصدر التخيير إمّا الأخبار أو الاستصحاب. فالأُولى مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّـر بعد الالتزام بأحدهما : والثاني غير جار ، لأنّ الثابت سابقاً ثبوت الاختيار لمن تحيّر فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضعه الأوّل. (٢)

يلاحظ على الأوّل : بأنّ الموضوع للتخيير من حضر عنده الخبران ولم يُميِّز الصادق عن الكاذب ، والموضوع بهذا الوصف باق حتى بعد الأخذ بأحدهما.

وعلى الثاني بمثل ذلك ، فانّ الموضوع ، للتخيير هو من حصره عند الخبران المتنافيان ، وهو أيضاً باق بعد الأخذ بأحدهما.

والأولى أن يستدل على التخيير البدوي بأنّ القول بالاستمرار ربّما يستلزم المخالفة العملية التدريجيّة والمخالفة العملية عندما إذا كان أحد الخبرين صادقاً وهي قبيحة من غير فرق بين الدفعية والتدريجية.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٧٦٨.

٢. الفرائد : ٤٤٠.

٥١٨

وأمّا التفصيل الذي حكيناه عن المحقّق النائيني ، فقد أفاد في وجهه انّه إذا كان التخيير في المسألة الفقهية يكون التخيير في المقام كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة ، وأمّا إذا كان التخيير في المسألة الأُصولية يكون التخيير في المقام بمعنى جعل أحد المتعارضين حجّة شرعية وجعل مؤدّاه هو الحكم الكلي الواقعي المتعلّق بأفعال المتكلّمين فلا معنى لاختيار الآخر. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لاملازمة بين كون التخيير في المسألة الأُصولية ، وكونه بدوياً ، لأنّ معناه على هذا هو كونه مخيّراً في الإفتاء بإحدى الحجّتين ، وهو كما يمكن أن يكون بدوياً ، يمكن أن يكون استمراريّاً ، وأمّا تفسيره بأخذه طريقاً محرزاً للواقع وجعل مؤدّاه هو الحكم الواقعي ، فلا دليل عليه.

الطائفة الثالثة : الآمرة بالأخذ بذي الترجيح

إذا كانت الطائفة الأُولى دالة على التخيير ، والثانية على التوقّف ( وقد عرفت الجمع بينهما ) فهناك طائفة ثالثة تدل على الأخذ بذي الترجيح ، وما ورد من الأخذ بأحوط الخبرين ، كما في مرفوعة زرارة (٢) ، أو بالأحدث منهما كما في رواية معلى بن خنيس (٣) ، فليس طائفة مستقلة ، لأنّ الأخذ بالخبر الموافق للاحتياط لأجل كونه مرجحاً ، أو الأخذ بالأحدث ، لكونه يدل على أنّ غير الأحدث صدر تقية ، وعلى هذان فليس هذان الصنفان طائفة مستقلة ، في مقابل الطوائف الثلاث ، وإذا عرفت ذلك فنقول : يقع الكلام في هذا الطائفة في جهات :

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٧٦٨.

٢. غوالي اللآلي : ٤ / ١٣٣ ؛ المستدرك : ١٧ / ٣٠٣.

٣. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨ وغيره.

٥١٩

١. التعرّف على أقسام المرجحات.

٢. كون الأخذ بذات المزية لازم أو لا.

٣. هل يقتصر على المنصوص أو يتعدّى عنه إلى غيره؟

وإليك دراسة هذه الجهات واحدة تلو الأُخرى.

الجهة الأُولى

في أقسام المرجّحات

إنّ المرجحات الواردة في الروايات على أقسام ، وبما انّ مقبولة عمر بن حنظلة هي بيت القصيد في هذا الباب نذكر المرجحات وفق الترتيب الوارد في الرواية المذكورة ، ونعرض عمّا ورد في مرفوعة العلاّمة عن زرارة ، لما ذكرنا من أنّها ليست برواية ، وإنّما هي منتزعة من عدّة روايات :

١. الترجيح بصفات الراوي.

٢. الترجيح بالشهرة العملية.

٣. الترجيح بالكتاب والسنّة.

٤. الترجيح بمخالفة العامة.

٥. الترجيح بالأحدثية

هذه هي المرجحات الواردة في المقام ، وإليك البحث فيها على وجه التفصيل :

٥٢٠