إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

الجعل والإنشاء على وجه لايمكن للحكيم إنشاء حكمين عن جدّ لمتعلّق واحد ، ويمتنع أن تتعلّق إرادته الجديّة بجعل حكم لمتعلّق وفي الوقت نفسه بجعل حكم آخر لنفس ذلك المتعلّق كما إذا أنشأ ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة ، فهذا هو التعارض المصطلح في باب التعادل والترجيح.

وإن شئت قلت : التعارض عبارة عن تكاذب الدليلين في مقام الإنشاء بحيث يُكذِّب ، ويطارد كلّ الآخرَ في ذلك المقام من دون أن تصل النوبة إلى مقام الدلالة والفعلية والتنجّز ، سواء امتنع الامتثال بهما كما في المثال المتقدّم أو أمكن ، مثل ما إذا قال : الدعاء عند رؤية الهلال واجب ، وقال أيضاً : الدعاء عند رؤيته مستحب ، فانّ الامتثال لكلا الدليلين أمر ممكن ، بالدعاء عند رؤيته ، فانّه امتثال للوجوب والندب معاً ، لكن التكاذب موجود في مقام الإنشاء ولايصحّ لحكيم أن يُنشئ ذينك الحكمين ، ولاتتعلّق إرادته الجدية بإنشاء كلّ منهما ، لأنّ لازم أحد الحكمين جواز الترك دون الحكم الآخر.

وأمّا لو كان التنافي في مقام الامتثال مع كمال الملائمة في مقام الجعل والدلالة والمدلول فهذا هو التزاحم ، مثلاً إذا قال المولى : أنقذ الأب ، وأنقذ العم ، ففوجئ بغرق كليهما ولم تكن له قدرة إلاّ على إنقاذ أحدهما ، فالدليلان متلائمان في مقام الجعل ، إذ لا مانع من أن يكون إنقاذ كلّ بل وغيرهما واجباً ، وإنّما جاء التنافي عن طريق المصادفة حيث فوجئ بغرق كليهما معاً ، فلم يجد بدّاً من إنقاذ واحد وترك الآخر. فالتنافي ليس في مقام الجعل ولا في مقام المدلول ولا الدلالة وإنّما هو في رتبة رابعة وهي مقام الامتثال.

وعلى هذا فعلاج المتزاحمين بالتصرّف في موضوع الحكم الفعلي بتعلّقه بالأهم دون المهمّ من دون تصرّف في مقام الجعل والمدلول والدلالة ، ولذلك لو

٤٤١

استطاع انقاذ كليهما بقدرة غيبيّة لوجب عليه ذلك ، وهذا بخلاف العلاج في التعارض فلو أخذ بأحد الدليلين تخييراً أو ترجيحاً فإنّما يُتصرّف في مقام الجعل ويقال هذا هو الحكم الشرعيّ دون الآخر.

إلى هنا تبيّن الفرق بين التعارض والتزاحم.

بقي هنا نكتة وهي انّ للتزاحم مصطلحين ، فتارة يراد منه التزاحم المصطلح في باب الترتب وباب التعادل والترجيح ، وقد علمت مفاده والفرق بينه وبين التعارض.

وأُخرى يراد منه ما هو المصطلح في باب اجتماع الأمر والنهي ، أي ما يكون التزاحم بين الملاكين بحيث لايمكن حيازة ملاك أحد الحكمين في ظرف ملاك الحكم الآخر ، فالملاك الموجود في الصلاة لايمكن نيله مع المفسدة الموجودة في الغصب ، فلو صلّى في الدار المغصوبة ، فأحد الملاكين مغلوب للملاك الآخر ، ولذلك يكون المجمع على القول بالامتناع من باب التزاحم فلابدّ من تقديم أحد الملاكين المصلحة أو المفسدة على الأُخرى.

نعم على القول بالاجتماع لاتزاحم بين الملاكين كما لاتزاحم في مقام الدلالة والامتثال والتفصيل في محله ، وليكن هذا على ذكر منك ، لأنّ كثيراً ما يشتبه التزاحم في هذا الباب مع التزاحم في ذلك المقام. نعم حاول المحقّق النراقي أن يثبت وحدة الاصطلاحين. (١)

الأمر الرابع : أقسام التزاحم

إذا كان مرجع التزاحم إلى تنافي كلّ منهما مع الآخر في مقام الامتثال بلا

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٧٥٠ ، قسم التعليقة.

٤٤٢

تكاذب وتدافع في مقام التشريع فربما يكون امتثال أحدهما سبباً لترك الآخر بتاتاً ، كمسألة إنقاذ الغريقين ، وربما يكون سبباً لتأخير امتثال أحد الحكمين عن وقت الفضيلة إلى غيره كما هو الحال في الأمر بالإزالة والصلاة أوّل الوقت ، فوجوب الإزالة يزاحم وجوب الصلاة في وقت الفضيلة ، ولايزاحمه في سائر الأوقات فعليه الإزالة وتأخير الصلاة إلى الوقت الثاني.

بل ربّما يكون التزاحم بين الواجب التعييني وأحد الأعدال من الواجب التخييري كما إذا كان عليه دين معجّل وفي الوقت نفسه كفارة رمضان ، فلو أدّى دينه المطالَب لايتمكن من إطعام ستين مسكيناً ، بل يجب عليه العدول إلى فرد آخر وهو صوم ستين يوماً ، كلّ ذلك من أقسام التزاحم.

وربّما يظهر من المحقّق الخوئي انحصار التزاحم في الأوّل حيث قال : إنّ ملاك التزاحم أن لايكون المكلّف متمكّناً من امتثال الحكمين معاً بحيث يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر ، كمسألة إنقاذ الغريقين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ التزاحم في القسم الأوّل بين الحكمين ، وفي الثاني بين واجب ومصداق من الواجب الموسّع ، أو عِدْل من الواجب المخيّر ، وليس التزاحم اصطلاحاً شرعياً حتى نتبع تفسيره ، بل الجامع عدم إمكان امتثال الأمرين إمّا مطلقاً أو في وقت خاص فيدخل الجميع تحت التزاحم.

الخامس : أسباب التزاحم

إنّ للتزاحم في مقام الامتثال أقساماً نشير إليها :

١. أن يكون التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر ،

__________________

١. مصباح الأُصول : ٣ / ٣٥٧.

٤٤٣

كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في أرض الغير.

٢. أن يكون منشأ التزاحم وقوع التضاد بين المتعلّقين من باب المصادفة لا دائماً وإلاّ لانتهى إلى التعارض ، كمزاحمة إزالة النجاسة عن المسجد ، ودخول الوقت.

٣. ما يكون أحد المتعلّقين مترتباً في الوجوب على الآخر كالقيام في الركعة الأُولى والثانية ، مع عدم قدرته إلاّ عليه في ركعة واحدة ، أو كالقيام في الصلاتين ، الظهر والعصر مع عدم استطاعته إلاّ على القيام في واحد منهما.

ومثله إذا دار أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع وسجود أو الصلاة معهما من دون قيام في مخبأ آخر إلى غير ذلك من الموارد.

السادس : في مرجّحات التزاحم

قد عرفت الفرق بين التعارض والتزاحم ، وأنّ الأوّل عبارة عن تطارد الدليلين في مقام الجعل والإنشاء من دون أن تصل النوبة إلى المراتب الأُخرى. والثاني عبارة عن تطاردهما في مقام الامتثال حيث إنّ كلّ دليل يدعو إلى امتثال متعلّقه مع قصور القدرة ، من دون تطارد في مقام الجعل والإنشاء ، بل هناك كمال الملائمة.

وعلى ضوء ذلك تختلف الغاية من إعمال المرجِّحات في كلّ واحد منهما ، فالمطلوب من إعمالها في المتعارضين هو تمييز الحجّة عن اللا حجّة ، والحقيقة عن المجاز ، والصادق عن الكاذب ، والوارد عن جدّ عن الوارد عن تقيّة.

وأمّا المطلوب من إعمالها في المتزاحمين هو تمييز الحجّة الفعلية عن الحجّة الشأنية وما هو الواجب فعلاً عن الواجب شأناً ، مع كون الدليلين حجتين شرعيتين صادقتين واردتين لبيان الحكم الشرعي عن جدّ بلا تقيّة في واحد منهما.

٤٤٤

وبذلك يعلم انّ المرجح في التعارض يجب أن يكون شيئاً يؤمِّن تلك الغاية أي تمييز الحجّة عن اللا حجة ، وهو عبارة عن موافقة الكتاب ومخالفته ، ومخالفة العامّة وموافقتها ، فمخالف الكتاب وموافق العامة ليس بحجّة ، كما أنّ المرجِّحات في باب التزاحم يجب أن تكون على وضع تُميّز بها الحجّة الفعلية عن الحجّة الشأنية من دون أن يكذّب أحد الدليلين الآخر ، وإليك بيان تلك المرجّحات وهي خمسة ، وروح الجميع واحد وهو تقديم الأهم المطلق أو النسبيّ على المهمّ.

١. تقديم مالا بدل له على ما له بدل

إذا كان واجبان لأحدهما بدل شرعاً دون الآخر ، كالصلاة عند ضيق الوقت وهو جنب ، والصلاة مع الطهارة المائية ، فلو صلّى مع الطهارة المائية لخرج الوقت بخلاف ما إذا صلّى بالطهارة الترابية ، فتُقدم الصلاة بالطهارة الترابية على الصلاة بالطهارة المائية ، وذلك لأنّ الصلاة بالطهارة المائية تستلزم خروج الوقت وليس للوقت بدل ، بخلاف الصلاة بالطهارة المائية فلو تركها فانّ له بدلاً وهو التيمّم على الصعيد.

مثال آخر : لو كان عليه دين معجّل مطلوب وكفّارة رمضان ، فلو صرف ما حصّله من الثمن في أداء الدين لايتمكن من إطعام ستين مسكيناً وهكذا العكس ، ولكن يُقدَّم الأوّل لأنّ أداء الدين ليس له بدل ، فلو تركه فيُترك بتاتاً ، بخلاف إطعام ستين مسكيناً فلو تركه ينتقل إلى بدله وهو الصوم ستين يوماً.

٢. تقديم المضيّق على الموسع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لايرضى المولى بتأخيره كإزالة

٤٤٥

النجاسة عن المسجد ، والموسَّع الذي لايفوت بالاشتغال بالمضيّق إلاّ فضيلة الوقت ، يحكم العقل بتقديم الأوّل ـ أي إزالة النجاسة ـ على الثاني وهو الصلاة. وربما يقال بخروج المورد عن التزاحم ، لأنّه عبارة عمّا لايمكن الجمع بينهما ، ولا إشكال في إمكان الجمع بين الموسّع والمضيّق.

يلاحظ عليه : أنّ المراد هو عدم التمكّن إمّا مطلقاً ، أو نسبيّاً كما في المقام حيث لايتمكن من درك فضيلة الوقت الأوّل مع الابتلاء بإزالة النجاسة.

نعم يمكن إرجاع هذا المرجِّح إلى المرجِّح السابق بالقول بأنّ المضيّق ليس له بدل اختياري ولكن الصلاة في الوقت الأوّل له بدل اختياري.

٣. تقديم الأهم من المتزاحمين على المهم

إذا كان هناك واجبان أحدهما أهم من الآخر ، كما إذا دار الأمر بين نجاة المسلم والكافر الذميّ ، أو المسلم والمؤمن فالعقل يحكم بتقديم الأهم.

٤. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان امتثال أحد الواجبين سابقاً على الآخر زماناً كما إذا وجب عليه صوم الخميس والجمعة ، ولم يتمكن إلاّ من صوم يوم واحد فعليه أن يقدِّم صوم الخميس على صوم الجمعة ، لأنّه لو صام الخميس وأفطر في الجمعة فقد صام وأفطر عن حجة ، بخلاف ما إذا عكس فقد أفطر يوم الخميس بلا مجوِّز في ظرف الإفطار ، وقس على ذلك ما إذا قدر على القيام في ركعة واحدة فتقدَّم الركعة الأُولى على الثانية إذ لو عكس فقد ترك القيام في الركعة الأُولى بلا عذر ، والمراد من التزاحم هو عدم التمكّن من القيام بكلا الواجبين.

٤٤٦

٥. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا كان هناك واجب مطلق وآخر مشروط لم يحصل شرطه يقدّم المطلق على المشروط وهو واضح ، كما إذا أجنب المعتكف حيث إنّ مكْثُ الجنب في المسجد حرام ، وخروج المعتكف في اليوم الثالث حرام مشروط بعدم الحاجة ، ولكن الشرط العدمي غير حاصل ، فيقدّم الخروج على البقاء ، إنّما الكلام في تطبيق الضابطة على مورد خاص ذكره السيد الطباطبائي في العروة الوثقى ، وقال :

إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه‌السلام في كلّ عرفة ثمّ حصلت لم يجب عليه الحجّ ، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره ان يعطي للفقير كذا مقداراً ، فحصل له ما يكفيه لأحدهما ( الأمرين ) بعد حصول المعلّق عليه ، بل وكذا إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ، فانّ هذا كلّه مانع عن تعلّق وجوب الحجّ به ، وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري. (١)

أقول : كان على السيّد أن يقدّم الحجّ على الزيارة أخذاً بالضابطة التي أشار إليها في ذيل كلامه وهو تقديم الواجب المطلق على الواجب المشروط ، لأنّ وجوب الحجّ مطلق لكن وجوب النذر مشروط بوجود الرجحان في متعلّقه حين العمل ، وهو غير موجود ، توضيحه :

انّه لو صحّ النذر لكان تعجيزاً شرعياً للمستطيع ، والعجز الشرعي كالعجز العقلي فيكون مأموراً بالوفاء بالنذر ومعذوراً في ترك الحجّ لعجزه شرعاً عن امتثال أمر الحجّ والمفروض انّ المتعلّق راجح في حدِّ نفسه.

__________________

١. العروة الوثقى ، كتاب الحج ، فصل الاستطاعة ، المسألة ٣١.

٤٤٧

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلام السيد ، ولكنّه غير تام ، وذلك لأنّ مصبَّ الإطلاق هو متعلّق النذر ، أعني : زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ، فعندئذ يسأل عمّا هو المتعلّق للنذر فهل المتعلّق ـ قبل تعلّق النذر ـ هي الزيارة المطلقة سواء أصار مستطيعاً أم لا؟ أو الزيارة في غير حالة الاستطاعة للحج؟ فعلى الثاني يكون الأمر منحصراً بالحجّ ولايكون هناك أمر بالزيارة ، وعلى الأوّل فالمتعلق بسعته على نحو يشمل حالة الاستطاعة غير راجح لاستلزامه ترك الواجب ، نظير ما إذا نذر إنسان أن يقرأ القرآن من الفجر إلى طلوع الشمس ، حيث إنّه لاينعقد النذر ، لأنّ المتعلّق مستلزم لترك الواجب فالنذر غير منعقد.

وبعبارة أوضح : انّ متعلّق النذر يجب أن يكون ذا رجحان عند الامتثال والمفروض انّ المورد ليس كذلك ، لأنّ المستحب بما هو مفوِّت للواجب لايكون راجحاً.

وربما يقاس المقام بالدين إذا استطاع وهو مديون ، فكما أنّ خطابه بأداء الدين المعجَّل يوجب عجزه شرعاً ، فهكذا المقام فإنّ انعقاد النذر يجعله عاجزاً شرعاً عن الحجّ وإن لم يكن عاجزاً تكويناً.

يلاحظ عليه : بأنّه قياس مع الفارق ، لأنّ أداء الدين من الواجبات الأصلية التي أوجبها اللّه سبحانه ، فإذا انشغلت ذمّة الإنسان به وخوطب بالأداء من جانبه سبحانه يصير فاقداً للاستطاعة ، ويكون عجزاً تشريعياً ، وأمّا زيارة الحسين عليه‌السلام فهي مستحبة في نفسها ، وإنّما يجب بالعرض أي بتعلّق النذر به وليس له إيجابه على نفسه إلاّ إذا كان راجحاً عند الإتيان به والمفروض عدمه.

وبعبارة أُخرى : فرق بين أن يكون التعجيز من جانبه سبحانه كأداء الدين غير المشروط بشيء ، وبين أن يكون التعجيز بفعل الإنسان كأن ينذر على وجه

٤٤٨

يصير عاجزاً عن الحجّ في أوانه ، فانّ تنجّزه مشروط بوجود الرجحان في العمل.

الأمر السابع : في تفسير المصطلحات الأربعة

إنّ التعارض بين الدليلين في مقام الدلالة تارة يكون غير مستقر بحيث يقوم العرف الدقيق بإرجاع بعضه إلى بعض ورفع المعارضة ، وأُخرى يكون مستقراً لايرتفع ولو بإمعان النظر فالأوّل هو مصب الجمع الدلالي الذي هو خارج عن تعارض الأدلّة اصطلاحاً.

ثمّ إنّ بعض (١) الأُمور التي توجب رفع التعارض عرفاً عبارة عن الأُمور التالية :

١. التخصص ، ٢. الورود ، ٣. الحكومة ، ٤. التخصيص ، ٥. التوفيق العرفي الذي اصطلحه المحقّق الخراساني بتقديم العناوين الثانوية على الأوّلية ، وإليك شرح هذه المصطلحات :

فنقول : إنّ الورود قريب من التخصّص ، وكما أنّ الحكومة قريبة من التخصيص ، فاللازم هو التعرّف على الفرق الحاكم على كلّ من القسمين ، وتطبيقهما على مواردهما ، وإليك البيان :

١. التخصّص

هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر حقيقة بعناية التكوين ، بمعنى انّه لم يكن داخلاً حتى يحتاج إلى الإخراج ، أو لم يكن موضوعاً حتى يحتاج إلى الرفع ، بخلاف الأقسام الآتية ، ففيه الإخراج والرفع ، وهذا نظير

__________________

١. سيوافيك البعض الآخر في المقام الأوّل.

٤٤٩

قولك : « أكرم العالم » بالنسبة إلى قولك : « لاتكرم الجاهل » فالحكمان وإن كانا متناقضين ، لكنّه صوريّ ، لعدم وحدة موضوعهما نظير قولك : الخلّ حلال ، والخمر حرام ، فالحكمان متضادان ، لكنّ التضاد صوري لعدم وحدة الموضوع.

٢. الورود

هو رفع أحد الدليلين ، موضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية التشريع على نحو لولا عنايته لما كان للوارد هذا الشأن ، وذلك مثل الأمارات بالنسبة إلى الأُصول العقلية والشرعية.

أمّا الأُولى فلأنّ موضوع أصالة البراءة العقلية ، هو عدم البيان ، وموضوع أصالة الاشتغال ، هو احتمال العقاب مع العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به ، وموضوع أصالة التخيير هو التحيّر وعدم المرجح ، لكن الأمارة الشرعية لثبوت حجّيتها بالدليل القطعي ، تكون بياناً في مورد الأُولى ، ومؤمِّنةً عن العقاب في مورد الثانية ، ومرجّحةً ورافعةً للتحيّر في مورد الثالثة ، وعند ذاك لا موضوع لهذه الأُصول الثلاثة العقلية.

وبالجملة : انّ الأمارة وإن كانت حجّة ظنيّة غير مفيدة للعلم الوجداني كما في مورد التخصّص ، لكن لمّا قام الدليل القطعي على حجيتها وصار مصداقاً لقوله عليه‌السلام : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدِّيان » صارت بياناً في مورد عدم البيان ، ومؤمِّنةً عن العقاب ، ومرجحةً لأحد الطرفين ، فتكون رافعة لموضوع الأُصول الثلاثة العقلية حقيقة ، لكن بعناية التشريع وإضفاء الحجّية عليها ، بحيث لولا الإضفاء والعناية لكانت في عرض الأُصول العقلية.

ومنه يظهر حالها بالنسبة إلى الأُصول الشرعية سواء كانت غير محرزة كأصل البراءة الشرعية ، ومثلها أصالتا الحلّية والطهارة ، أم محرزة كالاستصحاب وأصالة

٤٥٠

الصحة في فعل النفس أو الغير.

أمّا غير المحرز منها ، فلأنّ المراد من العلم في قوله « رفع عن أُمّتي ما لايعلمون » ، أو قوله : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » ، أو قوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » ، هو الحجّة سواء كانت وجدانية ، أم شرعية اعتبرها الشارع حجّة ، فإذا قامت الأمارة على حرمته أو نجاسته فقد انقلب عدم الحجة إلى وجودها ، بقيام الحجّة الشرعية على الحكم.

ومنه يظهر حال الأُصول المحرزة ، لما مرّ في الاستصحاب من أنّ المراد من اليقين في أدلّته ليس هو اليقين الوجداني ، ضرورة انّ زرارة لم يقف على طهارة ثوبه أو طهارته من الحدث بواسطة الأدلة القطعية ، بل وقف عليها من طريق الحجج الشرعيّة كإخبار ذي اليد ، أو من إجراء أصالة الطهارة في الماء الذي توضأ به ، بل المراد هو الحجّة الشرعية ، فإذاً يكون المراد من اليقين الثاني ، هو الحجّة فإذا قامت الأمارة ، فقد حصلت الغاية الواردة في أدلّة الاستصحاب.

وأمّا غير الاستصحاب ، فاليد أمارة الملكية لو لم تكن هناك بيّنة أقوى كما في رواية العيص بن القاسم ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك ادّعى انّه حرّ ولم يأت ببيّنة على ذلك ، أشتريه؟ قال : « نعم » ومثلها رواية حمزة بن حمران. (١)

أمّا أصالة الصحّة في مثل النفس فالموضوع لها هو الشكّ كما في صحيح زرارة : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ (٢) وصحيح إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض » (٣) والأمارة رافعة للشكّ بعد إضفاء الشارع الحجيّة لها ـ مضافاً إلى ما عليه العقلاء ، من كون

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥ من أبواب بيع الحيوان ، الحديث ١ ـ ٢.

٢. الوسائل : الجزء ٥ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

٣. الوسائل : الجزء ٤ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

٤٥١

الاطمئنان الحاصل من قول الثقة بحكم العلم ، بحيث لايقيمون معه لاحتمال الخلاف قدراً ولا قيمة.

فاتّضح ممّا ذكرنا كون الأمارات بفضل الأدلّة القائمة على حجّيتها ، واردة على الأُصول مطلقاً عقلية أو شرعية محرزة وغير محرزة. والفرق بين المحرز وغيره ـ بعد اشتراكهما ـ في أنّ الغاية رفع التحيّر وجود نوع من الطريقية في المحرز دون غيره.

٣. الحكومة

الحكومة من المصطلحات الجديدة التي لم يكن منها أثر بين المتأخرين من عصر العلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ ) إلى عهد المحقّق البهبهاني ( ١١١٨ ـ ١٢٠٦ هـ ) ، فضلاً عن القدماء وعرّفها الشيخ بقوله : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله ، مسوقاً لبيان حاله ، متعرضاً عليه ، نظير الدليل على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل فانّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك ، فلو فرض انّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لا عموماً ولا خصوصاً لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور ... ثمّ إنّه قدس‌سره بيّن الفرق بينه وبين التخصيص بأنّ التقديم في التخصيص بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، ولكن الحاكم بيان بلفظه للمراد ومفسر للمراد من العام فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير. (١)

__________________

١. الفرائد : ٤٣٢ طبعة رحمة اللّه.

٤٥٢

أقول : الحكومة عند الشيخ تتقوم بأمرين :

أ : أن يكون الحاكم متصرّفاً في موضوع الدليل المحكوم بإخراج بعض المصاديق بدعوى انّه ليس مصداقاً له.

ب : أن يكون الموضوع محكوماً بحكم قبل ورود الحاكم ، على نحو لولا كونه كذلك كان تشريع الدليل الحاكم لغواً.

لكن كلاً من الشرطين غير لازم ، أمّا الأوّل فلأنّ الحكومة لاتنحصر بالتصرّف في عقد الوضع ، بل ربما يكون متصرفاً في عقد الحمل كأحكام العناوين الثانوية بالنسبة إلى الأحكام المتعلّقة على الموضوعات على نحو الإطلاق الذي يعم حالتي الضرر والحرج لوجوب الغسل في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيَكُمْ إِلى المَرافِقِ ) (١) فقوله يعم حالتي الضرر والحرج غير انّ أدلّتهما ، حاكمان على الإطلاق الموجود فيها فيختص وجوب الغسل بغير تينك الحالتين.

كما أنّ التصرف في عقد الوضع لاينحصر بالتضييق ، بل ربما يتصرّف بالتوسعة ، كما هو الحال في قوله : الطواف بالبيت صلاة ، فهو يُدخل الطواف تحت الصلاة ، فيكون محكوماً بحكمها مثل قوله : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقوله : « التراب أحد الطهورين » بالنسبة إلى قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » لو كان الطهور فيه ظاهراً في الطهارة المائية.

وأمّا الثاني فهو منقوض بحكومة أصالة الطهارة بالنسبة إلى أدلّة الشروط في الصلاة ، فلو قال : « صلّ في ثوب طاهر » فهو ظاهر في الطهارة الواقعية ، لكن بعد

__________________

١. المائدة : ٦.

٤٥٣

انضمام قوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » يكون الموضوع أعمّ منها ومن الظاهريّة ، ولكن ليس على وجه لولا أدلة الشروط لكان ورود الحاكم لغواً إلاّ على وجه ذكرناه في الدورة السابقة. (١)

ولأجل بعض ما ذكر ، عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بقوله : أن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر مقدماً كان أو مؤخراً.

ثمّ إنّه قدس‌سره عطف على الحكومة التوفيقَ العرفي وقال : أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وُفِّقَ بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما ، كما هو الحال في الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية حيث يقدّم في مثلهما الأدلة النافية ولاتُلاحظ النسبة بينهما أصلاً.

يلاحظ عليه : أنّه لا وجه لجعله أمراً مغايراً للحكومة بل هو من أقسام الحكومة ، غير انّه قدس‌سره لمّـا خصَّ الحكومة ببيان الكميَّة في ناحية الموضوع أخرج هذا من تحتها ، ولو قلنا بعمومها لما ورد لبيان الكمية في ناحية المحمول أيضاً ، لما كان هنا وجه لإخراجها عن تحت الحكومة ، لأنّ العناوين الثانوية تحدد شمول المحمول سعة وضيقاً.

ولقد أحسن بعض الأعلام حيث لم يخصها ببيان الكمية في ناحية عقد الوضع ، بل جعلها الأعم منه ومن بيانها في عقد الحمل ، حيث قال : أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر أمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً ، أو عقد حمله.

__________________

١. لاحظ المحصول : ٤ / ٤٢٣.

٤٥٤

وبكلمة قصيرة فالمقوم للحكومة ، هو تبادر الرقابة والنظارة من أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر ، على وجه تكون تلك سبباً للتقدم ، سواء أتحققت بالمدلول المطابقي أو الالتزامي وسواء أكانت بنحو التفسير ، أو تكون النتيجة عند الاجتماع هي التفسير ، وذلك لأنّ التفسير ربما يكون واضحاً كما في صحيحة الحلبي فيمن عليه شهران متتابعان ، فانّ المتبادر منها صيام ستين يوماً متتابعاً لكنّه يفسرها بصيام شهر ويوم قال : « إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين ، والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر شيئاً أو أياّماً منه ... ». (١)

وربما يكون التفسير خفيّاً لكن يعلم بقياس أحدهما إلى الآخر كما في أصالة الطهارة بالنسبة إلى أدلة الشروط على ما مرّ. ولأجل انّ الحاكم له الرقابة والنظارة ، يقدّم على المحكوم حتى في مورد يكون بين الدليلين عموم وخصوص من وجه ، ولايتوقف على وجود رجحان لأحد الدليلين في مورد الاجتماع.

٤. التخصيص

التخصيص عبارة عن إخراج بعض أفراد العام عن الحكم المحمول عليه مع حفظ الموضوع ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم العالم الفاسق ، فهو يشارك الحكومة في قسم التضييق ، أي في مورد إخراج موضوع الخاص عن حكم العام ، غير انّه يفترق عنها بأنّ التخصيص يخرجه عن حكم العام مع الاعتراف بأنّه من أفراده ومن مصاديقه ، ولذلك يقول : لاتكرم زيداً العالم.

ولكن الحكومة في الموارد التي تشارك التخصيص في النتيجة يخرج المورد عن حكم العام لكن بلسان نفي الموضوع وانّه ليس من مصاديق العام إدعاءً ، كما

__________________

١. الوسائل : الجزء ٧ ، الباب ٣ من أبواب بقية الصوم الواجب ، الحديث ٩.

٤٥٥

في مثل قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » ، والغاية إنّما هي إخراج كثير الشكّ عن تحت العمومات الواردة حول الشاك ، ولكن الإخراج بصورة نفي كونه من مصاديق الشاك فلايكون محكوماً بحكمه.

إلى هنا تمّ تفسير المصطلحات الأربعة بل الخمسة إذا أُضيفت إليها حكومة العناوين الثانوية على الأوّلية ، وقد عرفت أنّها ليست قسماً مغايراً للحكومة.

وجه تقدّم الخاص على العام

ثمّ إنّ تقدّم الأقسام الثلاثة على غيرها واضح لايحتاج إلى البيان لعدم وجود الصلة بين الدليلين في التخصّص حتى يقدم أو يؤخر ، وإعدام الموضوع في الورود ، وللحكومة دور التفسير فيقدّم الدليل المفسِّر على المحكوم المفسَّر.

إنّما الكلام في وجه تقدّم الخاص على العام مع حفظ الموضوع ، وهذا هو الذي نحن بصدد بيانه ، ولأجل التوضيح نقدم أمراً ، وهو انّ الاحتجاج بالعام أو الخاص رهن ثبوت أُمور ثلاثة :

الأوّل : كون الدليل صادراً عن الحجة.

الثاني : كون المتكلّم مريداً للمعنى ولو ارادة استعمالية.

الثالث : كون الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية.

أمّا الأمر الأوّل فإثباته يقع على عاتق أدلّة حجّية الخبر الواحد ، كما أنّ المتكفّل لإثبات الأمرين الأخيرين هو الأصل العقلائي الجاري في المقام. فانّ الأصل عند العقلاء كون المتكلّم مريداً للمعنى ولو إرادة استعمالية كما هو الحال في التورية والمزاح ، فخرج ما يفقد أصل إرادة المعنى كما هو الحال في تعلم

٤٥٦

اللغات الأجنبية ، أوحفظ الجمل حيث إنّ الغاية هو اكتساب المهارة في الكلام.

كما أنّ الضابطة عند العقلاء أيضاً هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما خرج بالدليل ، فخرج الكلام الملقى على وجه التورية والمزاح وما يشبههما حيث لاتتطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية.

إذا علمت هذه الأُمور ، فاعلم أنّ كلاً من العام والخاص حائز للأُمور الثلاثة ، فكما يجوز تقدّم الخاص على العام بالقول بانّ الإرادة الاستعمالية في مورد الخاص لم تكن مطابقة للإرادة الجدية وإنّما ألقاه المولى على وجه الضابطة ليرجع إلى العام المخاطب في مقام الشك ، دون مقام اليقين بالخلاف. فهكذا يجوز تقديم العام على الخاص وإنّما التفاوت والاختلاف بأنّ في تقديم الخاص على العام نقضاً للتطابق في بعض أفراده ، وفي تقديم العام على الخاص نقضاً للتطابق في الخاص من رأسه وأصله.

وعلى كلّ تقدير فما هو الوجه لتقديم الخاص على العام مع كونهما على حد سواء؟ هذا هو السؤال وأمّا الجواب فبوجهين :

أ : انّ في تقديم الخاص على العام عمل بكلا الدليلين ، بخلاف العكس ففيه عمل بدليل واحد وهو العام وإلغاء الدليل الآخر من رأسه.

ب : انّ النظام السائد على التقنين والتشريع هو فصل الخاص عن العام وذلك لمصالح أهمها عدم احاطة المقنِّنين العاديين بالمصالح والمفاسد ، فربما يشرِّعون حكماً عامّاً بزعم وجود المصلحة فيه ثمّ يتبين لهم عدم المصلحة في بعض الموارد فيخرجونه عن حكم العام بصورة ملحق قانوني ، وصار هذا هو السبب في تقديم الخاص على العام في التشريعات البشرية.

٤٥٧

وأمّا التشريع الإلهي فهو منزّه عن هذه الوصمة ، فهو سبحانه عالم بالمصالح والمفاسد قال سبحانه : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير ). (١)

غير انّ هناك نكتة جديرة بالإشارة وهي انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا الناس في مكة المكرمة إلى التوحيد ونبذ الشرك ما يربو على ثلاثة عشر عاماً ولم تسنح له الفرصة لبيان الأحكام والتشريعات الهائلة في شريعته ، ولما هاجر إلى المدينة شغلته الحروب والغزوات ومجادلة أهل الكتاب ومكافحة المنافقين إلى غير ذلك من الشواغل التي حالت دون بيان أحكام الشريعة بتفاصيلها. فبيّن ما بيّن وترك التفاصيل والجزئيات على عاتق العترة الذين هم أعدال الكتاب بتنصيص منه حيث قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي » فقامت العترة واحداً بعد واحد ببيان التفاصيل والمقيّدات والمخصّصات للتشريعات السابقة. فصار هذا سبباً لتقديم الخاص على العام والمقيّد على المطلق ، وعلى ذلك جرت سيرة العلماء وديدنهم في أبواب الفقه.

الأمر الثامن : ما هو السبب لوجود الروايات المتعارضة؟

إنّ السابر في أبواب الروايات الفقهية يقف على وجود الروايات المتعارضة في أكثر الأبواب وهذا يثير سؤالاً ، وهو كيف تطرق التعارض إلى روايات أئمّة أهل البيت؟ وهناك احتمالان :

الأوّل : انّ أئمّة أهل البيت كانوا يفتون الناس عن طريق استنباط الأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية كسائر أئمّة المذاهب ، فلذلك طرأ عليهم الاختلاف

__________________

١. الملك : ١٤.

٤٥٨

في الآراء كما طرأ على غيرهم ، فانّ الإمام الشافعي له آراء قديمة قبل أن يحطّ الرحل في مصر ، وآراء جديدة بعد نزوله بها وهكذا عند غيره.

وهذا الاحتمال في حقّ أئمّة أهل البيت من الوهن بمكان ، فإنّهم عليهم‌السلام عيبة علم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخزنة معارفه فلايصدرون إلاّ عن علم ورثوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يلقى في روعهم بما انّهم محدَّثون ، وكون الإنسان محدَّثاً لايلازم كونه نبيّاً طرفاً للوحي ، فإنّ مريم البتول كانت محدّثة ولم تكن نبية وقد أوضحنا ذلك في بحوثنا العقائدية.

الثاني : انّ العامل الخارجي أوجد هذا القلق والاضطراب في الأحاديث ، ولأجل ذلك قام الشيخ الطوسي بتأليف كتاب مستقل في جمع ما اختلف من الأخبار ، أسماه « الاستبصار فيما اختلف من الأخبار » ، وهانحن نشير إلى تلك العوامل الخارجية التي أوجدت التعارض ، وهي :

١. حدوث التقطيع في الروايات

روى أهل السنّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » ، فصار ذلك مستمسكاً للمشبِّهة قائلين بأنّ الضمير في « صورته » يرجع إلى اللّه سبحانه مع أنّ الإمام الرضا عليه‌السلام كشف النقاب عن وجه الرواية وقال : « قاتلهم اللّه حذفوا أوّل الحديث ، انّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلين يتسابّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه :

قبّح اللّه وجهَك ووجهَ من يُشْبِهُك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عبد اللّه لاتقُل هذا لأخيك فانّ اللّه عزّو جلّ خلق آدم على صورته ». (١) وقد تطرّق هذا الأمر إلى

__________________

١. توحيد الصدوق : الباب ١٢ ، الحديث ١٠ و ١١.

٤٥٩

الأحاديث الفقهية.

روت العامة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : لرجل أتاه فقدّم أباه ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنت ومالك لأبيك ».

وقد استدلّ بهذه الرواية على ولاية الأب على مال الولد ونفسه ، وإنّما يصحّ الاستدلال لو صدرت الرواية بهذا النحو ، ولكن الوارد من طرقنا يشرح مقصود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الكلام ويعرب عن كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدد بيان حكم أخلاقي لا شرعي حتى يستفاد منه الولاية على الأموال بل النفوس ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام بعد نقله :

« إنّما جاء بأبيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمّي ، فأخبره الأب ، أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، وقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شيء أوَ كان رسول اللّه يحبس الأب للابن؟! ». (١)

والدقة في ألفاظ الرواية وقوله : « أوَ كان رسول اللّه يحبس الأب للابن؟! » تعرب عن كون الكلام وارداً لبيان أصل أخلاقي يجدر على الابن رعايته. وتكشف عن عدم ولايته على مال الابن وإنّما لم يحبسه لعدم الفائدة فيه لكونه معدِماً أوّلاً وترفّع مقام الأب عن الحبس بصرف مال الولد ثانياً.

٢. أخذ عرف الراوي بنظر الاعتبار

انّ أكثر المتلقّين عن أئمّة أهل البيت كانوا عرباً ولكن كان لهم أعراف مختلفة ، مثلاً الرطل ـ الذي هو عند الجميع حاك عن الوزن والمقدار ـ يختلف مقداره عند المكي والعراقي ، فالرطل المكي ضِعْف الرطل العراقي ، وبذلك

__________________

١. الوسائل : ١٢ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ، الباب ٧٨ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٨.

٤٦٠