إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت ، فادّعوه جميعاً ، أقرع الوالي بينهم ، فمن قُرع ، كان الولد ولده ، ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية ». (١)

ولا يخفى انّ العمل بالقرعة ـ كما مرّ ـ فيما لو استعصت الحلول ، وأمّا لو تمكّن بطريق آخر معرفة ذلك ، كإجراء الاختبارات الطبيّة لمعرفة فصيلة دم المولود كي يتم على ضوئه إلحاقه بالأب الذي ولد منه ، تنتفي حينئذ الحاجة إلى القرعة.

الطائفة الثالثة : نذر عتق أوّل عبد يملكه

٢٠. عن عبيد اللّه بن عليّ الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في رجل قال : أوّل مملوك أملكه فهو حرّ ، فورث سبعة جميعاً ، قال : « يقرع بينهم ويعتق الذي خرج سهمه ». (٢)

٢١. عن عبد اللّه بن سليمان ، قال : سألته عن رجل ، قال : أوّل مملوك أملكه فهو حرّ ، فلم يلبث أن ملك ستّة ، أيّهم يعتق؟ قال : « يقرع بينهم ، ثمّ يعتق واحداً ». (٣)

وقد عرفت رواية سيابة وإبراهيم بن عمر ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في هذا المجال ، وتقدمت ضمن الروايات العامّة برقم ٢.

الطائفة الرابعة : الإيصاء بعتق ثُلث مماليكه

٢٢. عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يكون له

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ١٨٧ ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١٤.

٢. الوسائل : ١٨ / ١٩٠ ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١٥.

٣. الوسائل : ١٦ / ٥٩ ، الباب ٥٧ من كتاب العتق ، الحديث ٢.

٤٢١

المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم ، فقال : « كان علي عليه‌السلام يسهم بينهم ». (١)

٢٣. وروى محمد بن مروان ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إنّ أبي ترك ستّين مملوكاً ، فأقرعت بينهم ، فأخرجت عشرين ، فأعتقتهم ». (٢)

الطائفة الخامسة : في اشتباه الحرّ بالمملوك

٢٤. عن المختار ، قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، فقال له أبو عبد اللّه عليه‌السلام : ما تقول في بيت سقط على قوم ، فبقي منهم صبيّان أحدهما حرّ والآخر مملوك لصاحبه ، فلم يُعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبو حنيفة : يعتق نصف هذا ونصف هذا.

فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « ليس كذلك ، ولكنّه يقرع بينهما ، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ ، ويعتق هذا فيجعل مولى هذا ». (٣)

٢٥. عن حمّاد ، عن حريز ، عمّن أخبره ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام باليمن في قوم انهدمت عليهم دارهم ، وبقي صبيّان ، أحدهما حرّ والآخر مملوك ، فأسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام بينهما ، فخرج السّهم على أحدهما فجعل له المال ، وأعتق الآخر ». (٤)

__________________

١ و ٢. الوسائل : ١٦ / ٦٥ ، الباب ٦٥ من أبواب العتق ، الحديث ١ و ٢. ولاحظ سنن الترمذي : ٣ / ٦٤٠ ، ومسند أحمد : ٤ / ٤٢٦ ، وسنن ابن ماجة : ٢ / ٥٩.

٣. الوسائل : ١٨ / ١٨٨ ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٧.

٤. الوسائل : ١٨ / ١٨٩ ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٨. وانظر أيضاً الوسائل : ١٦ / ٣٧ ، الباب ٢٤ من أبواب العتق ، الحديث ١ ; والجزء ١٣ ، الباب ٤٣ من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث ١ ; والجزء١٧ ، الباب ٤ من أبواب ميراث الغرقى ، الحديث ٥.

٤٢٢

الطائفة السادسة : في ميراث الخنثى المشكل

٢٦. روى إسحاق العزرمي ، قال : سئل وأنا عنده ـ يعني أبا عبد اللّه عليه‌السلام ـ عن مولود ولد وليس بذكر ولا أُنثى ، وليس له إلاّ دبر كيف يورّث؟ قال : « يجلس الإمام عليه‌السلام ويجلس معه ناس فيدعو اللّه ويجيل السهام على أيّ ميراث يورثه ، ميراث الذكر أو ميراث الأُنثى؟ فأي ذلك خرج ورثه عليه ـ ثمّ قال : ـ وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسّهام ، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : ( فساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدحَضين ) ». (١)

٢٧. عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن مولود ليس له ما للرّجال ولا له ما للنّساء؟ قال : « يقرع عليه الإمام أو المقرع ، يكتب على سهم عبد اللّه ، وعلى سهم أمة اللّه ، ثمّ يقول الإمام أوالمقرع : اللّهمّ أنت اللّه لا إله إلاّ أنت عالم الغيب والشّهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، بيّن لنا أمر هذا المولود كيف ... ثمّ تجال السهام على ما خرج ورّث عليه ». (٢)

الروايات المتفرّقة

وثمة روايات في موضوعات مختلفة لاتدخل تحت عنوان واحد ، نشير إلى قسم منها :

٢٨. انّ النبي إذا كان سافر أقرع بين نسائه. (٣)

٢٩. « انّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساهم قريشاً في بناء البيت ، فصار لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ و ٢. الوسائل : ١٧ / ٥٧٩ ، الباب ٤ من أبواب ميراث الخنثى ، الحديث ١ و ٢. وانظر ذلك الباب أيضاً الحديث ٣ ، ٤.

٣. سنن ابن ماجة : ٢ / ٥٩ ، باب القضاء بالقرعة.

٤٢٣

من باب الكعبة إلى النصف ، ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود ». (١)

٣٠. انّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام انّ بعض أصحابك ينمّ بك فاحذره ، فأمر اللّه سبحانه بالإقراع. (٢)

٣١. أتى علياً عليه‌السلام من إصفهان مال فقسّمه ، فوجد فيه رغيفاً ، فكسّره سبع كُسر ، ثمّ جعل على كلّ جزء منه كسرة ، ثمّ دعا أُمراء الأسباع فأقرع بينهم. (٣)

٣٢. أقرع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل الصفة للبعث إلى غزوة ذات السلاسل. (٤)

٣٣. أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأوّل ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يَسْتَهِمُوا عليه لاستَهَمُوا. (٥)

إلى غير ذلك من الروايات المتفرقة المثبتة في الأبواب ، وكلّها واردة في موضع التنازع والتزاحم ، إلاّ حديث واحد وهو التالي :

عن محمد بن عيسى ، عن الرجل عليه‌السلام أنّه سُئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة؟ قال : « إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً ، حتى يقع السهم بها ، فتذبح وتحرق ، وقد نجت سائرها ». (٦)

ولعلّ هذا الحديث هو الحديث الوحيد الذي أمر فيه بالعمل بالقرعة ، وليس من موارد التنازع ولاتزاحم الحقوق.

__________________

١. المستدرك : ١٧ / ٣٧٦ ، الباب ١١ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١٠.

٢. المستدرك : ١٧ / ٣٧٥ ، الباب ١١ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٥.

٣. الوسائل : ١١ ، الباب ٤١ من أبواب جهاد العدو ، الحديث ١٣.

٤. إرشاد المفيد : ١٦٢ ، ضمن سلسلة مؤلّفات المفيد.

٥. صحيح البخاري : ٣ / ١٨٢ ، كتاب الشهادات ، الباب ٣٠.

٦. الوسائل : ١٦ / ٣٥٨ ، الباب ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة ، الحديث ١.

٤٢٤

والرواية واردة على خلاف القاعدة المقتضية للاجتناب عن الجميع ، ولعلّ الاكتفاء بالقرعة ، لأجل أنّ ترك الجميع مستلزم للضرر الهائل ، وعلى ذلك فالرواية مختصة بموردها لاتتعدى عنها إلى غيرها.

الأمر الرابع

في تحديد مفاد أدلّة القرعة

الإمعان في السيرة العقلائية في القرعة وما ورد حولها من الروايات يُشرف الفقيه على أنّ موضوع القرعة لايتجاوز عن مورد التنازع والتزاحم ، فإذا استعصت الحلول على العقلاء في أمر ، يتشبّثون بالقرعة ، لأنّها حل وسط يرضى به كافة الأطراف المتنازعة ، وهذه السيرة تكون كالقرينة المنفصلة على صرف الإطلاقات على فرض وجودها في أدلّة القرعة إلى موضع التنازع والتزاحم.

هذا حول السيرة ، وأمّا العناوين الواردة فيها فلاتتجاوز عن خمسة ، والجميع ناظر إلى مورد التعارض والتزاحم إمّا بالتصريح ، أو بإمعان النظر في مورده ، وإليك هذه العناوين :

١. القرعة سنّة

الحديث ٢

٢. كلّ مجهول ففيه القرعة

الحديث ٤

٣. انّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل

الحديث ١٢

٤. كلّ مالا يتهيّأ الإشهاد عليه

الحديث ١٤

٥. أمر لم يجئ فيه كتاب ولم تجر به سنّة

الحديث ١٥

٤٢٥

أمّا العنوان الأوّل ، فإنّه وإن دلّ على أنّها سنّة ، لكنّها سنّة في المورد الذي وردت القرعة فيه ، أعني : ما إذا نذر أن يعتق أوّل مملوك يملكه فورث أكثر من واحد ، فإنّ المورد من قبيل التزاحم بين العبيد الثلاثة.

وأمّا الثاني ، فانّ ظاهره وإن كان يعطي جواز إعمال القرعة في كلّ مجهول ، لكنّه اقترن بلفظة « شيء » في صدر الحديث ، وهو يصلح أن يكون قرينة على التخصيص ، وليس هذا من قبيل كون المورد مخصصاً ، بل من قبيل احتفاف المطلق بما يصلح للقرينية ، وهو « الشيء » والذي يحتمل أن يراد منه شيء خاص وهو التنازع ومعه لايعبأ بالمطلق.

وأمّا العنوان الثالث ، فقد رواه دعائم الإسلام على نحو يظهر انّه عبارة منتزعة من عدة أقضية ، قال : عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهم‌السلام أنّـهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل. وهو ظاهر في أنّ التعبير للراوي لا للإمام.

وأمّا الرابع ، فهو ظاهر في مورد التنازع على أنّ العنوان لفقه الرضا ، وهو يصلح للتأييد لا للاحتجاج.

وأمّا العنوان الخامس ، فهو راجع إلى أقضية الإمام علي عليه‌السلام ، وفي الوقت نفسه لا صلة له بالشبهة الحكمية ، لأنّ وظيفة الإمام بيان حكمها فينحصر بالشبهات الموضوعية ، ولايبعد حملها على صورة التنازع.

ونركّز في الختام على أنّه لم يرد عنوان « المشتبه » ولا « المشكل » ولا « الملتبس » في عناوين الباب ، وإنّما الوارد هو ما ذكرناه.

وبما انّك وقفت على حصيلة الروايات واختصاصها بالتنازع لانطيل البحث في هذه العناوين ، وممّا يؤيد اختصاصها بالتنازع عمل الأصحاب

٤٢٦

بالقرعة في الموارد التي لاتخرج عن إطار التعارض والتزاحم ، إلاّ مورد واحد وهو اشتباه الشاة المنكوحة بغيرها.

١. باب قسمة الأعيان المشتركة.

٢. باب تزاحم المدّعيين عند القاضي.

٣. باب قسمة الليالي بين الزوجات.

٤. باب تداعي الرجلين أو أكثر ولداً.

٥. باب تعارض البيّنتين.

٦. توريث الخنثى المشكل.

٧. توريث المشتبهين في تقدّم موت أحدهما.

٨. باب الوصايا المتعدّدة إذا لم يف الثلث بها.

٩. باب إذا أوصى بعتق عبيده ولم يف الثلث بها بالخصوص.

١٠. باب اشتباه الشاة المنكوحة بغيرها.

٤٢٧

الأمر الخامس

عدم ورود التخصيص على القرعة

قد اشتهر بين الأصحاب انّ عمومات القرعة ، لأجل كثرة ورود التخصيص عليها لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، وهذا ما يقف عليه المتتبع في غضون أبواب خصوصاً في كتب الشهيدين.

ولكن الحقّ انّ عمومات القرعة صالحة للاحتجاج في موردها ولايحتاج العمل بها إلى شيء ، وذلك لأنّ من زعم ورود التخصيص عليها جعل موضوعها كل « مجهول » أو « مشتبه » أو « ملتبس » من أوّل الطهارة إلى آخر الديات.

ثمّ رأى أنّ أكثر الموارد لا يعمل فيها بالقرعة بل يرجع إلى القواعد الأُخرى فخرج بالنتيجة التالية : انّ عمومات القرعة لأجل كثرة التخصيص لا يعمل بها إلاّ بعد عمل الأصحاب ، وأمّا على ما قلناه من اختصاص عموماتها بالتنازع والتزاحم فلم يرد عليه أي تخصيص ، ولذلك يكون العمل بالأُصول العملية مقابل القرعة عملاً بالحاكم أو الوارد ، لما عرفت من أنّ القرعة في المجهول الذي أعيت العقول في حلّه فلم يُر أيّ حلول سوى الالتجاء إلى القرعة ، وأمّا إذا كان هناك حلول من الشرع بأصل من الأُصول فأدلّة القرعة فاقدة لموضوعها.

٤٢٨

الأمر السادس

هل القرعة أمارة أو أصل؟

قد عرفت أنّ القرعة يعمل بها في موردين :

١. إذا لم يكن واقع محفوظ معلوم للّه سبحانه وغير معلوم لنا.

٢. فيما إذا كان هناك واقع محفوظ عند اللّه غير معلوم لنا.

أمّا المورد الأوّل فلا موضوع للبحث عن الأمارية والأصلية ، بل تكون القرعة هناك أعذر الطرق ، كما في بعض الروايات ، وإلى ذلك ينظر قول الشهيد في قواعده : ثبت عندنا قولهم : كلّ أمر مجهول ففيه القرعة. وذلك لأنّ فيها عند تساوي الحقوق والمصالح ووقوع التنازع ، دفع للضغائن والأحقاد ، والرضا بما جرت به الأقدار وقضاء الملك الجبّار. (١)

إنّما الكلام في المورد الثاني كما في اشتباه الحرّ بالعبد (٢) ، فهل القرعة أمر فاصل للنزاع أو طريق إلى الواقع؟

أمّا عند العقلاء فالظاهر انّها أداة لفصل الخلاف من دون إثارة حقد أو ضغينة ، وأمّا الروايات فربما يستظهر منها كونه طريقاً إلى الواقع إذا كان العامل مؤمناً موحداً مفوّضاً أمره إلى اللّه ، فهو سبحانه يوصله إلى الحقّ ويصدّه عن الخطأ وإليه يشير قوله : « إلاّ خرج سهم المحقّ » أو « السهم الأصوب » ولاتترتب على ذلك ثمرة عملية.

__________________

١. القواعد : ١٨٣ ، القاعدة ٢١٣.

٢. تقدم برقم ٢٤ و ٢٥.

٤٢٩

الأمر السابع

هل الإقراع وظيفة شخص خاص؟

إذا كانت القرعة لرفع التزاحم والتنازع فمن المتصدي للإقراع؟ فهل هو الإمام المعصوم كما هو اللائح من بعض الروايات؟ ، أو الأعم منه ومن نائبه كما هو اللائح من النراقي في عوائده؟ أو التفصيل بين ما إذا كان المورد متعيّناً في الواقع كاشتباه الحرّ بالعبد وبين ما إذا لم يكن كذلك ، فالأوّل من وظائف نائب الإمام ، والثاني يقوم به كلّ الناس؟

وهناك وجه رابع وهو جواز قيام المتشاحّين بالقرعة إلاّ إذا كان لفضّ الخصومة ، فإنّ القضاء حسب الروايات من شؤون الإمام عليه‌السلام أو الجالس مجلسه كالنائب العام ، فتكون القرعة مثل الحلف وإقامة البيّنة من الأُمور التي لها صلة بالقضاء والحكومة بين الشخصين ولايقوم به إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ على ما في الروايات. (١)

وهذا القول هو الأقوى ، إذ لو كان مجرى القرعة من قبيل التنازع والخصومة ، فكما أنّ فصلها عن طريق إقامة البيّنة أو الحلف بيد الإمام أو المنصوب من قبله خصوصاً أو عموماً ، فكذلك فصلها عن طريق القرعة ، ولو لم يكن هنا رواية دالّة على اختصاصها به ، لكفى في ذلك ما دلّ على أنّ الحكومة من شؤون الإمام.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، كما إذا اتفق أرباب الأراضي المشتركة بالتقسيم عن طريق القرعة ، فلا وجه لاختصاصها بالإمام بعد كون ذلك شائعاً بين العقلاء

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٧ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٤٣٠

والمسلمين.

ويؤيد ذلك ما في رواية معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد ، فولدت ، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم ، فمن قرع كان الولد ولده ».

فلمّا كان المورد من قبيل التخاصم وفصل الخصومة جعل القرعة من وظائف الوالي.

نعم لو اتّفق المتنازعان على التصالح عن طريق القرعة من دون المراجعة إلى القاضي ، جاز لهما ، إذ لايشترط في التصالح سوى الرضا ، وعدم تحريم الحلال ، وتحليل الحرام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصلح جائز بين المسلمين ، إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً ». (١)

ثمّ إنّ المحقّق النراقي ممّن ذهب إلى أنّ القرعة من وظيفة الإمام أو نائبه الخاص أو العام بمعنى انّه لايترتب أثر على إقراع غيره ، استثنى بعض الموارد فقال : ولايخفى انّ ما ذكرناه من اختصاص القارع بالنائب العام في زمان غيبة الإمام إنّما هو من باب الأصل ، وقد يخرج عنه بدليل دال على أنّ الإذن لغيره أيضاً من إجماع أو غيره ، كما في قرعة الشاة المنكوحة ، واقتراع المدرس لتقديم بعض المتعلّمين ، والزوج للزوجات.

وبالجملة الأصل الاختصاص بالنائب العام ، إلاّ فيما ثبت جواز اقتراع الغير أيضاً.

ثمّ قال : إنّ صاحب الوافي من متأخّري المتأخّرين جمع بين ما دلّ على

__________________

١. الوسائل : ١٣ / ١٦٤ ، الباب ٣ من أبواب الصلح ، الحديث ٢.

٤٣١

اختصاص القرعة بالإمام وبين ما يدلّ على العموم بحمل الأوّل ، على ما إذا كان العمل فيما يقرع عليه متعيّناً في الواقع ، والثاني على ما لم يكن متعيّناً وأريد التعيّن بالقرعة ، ثمّ أورد عليه بأنّه جمع بلا شاهد. (١)

والسيرة العقلائية هنا أوضح طريق لكشف الحقيقة ، فانّ الأمر المتنازع فيه كان يرجع إلى الحياة الشخصية للإنسان فهو يتصدى للقرعة ، وأمّا إذا كانت القرعة من لوازم القضاء بعد إقامة البيّنة أو حلف المنكر فيكون من شؤون الوالي فيرجع إليه.

ويؤيد ذلك ما رواه العلاّمة المجلسي من أنّ أبناء يعقوب أقرعوا بينهم لمّا قال لهم يوسف عليه‌السلام : « إنّي أحبس منكم واحداً يكون عندي وارجعوا إلى أبيكم واقرؤوه مني السلام » وقالوا له : ... فلمّا قال يوسف هذا ، اقترعوا بينهم ، فخرجت القرعة على شمعون ، فأمر به ، فحبس. (٢) فإنّ القضية كانت أمراً شخصياً دائراً بين أبناء يعقوب.

ونظير ذلك ما رواه البخاري من اقتسام المهاجرين بالقرعة ، أخرج البخاري عن خارجة بن زيد بن خالد أنّ أُمّ العلا امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرته انّه اقتُسِم المهاجرون قُرعةً فطار لنا عثمان بن مظعون ، فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفّي فيه. (٣)

ويدلّ على ما ذكرنا من أنّه إذا كان من شؤون القضاء يقوم به الإمام أو نائبه عدة روايات :

__________________

١. عوائد الأيام : ٢٢٨.

٢. بحار الأنوار : ١٢ / ٢٥٧.

٣. صحيح البخاري : ٢ / ٧٢ ، باب الدخول على الميت من كتاب الجنائز.

٤٣٢

أ : ما رواه معاوية بن عمار ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إذا وطأ الرجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد ، فولدت ، فادّعوه جميعاً ، أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده ، ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية ». (١)

ب : مضمرة يونس ، قال في رجل كان له عدّة مماليك ، فقال : أيّكم علّمني آية من كتاب اللّه فهو حرٌّ ، فعلّمه واحد منهم ، ثمّ مات المولى ولم يدر أيّهم الذي علّمه ، أنّه قال : يستخرج بالقرعة ، قال : ولايستخرجه إلاّ الإمام ، لأنّ له على القرعة كلا ماً ودعاءً لايعلمه غيره. (٢)

إنّ التعليل الوارد في الرواية كأنّه تعليل إقناعي ، ولعلّ المراد انّه لايصحّ كلّ دعاء وكلام بل دعاء خاص لايعلمه ولايقتدر على إنشائه غيره فيختص به وبمن علّمه. والسبب الحقيقي هو انّ المورد من شؤون القضاء.

ج : ما رواه إسحاق العزرمي والفضيل بن يسار في ميراث من ليس له إلاّ دبر ، فقد جاء في الأوّل : « يجلس الإمام ويجلس معه ناس ». وفي الثاني : « يقرأ عليه الإمام » (٣). فإنّ الشبهة حكمية لايقوم بحلها إلاّ الإمام.

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ١٩٠ ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١٤.

٢. الوسائل : ١٦ ، الباب ٣٤ من أبواب العتق ، الحديث ١.

٣. تقدما برقم ٢٦ و ٢٧.

٤٣٣

الأمر الثامن

العمل بالقرعة عزيمة أو رخصة

قد عرفت أنّ مورد القرعة ، تارة يكون أمراً معيناً في الواقع مجهولاً عندنا ، وأُخرى في كلّ أمر مردّد بين شيئين أو شخصين أو أكثر غير متعيّن في الواقع يطلب فيه التعيّن ، وقد ثبت جواز القرعة شرعاً في كلّ من القسمين ، بقي الكلام في أنّها عزيمة حتى يتعيّن بناء الأمر عليها أو رخصة حتى يجوز العدول عنها إلى غيرها؟

لا شكّ انّه لو كان مورد التنازع من الحقوق التي يجب تعيينها ، سواء أكان معيناً في الواقع ومجهولاً عندنا كالخنثى المشكل بناء على أنّ الخنثى ليست طبيعة ثالثة ، أو لم يكن معيناً في الواقع ولكنّه يجب تعيّنها كما لو نذر عتق أوّل مملوك ملكه فملك أكثر من واحد ، أو يوصي بعتق رقاب أربعة من عبيده العشرين ، فانّه لايمكن عتق الأربعة المبهمة ولاخمس الكل مشاعاً ، لعدم صدق الرقبة على الجزء بل بحسب عتق المعين.

ففي هذه الموارد التي فيها أمر إلزامي بالعمل بالحق ، يكون العمل بالقرعة فيها عزيمة ، والمفروض انّه لاطريق آخر هناك. وأمّا إذا لم يكن هناك حق يجب تعيينه أو العمل به ، كتقديم أحد المتعلّمين في التدريس ، أو تقديم إحدى الزوجتين في المتعة ، أو كان فلايجب العمل بالقرعة.

٤٣٤

وبذلك يعلم أنّ العمل بالقرعة بشخصه ليس موضوعاً لوجوب العمل وعدمه ، بل يتبع موردها في الحقوق التي يجب التحفّظ عليها وعدمها.

ثمّ إنّ هنا بحثاً آخر وهو انّه إذا استخرج المحق بالقرعة ، فهل يجوز العدول عنه؟ الظاهر لا ، لأنّ الإقراع يجعل الخارج بالقرعة محكوماً بحكم شرعي ، ففي الخنثى المشكل إذا خرج السهم باسم الذكر يكون محكوماً شرعاً بكونه ذكراً ، وكذا في مورد النذر والإيصاء بالعتق فإذا خرج بالقرعة تعيّن عتقه ، ومثله ما ورد النصّ بالعمل بالقرعة فيه ، كمسألة الشاة المنكوحة.

هذا تمام الكلام في أحكام القرعة ، وهناك بحوث استطرادية ترك شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ البحث فيها إلى رغبة الحاضرين حتى يخوضوا في غمارها على ضوء ما سبق.

نحمده سبحانه ونشكره على إتمام النعمة وإكمال الرسالة ،

وقد لاح بدر تمامه في شهر شوال المكرّم

من شهور عام ١٤٢٠ من الهجرة النبويّة

بيد مؤلّفها ، محمد حسين الحاج العاملي

عامله اللّه بلطفه الخفيّ

٤٣٥
٤٣٦

المقصد الثامن

في تعارض الأدلة الشرعيّة

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : تعارض الأدلّة من المسائل الأُصولية

إنّ البحث عن تعارض الأدلّة وكيفية علاجها عند التعارض ، من المسائل الأُصولية المهمَّة ، أمّا كونها من المسائل الأُصولية فلما عرفت في مبحث حجية خبر الواحد أنّ روح البحث في أبواب الحجج ، يرجع إلى البحث عن تعيين ما هو الحجّة في الفقه بعد تسليم أصل وجود الحجّة.

توضيح ذلك : انّ الفقيه يعلم أنّ بينه وبين ربّه حججاً قطعية في الأحكام الشرعية ، تُنجّز الواقع وتَقطع العذر ، ولكن لايعرف خصوصيّاتها وتعيّناتها فيقع البحث في علم الأُصول عن خصوصياتها وتعيّناتها.

وعلى ضوء ذلك ، فوجود الموضوع أي الحجّة بين العبد والمولى أمر محقّق معلوم لدى الفقيه ، ولذلك لايعود البحث في أبواب الحجية إلى البحث عن وجود الموضوع لما عرفت من أنّ وجود الحجّة أمر قطعي ، وإنّما يرجع إلى البحث عن عوارض تلك الحجّة ، أعني : تعيُّنها بالخبر الواحد أو الشهرة الفتوائية أو غيرهما ، فالبحث عن تعيّن الحجة وخصوصياتها بحث عن عوارض الموضوع.

٤٣٧

ومن هذا الباب مسألة تعارض الأدلّة حيث يبحث فيها عن ما هو الحجّة عند تعارض الأدلّة ، فهل الحجّة هو التخيير بين الدليلين مطلقاً؟ أو التخيير لدى التعادل ، والترجيح لدى المزيّة؟ أو شيء غير التخيير والترجيح؟ فالبحث على كلّ تقدير بحث عن عوارض الحجّة في الفقه ، المسلَّم وجودها.

إلى هنا تبيّن انّ مسألة التعارض وكيفية العلاج من المسائل الأُصولية ، وأمّا كونها مهمَّة فلأجل أنّه قلّما يتفق باب لاتوجد فيه أخبار متعارضة ، ولذلك قام الشيخ الطوسي بتأليف كتاب أسماه « الاستبصار فيما اختلف من الأخبار » لعلاج تلك الطائفة الكبيرة من الروايات ، فما قام به المحقّق الخراساني من جعله ثامن المقاصد أولى ممّا قام به الشيخ الأعظم حيث جعل باب التعارض خاتمة الكتاب مشعراً بكونه ليس من العلم كمقدمة الكتاب ، اللّهمّ إلاّ أن يريد منها ، خاتمة المسائل ، لاخاتمة الكتاب.

ثمّ إنّ عنوان المسألة وإن كان يعمّ تعارض كلّ الأدلّة الشرعية كتعارض قول اللغويِّين أو مدعيي الإجماع ، لكن البحث مُخصَّص بتعارض الخبرين فقط مقتصراً في غيرهما بما ذكروه في المقامات المختصّة للغير.

الثاني : التعارض لغة واصطلاحاً

التعارض لغةً من العرض وهو الإراءة ، يقال : « عرضت الناقة على الحوض » وهو من الأمثلة المعروفة لوجود القلب في الكلام ، والأصل هو : عرضت الحوض على الناقة وقال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماء كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلى المَلائِكَة ) (١). وقال تعالى : ( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَومَ تَقُومُ السّاعَةُ

__________________

١. البقرة : ٣١.

٤٣٨

أَدخِلُوا آل فِرْعَونَ أَشدَّ العَذاب ). (١)

فما في المقاييس لابن فارس من أنّ أصل العرض هو ضدّ الطول ، فكأنّه في غير محلّه ، فانّ استعمال العرض في مقابل الطول وإن كان رائجاً ، لكنّه ليس أصل المعنى وإنّما اشتق هذا المعنى من الإراءة ، لمناسبة من المناسبات ، فانّ العرض في مقابل الطول معنى طارئ على المعنى الأصلي.

وأمّا تفسير العرض بالمبارزة والمعارضة فهو أيضاً تفسير في غير محلّه ، وهو أيضاً من المعاني الطارئة على العرض ، لأنّ كلّ مبارز يُري شجاعتَه لخصمه.

وأمّا اصطلاحاً : فقد عرّفه القوم : بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض والتضاد. وهو خيرة الشيخ في الفرائد. (٢) وعلى هذا فالمراد من التنافي هو التنافي في المدلول مع قطع النظر عن مقام الإثبات والدلالة ، وهذا بظاهره غير تام ، إذ ربّما يكون بين الدليلين تناف في المدلول ولايكون بينهما تناف في الدلالة والإثبات ، كما في العام والخاص ، والحاكم والمحكوم ، والوارد والمورود ، والعناوين الثانوية والعناوين الأوّلية ، فانّ التنافي بين مدلولي الدليلين فيها أمر واضح لامرية فيه ولكنّه لايُعدّ من التعارض في شيء ، لعدم التنافي في مقام الدلالة حيث يقدّم الخاص على العام ، والحاكم على المحكوم ، والوارد على المورود ، والعنوان الثانوي على العنوان الأوّلي على وجه لايتردّد العرف الدقيق في رفع التعارض بعد الإمعان ، ولايعدّ مثل هذه من مسائل هذا المقصد إلاّ استطراداً.

ولذلك عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بنحو آخر بحيث تخرج عن تعريفه هذه الموارد التي قد عرفت إمكان الجمع فيها من دون أن تصل النوبة إلى

__________________

١. غافر : ٤٦.

٢. الفرائد : ٤٣١.

٤٣٩

التعارض ، وقال :

هو تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد.

وخروج هذه الموارد عن تعريفه واضح.

ثمّ إنّ المراد من تنافي الدليلين على نحو التناقض ، كون أحد الحكمين وجودياً والآخر عدمياً ، كما إذا ورد في أحد الخبرين انّه يحرم الشيء الفلاني وفي الآخر لايحرم ، كما أنّ المراد من تنافيهما بنحو التضاد هو كون الحكمين وجوديين ، كما إذا ورد في أحد الخبرين « يجب » وفي الآخر « يحرم » فيكون التنافي بالتضاد ، ومع ذلك يمكن إرجاع التنافي بنحو التضاد إلى التنافي بنحو التناقض ، فإنّ قوله « يحرم » وإن كان بالنسبة إلى قوله « يجب » متضادين ولكن لازم قوله : « يحرم » هو عدم الوجوب ومن الواضح بمكان انّ نسبته إلى قوله « يجب » نسبة المتناقضين.

ثمّ إنّ التنافي بين الدليلين تارة يكون بالذات كما إذا قال : « ثمن العذرة سحت » وورد في رواية أُخرى : « لا بأس بثمن العذرة ». وأُخرى بالعرض كما إذا ورد « صلّ صلاة الجمعة في يومها » وورد « صلّ صلاة الظهر في الجمعة » ولاتنافي بين إيجاب صلاتين في يوم واحد بالذات ، إذ لا مانع من أن تجب صلاتان في يوم واحد ، لكن لمّا قام الإجماع على عدم وجوب أزيد من صلاة واحدة في ظهر يوم الجمعة وجد التعارض بين الحكمين.

الأمر الثالث : الفرق بين التعارض والتزاحم

الفرق بين التعارض والتزاحم بعد كون التنافي قدراً مشتركاً بينهما هو انّ مصبَّه في التعارض يختلف مع مصبِّه في التزاحم ، فلو كان التنافي في مقام

٤٤٠