إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

ظرف الشكّ ، بل لعدم صدق الاستيلاء التام لفرض انّ الدار كانت مفتوحة لكل وارد ، فكيف يحكم بكون ما فيه لصاحب الدار؟

وأمّا الشقّ الثاني ، فانّ تعليل الإمام بكون ما وجد في الصندوق لصاحبه بالاختصاص ليس لكونه مفيداً للعلم ، إذ لاينافي أن يكون الصندوق مختصّاً لصاحبه مع أنّه يضع صاحب الصّندوق فيه أمانات الناس ، فمن المحتمل أن يكون الموجود فيه للغير حيث أخذه منه وتركه فيه من دون أن يضع علامة عليه.

بل لأجل أنّ الاستيلاء دليل على الملكية سواء أكانت مفيدة للعلم أو لا.

هذا كلّه حول رواية جميل بن صالح.

وأمّا رواية إسحاق بن عمار ، فالجواب عنه واضح بالإمعان فيما ذكرناه حول رواية « جميل » ، لأنّ بيوت مكة يومذاك كان حكمها حكم الفنادق والمضائف ، فلايعدّ الاستيلاء دليلاً على الملكية لصاحب البيت.

٣٢١

المقام السابع

في حجّية اليد فيما إذا علم عنوانها حدوثاً

لا شكّ في حجّية اليد إذا لم يعلم حالها حدوثاً واحتمل الاستيلاء عليها بانتقال المال عن مالكه إليه وهذا هو القدر المتيقّن من حجّية اليد فتكون اليد حاكمة على الاستصحاب ، أي استصحاب كونها باقية في ملك المالك السابق ، وسيوافيك بيان كيفية حكومة اليد على الاستصحاب في آخر القاعدة.

إنّما الكلام فيما إذا علم عنوان حدوثها وكان غير مفيد للملكية ، وذلك كما في الصورتين التاليتين :

الصورة الأُولى : إذا استولى عليها في حال كونها عادية أو عارية أمانة ولكن يحتمل انتقال المال إليه بناقل شرعي.

الصورة الثانية : أن لايعلم حال اليد عند الاستيلاء ولكن علم أنّه كان قبل الاستيلاء عيناً موقوفة ولكن يحتمل انتقال العين إليه ببعض المجوِّزات لبيع الوقف.

فهل تعد اليد أمارة الملكية في هاتين الصورتين أو لا؟

أمّا الصورة الأُولى : فقد حكم فيها المحقّق النائيني بسقوط اليد والعمل بما يقتضيه استصحاب حال اليد ، فانّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة أو الغصب ونحوهما ، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب ، فلاتكون كاشفة عن الملكية. (١)

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٦٠٤.

٣٢٢

وحاصل ما أفاده أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها والاستصحاب يرفع موضوع اليد ويبيّن حالها فيكون الاستصحاب حاكماً على اليد إذا كان المستصحِب صاحبُ اليد.

والأولى أن يقال : انّه إنّما يحتج باليد إذا لم يحرز فساد الاستيلاء كالغصب ، أو لم يحرز انّه بطبعه غير مقتض للملكية كالعارية ، ولو أحرز انّه كان من أوّل الأمر كذلك فلايحتج باليد على الملكية لقصورها من أوّل الأمر فتسقط اليد عن الاعتبار ويرجع إلى الأصل.

وبعبارة أُخرى : تقديم الاستصحاب على اليد ليس من باب حكومته عليها ، بل من باب قصور قاعدة اليد في المقام ، لما عرفت من عدم استقرار بناء العقلاء على الملكية في الموارد التي من طبعها عدم الملكية كما هو المفروض من أنّ الاستيلاء كان استيلاءً عادية أو عارية.

وأمّا الصورة الثانية : فلايعدّ الاستيلاء دليلاً على الملكية ، إذ كما يشترط أن لايكون الاستيلاء محرز الفساد كذلك يشترط أن يكون المستولى عليه بطبعه قابلاً للتملّك ، فخرجت العين الموقوفة لأنّها بطبعها غير صالحة للتملّك ، واحتمال عروض مجوّز الانتقال شاذ لايُعبأ به حسب الطبع الغالب.

وسيوافيك في قاعدة أصالة الصحّة انّها إنّما تجري فيما إذا كان المورد غير مقتض للفساد بطبعه وإلاّ فلاتجري أصالة الصحّة ، مثلاً لو باع شخص العين الموقوفة واحتملنا انّه يبيع بالمجوز الشرعي فلاتجري أصالة الصحّة ، لأنّ المورد بطبعه يقتضي الفساد ، واحتمال عروض المجوِّز شاذ لايعبأ به ، ومثله المقام فانّ احتمال انتقال العين الموقوفة بمجوّز شرعي إلى صاحب اليد شاذ.

٣٢٣

وأمّا الاستيلاء على الأراضي المفتوحة عنوة فإن قلنا بما جاء في رواية محمد الحلبي من أنّها محبوسة موقوفة في أيدي المسلمين لايجوز بيعها وشراؤها وإنّما يؤخذ الخراج ، قال : سئل أبو عبد اللّه عليه‌السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال : « هو لجميع المسلمين ، لمن هو اليوم ، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ، ولمن لم يخلق بعد » (١) ولكن احتملنا عروض مجوّز للبيع كالوقف يكون حاله حال الوقف في عدم الاعتبار لليد ، ويكون المستولى عليه بالطبع غير قابل له إلاّ في فترات خاصّة ؛ وأمّا إذا قلنا إنّه ملك للمسلمين ويقبل النقل والانتقال غاية الأمر الناقل هو الولي العام حسب ما اقتضته المصلحة النوعية ، فهو يفارق الوقف ، لأنّ صلاحية المستولى عليه محرزة ولم يحرز فساد نفس الاستيلاء لكون الحدوث مجهول العنوان حتّى يمنع الاستناد إليه.

__________________

١. الوسائل : ١٧ / ٣٤٦ ، الباب ١٨ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ١.

٣٢٤

المقام الثامن

مدّعي الملكية في مقابل ذي اليد

إذا كان لرجل يد على العين فادّعاها آخر ، فله صور :

١. إذا كان للمدّعي بيّنة على أنّه انتقل من ذي اليد إليه بإحدى المملِّكات الشرعيّة فعندئذ تُقدَّم البيّنة على ذي اليد أخذاً بقوله عليه‌السلام : « البيّنة للمدّعي واليمين على من أنكر ». (١)

٢. إذا كان الحاكم عالماً بأنّه كان للمدّعي سابقاً ولكن يحتمل انتقاله إلى ذي اليد بسبب من الأسباب الشرعية ، فيقدّم قول ذي اليد ولا عبرة بعلم القاضي ، إذ لامنافاة بين علمه بأنّ العين كانت للمدّعي في سالف الزمان ، وكونه ملكاً لذي اليد فعلاً.

٣. إذا قامت البيّنة على أنّ العين كانت للمدّعي في سالف الزمان ومع ذلك يحتمل انتقال العين إلى ذي اليد بسبب من الأسباب المملكة ، فالحكم في هذه الصورة هو الحكم في الصورة السابقة. فيؤخذ بقول ذي اليد ولا عبرة ببيّنة المدّعي ، إذ أقصى ما تثبته البيّنة انّه كان مالكاً في سالف الزمان من دون تعرّض للحالة الحاضرة فهي لاتنافي الملكية الفعلية لذي اليد.

واستصحاب بقاء الملكية في كلتا الصورتين مردود لحكومة قاعدة اليد عليه كما سيوافيك.

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء ، الحديث ٣.

٣٢٥

٤. لو شهدت البيّنة بالملكية الفعلية لكن عُلم أنّ مصدر شهادتها هو الاستصحاب حيث كانت عالمة بملكية المدّعي في سالف الزمان فشكّت واستصحبت بقاء الملكية فشهدت بها بوصف كونها ملكاً فعلاً للمدّعي. وحكم هذه الصورة كالصورتين الثانية والثالثة إذ لا عبرة بالشهادة لفساد مصدره ، إذ لو تمّ الاستصحاب للبيّنة لتم للحاكم أيضاً ، ومن المعلوم انّ الشهادة على أساس الاستصحاب شهادة زور وتدليس في مقابل اليد.

نعم لو لم يكن هناك يد لأحد لصحّ للشاهد الاستصحاب والشهادة على أساسه ، وبذلك يعلم مفاد ما يقال : « تجوز الشهادة بالاستصحاب » فإنّها ناظرة إلى عين في يد ثالث لا ادّعاء له عليها ويدّعيها شخصان آخران وكان المال ملكاً لأحدهما سابقاً ، فتجوز الشهادة بالملكية الفعلية لذي اليد.

٥. إذا أقرّ ذو اليد بكون العين ملكاً للمدّعي في السابق من دون أن يقرّ بانتقالها منه إليه أو إلى غيره ، فلا عبرة بهذا الإقرار ، لأنّه لايتجاوز عن علم القاضي بكونها ملكاً للمدّعي في السابق ولا عن قيام البيّنة كذلك ، فانّ غاية ما يفيده إقرار المقر هو انّه كان ملكاً للمدّعي في سالف الزمان ، ولكنّه لاينافي كونه ملكاً للمقرّ فعلاً ، فاليد حاكمة في هذا المقام.

٦. إذا أقرّ ذو اليد بأنّ العين كانت ملكاً للمدّعي ومنه انتقل إليه بأحدى النواقل الشرعيّة ، ففي مثل ذلك يكون ذو اليد المقرّ ، مدّعياً والمدّعي منكراً ، وذلك لأنّ ذا اليد اعترف بكونه ملكاً للمدّعي سابقاً وادّعى انتقاله منه إليه فصار مدّعياً بادّعاء الانتقال فعليه أن يثبت ادّعاءه بالبيّنة أو بالحلف إذا ردّ إليه المنكر.

وبما ذكرنا يعلم أنّ الذي صار سبباً للانقلاب هو ادّعاؤه بانتقالها منه إليه

٣٢٦

وإلاّ فمجرّد إقراره بأنّه كان له لايوجب الانقلاب لما عرفت من أنّ هذا الإقرار يجتمع مع كونه مالكاً فعلاً.

والحاصل انّ دعوى الانتقال بعد الإقرار بكونه للمدّعي على خلاف الأصل ، لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان ، فلايثبت الانتقال عنه إلاّ بدليل.

ثمّ إنّ الظاهر من كلمات المشهور أنّ انقلاب الدعوى عند ادّعاء الانتقال وصيرورة المنكر مدّعياً والمدّعي منكراً تام مطلقاً ، وعلى جميع المباني المطروحة في تمييز المدّعي عن المنكر ، ولكن الظاهر انّ الحكم يختلف حسب اختلاف المباني المذكورة في تمييزهما وإليك بيانها.

أ : لو قلنا بأنّ المدّعي من خالف قوله الأصل والمنكر من وافقه ، وكان محور الموافقة والمخالفة مآل الدعوى ونتيجتها لا ما يطرح أوّلاً ، فالحقّ انقلاب الدعوى وصيرورة المنكر مدّعياً والمدّعي منكراً إذا ادّعى المنكر الانتقال ، وذلك لأنّ مصبّ الدعوى وإن كان مالكية المدّعي للعين وإنكار ذي اليد لها ، لكن هذا ليس هو المعيار لتمييز المدّعي عن المنكر ، بل المقياس هو مآل الدعوى ونتيجتها وهي ادّعاء ذي اليد انتقال العين من المدّعي ، إليه ، ومن المعلوم أنّ الأصل عدم الانتقال.

وإن شئت قلت : إنّهما وإن اختلفا في بدء الأمر في مالكية المدّعي وعدمها لكن لما انجرّ النزاع إلى اعتراف المنكر بأنّها كانت له وانّه اشتراها منه ، استقرّ النزاع أخيراً على أمر آخر وهو تحقّق الانتقال وعدمه ، فذو اليد مدّع للانتقال والطرف المقابل منكر له ، وبذلك تنقلب الدعوى.

ب : لو قلنا بأنّ المدّعي من خالف قوله الأصل والمنكر من وافقه ولكن محور الموافقة والمخالفة مصب الدعوى لا ما انتهت الدعوى إليه ، فعند ذلك تبقى

٣٢٧

الدعوى على حالها ، لأنّ المدّعي يدّعي المالكية ولكنّ صاحبَ اليد ينكرها.

ج : لو قلنا بأنّ المدّعي والمنكر من المفاهيم العرفية ، والعرف هو المرجع في تمييز أحدهما عن الآخر ، والمعيار عنده هو أنّ المدّعي هو الذي لو ترك ، تُركت الدعوى بخلاف المنكر ، فعلى هذا تبقى الدعوى على حالها وإن ادّعى الانتقال ولايلزم الانقلاب ، وذلك لأنّ ذا اليد لو ترك لم تُترك الدعوى بخلاف الطرف المقابل إذ لو ترك تركت الدعوى.

د : لو قلنا بأنّ المدّعي هو من خالف قوله الظاهر والمنكر من وافقه لبقيت الدعوى على حالها ولايلزم منها الانقلاب ، لأنّ الظاهر هو مالكية المستولي على العين سواء أقرّ بمالكية المدّعي سابقاً أو لا ، وعلى فرض الإقرار ادّعى انتقاله منه أو لم يدع.

وبذلك يظهر انّ القول بالانقلاب إنّما يصحّ على الوجه الأوّل دون سائر الوجوه.

٣٢٨

المقام التاسع

في تحليل الحوار الدائر بين الإمام والخليفة

روى الطبرسي في « الاحتجاج » الحوار الذي دار بين الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام والخليفة أبي بكر حيث طلب الثاني من الإمام عليه‌السلام البيّنة على مالكيته لفدك فأجابه الإمام بما هذا نصّه :

« أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين؟ »

قال : لا.

قال : « فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيتُ أنا فيه ، من تسأل البيّنة؟ ».

قال : إيّاك كنتُ أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين.

قال : فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون ، تسألني البيّنة على ما في يدي ، وقد ملكته في حياة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيتُ عليهم؟ ».

إلى أن قال : « وقد قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر ». (١)

فربما يقال بأنّ الإمام وإن كان مستولياً على فدك وكانت له يد عليها وبذلك كان منكراً والخليفة مدّعياً ، وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء ، الحديث ٣.

٣٢٩

واليمين على من أنكر ، وكان طلب الخليفة البيّنة منه على خلاف القاعدة ، ولكن لمّا ادّعى الإمام عليه‌السلام بأنّه ملك فدك في حياة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اعترف عندئذ بأنّها كانت ملكاً لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّه نحلها له أو لبنته ، فصار لازم ذلك الإقرار انقلاب الدعوى وصيرورة الإمام ـ الذي كان منكراً ـ مدّعياً والمدّعي منكراً ، لأنّ الإمام يدّعي انتقال الملك إليه.

هذا كلّه مع تسليم ما رووه من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لايورِّث ، وعندئذ كان لمن تقمّص الخلافة طلب البيّنة من الإمام على الانتقال والتمليك في حال الحياة.

وقد أُجيب عنه بوجوه أوضحها : انّه إنّما يلزم الانقلاب لو كان الطرف الآخر منكراً لما يدّعيه ذو اليد ، لا جاهلاً أو متردّداً ، والقوم ـ حسب الظاهر ـ كانوا شاكّين ومترددين في النحل والتمليك لامدّعين للعدم ، وفي مثل ذلك يكون الاستيلاء حجّة ممضاة عند العقلاء والشرع ، وليست قضيته مثل ما إذا كان الآخر منكراً للانتقال وذو اليد مدّعياً له.

المقام العاشر

مستثنيات قاعدة اليد

قد مرّ سابقاً انّ اعتماد العقلاء على الاستيلاء لأجل انّ الطابَع الغالب عليه هو الملكية ، فعلى ذلك فلو كان هناك مورد أو موارد كان الطابَع الغالب عليه هو عدم الملكية ، فلايحتج بهذا الاستيلاء سواء كان استيلاؤه عليه بلا سبب مشروع أو عن سبب مشروع ، فالأوّل كيد السارق والغاصب والمتهم في أمواله ، فانّ الغالب على أموالهم هو عدم الملكية ، فلايعد ما تحت أيديهم عند الشكّ ملكاً لهم.

٣٣٠

والثاني كيد الأُمناء كالسمسار والدلاّل الذي يغلب على الأموال الواقعة تحت يده ، كونها لغيره ، فلو مات لاتقسم أمواله بين الورثة ، ونظيره المال الواقع تحت يد الودعيّ أي من يودع الناس أموالهم عنده.

ومنه يظهر حكم جباة الزكاة والخمس ووكلائهم حيث إنّ الغالب على أموالهم كونها للغير ، ولذلك لاتُقسّم أموال المرجع الديني بموته بين الورثة ، إلى غير ذلك من الموارد التي لاتعدّ اليد أمارة على الملكية.

خاتمة

إنّ النسبة بين اعتبار اليد والاستصحاب هو نسبة الأمارة إلى الأصل ، وقد مرّ دلالة الروايات على كونها أمارة وعرفت أنّ الأمارة واردة على الأصل ، لأنّ لسان الأمارة هو طرد الشك ومكافحته ولسان الأصل هو الحكم مع حفظ الشكّ ، فالاستصحاب حكم في ظرف الشكّ بخلاف قاعدة اليد فإنّها أمارة للملكية ورافعة للشكّ.

مضافاً إلى أنّ اعتبار الاستصحاب في مقابل اليد يوجب لغوية القاعدة واختلال النظام المعيشي بين الناس ، لأنّ أكثر ما يباع في السوق هو ما كان ملكاً للغير ، فلو كان الحاكم عند الشكّ هو الاستصحاب لاختل نظام الحياة الاقتصادية.

تمّ الكلام في قاعدة اليد

وله الحمد

٣٣١

القواعد الأربع

٢

قاعدة التجاوز والفراغ

من القواعد الفقهية المهمة قاعدة التجاوز والفراغ ويستخدمها الفقيه في غير واحد من أبواب الفقه ، ثمّ إنّ إيضاح مفاد القاعدة وبيان دلائلها وكيفية نسبتها إلى الاستصحاب رهن بيان أُمور :

الأمر الأوّل

الفرق بين قاعدتي التجاوز وأصالة الصحّة

تشترك قاعدة التجاوز مع قاعدة أصالة الصحّة في المؤدّى وهو إثبات الصحة للعمل ، لكن لو كان الموضوع للصحّة هو فعل نفس المجري يُسمّى قاعدة التجاوز كما إذا شك في صحّة صلاته بعد فراغه ، وإن كان الموضوع لها فعل الغير يسمّى بأصالة الصحّة كما إذا شُكَّ في صحّة بيع صدر من الغير وإلى ذلك يشير فخر المحقّقين في إيضاحه ويقول : إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمَّته بفعل صحيح وهو يعلم الكمية والكيفية ، الصحّة. (١) وإنّما عُدّتا قاعدتين لأجل ورود الروايات بكلا العنوانين الظاهرين في التعدّد.

__________________

١. إيضاح القواعد : ١ / ٤١ ، في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة.

٣٣٢

الأمر الثاني

قاعدة التجاوز قاعدة فقهية

قد عرفت أنّ القاعدة الفقهية تفترق عن المسألة الأُصولية في جانب المحمول ، فالمحمول في الأُولى حكم شرعي تكليفي أو وضعي.

نظير قولك : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » ، أو « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » فالمحمول في المثال الأوّل حكم تكليفي وفي المثال الثاني حكم وضعيّ.

وأمّا المحمول في المسألة الأُصولية ، فهو إمّا حكم عقلي نظير قولك : « الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها » ، أو أمر لغوي أو عرفي نظير قولك : « الأمر ظاهر في الوجوب ، والنهي ظاهر في الحرمة ».

وإن شئت قلت : الأمر يدلّ على الوجوب والنهي على الحرمة أو غير ذلك.

والحاصل انّ بالمحمول تتميز القاعدة الفقهية عن المسألة الأُصولية.

فالمحمول في قاعدة التجاوز هو وجوب المضي الملازم للصحة ، فالمحمول باعتبار حكم تكليفي وباعتبار آخر حكم وضعي.

وأمّا على المعيارين الآخرين في تمييز القاعدة الفقهية عن المسألة الأُصولية ، فقاعدة التجاوز قاعدة فقهية ، والمعياران هما :

١. القاعدة الفقهية يستخدمها الفقيه والمقلِّد بعد الإحاطة بحدودها عن طريق التعليم ، بخلاف المسألة الأُصولية فإنّ إعمالها يختص بالمجتهد.

فعلى هذا المعيار فقاعدة التجاوز قاعدة فقهية ، لأنّ المقلِّد أيضاً يستعملها

٣٣٣

في شكوكه في الصلاة والطواف والطهارة وغيرها.

٢. انّ القاعدة الفقهية لاتقع في طريق الاستنباط بل يطبق على موردها ، كتطبيق الإنسان على زيد في التصوّرات ، أو انطباق كلّ نار حارّة على مواردها التصديقية ، بخلاف المسألة الأُصولية إذ يستكشف منها آفاق جديدة لم تكن معلومة من ذي قبل لا إجمالاً ولا تفصيلاً. كما هو الحال بالقول بالملازمة بين المقدّمة وذيها فيستنبط منها وجوب الوضوء أو الغسل أو غير ذلك الذي لم يكن كل واحد معلوماً من ذي قبل أبداً.

وعلى ضوء ذلك يجب القول بأنّ قاعدة التجاوز مثل قوله : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » قاعدة فقهية لايستنبط منها عند الإعمال شيء جديد إلاّ تطبيق الأمر المجمل على الأمر المفصّل.

الأمر الثالث

مدرك القاعدة ومصدرها

قد ورد في المقام روايات في الأبواب التالية تدلّ على اعتبار القاعدة :

أ : ما ورد في باب الوضوء والغسل.

ب : ما ورد في باب الصلاة.

ج : ما ورد في باب الطواف.

وها نحن نذكر في ذلك أكثر ما وقفنا عليه وفقاً لهذه الأبواب.

٣٣٤

أ : ما ورد في باب الوضوء والغسل

١. موثّقة ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه ». (١)

وذيل الحديث بصدد إعطاء الضابطة الكلّية من دون فرق بين باب الوضوء والصلاة ، والمورد لايكون مخصّصاً.

وأمّا الضمير في قوله : « وقد دخلت في غيره » يرجع إلى الوضوء في قوله « من الوضوء » لا إلى شيء في قوله : « في شيء » وذلك لوجهين :

الأوّل : أقربية الأوّل.

الثاني : اتّفاقهم على عدم جريان القاعدة في أثناء الوضوء ، فلايكفي التجاوز عن شيء من الوضوء ، والدخول في شيء آخر منه في جريان القاعدة بل لابدّ من التجاوز من الوضوء والدخول في غير الوضوء فلامحيص عن إرجاع الضمير في « غيره » إلى الوضوء ، لأنّ التجاوز عن شيء من أجزاء الوضوء لايكفي في جريان القاعدة. وسيوافيك شرح الحديث في موضعه.

٢. موثّقة بكير بن أعين ، قال : قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك ». (٢)

ومورد الرواية وإن كان هو الوضوء لكن التعليل بالأمر الارتكازي يجعله قاعدة كلّية تستخدم في عامّة الأبواب.

__________________

١. الوسائل : ١ / ٣٣٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٢. الوسائل : ١ / ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٣٣٥

٣. ما رواه زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة؟ فقال : « ... فإن دخله الشكّ وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شيء عليه ». (١)

ب : ما ورد في باب الصلاة

ما ذكرنا كان هو الوارد في بابي الوضوء والغسل ، وأمّا الوارد في باب الصلاة فهو على طوائف ثلاث :

الطائفة الأُولى : ما ورد في المضي بعد خروج الوقت أو دخول الحائل

٤. صحيحة زرارة والفضيل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها ، أو في وقت فوتها أنّك لم تصلّها ، صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شكّ حتى تستيقن ، فإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حالة كنت ». (٢)

وهذا يعرب عن أنّ عدم الاعتناء بالشكّ بعد الوقت من مصاديق القاعدة ، ويشعر بذلك لفظ « الحائل ».

٥. ما رواه ابن إدريس في « مستطرفات السرائر » نقلاً من كتاب حريز بن عبد اللّه ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا جاء يقين بعد حائل ، قضاه ومضى على اليقين ويقضي الحائل والشكّ جميعاً ، فإن شكّ في الظهر فيما بينه وبين أن يصلّي العصر قضاها ، وإن دخله الشكّ بعد أن يصلّي العصر فقد

__________________

١. الوسائل : ١ / ٥٢٤ ، الباب ٤١ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

٢. الوسائل : ٣ / ٢٠٥ ، الباب ٦٠ من أبواب المواقيت ، الحديث ١.

٣٣٦

مضت ، إلاّ أن يستيقن ، لأنّ العصر حائل فيما بينه وبين الظهر ، فلايدع الحائل لما كان من الشكّ إلاّ بيقين ». (١)

والمراد من الحائل في الرواية هو الصلاة المترتبة على الأُخرى كما هو ظاهر ، والرواية من أدلّة القول بأنّه لو شكّ في الظهر بعد الإتيان بالعصر لايجب عليه إتيان الظهر وإن كان الوقت باقياً ، لأنّ صلاة العصر صارت حائلاً بينه وبين الظهر فلايدع الحائل لما كان من الشكّ إلاّ بيقين.

٦. ما رواه عبيد بن زرارة ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إذا شككت في شيء من صلاتك وقد أخذت في مستأنف ، فليس بشيء ، إمض ». (٢)

الطائفة الثانية : ما ورد في المضي بعد الفراغ من العمل

٧. ما رواه محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك وذكرته تذكّراً فامضه ، ولا إعادة عليك فيه ». (٣)

٨. ما رواه محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو ». (٤)

والحديث وإن كان يعم الشكّ في الأثناء أيضاً كما سيوافيك في الرقم ١٧ ، ولكنّه في الشكّ في الفراغ عن الصلاة أظهر.

٩. صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في الرجل يشكّ بعد ما

____________

١. الوسائل : ٣ / ٢٠٥ ، الباب ٦٠ من أبواب المواقيت ، الحديث ٢.

٢. مستدرك الوسائل : ٦ / ٤١٧ ، الباب ٢٠ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٣. الوسائل : ١ / ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

٤. الوسائل : ٥ / ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٣.

٣٣٧

ينصرف من صلاته؟ قال : فقال : « لايعيد ، ولا شيء عليه ». (١)

١٠. صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولاتعد ». (٢)

الطائفة الثالثة : ما ورد في المضي في أثناء العمل

١١.روى زرارة بسند صحيح ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال : « يمضي » قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال : « يمضي ».

قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال : « يمضي ».

قلت : شكّ في القراءة وقد ركع؟ قال : « يمضي ».

قلت : شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال « يمضي على صلاته ».

ثمّ قال : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ». (٣)

والرواية وإن وردت في مورد الصلاة لكن المستفاد من مخاطبة الإمام لزرارة بقوله : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء » ، هو كونها ضابطة كلّية في مجالي العبادات والمعاملات.

١٢. صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء

__________________

١ و ٢. الوسائل : ٥ / ٣٤٢ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ١ و ٢.

٣. الوسائل : ٥ / ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١.

٣٣٨

شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». (١)

والمتبادر من الذيل الضابطة الكلّية من غير اختصاص بباب الصلاة فضلاً عن اختصاصها بالركوع والسجود وليس ظهور قوله عليه‌السلام : « وكلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه » بأقل من ظهور قوله : « لاتنقض اليقين بالشكّ » في ضرب القاعدة الكلية وإن كان مصدَّراً بالسؤال عن الوضوء.

١٣. رواية محمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام أنّه قال : « إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك ». (٢)

١٤. ما رواه حمّاد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ قال : « امض ». (٣)

١٥. ما رواه فضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : أستتمّ قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال : « بلى قد ركعت ، فامض في صلاتك ». (٤)

١٦. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال : « قد ركع ». (٥)

١٧. ما رواه محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو ». (٦)

__________________

١. الوسائل : ٤ / ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

٢. الوسائل : ٥ / ٣٤٣ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٣. الوسائل : ٤ / ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ١.

٤. الوسائل : ٤ / ٩٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

٥. الوسائل : ٤ / ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٦.

٦. الوسائل : ٥ / ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٣.

٣٣٩

١٨. دعائم الإسلام : عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنّه قال : « من شكّ في شيء من صلاته بعد أن خرج منه ، مضى في صلاته ، إذا شكّ في التكبير بعد ما ركع مضى ، وإن شكّ في الركوع بعد ما سجد مضى ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام أو جلس للتشهّد مضى ».

١٩. فقه الرضا عليه‌السلام : « وإن شككت في أذانك وقد أقمت الصلاة فامض ، وإن شككت في الإقامة بعد ما كبّرت فامض ، ( وإن شككت في القراءة بعد ما ركعت فامض ) (١) وإن شككت في الركوع بعد ما سجدت فامض ، وكلّ شيء تشكّ فيه وقد دخلت في حالة أُخرى فامض ، ولاتلتفت إلى الشكّ إلاّ أن تستيقن ، فانّك ( إذا استيقنت أنّك ) (٢) تركت الأذان ـ إلى أن قال : ـ وإن نسيت الحمد حتّى قرأت السورة ، ثمّ ذكرت قبل أن تركع ، فاقرأ الحمد وأعد (٣) السورة ، وإن ركعت فامض على حالتك ». (٤)

ج : ما ورد في باب الطواف

٢٠. ما رواه محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن رجل طاف بالبيت فلم يدر أستّة طاف أو سبعة ، طواف فريضة؟ قال : « فليعد طوافه » ، قيل : إنّه قد خرج وفاته ذلك؟ قال : « ليس عليه شيء ». (٥)

٢١. ما رواه منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن رجل طاف

__________________

١ و ٢. ما بين القوسين ليس في المصدر.

٣. في المصدر : عدا.

٤. انظر فيما نقلناه عن دعائم الإسلام وفقه الرضا ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٤١٧ ، الباب ٢٠ من أبواب الخلل ، الحديث ١ ـ ٢.

٥. الوسائل : ٩ / ٤٣٣ ، الباب ٣٣ من أبواب الطواف ، الحديث ١.

٣٤٠