إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

والفرق بين هذا البيان والبيانين المتقدمين ، هو انّ المحقّق الخراساني اعتمد على حكاية الأمارة عن الموضوع ولوازمه ، كما أنّ المحقق النائيني اعتمد على لسان حجية الأمارة وانّه عبارة عن إفاضة الطريقية وجعل الكاشفية ، وقد عرفت إشكال كلّ واحد منهما.

وأمّا هذا البيان فهو يعتمد على أنّ الأمارة مفيدة للوثوق والاطمئنان ، والمراد من الوثوق هو النوعي لا الشخصي ، والوثوق بالشيء موجب للوثوق بلوازمه وانّ عمل العقلاء لأجل هذا الملاك وانّ الشارع أمضى العمل بالأمارة لأجله أيضاً.

وهذا البيان لاغبار عليه ، وبذلك يتبيّن الفرق بين الأمارة والعمل بالأصل ، فانّ الاولى طريق إلى الواقع في ظرف الشك رافع له ، بخلاف الأصل فانّه حجّة في ظرف الشك مع التحفظ عليه كما هو ظاهر قوله : « لاتنقض اليقين بالشكّ » ، فيأمر بعدم نقض اليقين مع حفظ الشكّ.

المقام الرابع : مستثنيات الأُصول المثبتة

قد استثني من عدم حجّية الأُصول المثبتة موردان :

الأوّل : خفاء الواسطة

قد استثنى الشيخُ الأعظم من عدم حجّية الأُصول المثبتة خفاءَ الواسطة وقال : إنّ بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب والحكم الشرعي ، من الوسائط الخفية بحيث تعدُّ الأحكامُ الشرعية المترتبة عليها ، أحكاماً لنفس المستصحب عرفاً ، وهذا المعنى يختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الواسطة عن أنظار العرف ، ثمّ ضرب المثال التالي :

٢٠١

إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فيُحكم بنجاسته مع أنّ نجاسته ليس من أحكام رطوبة الملاقى المستصحبة ، بل من أحكام سراية النجاسة إليه وتأثره بها ، واستصحاب رطوبة النجس في الملاقى لايثبت تأثر الثوب وتنجسه بها ، وبالجملة فالمحرز بالاستصحاب هو الملاقاة بالنجس الرطب ، والموضوع للتنجيس سراية النجس ، والملازمة بين الملاقاة والسراية تكويناً ، صار سبباً لخفاء الواسطة والانتقال من الملاقاة إلى التنجيس.

يلاحظ عليه : بما مرّمن أنّ دور الاستصحاب ، دور إحراز الموضوع وإثبات الصغرى للكبرى الشرعية ، فلولا الكبرى الكلية لما ترتب على إحراز الصغرى أثر شرعي ، وعلى ذلك فلو كان الموضوع في الكبرى مجرد الملاقاة مع النجس الرطب فقد أُحرز الموضوع وترتب عليه الأثر وهو نجاسة الملاقي الجاف ، وأمّا ما لو كان الموضوع هو السراية والتأثر بها ، فلايحكم عليه لعدم إحراز الموضوع.

وبالجملة : ليس لخفاء الواسطة دور في المقام ، ولعلّ إلى ما ذكر يرجع ما أفاده المحقّق النائيني حيث يقول : إنّ استصحاب رطوبة النجس من أحد المتلاقيين مع جفاف الآخر لإثبات نجاسة الطاهر منها لايخلو إلاّ من صورتين :

١. إمّا أن يدل الدليل على كفاية مجرّد مماسّته للنجس الرطب في ثبوت النجاسة أو يدل على أنّه لابدّ من انتقال النجاسة إلى الطاهر.

فعلى الأوّل : يدخل المثال في باب الموضوعات المركبة المحرز بعض أجزائها بالوجدان كالملاقاة ، والآخر ( النجس الرطب ) بالأصل ، وعلى الثاني : لايكفي الاستصحاب ، لأنّ ذلك من اللوازم العقلية لبقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين فالواسطة جليّة ويكون من أردأ أنحاء الأصل المثبت. (١)

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

٢٠٢

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الموضوع هو الثاني ولكن يرى العرف ما ليس مصداقاً للدليل مصداقاً له لأجل وجود الملازمة العرفية بين الملاقاة والسراية والعرف كما هو مرجع في تحديد المفاهيم فهكذا مرجع في تحديد المصاديق.

الثاني : وجود الملازمة العرفية

قد استثنى المحقّق الخراساني ـ وراء خفاء الواسطة ـ مورداً آخر أيضاً وقال : كما ما لايبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لايمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب كما لاتفكيك بينهما واقعاً لأجل وضوح لزومه أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثراً لهما فانّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشك أيضاً حسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً. (١)

والأوّل كاستصحاب عدم الإتيان بالفريضة الملازم عرفاً لعنوان الفوت الذي هو الموضوع في لسان الدليل ، ولكن كما كان التفكيك بينهما غير ممكن يغني استصحاب العدم ، من إثبات عنوان الفوت.

والثاني كالأُبوة والبنوة المعلولين لعلة ثالثة ، وهي تخلّق أحدهما من ماء الآخر ، فانّ تنزيل أُبوة زيد لعمرو مثلاً يلازم تنزيل بنوة عمرو له ، فيدلّ تنزيل أحدهما على تنزيل الآخر كما هو كذلك في المتضائفين.

يلاحظ على القسم الثاني : بأنّه إذا كان أبوة زيد متيقنة في فترة من الزمان ، تكون بنوة عمرو أيضاً كذلك ، فكلّ منهما صالح للاستصحاب من دون حاجة لاستصحاب أحدهما لاثبات ملازمه وترتيب أثره ، على أنّ هذا المثال لايقبل الشك الاستصحابي وإن كان يقبل الشك الساري فلابدّ من تمثيل آخر.

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ٣٢٧.

٢٠٣

المقام الخامس في التطبيقات

أفتى الفقهاء في موارد بأحكام لاتصحّ إلاّ على القول بالأصل المثبت ، ولعلّ منشأ الإفتاء كون الاستصحاب عندهم حجّة ظنية كسائر الأمارات ، والظن بالشيء ظنّ بآثاره فرتبوا عليه كلّ الآثار الشرعية وغيرها ، وإليك بعضها :

الأوّل : إذا شكّ في وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة حين الاغتسال ، صحّ غسله ، لأنّ الأصل عدم المانع والحاجب من وصوله إليها.

أقول : إنّ هنا أُموراً ثلاثة :

١. المستصحب : وهو عدم الحاجب ، ٢. ولازمه العقلي : غسل البشرة ٣. أثره الشرعي : أي رفع الحدث ، والثالث متفرع على لازم المستصحب لا على نفسه فرتبوا أثر اللازم على المستصحب ولذلك قلنا في محله يجب على الشاك حين الاغتسال ، الفحصُ عن المانع ، فهذا الأصل أي استصحاب عدم المانع عقيم على مذهب المشهور لأنّه مثبت ، كما هو كذلك على المختار في باب الأصل الموضوعي فقد مرّ انّه لا دور له إلاّ إحراز الصغرى ولاينتج إلاّ بضم الكبرى وهي مفقودة ، إذ لم يدل دليل على أنّه إذا لم يكن الحاجب موجوداً ، فالحدث مرتفع بل الموجود إذا غسلت البشرة بعامتها فهو مرتفع.

الثاني : لو اتّفق الوارثان على إسلام أحدهما المعين في أوّل شعبان والآخر في غرة رمضان ، ولكن اختلفا في موت المورِّث ، فادّعى الأوّل انّه توفّي في منتصف شعبان حتى لايرثه الوارث الثاني لأنّ الكافر لايرث المسلم ، وادّعى الآخر انّه توفّي في منتصف رمضان حتى يرثه ، فذهب المحقّق وجماعة قبله وبعده إلى أنّهما يرثان لأصالة حياة المورث إلى غرّة رمضان.

٢٠٤

يلاحظ عليه : أنّه لايتم إلاّ على القول بالأصل المثبت ، لأنّ موضوع الوراثة أحد الأمرين التاليين :

أ : موت المورّث عن وارث مسلم.

ب : إسلام الوارث في حياة مورثه.

أمّا الأوّل : فهو موضوع مركب لايثبته مجرد حياة المورث إلى غرّة رمضان ، وإنّما هو حصيلة علوم ثلاثة :

١. إسلام الوارث في الغرّة ، وهو ثابت بالوجدان.

٢. حياة المورث إلى الغرّة ، وهو ثابت بالأصل.

٣. موت المورث بعدها وهو لازم الأمرين الأوّلين.

فباجتماع هذه الأُمور يحصل الموضوع أي موت المورث عن وارث مسلم فلايكفي الاستصحاب أي ثاني الأُمور في تحقّق ذلك الموضوع المركب.

وأمّا الموضوع الثاني ، فقد قال الشيخ والمحقّق النائيني بأنّ الأصل غير مثبت ، وأوضحه المحقّق النائيني بقوله : إنّ الموضوع هو التوارث الناشئ من اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث فيندرج في الموضوعات المركبة المحرز أحد جزئيهما بالوجدان ، وهو إسلام الوارث في غرّة رمضان ، والآخر بالأصل وهو حياة المورث إلى غرّة رمضان ، فيجتمعان في الزمان ، وهذا يكفي في التوارث ويلزم تنصيف المال بين الوارثين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ اجتماع الجزءين في الزمان غير كاف في تحقّق موضوع الدليل ، إذ ليس الدليل كلّ من الجزئين ولو كانا متفرقين ، بل الموضوع هو المركب

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٥٠١.

٢٠٥

منهما : أعني : إسلام الوارث مقروناً بحياة المورث ، وهو مركب من أُمور ثلاثة وهذا ليس له حالة سابقة ، والاقتران لازم الاستصحاب ، وهو استصحاب حياة المورث إلى غرّة رمضان.

وبعبارة أُخرى : لو كان لنا علم تكويني بالاقتران لكفى مجرد الاجتماع في الزمان في الحكم بالوراثة ولكنه لازم عقلي لبقاء حياة المورث إلى غرّة رمضان.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بخفاء الواسطة أو ظهور اللزوم مما يخرجه من عدم الحجّية إلى الحجّية.

الثالث : لو ادّعى الجاني انّ المجني عليه مات بمرض السِّل ، وادّعى الولي انّه مات بسراية الجناية إلى اعضائه الرئيسيّة ، فهناك احتمالان :

١. الضمان.

٢. عدم الضمان لأصالة عدم سبب آخر.

يلاحظ عليه : أنّ المرجع هو عدم الضمان ، وأمّا الضمان فهو فرع ثبوت الموضوع في لسان الدليل ، والموضوع هو القتل في الدية والقصاص ، قال سبحانه : ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَّةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا ) (١) ، وقال عزّ من قائل : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (٢) ومن المعلوم انّ ذلك الموضوع البسيط ، أي القتل لايثبت باستصحاب عدم سبب آخر ، لأنّه لازم عقلي لهذا الاستصحاب كما لايخفى.

الرابع : إذا تلف شيء تحت يد شخص آخر فادّعى المالك الضمان وانّه

__________________

١. النساء : ٩٢.

٢. الإسراء : ٣٣.

٢٠٦

استولى عليه بلا إذن ، وادعى الآخر انّه كان أمانة تحت يده فلاضمان ، وقد استدل على الضمان بوجوه ثلاثة :

الأوّل : التمسك بعموم قوله : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي ».

يلاحظ عليه : أنّه مخصص باليد غير العادية ، والتمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص غير صحيح.

الثاني : التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع ، لأنّ اليد مقتض للضمان ، والاذن مانع والأصل عدمه.

يلاحظ عليه : عدم الدليل على حجّية تلك القاعدة كما قرر في محله.

الثالث : ما ذكره المحقّق النائيني من أنّ الموضوع للضمان مركب من اليد وعدم إذن صاحب المال ، وهما عرضان لمحلين : أحدهما : صاحب اليد ، وثانيهما : صاحب المال ، ولاجامع بينهما إلاّ الاجتماع في الزمان فيكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان ، فاليد محرزة بالوجدان ، وعدم الإذن محرز بالأصل ، فيتحقق موضوع الضمان. (١)

يلاحظ عليه : ما ذكرناه في مسألة الوارث حيث إنّ الموضوع للضمان ليس ذات الأمرين بما هما هما ـ وإن لم يكن بينهما صلة ولاربط ـ بل الموضوع هو الاستيلاء على الشيء المقترن بعدم رضاه ، وهذا الأمر المركب ليست له حالة سابقة ، وإنّما هو لازم إحراز عدم الرضا بالأصل والاستيلاء بالوجدان في زمان واحد ، ولو كان كلّ من الجزءين محرزاً بالعلم فيكون الاقتران محرزاً كذلك ، وأمّا إذا كان أحد الجزءين ـ أي عدم الاذن ـ محرزاً بالأصل ، فالاقتران يكون لازماً

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ٥٠٣.

٢٠٧

عقليّاً له فلايكون حجّة ، وقد ذكرنا في مورده انّ الحكم الواحد يحتاج إلى موضوع واحد ولايكون المتكثران واحداً إلاّ إذا كان بينهما صلة وربط.

والذي يمكن أن يقال في أنّ صاحب اليد ضامن ، هو أن الحكم الطبيعي في الأموال هو الضمان ، والقول بعدم الضمان رهن الدليل وله نظائر في الفقه.

أ : الأصل في بيع الوقف هو البطلان ، ولايجري فيه أصالة الصحة ، والقائل بالصحة رهن إثبات مجوز له.

ب : الأصل في النظر إلى المرأة هو الحرمة ، فالمرأة المرددة بين الأجنبية وغيرها يحرم النظر إليها لهذا الأصل ، وإنّما الجواز رهن الدليل.

ج : إذا اتفقا على إذن المالك ، فقال صاحب المال : بعتك مالي بكذا ، وقال الآخر : وهبتني إياه ، فهو محكوم بالضمان لأنّ الأصل في الأموال الضمان.

وبذلك يظهر النظر فيما أفاده صاحب المصباح حتى أنّه بعد ما قال : فيتعارض عدم البيع مع عدم الهبة ، قال : بأنّ الأصل الجاري هو عدم الضمان ، فانّه غفلة عما ذكرناه من القاعدة في باب الأموال.

بقيت هناك أمثلة ذكرها الشيخ وغيره فلاحظ.

٢٠٨

تنبيهات

١٠

فيما خرج عن الأصل المثبت موضوعاً

قد عرفت ما استثناه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني من عدم حجّية الأُصول المثبتة وهو عبارة عن :

أ : خفاء الواسطة.

ب : وضوح اللزوم أو الملازمة. وقد وقفت على شرحهما.

وهذان الموردان استثناء من حكم الأُصول المثبتة دون الموضوع.

وهناك موارد أُخرى ربّما يتوهم أنّها من الأُصول المثبتة وليست منها موضوعاً ، وقد أوضح حالها المحقّق الخراساني في التنبيه الثامن والتاسع ، ولذلك كان عليه أن لايفصلهما عن البحوث السابقة لصلتهما بها ، وإليك ما أشار إليه في التنبيهين ونذكرها في مقاطع أربعة تبعاً لعبارات الكفاية ، وبذلك يدغم التاسع في الثامن ، ويكون الجميع تنبيهاً واحداً.

أ : استصحاب الفرد وترتيب الأثر الكلي عليه

إنّ الأثر تارة يترتب على نفس الفرد كإكرام زيد ، فإذا شك في بقائه يُستصحب ويترتب عليه حكمه ، وأُخرى يترتب عليه باعتبار انطباق عنوان كلي عليه على وجه يكون الموضوع للأثر هو الكلي ، لكن يُستصحب الفرد لغاية ترتيب

٢٠٩

أثر الكلي على الفرد ، وقد اختلفت فيه أنظارهم ، فمن قائل بعدم الصحة مطلقاً ، إلى آخر قائل بالصحة كذلك ، إلى ثالث مفصِّل حسب ما يأتي ، وهو خيرة المحقّق الخراساني.

وحاصل نظريته : أنّ الكلي إذا كان منتزعاً من حاق الذات ، أو كان حمله على الفرد من قبيل المحمول بالصميمة ( الخارج المحمول ) يصح استصحاب الفرد وترتيب أثر الكلي عليه ، دون ما إذا كان من قبيل المحمول بالضميمة فلايصحّ استصحاب الفرد وترتيب أثره عليه ، هذا إجمال مرامه في المقطع الأوّل وإليك توضيحه :

إنّ الكلي بالنسبة إلى الفرد أو ما ينتزع منه على أقسام ثلاثة :

١. ما ينتزع من مقام الذات بما هي هي ، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده.

٢. ما ينتزع من الشيء لا من حاق ذاته ، بل باعتبار طروء حالات عليه على نحو لايكون بحذائها شيء في الخارج ، وذلك كنسبة الممكن إلى زيد ، فهو ينتزع لا من مقام الجنس والفصل بل باعتبار انّ نسبة الماهية إلى الوجود والعدم سواسية ، ومع ذلك ليس في مقابل هذه الحيثية مصداق في الخارج. ولكن المحقّق الخراساني مثّل بالملكية والغصبية ، والمحقّق الخوئي بالزوجية والولاية وسيوافيك عدم صحّة تلك الأمثلة.

٣. ما ينتزع من الفرد باعتبار طروء حالات عليه يكون بحذائها شيء في الخارج وذلك كالأسود والأبيض اللّذين ينتزعان من الجسم باعتبار عروض البياض والسواد عليه اللّذين لهما حيثية عينية وحقيقة في الخارج وإن كان لايمكن الإشارة إلى الحيثية منفكة عن الإشارة إلى الجسم بل يكونان موجودين في ضمن شيء واحد.

٢١٠

إذا عرفت ذلك ، فقد قال المحقّق الخراساني بجريان الاستصحاب في الأوّلين دون الثالث.

أمّا الأوّل فلأنّ الطبيعي في الخارج عين الفرد فلا اثنينية بينهما في الخارج فاستصحاب بقاء زيد عين استصحاب بقاء الإنسان.

وأمّا الثاني فلأنّه لا وجود للكلي إلاّ بمنشأ انتزاعه ، فالفرد ـ وإن شئت قلت : منشأ الانتزاع ـ في الخارج نفس العنوان المنتزع الذي هو الموضوع للحكم فاستصحاب العين ( الذي ملكه أو غصبه عمرو ) كاف في استصحاب آثار الملكية والغصبية عليه ، ونظير ذلك استصحاب بقاء الولي والزوج فيترتب عليه بقاءً آثار الولاية والزوجية.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأوّلين.

وأمّا الثالث فلايصحّ استصحاب الفرد أي الجسم وإثبات عنوان الأسود وترتيب أثر الكلي على الفرد ، وذلك لأنّ نسبة الفرد إلى العنوان الكلي كنسبة المباين إلى المباين ، فهو أشبه باستصحاب الحياة وإثبات نبات اللحية.

هذا توضيح كلامه في المقطع الأوّل.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره في المقطع الثالث صحيح ، إنّما الكلام في جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين وترتيب الأثر الكلي على الفرد المستصحب ، وذلك أمّا لاحاجة إلى هذا الاستصحاب أو انّه مثبت.

أمّا الأوّل : فهو جارفي القسم الأوّل ، وذلك لأنّه إذا كان كل من الفرد والكلي مسبوقاً باليقين فيجري الاستصحاب في كل منهما مباشرة ولاحاجة إلى استصحاب الفرد لغاية إثبات أثر الكلي على الفرد إذ هو أمر لغو.

٢١١

وأمّا الثاني : فالضابطة صحيحة ، ولكن الإشكال في الأمثلة فانّ ما مثل به لهذا القسم من قبيل المحمول بالضميمة وليس من المحمول بالصميمة ، لما تبيّن في محله من أنّ الميزان في الخارج المحمول هو ما يكون وضع الموضوع كافياً في وضع المحمول كالإنسان بالنسبة إلى الممكن ، وليس المقام كذلك ، إذ ليس فرض الموضوع في الخارج كالفرس كافياً في انتزاع الملكية أو الغصبية ما لم تنضم إليه حيثية عقلائية ، وهي دخول الشيء في حيازته أو خروجه منها مع استيلاء الغير عليه.

ومن هنا يعلم أنّ الزوجية والولاية من قبيل المحمول بالضميمة ، لأنّ فرض الإنسان لايلازم فرض الزوجية والولاية. ومنشأ الخلط انّ المحقق الخراساني جعل الضابطة في الفرق بين القسمين الأخيرين وجودَ ما يحاذيه في الخارج وعدمه ، فجعل ما لايحاذيه من المحمول بالصميمة ، وما يحاذيه من المحمول بالضميمة ، مع أنّ المقياس ليس ذلك ، بل المقياس كفاية فرض الموضوع في وضع المحمول وعدمها.

هذا كلّه حول المقطع الأوّل ، وإليك الكلام في المقطع الثاني.

ب : لا فرق بين المجعول بنفسه أو بمنشأ انتزاعه

لا يشترط في الأثر أو المستصحب ـ إذا كان المستصحب حكماً شرعياً ـ أن يكون مجعولاً بنفسه ، بل يكفي كونه مجعولاً بمنشأ انتزاعه ، وعلى ذلك فالجزئية والشرطية والمانعية وإن كانت أُموراً انتزاعية عقلية لكنّها تنتزع من الحكم التكليفي بالشرط أو الجزء أو المانع ، فإذا قال سبحانه : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرافِقِ ) (١) ينتزع منه الشرطية ، فإذا قال النبي

__________________

١. المائدة : ٦.

٢١٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » ، أو قال : « يا علي لاتصلِّ في جلد ما لايشرب لبنه ، وما لايؤكل لحمه » (١) تنتزع منه الجزئيّة والمانعية.

وعلى ذلك فنفس هذه الأحكام يصحّ أن تقع مصبّاً للاستصحاب ، لأنّها أحكام شرعية بمعنى انّ وضعها ورفعها بيد الشارع ولو باعتبار منشأ انتزاعها ، كما يصحّ أن تقع أثراً للمستصحب كاستصحاب الجزء والشرط والمانع لغاية ترتب هذه الآثار : الجزئية ، الشرطية ، المانعية.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ استصحاب هذه العناوين كاستصحاب جزئية السورة وشرطية الشرط أو مانعية المانع في حال التعذر لاغبار عليه ، فتكون النتيجة كونها شرطاً أو جزءاً أو مانعاً مطلقاً في عامة الأحوال حتى حال التعذر فيسقط الأمر بالباقي ، إنّما الكلام في جريان استصحاب الفرد وترتيب أحد هذه الآثار عليه حيث قال : « فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية والمانعية بمثبت » ، لأنّ ما ذكره لايعود إلى معنى صحيح ، لأنّ استصحابهما بما هما شرط أو مانع عبارة أُخرى عن استصحاب نفس الشرطية والمانعية ، فلاحاجة إلى ذلك الاستصحاب مع جريانه مباشرة في الأثر المترتب عليه أي الشرطية والمانعية.

وثانياً : لاحاجة حتى إلى استصحاب هذه الأُمور ( الجزئية والشرطية والمانعية ) بعد إمكان جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية كاستصحاب وجوب الوضوء ووجوب السورة وحرمة لُبْس غير المأكول في الصلاة.

ج : عدم الفرق بين وجود الأثر وعدمه مستصحباً وأثراً

لا فرق بين كون المستصحب أو الأثر المترتب عليه بين أن يكون وجود

__________________

١. الوسائل : ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي ، الحديث ٦.

٢١٣

الحكم الشرعي أو عدمه فكلّ من وجود الحكم الشرعي وعدمه يصلح لأن يكون مستصحباً ، كما يصلح أن يكون أثراً مترتباً على الموضوع ، فكما أنّ نفس التكليف يقع مستصحباً أو أثراً مترتباً على المستصحب هكذا يكون عدم التكليف وعدم المنع من الفعل ، يقع مستصحباً وأثراً مترتباً على المستصحب وذلك لأنّ الحكم وجوداً وعدماً بيد الشارع.

ثمّ أشار إلى إشكال الشيخ على استصحاب البراءة عن التكليف ، وحاصل إشكاله عبارة عن : أنّ استصحابها إمّا أن يكون بلحاظ نفسه ، فالعدم ليس مما تقع عليه يد الجعل التشريعي ، وإمّا بلحاظ آثاره من الثواب والعقاب فهي من الآثار العقلية. (١)

وأجاب بوجهين :

الأوّل : انّا نختار الشقّ الأوّل ، وهو أنّ الاستصحاب بلحاظ نفسه ، وقد عرفت أنّ عدم المنع أيضاًحكم شرعي ولاحاجة في استصحاب الحكم الشرعي إلى ترتيب أثر آخر عليه حتى يقال انّ الثواب والعقاب من الأُمور التكوينية.

الثاني : انّا نختار الشق الثاني لكنّ الأثر العقلي أو العادي إنّما لايترتب إذا كان أثراً لوجود الشيء واقعاً أو لعدمه كذلك ، وأمّا الأثر المترتب على مطلق وجود الشيء أو عدمه ولو في الظاهر فيترتب عليه لكون الأثر لازم أعم وذلك كعدم العقاب فهو ليس من آثار عدم الحكم واقعاً ، بل يكفي في عدمه عدم الحكم ظاهراً لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ وجود الحكم واقعاً ـ مع عدم وصوله ـ لايكفي في ترتب الأثر أي العقاب ، بل عدم وصوله كاف في عدم صحة العقاب سواء أكان الحكم موجوداً في

__________________

١. الفرائد : ٢٠٤ طبعة رحمة الله بعد الفراغ من دليل العقل على البراءة.

٢١٤

الواقع أو لا ، وسيوافيك توضيحه في الاستثناء الآتي.

د : فيما يعد أثراً للوجود الأعم من الواقعي والظاهري (١)

ما ذكرنا من أنّه لايثبت بالاستصحاب الأثر العقلي والعادي ، فإنّما هو فيما إذا كان كلّ منهما من آثار وجود المستصحب واقعاً ، وأمّا إذا كان أحد ذينك الأثرين من آثار مطلق وجود المستصحب من غير فرق بين وجوده الواقعي أو التعبدي الظاهري ، فلاشك أنّه يترتب عليه وإن كان عقلياً أو عادياً وذلك في الأمثلة الآتية :

١. نظير ترتب الأجزاء على استصحاب طهارة الثوب في الصلاة وإن تبين بعد عدمها ، وذلك لما ثبت من محله من أنّ الشرط في حال الصلاة أعم من الطهارة الواقعية أو الظاهرية ، وعليه تكون الصلاة واجدة لشرطها واقعاً ، لأنّ الشرط أعم منهما ، فيترتب عليه الإجزاء ، لأنّه من الآثار العقلية التي ترتب على مطلق وجود الشيء ولو ظاهراً.

٢. وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة من أنّه يترتب على مطلق الحكم المحرز بدليل شرعي بإحراز الوجوب ولو بالاستصحاب فهو كاف في ترتب هذه الآثار.

٣. ما عرفت في الاستثناء الثالث من أنّ قبح العقوبة من الأحكام العقلية اللازمة لمطلق عدم المنع ولو ظاهراً.

إلى هنا تم ما رآه المحقّق الخراساني من التنبيه على الموارد التي توهم أنّها من الأصل المثبت وليس منها.

__________________

١. هذا العنوان ناظر إلى التنبيه التاسع.

٢١٥

التنبيهات

١١

في كفاية ترتب الأثر بقاءً

يشترط في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا أثر شرعيّ ، وهل يشترط أن يكون كذلك حدوثاً وبقاءً ، أو يكفي بقاءً؟ الظاهر هو الثاني ، لأنّ الاستصحاب نوع إعمال تعبّد من الشارع وهو رهن ترتب الأثر عليه وكونه مصوناً عن اللغو ، وفي مثل هذا يكفي كون المستصحب حكماً شرعياً بقاءً لاحدوثاً ، أو ذا أثر شرعي كذلك.

فالأوّل : نظير استصحاب عدم التكليف ، فانّه ليس مجعولاً شرعياً من الأزل إلاّ انّه حكم مجعول فيما لايزال ، لما عرفت من أنّ عدم التكليف بقاء مجعول شرعاً.

والثاني : نظير استصحاب حياة الولد الصغير ، فانّه ربّما لايترتب عليه الأثر المخصوص ، أعني : وراثته من أبيه في حياة أبيه إلاّ شأناً ، فإذا تُوفي الأب تستصحب حياة الولد ، ليرثه فعلاً.

والوجه في الجميع واضح ، لأنّ صحة الاستصحاب رهن ترتب الأثر ليصون فعل العاقل عن اللغو ، ويكفي في ذلك مطلق الأثر ولو بقاءً فقط ، وقد أوضحنا حال المثال الأوّل وقلنا إنّه لايخلو من إشكال من وجهين :

١. عدم وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة كما في مثال عدم القرشية ، فانّ

٢١٦

المتيقّن منه هو القضية بصورة السالبة بانتفاء الموضوع ، والمشكوك هو السالبة بانتفاء المحمول.

٢. عدم كونه مصداقاً لنقض اليقين بالشك عرفاً ، فلو لم يُحكم على المرأة المردّدة بين القرشية وغيرها ، بعدم القرشية ، لايقال انّه نقض يقينه بالشك.

٢١٧

التنبيهات

١٢

في تأخّر الحادث

إذا حصل اليقين بوجود الشيء ثمّ طرأ الشك في بقائه فالمحكَّم هو استصحاب بقائه ، كما أنّه إذا حصل اليقين بعدم الشيء ثمّ طرأ الشكّ في انقلابه إلى الوجود فالمحكّم هو استصحاب عدمه ، وأمّا إذا كان وجود الشيء محققاً وكان الكلام في تقدّمه وتأخّره فهنا مقامان :

الأوّل : فيما إذا قيس تقدّم الشيء الموجود أو تأخّره إلى أجزاء الزمان ، كما إذا مات زيد قطعاً وشك في تحقّقه يوم الخميس أو يوم الجمعة. (١)

الثاني : إذا قيس وجود الحادث بالنسبة إلى حادث آخر ، كما إذا علم بموت المتوارثين وشك في المتقدّم والمتأخر منهما ، وله أقسام ستوافيك. وإليك الكلام في المقام الأوّل :

المقام الأوّل : في القياس إلى أجزاء الزمان

إذا علمنا بموت زيد يوم الخميس ، أو يوم الجمعة ، فهنا موضوعات ثلاثة :

١. عدم موته إلى يوم الجمعة.

__________________

١. أو إذا علم بحدوث الكرّية إمّا يوم الخميس أويوم الجمعة ، وافترضنا غسل ثوب نجس فيه يوم الخميس ، فعلى الأوّل يحكم عليه بالطهارة ، دون الثاني.

٢١٨

٢. تأخّر موته عن الخميس.

٣. حدوث موته يوم الجمعة.

فبما أنّ المستصحب هو بقاء حياته ، أو عدم موته إلى يوم الجمعة ، فتترتب عليه آثار عدم موته أو حياته إلى ذاك الزمان ، ولايثبت به الموضوعان الآخران ، لأنّهما لازمان عقليان للمستصحب ، لأنّه إذا كان حيّاً إلى فجر يوم الجمعة بحكم الاستصحاب ، وعلمنا بموته قطعاً في أحد اليومين يحكم عليه عقلاً بـ :

تأخر موته عن الخميس.

حدوث موته في الجمعة.

وبما انّهما من الآثار العقلية للمستصحب فلايثبتان به ، وبالتالي لاتترتب عليه الآثار المترتبة على ذينك الموضوعين ، كما إذا نذر إعطاء درهم إذا تأخر موته عن الخميس أوحدوثه يوم الجمعة.

نعم يمكن تصحيح الأوّل ( إثبات تأخّر موته عن الخميس وترتيب أثره عليه ) بالوجهين التاليين :

١. خفاء الواسطة وانّ الأثر المترتب عليها في نظر العرف يترتب على نفس المستصحب.

٢. دعوى الملازمة بين التنزيلين ، وأنّ التعبّد بعدم موته إلى يوم الجمعة يلازم عرفاً بالتعبد بتأخر موته عن الخميس أو حدوثه في الجمعة. فلايصحّ التعبّد بأحد التنزيلين دون التعبّد بالآخر.

وأمّا الثاني ( حدوث موته ) فيمكن تصحيحه بالوجه التالي :

٣. انّ الحدوث ليس أمراً منتزعاً من الوجود المسبوق بالعدم حتّى يكون

٢١٩

لازماً عقلياً للأمرين ، بل هو أمر مركب من أمرين : أحدهما محرز بالأصل ، وهو عدم موته إلى يوم الخميس ، والآخر بالوجدان.

ولكن المساعدة مع هذه الوجوه أمر مشكل كما لايخفى.

المقام الثاني : في القياس إلى حادث آخر

إذا علمنا بحدوث حادث لكن شككنا في سبقه أو لحوقه أو تقارنه بحادث آخر ، فهو على قسمين :

فتارة يكون كلّ واحد من الحادثين مجهول التاريخ ، وأُخرى أن يكون أحدهما مجهولاً والآخر معلوماً ، فهاهنا موضعان من البحث.

٢٢٠