نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ومنها : إنّ علي بن المديني كذّب حديثه ، قال ابن حجر : « قال عبد الله بن علي بن المديني : سمعت أبي ـ وسئل عن حديث رواه بندار ، عن ابن مهدي ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم عمن روى ـ عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال تسحّروا فإن في السحور بركة ـ فقال : هذا كذب ، وأنكره أشدّ الإنكار وقال حدثني أبو داود موقوفا ».

ومنها : إنّ يحيى بن معين كان لا يعبأ به ويستضعفه ، قال الذهبي : « قال عبد الله بن الدورقي : كنّا عند ابن معين فجرى ذكر بندار فرأيت يحيى بن معين لا يعبأ به ويستضعفه » (١).

ومنها : إنّ القواريري كان لا يرضاه وقال : كان صاحب حمام ... قال الذهبي : « قال عبد الله بن الدورقي : كنا عند يحيى بن معين فجرى ذكر بندار ، فرأيت يحيى لا يعبأ به ويستضعفه ، ورأيت القواريري لا يرضاه وقال : كان صاحب حمام » (٢).

وكذا بترجمته من ( تهذيب التهذيب ).

ولقد بلغ حال بندار في الضعف والقدح حدّا جعل الأدفوي رواية الشيخين عن بندار من وجوه الجرح في صحيحهما حيث قال ( الامتاع في أحكام السّماع ) : « ووراء هذا بحث آخر وهو : إنّ قول الشيخ أبي عمرو بن الصلاح : إنّ الأمّة تلقّت الكتابين بالقبول ، إن أراد كلّ الأمة فلا يخفى فساد ذلك ، إذ الكتابان إنّما صنّفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة المذاهب المتّبعة ورؤس حفاظ الأخبار ونقّاد الآثار ، المتكلّمين في الطّرق والرّجال ، المميّزين بين الصحيح والسّقيم.

وإن أراد بالأمة الذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الأمة ، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره من تلقي الأمة وثبوت العصمة لهم ، والظاهرية إنّما يعتنون

__________________

(١) المغني في الضعفاء ٢ / ٥٥٩.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ٤٩٠.

٣٢١

بإجماع الصّحابة خاصة ، والشيعة لا تعتد بالكتابين وطعنت فيهما ، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع وانعقاده.

ثمّ إن أراد كلّ حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافة فغير مستقيم ، قد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما ، فتكلّم الدار قطني في أحاديث وعلّلها ، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الإسراء قال إنه خلط ، ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينهما ، والقطع لا يقع التعارض فيه.

وقد اتّفق البخاري ومسلم على إخراج حديث محمد بن بشار بندار ، وأكثرا من الاحتجاج بحديثه ، وتكلّم فيه غير واحد من الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل ، ونسب إلى الكذب ، وحلف عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري أنّ بندارا يكذب في حديثه عن يحيى ، وتكلّم فيه أبو موسى ، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السحور : هذا كذب. وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه وكان القواريري لا يرضاه ».

وأمّا الطريق الخامس عند البخاري الذي أخرجه في كتاب المغازي أيضا فمداره على « أبو قالبة » و « خالد الحذاء ». وقد عرفت أنّهما مجروحان ومقدوحان ...

وأمّا الطريق السادس عند البخاري الذي أخرجه في كتاب أخبار الآحاد فمداره على « أبو إسحاق السبيعي ». وقد عرفت أنه مقدوح.

وأمّا الطريق السابع عند البخاري الذي أخرجه في كتاب أخبار الآحاد كذلك ، فمداره على « أبو قلابة » و « خالد الحذاء ». وقد عرفت أنّهما مقدوحان ومجروحان.

وأمّا طرق مسلم ، فالطريق الأول منها مداره على « أبي قلابة » و « خالد الحذاء ». وقد سبق قدحهما بالتفصيل.

* وفيه « إسماعيل بن علية » ، وهو أيضا لا يخلو عن قدح ، قال الذهبي :

٣٢٢

« سهل بن شادويه ، سمعت علي بن خشرم يقول : قلت لوكيع : رأيت ابن علية يشرب النبيذ حتى يحمل على الحمار يحتاج من يردّه إلى منزله. قال وكيع : إذا رأيت البصري يشرب فاتّهمه. قلت : وكيف؟ قال : الكوفي يشربه تديّنا والبصري يتركه تديّنا.

قال عفان : ثنا حماد بن سلمة : ما كنا نشبّه شمائل ابن عليه إلاّ بشمائل يونس بن عبيد حتى دخل فيما دخل فيه. وقال مرّة : حتى أحدث ما أحدث » (١).

وأمّا الطريق الثاني عند مسلم فمداره على « ثابت البناني » وقدح فيه بالاختلاط ، قال ابن حجر : « وفي سؤالات أبي جعفر محمد بن الحسين البغدادي لأحمد بن حنبل : سئل أبو عبد الله عن ثابت وحميد أيّهما أثبت في أنس؟ فقال قال يحيى القطان : ثابت اختلط ، وحميد أثبت في أنس منه » (٢).

* وفيه « حمّاد بن سلمة » وهو كذلك ، قال ابن حجر : « حماد بن سلمة بن دينار البصري ، أبو سلمة ، ثقة عابد ، أثبت الناس في ثابت ، وتغيّر حفظه بآخره ، من كبار الثامنة ، مات سنة ٦٧ » (٣) وفي ( الكاشف ) : « هو ثقة صدوق يغلط وليس في قوة مالك » وفي ( الموضوعات لابن الجوزي ) في حديث فيه حماد بن سلمة : « هذا حديث لا يثبت. قال ابن عدي الحافظ : كان ابن أبي العوجاء ربيب حماد بن سلمة وكان يدسّ في كتبه الأحاديث ».

* وفيه « عمرو الناقد » قال ابن حجر : « وأنكر علي بن المديني عليه روايته عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود : إن ثقفيّا وقرشيا وأنصاريا عند أستار الكعبة. الحديث. وقال : هذا كذب لم يرو هذا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح. قال الخطيب : والأصح أن حجّاجا سأل أحمد

__________________

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٢١٩.

(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٣.

(٣) تقريب التهذيب ١ / ١٩٧.

٣٢٣

عنه فقال أحمد ذلك » (١).

وأمّا الطريق الثالث عند مسلم فإنّ مداره على « أبي إسحاق السبيعي » وقد تقدم القدح فيه بالتفصيل قريبا.

* وفيه : « محمد بن جعفر غندر » وقد تقدم قدحه أيضا.

* وفيه : « محمد بن بشار بندار » وقد تقدم قدحه ايضا.

وأمّا الطريق الرابع عند مسلم فمداره على « أبو إسحاق السبيعي » المذكور قدحه سابقا.

أقول :

وإذا عرفت القدح والجرح في طرق البخاري ومسلم التي هي أحسن طرق هذا الحديث في فضل أبي عبيدة ، فلا حاجة إلى الخوض في بيان بطلان أسانيد الترمذي ، فإن تلك الأسانيد مشتملة على بعض هؤلاء الرجال المقدوحين ، كما لا تخفى على من راجعها.

حديث أمانة أبي عبيدة بلفظ آخر وقدح الحفاظ فيه

ثم إنّ بعض رواة أهل السنة رووا حديث أمانة أبي عبيدة بلفظ وسياق آخر ، لكنه قد بلغ من البطلان حدّا التجأ الحافظ الذهبي ، والحافظ العسقلاني ، إلى الاعتراف ببطلانه. قال الذهبي : « الحسين بن محمد بن عباد. بغدادي لا يعرف. روى البزار عنه عن محمد بن يزيد بن سنان ، ثنا كوثر بن حكيم ، عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ أمين هذه الأمة أبو عبيدة ، وإن حبر هذه الأمة ابن عباس. وهذا باطل » (٢).

وقال ابن حجر العسقلاني : « الحسين بن محمد بن عباد بغدادي لا يعرف ،

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٨ / ٨٥.

(٢) ميزان الاعتدال ١ / ٥٤٦.

٣٢٤

روى البزار عنه ... هذا باطل. وهذا لا ذنب فيه لشيخ البزار ، والحمل فيه على كوثر بن حكيم فانه متهم بالكذب وسيأتي » (١).

الوجه الثالث : بطلان الحديث معنى

وبالإضافة إلى بطلان حديث أمانة أبي عبيدة سندا ، فإنّ هذا الحديث موضوع باطل معنى ، لأمور نذكرها فيما يلي باختصار :

١ ـ خيانة أبي عبيدة في كتمان خبر عزل خالد

لو كان أبو عبيدة أمينا لما كتم خبر عزل خالد بن الوليد عن أمارة جيوش المسلمين في فتح الشّام ، وقد ذكر المؤرّخون الأثبات أنّ عمرا قد كتب إلى أب المسلمين في فتح الشّام ، وقد ذكر المؤرّخون الأثبات أنّ عمر قد كتب إلى أبي عبيدة بولاية الشّام وأمارة جيوش للمسلمين وعزل خلاد عن ذلك ، فكتم أبو سمرته إلى البياض وغضب ... وقد ذكر الواقدي الخبر بالتفصيل في كتاب ( فتوح الشام ).

اعتذار الطبري وردّه

وبالرّغم من أنّه لم يكن لأبي عبيدة في كتم الخبر عذر إلاّ الضّعف واللين والخيانة والاستهانة بدماء المسلمين وأموالهم وأمورهم ، فقد حاول رواة أهل السنة وعلماؤهم أن يعتذروا له ، فذكروا لهذا الأمر أعذارا شتّى ، فجعل الطبري عذره

__________________

(١) لسان الميزان ٢ / ٣٠٩.

٣٢٥

الاستحياء حيث قال :

« ثم ساروا إلى دمشق وخالد على مقدمة الناس وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له ياهان بدمشق ، وقد كان عمر عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس ، فالتقى المسلمون والروم فيما حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم هزم الله الروم وأصاب منهم المسلمون ، ودخلت الروم دمشق فغلّقوا أبوابها ، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت دمشق وأعطوا الجزية. وقد قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمارته وعزل خالد ، فاستحيى أبو عبيدة أن يقرئ خالدا الكتاب حتى فتحت دمشق ، وجرى الصلح على يدي خالد وكتب الكتاب باسمه » (١).

ولكنّ هذا العذر غير مقبول ، إذ لا مجال للحياء في إنفاذ الأمور الدّينية ولا سيّما الأمارة ونحوها ، على أن كتاب عمر إلى أبي عبيدة ينادي ببطلان هذا العذر ، حيث كتب له ـ كما في ( فتوح الشام للواقدي ) : « بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله أمير المؤمنين وأجير المسلمين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح ـ سلام عليكم ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو ، وأصلّي على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقد وليّتك على أمور المسلمين ، فلا تستحي فإنّ الله لا يستحي من الحقّ شيئا ».

اعتذار سبط ابن الجوزي ووجوه ردّه

واعتذر له سبط ابن الجوزي بأنه قد كتم الحال حياء من خالد وخوفا من اضطراب الأمور ، حيث قال في ( مرآة الزّمان ) : « فكتب عمر إلى أبي عبيدة : سلام عليك ، أما بعد فإنّي قد عزلت خالدا عن جند الشام وولّيتك أمرهم ، فقم به. والسلام. فوصل الكتاب إلى أبي عبيدة ، فكتم الحال حياء من خالد وخوفا من

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٤٣٥.

٣٢٦

اضطراب الأمور ، ولم يوقفه على الكتاب حتى فتحت دمشق وكان خالد على عادته في الإمرة وأبو عبيدة يصلّي خلفه ».

وهذا العذر غير مقبول كذلك لوجوه :

( الأول ) : لو كان هناك خوف من اضطراب أمر المسلمين لما صدر هذا الأمر من عمر ، إذ لا يشكّ أهل السّنة في بصيرة عمر بأمور الرّعية وإدارة الدولة ، بل ظاهر كلماتهم تقدّمه على أبي بكر في هذا الشأن.

( الثاني ) : لو كان الخوف من اضطراب الأمور هو العذر الحقيقي لأبي عبيدة ـ في كتم الحال عن خالد ـ لما غضب عمر من ذلك ، بل كان يستحسن ذلك من أبي عبيدة ويشكره عليه ، وقد ذكر الواقدي أن عمر قال : « يا ابن قرط : ما علم المسلمون بموت أبي بكر الصديق ولا بولايتي عليهم أبا عبيدة؟ قال : لا ، فغضب وجمع الناس إليه وقام على المنبر ... ».

( الثالث ) : إنّه لو فرض بأنّ غضب عمر كان على عادته في الغلظة والفظاظة ، وأنه لو كان قد علم بهذا العذر من أبي عبيدة لما غضب ، لكان على عبد الله بن قرط أن يخبر عمر بواقع العذر ليمنعه عن هذا الغضب ، ولكنّا لم نجد لذلك أثرا في التّاريخ ، وذلك دليل على بطلان هذا الاعتذار.

( الرابع ) : أنّه لو سلّم هذا العذر باعتبار أنّ الظروف لم تكن مساعدة للإخبار بالعزل والمسلمون محاصرون لدمشق ، فلو أخبر احتمل اضطراب أمورهم وضعف عزائمهم ... فإنه لا محال لهذا العذر في كتم الكتاب الثاني الذي أرسله عمر بعد فتح دمشق ، ولكنّ أبا عبيدة كتم الحال عن خالد ، حتى كتب خالد بفتح الشام وما جرى من الأمور باسم أبي بكر ، وأرسل الكتاب على يد عبد الله بن قرط الذي حمل الكتاب الأول من عمر إلى أبي عبيدة ، ومن هنا لما وجد عمر الكتاب باسم أبي بكر خاطب عبد الله بقوله : « يا ابن قرط ... » وغضب من ذلك غضبا شديدا ...

فظهر بطلان هذا العذر أيضا كسابقه ...

٣٢٧

فإن قيل : إن عمرو إن كتب إلى أبي عبيدة بأمارة الجيوش وعزل خالد عنها ، لكنّه لم يعلم أبا عبيدة سبب عزل خالد وهو ارتكابه القبائح وصدور الفسوق منه ، وإلاّ لما توانى أبو عبيدة في إطاعة الأمر وامتثاله.

قلنا : إنّ هذا ايضا لا يكون عذرا لأبي عبيدة كذلك.

أمّا أولا فلأنّ التفريط في أوامر الخليفة والتأخير في امتثالها ـ ولا سيّما مثل هذا الأمر ـ غير جائز ، والجهل بسبب النصب والعزل لا يجوّر ذلك.

وأمّا ثانيا فلأن عمر قد أعلم أبا عبيدة بسبب عزل خالد كما في ( الطبري ) و ( الكامل ) و ( مرآة الزمان ) و ( تاريخ ابن كثير ) قال الطبري : « وأما ابن إسحاق فإنه قال في أمر خالد وعزل عمر إيّاه ما : ثنا محمد بن حميد قال : ثنا سلمة عنه قال : إنّما نزع عمر خالدا في كلام كان خالد تكلّم به فيما يزعمون ، ولم يزل عمر عليه ساخطا ولأمره كارها في زمان أبي بكر ، كلّمه لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل به في حربه ، فلما استخلف عمر كان أول ما تكلّم به عزله ، فقال : لا يلي لي عملا أبدا. فكتب إلى أبي عبيدة : إن خالد أكذب نفسه فهو أمير على ما هو عليه ، وإن هو لم يكذّب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه ، ثم انزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين » (١).

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الواقدي لم يذكر النّص الكامل للكتاب الأوّل الذي أرسله عمر إلى أبي عبيدة ...

٢ ـ مخالفة أخرى لأبي عبيدة في باب كتمان عزل خالد

ولأبي عبيدة في قضيّة عزل خالد بن الوليد مخالفة صريحة لحكم عمر بن الخطاب ، توجب القدح في أمانته وديانته ، وإليك تفصيل القضيّة من الطبري :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٦٦.

٣٢٨

« وفي هذه السنة ( سنة ١٧ ) أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم في رواية سيف عن شيوخه. ذكر ذلك : كتب إليّ السري : عن شعيب عن سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة والمهلّب ، قالوا : وأدرب سنة ١٧ خالد وعياض ، فسارا فأصابا أموالا عظيمة ، وكانا توجّها من الجابية ، فرجع عمر إلى المدينة وعلى حمص أبو عبيدة ، وخالد تحت يديه على قنّسرين ، وعلى دمشق يزيد بن أبي سفيان ، وعلى الأردن معاوية ، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز ، وعلى الاهراء عمرو بن عبسة ، وعلى السّواحل عبد الله بن قيس ، وعلى كلّ عمل عامل ، فقامت مسالح الشام ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمّة إلى أخرى عملها ، بعد إلاّ أن يفحموا عليهم بعد كفرهم منهم فيقدموا مسالحهم بعد ذلك ، فاعتدل ذلك سنة ١٧.

كتب إليّ السري : عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع وأبي حارثة قالوا : ولمّا قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائفة انتجعه رجال ، فانتجع خالدا رجال من أهل الآفاق ، فكان الأشعث بن قيس ممّن انتجع خالدا بقنسرين فأجازه بعشرة آلاف ، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله ، وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته ، حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث ، أمن ماله؟ أمن إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بخيانة ، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. واعزله على كلّ حال واضمم إليك عمله.

فكتب أبو عبيدة إلى خالد ، فقدم عليه ، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر ، فقام البريد فقال : يا خالد أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه ، حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا. فقام بلال إليه فقال : إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال : ما تقول أمن مالك أم من إصابة؟ قال : لا ، بل من مالي ، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده ثم قال : نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.

قالوا : وأقام خالد متحيّرا لا يدري أمعزول أم غير معزول؟ وجعل أبو

٣٢٩

عبيدة لا يخبره ، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ للذي قد كان ، فكتب إليه بالإقبال ، فأتى خالد أبا عبيدة فقال : رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت!! كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم.

فقال أبو عبيدة : إني والله ما كنت لأروّعك ما وجدت لذلك بدّا ، وقد علمت أنّ ذلك يروّعك. قال : فرجع خالد إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودّعهم وتحمل ، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودّعهم ، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر فشكاه وقال : لقد شكوتك إلى المسلمين ، وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر.

فقال عمر : من أين هذا الثراء؟ قال : من الأنفال والسهمان ما زاد على الستين ألفا فلك. فقوّم عمر عروضه ، فخرجت إليه عشرون ألفا فأدخلها بيت المال. ثم قال : يا خالد والله إنك عليّ لكريم وإنك إليّ لحبيب ، ولن تأتيني بعد اليوم على شيء » (١).

وقد رواه عز الدين ابن الأثير في تاريخه كذلك (٢).

٣ ـ تهاون أبي عبيدة في إجراء الحدّ الشرعي وهو خيانة عظيمة

وممّا ينافي الأمانة ويؤكّد وضع الحديث الموضوع في أمانة أبي عبيدة : تهاونه في إجراء حدّ شرب الخمر في أبي جندل وصاحبيه ، فإن التهاون تجاه الحدود الإلهيّة خيانة كبيرة وذنب عظيم. قال ابن عبد البر بترجمة أبي جندل : « وذكر عبد الرزاق عن ابن جريح قال : أخبرت أن أبا عبيدة بالشّام وجد أبا جندل بن سهيل وضرار ابن الخطاب وأبا الأزور ـ وهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ قد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٦٦.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ / ٥٣٥.

٣٣٠

شربوا الخمر. فقال أبو جندل : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) الآية كلها. فكتب أبو عبيدة إلى عمر : إن أبا جندل خصمني بهذه الآية. فكتب عمر : إن الذي زيّن لأبي جندل الخطيئة زيّن الخصومة ، فأحددهم.

قال أبو الأزور : أتحدّوننا؟ قال أبو عبيدة : نعم. قال : فدعونا نلقى العدوّ غدا ، فإن قتلنا فذاك وإن رجعنا إليكم فحدّونا. فلقى أبو جندل وضرار وابو الأزور العدو فاستشهد أبو الأزور وحدّ الآخران » (١).

ورواه ابن حجر العسقلاني بترجمة أبي الأزور (٢) ، وابن الأثير بترجمة أبي جندل (٣) والطبري في حوادث سنة ١٨ (٤) والمتقي عن عروة بن الزبير (٥).

٤ ـ رأي أبي عبيدة في أهل حمص ينافي الأمانة والديانة

وذكر المؤرخون : إن أبا عبيدة صالح أهل حمص على أن لا يخرجهم من ديارهم ، ثم ارتأى نقض العهد معهم وإخراجهم ، إلاّ أن أصحابه منعوه من ذلك. فقد جاء في كتاب ( فتوح الشام ) تحت عنوان جمع الروم للمسلمين بعد أن أخرجهم المسلمون من الشام :

« فلما جاء أبا عبيدة خبرهم وعددهم وكثرتهم وما أقبلوا به من غيرهم ممن كان على دينهم وطاعتهم من الجنود ، رأى ألاّ يكتم ذلك المسلمين ، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأي جماعتهم ، فدعا رؤس المسلمين وذوي الهيئة والصّلاح منهم ، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه ثم قال :

__________________

(١) الاستيعاب ٤ / ١٦٢٢.

(٢) الاصابة ٤ / ٥.

(٣) اسد الغابة ٥ / ١٦٠.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ٩٧.

(٥) كنز العمال ٥ / ٥٠٠.

٣٣١

أمّا بعد فإنّ الله عزّ وجل وله الحمد قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء عندكم ، وصدقكم الوعد وأعزّكم بالنصر ، وأراكم في كلّ موطن ما تسرّون به ، وقد سار إليكم عدوّكم من المشركين بعدد كثير ، ونفروا إليكم فيما حدثني عيون نفير الروم الأعظم ، فجاءوكم برّا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية ، ثم قد وجّه إليكم ثلاثة عساكر في كلّ عسكر منها ما لا يحصيه إلاّ الله من البشر ، وقد أحببت ألاّ أغرّكم من أنفسكم وأن لا أطوي عنكم خبر عدوّكم ، ثم تشيرون عليّ برأيكم وأشير عليكم برأي ، فإنّما أنا كأحدكم.

فقام يزيد بن أبي سفيان فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه ثم قال له : نعم ما رأيت رحمك الله ، إذ لم تكتم عنّا ما أتاك من عدوّنا وأنا مشير عليك ، فإن كان صوابا فذاك ما نويت ، وإن لم يكن الرأي غير ما أشير به فإنّي لا اعتمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن تعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين ، وتدخل النساء والأبناء والأولاد داخل المدينة ثم تجعل المدينة في ظهورنا ، ثم تبعث إلى خالد بن الوليد فيقدم عليك من دمشق ، وتبعث إلى عمرو ابن العاص فيقدم عليك من الأردن وأرض فلسطين ، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين.

وقام شرحبيل بن حسنة ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه ثم قال : أمّا بعد فإنّ هذا مقام لا بدّ فيه من النصيحة للمسلمين ، وإن خالف الرجل منّا أخاه فإنما على كلّ امرئ منّا أن يجهد نفسه ورأيه للمسلمين في النصيحة ، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد وهو ـ والله ـ عندي من الناصحين لجماعة المسلمين ، ولكن لا أجد بدّا من أن أشير عليكم بما أظنّه خيرا للمسلمين ، إني لا أرى أن تدخل ذراري المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدوّنا هذا الذي أقبل إلينا من المشركين ، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا ، فيتقرّبون بهم إلى عدونا.

فقال له أبو عبيدة : إنّ الله قد أذلّهم لكم ، وسلطانكم أحبّ إليهم من

٣٣٢

سلطان عدوّكم ، وأما إذ ذكرت ما ذكرت وخوّفتنا ما خوفتنا ، فإني أخرج أهل المدينة منها وأنزلها عيالنا ، وأدخل رجالا من المسلمين فيقومون على سورها وأبوابها ، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا.

فقال له شرحبيل : إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم عليها وعلى أموالهم ألاّ نخرجهم منها ».

ومن رواة الخبر أيضا : صاحب كتاب ( روضة الصفا ) والمحدّث الشيرازي في ( روضة الأحباب ).

٥ ـ ما كان بين أبي عبيدة والروم في قصّة التمثال

وجوّز أبو عبيدة أن يصنع تمثال منه وتفقأ عين التمثال إرضاء للكفّار في مقابل أنّ بعض المسلمين فقأ عين تمثال ملكهم من غير عمد ، فقد روى الواقدي :

« عن ملتمس بن عامر قال : كنّا في بعض الغارات إذ نظرت إلى العمود عليه صورة الملك هرقل ، فعجبنا منه ، وجعلنا نحوم حوله ونحن نلعب بخيولنا ونعلّمها الكرّ والفرّ ، وكان بيد أبي جندلة قناة تامّة ، فقرّب به فرسه من الصورة وهو لا يريد ذلك ، وهو غير متعمّد ، ففقأ عين الصّورة. وكان قوم من الروم من غلمان صاحب قنّسرين يحفظون المدد ، فرجع بعضهم إلى البطريق وحدّثه بذلك ، فدفع صليبا من الذهب إلى بعض أصحابه ، وسلّم إليه مائة فارس من أعلام الروم عليهم الديباج ، وفي أوساطهم المناطق المزخرفة ، وأمر إصطخر أن يصير معهم ، وقال له : إرجع إلى أمير العرب وقل له : غدرتم بنا ، ولم تفوا بذمّتكم ، ومن غدر خذل.

فأخذ إصطخر الصليب وسار مع المائة ، حتى أشرف على أبي عبيدة ، فلمّا نظر المسلمون إلى الصليب وهو مرفوع ، أسرعوا إليه ونكسوه ، ووثب أبو عبيدة

٣٣٣

واستقبلهم وقال : من أنتم؟ قال إصطخر : أنا رسول إليك من صاحب قنسرين ، وقد غدرتم ونقضتم. قال أبو عبيدة : وما سبب نقضنا لصلحكم؟ ومن نقض؟ قال : نقضه الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة : وحقّ رسول الله ما علمت بذلك ، وسوف أسأل عن ذلك.

قال : ثم نادى أبو عبيدة في العرب : يا معاشر العرب ، من فقأ عين التمثال فليخبرنا عن ذلك! قال أبو جندلة بن سهيل بن عمرو : أنا فعلت ذلك من غير تعمد. فما الذي يرضيك منا؟ قالت الأعلاج : لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم ـ يريدون بذلك لينظروا إلى وفاء ذمة المسلمين ـ. فقال أبو عبيدة : فها أنا ، اصنعوا بي مثل ما صنع بصورتكم. قالوا : لا نرضى بذلك ، ولا نرضى إلاّ بملككم الأكبر الذي يلي العرب كلّها. قال أبو عبيدة : إن عين ملكنا أمنع من ذلك ، قال : وغضب المسلمون إذ ذكروا عين عمر رضي‌الله‌عنه وهمّوا بقتلهم ، فنهاهم أبو عبيدة عن ذلك. فقال المسلمون : نحن دون إمامنا ، نفديه بأنفسنا ، ونفقأ عيوننا دونه. فقال إصطخر عند ما نظر إلى المسلمين قد همّوا بقتله : لا نفقأ عينه ولا عيونكم ، لكن نصوّر صورة أميركم على عمود ، ونصنع به مثل الذي صنعتم بصورة ملكنا. فقال المسلمون : إن صاحبنا ما صنع ذلك إلاّ من غير تعمّد ، وأنتم تريدون العمد.

فقال أبو عبيدة : مهلا يا قوم ، فإذا رضي القوم بصورتي فأنا أجيبهم إلى ذلك ، لا نغدر ولا يتحدّث القوم ، إنّا عاهدنا ثم غدرنا ، فإنّ هؤلاء القوم لا عقل لهم. ثم أجابهم أبو عبيدة إلى ذلك. قال : فصوّرت الروم مثل صورة أبي عبيدة على عمود له عينان من الزجاج ، فأقبل رجل منهم حنقا وفقأ عين الصورة برمحه ، ثم رجع إصطخر إلى صاحب قنسرين ، فأخبره بذلك. فقال لقومه : بهذا الأمر تمّ لهم ما يريدون » (١).

__________________

(١) فتوح الشام للواقدي ١ / ٦٥.

٣٣٤

٦ ـ ظن عمر بأبي عبيدة الظنون

وعند ما صالح أبو عبيدة أهل قنّسرين ظنّ عمر به الظنون ، وحسب أنه قد داخله جبن وركن الى القعود عن الجهاد ، فكتب إليه كتابا يتوعّده فيه ويحذّره المعصية ... ومن الواضح أنه لو كان أبو عبيدة « أمين الأمّة » لما كان ذلك من عمر ، ولما جاز له أن يظنّ به الظنون ...

قال الواقدي : « فقام ابو عبيدة على حمص يغار يمينا وشمالا ، ينتظر خروج السّنة ، ثم ينظر ما يفعل بعد ذلك ، وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر رضي‌الله‌عنه ، إذ لم ير له كتابا ولا فتحا ، فأنكر ذلك من أمره ، وظن به الظنون ، وحسب أنه قد داخله جبن وركن إلى القعود عن الجهاد ، فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى أبي عبيدة بن الجراح : سلام عليكم ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو ، وأصلّي على نبيّه ، وآمرك بتقوى الله وأحذّرك معصيته ، وأنهاك أن تكون ممن قال الله فيهم في كتابه : ( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ) الآية. وصلّى الله على خاتم النبيين. ونفذ الكتاب إليه.

فلما قرأه على المسلمين علموا أنه يحرّضهم على الجهاد ، ندم أبو عبيدة على ما صالح أهل قنسرين. ولم يبق أحد من المسلمين إلاّ بكى من كتاب عمر رضي‌الله‌عنه ».

٧ ـ اعتراف أبي عبيدة بمخالفة النّبي وقلقه من لقائه

وقد خالف أبو عبيدة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التقليل من الخيل والخدم ، فملأ بيته رقيقا ومربطة خيلا ، حتى كان يبكي ويقول : كيف ألقى رسول الله ...؟!

٣٣٥

قال أحمد : « ثنا أبو المغيرة ، ثنا صفوان بن عمرو ، ثنا أبو حسبه مسلم بن أكيس مولى عبد الله بن عامر عن أبي عبيدة بن الجراح قال : ذكر من دخل عليه فوجده يبكي. فقال : ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ فقال : يبكيني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر يوما ما يفتح الله على المسلمين ويفيء عليهم ، حتى ذكر الشام فقال : إن ينسأ في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة : خادم يخدمك ، وخادم يسافر معك ، وخادم يخدم أهلك ويرد عليهم. وحسبك من الدواب ثلاثة : دابّة لرجلك ، ودابة لثقلك ، ودابة لغلامك.

ثمّ ها أنا ذا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقا ، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ دوابّ وخيلا ، فكيف ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذا!! وقد أوصانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أنّ أحبّكم إليّ وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال الذي [ التي. ظ ] فارقني عليها » (١).

وأخرجه محبّ الدين الطبري عن أحمد (٢).

والملاّ علي المتقي عن ابن عساكر (٣).

حديث مفتعل في زهد أبي عبيدة

ومع هذا ، فقد اختلق أهل السنة حديثا في زهد أبي عبيدة ، لكن آثار الاختلاق والافتعال لائحة عليه ، ففي كتاب ( الرياض النضرة ):

« ذكر زهده : عن عروة بن الزبير قال : لمّا قدم عمر بن الخطاب الشام تلقّاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض ، فقال عمر : اين أخي؟ قالوا : من؟ قال : أبو عبيدة. قالوا : يأتيك الآن. فلما أتاه نزل فاعتنقه. ثم دخل عليه بيته فلم ير في

__________________

(١) المسند ١ / ١٩٦.

(٢) الرّياض النضرة ٤ / ٣٥٣.

(٣) كنز العمّال ١٣ / ٢١٧.

٣٣٦

بيته إلاّ سيفه وترسه ورحله ، فقال له عمر : ألا اتّخذت ما اتّخذ أصحابك! فقال : يا أمير المؤمنين : هذا يبلغني المقيل. أخرجه في الصفوة والفضائل ، وزاد بعد قوله يأتيك الآن : فجاء على ناقة مخطومة بحبل.

وفي رواية : إن عمر قال له : اذهب بنا إلى منزلك. قال : وما تصنع! ما تريد إلاّ أن ينغص عيشك علي. قال : فدخل منزله فلم ير شيئا. قال : أين متاعك فإني لا أرى إلاّ لبدا وصحفة وسيفا وأنت أمير!! أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسرات. فبكى عمر. فقال له أبو عبيدة : قد قلت لك سينغص عيشك علي يا أمير المؤمنين ، يكفيك ما يبلغك المقيل. فقال عمر : غرّتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة » (١).

( الوجه الرابع ) لو سلّمنا هذا الحديث فلا يتم للعاصمي مقصوده ، لأنه إن أراد من اختصاص أبي عبيدة بالأمانة عدم اتّصاف أحد غيره من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفة الأمانة ، فإنّ بطلانه في غاية الوضوح والظّهور. وإن أراد من ذلك أن اتّصاف أبي عبيدة بتلك الصفة أكثر وأشد من اتّصاف غيره من الصحابة بها ، فهذا أيضا في غاية البطلان ، إذ لا يصدّق عاقل من المسلمين أن يكون اتّصافه أكثر من اتّصاف نفس رسول الله أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وسائر الأصحاب الأطياب أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار بتلك الصفة. وأيضا ، فإنّ من البعيد التزام أهل السّنة بكون أبي عبيدة أكثر أمانة من الشيخين ، وإن احتملنا التزامهم بذلك بالنسبة إلى الثالث لاشتهاره بالخيانة في مال الله وحقوق المسلمين.

وعلى كلّ حال فلا مزيّة لأبي عبيدة على سائر الأصحاب في صفة الأمانة ، وحينئذ كيف يجوز جعله باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمانة ، وأحد أبواب مدينة العلم؟!

__________________

(١) الرياض النضرة ٤ / ٣٥٢.

٣٣٧

( الوجه الخامس ) قول العاصمي : « والأمانة لا تؤدّى إلاّ بالعلم » ممنوع ، فأيّ ملازمة بين العلم والأمانة؟ إنّ « الأمانة » منفكّة عن « العلم » بالقطع والوجدان ، وعلى هذا ، فلو سلّمنا كون أبي عبيدة أمينا فلا دليل على كون أدائه للأمانة بالعلم ...

( الوجه السادس ) إنه مع غض النظر عن جميع ما ذكرنا : إذا كان أبو عبيدة باب مدينة العلم في الأمانة ، كان من المناسب وصول أخبار الأمانة وأحكامها عن مدينة العلم عن طريق أبي عبيدة ، ولا أقل من وصول جلّها عن طريقه ، ولكن لم يؤثر عن أبي عبيدة شيء في هذا الباب بتلك المثابة ، ولم يدّع احد من أهل السّنة ذلك أبدا ، فكيف يجوز أن يكون باب مدينة العلم في الأمانة؟

( الوجه السابع ) إنه مع التنزّل عما سبق كله نقول : إذا كان أبو عبيدة باب مدينة العلم في الأمانة أليس كان من اللازم أن تكون آثار الأمانة وعلائمها لائحة في سيرته وأعماله ، فيكون بابا للمدينة في الامانة بحسب سيرته وأفعاله ، ويكون حاكيا لأمانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعماله وأقواله؟!

( الوجه الثامن ) لو تنزلنا عن ذلك فلا أقلّ من نزاهة هذا الرجل وبراءته عن كلّ ما يتنافى والأمانة ... إن هذا أقلّ ما يرجى ممّن يتصف بالأمانة ، ويريد أن يكون بابا لمدينة العلم في هذه الصفة ...

لكن التأمّل في سيرة أبي عبيدة والتدبّر في أخباره وأحواله يظهر لنا بعد هذا الرجل عن هذه الصفة ، وعدم لياقته لتلك المنزلة ... وقد تقدّمت عما قريب نماذج تغنينا في هذا المقام. وبالله التوفيق.

١١ ـ بطلان دعوى كون أبي ذر من أبواب مدينة العلم

قال العاصمي في نهاية كلامه : « ثمّ قال لأبي ذر رضي‌الله‌عنه في غير هذا الحديث : من أراد أن ينظر إلى بعض زهد عيسى فلينظر إليه. فينبغي أن يكون

٣٣٨

له باب في الزهد من تلك المدينة وجعل له أيضا باب الصدق ، قوله صلّى الله عليه : ما حملت الأرض ولا أظلّت الخضراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر ، فجعل له بابين باب الصدق وباب الزهد. والزهد في الدنيا جامع للعلم كله ... ».

ونقول : في كلامه وجوه من النّظر :

١ ـ عبارة العاصمي حول أبي ذر تختلف عن عبارته حول من سبقه

ذكر العاصمي حول أبي ذر أنّه « ينبغي أن يكون له باب في الزهد من تلك المدينة » وهذه العبارة تختلف عن عبارته حول الصّحابة الآخرين الذين جعل لهم أبوابا على سبيل الجزم ، فإن أراد من « ينبغي » معناه الحقيقي ، فهذا لا ينافي مطلوب الشيعة ومقصودهم ، لأنّهم يذعنون بجلالة قدر سيدنا أبي ذر رضي‌الله‌عنه وبلوغه الذروة العليا في الزهد والورع ، وإن أبا ذر عند الشيعة الامامية ممّن أتى مدينة العلم من بابها ، وحصل له من الشأن والمقام الرفيع ما لم يحصل إلاّ لأفراد معدودين من أصحاب سيّد المرسلين صلوات عليه وآله أجمعين.

وإن أراد من « ينبغي » معناه المجازي ، وقصد إثبات باب لأبي ذر كما زعم ذلك لغيره ففيه :

أوّلا : إنّه لا يجوز جعل أحد من الصحابة بابا لتلك المدينة الاّ بنص صريح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان ذاك الصحابي كثير الفضائل وجليل القدر.

ثانيا : كون الرجل بابا لهذه المدينة شرف عظيم يستلزم العصمة كما دريت فيما سبق ، وأبو ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه على جلالته وعظمته بين الفريقين غير معصوم اجماعا.

ثالثا : إن باب المدينة متّحد مع المدينة ، وأبو ذر وان بلغ المقامات الرفيعة والدرجات الشامخة لم يصل إلى مقام الاتحاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

٣٣٩

النفس.

رابعا : إنه لم يبلغ أبو ذر تلك الدرجات ولم يحصّل تلك الفضائل إلاّ بولائه لأهل البيت عليهم‌السلام ومتابعته ومشايعته لهم ، بل إن أعلى مناقبه وأفضل محامده هو انقياده لهم واقتفاؤه لآثارهم ، فلا يعقل أن يكون مشاركا لهم في مقاماتهم الخاصة بهم ، ومن المعلوم أن كونهم باب مدينة العلم من فضائلهم الخاصة كما شهدت بذلك الأحاديث المنقولة سابقا.

خامسا : كونه باب مدينة العلم في الزهد يتوقف على تقدّمه على جميع الأصحاب في هذه الصفة ، لكن بلوغه في ذلك إلى مرتبة سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام غير مقبول فضلا عن كونه أزهد منه ، وليس لأحد من المسلمين فضلا عن المؤمنين أن يدّعي ذلك ، فكيف يكون أبو ذر باب المدينة في الزهد ولا يكون علي عليه‌السلام بابا لها فيه؟

٢ ـ أحاديث شبه أبي ذر بعيسى من متفرّدات أهل السّنة

إن فضائل أبي ذر ومناقبه على كثرتها مقبولة لدى الفريقين ، وكتبهم مشحونة بنقلها ، ولا يجوز لأحد نفيها وإنكارها ، لكنّ أحاديث شبه أبي ذر بعيسى بن مريم من متفرّدات أهل السّنة ، فإن الشيعة لا يروون تلك الأحاديث ولا يرون صحّة مضمونها ، لأنّ تشبيه غير المعصوم بالمعصوم عندهم غير جائز.

٣ ـ شذوذ الحديث الذي ذكره العاصمي في زهد أبي ذر

وإن هذا الحديث الذي ذكره العاصمي هنا غير موجود في كتب الحديث المشهورة والأسفار المعتبرة ، فالأحاديث التي رواها أهل السنة في تشبيه زهد أبي ذر بزهد عيسى بن مريم هي :

٣٤٠