نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

٦ ـ بطلان دعوى أن عثمان باب المدينة بعد عمر

قال العاصمي : « ثم عثمان بن عفان الباب الثالث منها في صدق الحياء ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأصدق أمتي حياء عثمان بن عفان ».

أقول : وهذا باطل أيضا ، لأنّ هذا الذي نسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من أجزاء الحديث الطويل الموضوع الذي أوضحنا وضعه بالتّفصيل سابقا.

على أنّ ثبوت الحياء لعثمان ـ فضلا عن صدقه ـ يعدّ من المستحيلات ، لأنّ كلّ واحد من قضاياه وأموره وما أحدثه دليل قاطع على عدم حيائه من الله ومن النّاس ، حتى جاهده القوم وفعلوا به ما فعلوا ، ثم قتلوه شرّ قتله ...

ولمّا كانت تلك القضايا التي نقم عليه بها من ضروريّات التّاريخ التي لا تقبل أيّ بحث وجدال ، فلا نطيل المقام بذكرها ولا نسوّد الصّفحات بإيرادها.

٧ ـ بطلان دعوى كون أبيّ من أبواب مدينة العلم

ثم قال العاصمي : « وباب منها أبيّ بن كعب ، حيث فضّله النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعلم القرآن وقراءته. قوله عليه‌السلام : وأقرؤهم أبي بن كعب. وروي : وأقرؤهم لكتاب الله ».

أقول : دعوى أنّ أبيّ بن كعب من أبواب مدينة العلم استنادا إلى دعوى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضّله بعلم القرآن وقراءته ، في غاية الغرابة ، وهي باطلة لوجوه :

الأول : إنّه لا دليل من النصوص والأحاديث على كونه بابا للمدينة ، وكونه

٣٠١

أقرأ الأصحاب للقرآن ـ لو صحّ ـ لا يقتضى ذلك البتة.

الثاني : استدلاله بما نسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قال « وأقرؤهم أبي بن كعب » باطل ، لأن ذلك من أجزاء الحديث الطويل الذي أوضحنا كونه موضوعا بالتفصيل.

الثالث : لو سلّمنا صحة الحديث ، لكنه لا يقتضي تفضيل أبي على جميع الأصحاب في علم قراءة القرآن ، كما تشهد بهذا كلمات أعلام القوم ، حيث صرّحوا بكونه أقرأ « بالنسبة لجماعة مخصوصين أو وقت من الأوقات ، فإنّ غيره كان أقرأ منه » ... قاله المناوي في ( فيض القدير ) وانظر أيضا كلامه في ( التيسير ) وكلام نور الدين العزيزي في ( السراج المنير في شرح الجامع الصّغير ).

فظهر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفضّله بعلم القرآن وقراءته ، فبطل ما ادّعاه العاصمي في هذا المقام أيضا.

٨ ـ بطلان دعوى كون معاذ من أبواب مدينة العلم

ثم قال العاصمي : « وباب منها معاذ بن جبل ، لما فضّله النبي صلّى الله عليه وسلّم في العلم خاصة دون غيره ، قوله عليه‌السلام : وأعلم أمّتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل ».

وجوه بطلان هذه الدعوى

أقول : وهذه الدعوى باطلة كذلك لوجوه :

الأول : إنّ دعوى كون « معاذ بن جبل » بابا من أبواب مدينة العلم من غير نصّ صريح في ذلك عن مدينة العلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاسر قبيح وتخرّص فضيح.

٣٠٢

الثاني : استشهاده بما نسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل » يبطله كون هذا من الحديث الطويل الثابت وضعه واختلاقه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث : إن كون معاذ بن جبل بابا من أبواب المدينة إنّما يثبت في حال اختصاص علم الحلال والحرام به دون غيره من الأصحاب ، او إثبات كونه مبرّزا من بينهم في هذا العلم ، وكلا الأمرين غير ثابت ، فإن كونه مخصوصا بهذا العلم دونهم ـ بأن يكون هو العالم بهذا العلم وليس لغيره منهم نصيب منه ـ ظاهر البطلان جدّا ، ولا يلتزم به أحد من أهل السنة أبدا. وأمّا الأمر الثاني فغير ثابت كذلك ، لتنصيص العلماء المحققين على أنه « يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم » قال المناوي ( فيض القدير ) : « يعني انه يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم ، وإلاّ فأبوبكر وعمر وعلي أعلم منه بالحلال والحرام ... » وفي ( التيسير ) : « يعني : سيصير أعلمهم بعد انقراض أكابر الصحابة » وقال العزيزي « يعني سيصير أعلمهم بعد انقراض أكابر الصحابة ».

من شواهد جهل معاذ بالحلال والحرام

الرابع : إنه مع قطع النظر عمّا تقدّم هناك في أمهات مصادر أهل السّنة شواهد على جهل معاذ بالحلال والحرام ، ومعها تبطل دعوى العاصمي من أصلها ... ومن ذلك ما رواه ابن سعد بترجمته حيث قال :

« أخبرنا عبيد الله بن موسى ، أنا شيبان ، عن الأعمش ، عن شقيق قال : استعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم معاذا على اليمن ، فتوفي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبوبكر وهو عليها وكان عمر عامئذ على الحج ، فجاء معاذ إلى مكة ومعه رقيق ووصفاء على حدة. فقال له عمر : يا أبا عبد الرحمن لمن هؤلاء الوصفاء؟ قال : هم لي. قال : من أين هم لك؟ قال : أهدوا لي. قال : أطعني

٣٠٣

وأرسل بهم إلى أبي بكر ، فإن طيّبهم لك فهم لك. قال : ما كنت لأطيعك في هذا ، شيء أهدي لي أرسل بهم إلى أبي بكر؟! قال : فبات ليلة ثم أصبح فقال : يا ابن الخطاب ما أراني إلاّ مطيعك ، إني رأيت اللّيلة في المنام كأنّي أجّر وأقاد ـ أو كلمة تشبهها ـ إلى النار وأنت آخذ بحجزتي! فانطلق بي وبهم إلى أبي بكر. فقال : أنت أحق بهم. فقال أبوبكر : هم لك. فانطلق بهم إلى أهله فصفّوا خلفه يصلّون. فلما انصرف قال : لمن تصلّون؟ قالوا : لله تبارك وتعالى. قال : فانطلقوا فأنتم له » (١).

وفيه أيضا : « أخبرنا محمد بن عمر ، حدثني عيسى بن النعمان ، عن معاذ ابن رفاعة ، عن جابر بن عبد الله قال : كان معاذ بن جبل ـ رحمه‌الله ـ من أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا وأسمحه كفّا ، فادّان دينا كثيرا ، فلزمه غرماؤه حتى تغيّب منهم أيّاما في بيته ، حتى استأدى غرماؤه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاذ يدعوه ، فجاءه ومعه غرماؤه ، فقالوا :

يا رسول الله خذلنا حقّنا منه.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : رحم الله من تصدّق عليه.

قال : فتصدّق عليه ناس وأبى آخرون وقالوا : يا رسول الله ، خذلنا حقّنا منه.

فقال رسول الله : اصبر لهم يا معاذ.

قال : فخلعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ماله فدفعه إلى غرمائه فاقتسموه بينهم فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم.

قالوا : يا رسول الله بعه لنا.

قال لهم رسول الله « ص » : خلّوا عنه فليس لكم إليه سبيل.

__________________

(١) الطبقات ٣ / ٥٨٥.

٣٠٤

فانصرف معاذ الى بني سلمة فقال له قائل : يا أبا عبد الرحمن ، لو سألت رسول الله ، فقد أصبحت اليوم معدما. قال : ما كنت لأسأله. قال : فمكث يوما ، ثم دعاه رسول الله فبعثه إلى اليمن وقال : لعلّ الله يجبرك ويؤدّي عنك دينك.

قال : فخرج معاذ إلى اليمن فلم يزل بها حتى توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فوافى السنة التي حجّ فيها عمر بن الخطاب ـ استعمله أبوبكر على الحج ـ فالتقيا يوم التروية بمنى ، فاعتنقا وعزّى كلّ واحد منهما صاحبه برسول الله ، ثم أخلدا إلى الأرض يتحدّثان ، فرأى عمر عند معاذ غلمانا فقال : ما هؤلاء يا أبا عبد الرحمن؟ قال : أصبتهم في وجهي هذا. فقال عمر : من أيّ وجه؟ قال : أهدوا إليّ وأكرمت بهم فقال عمر : أذكرهم لأبي بكر. فقال معاذ : ما ذكري هذا لأبي بكر؟ ونام معاذ ، فرأى في النوم كأنّه على شفير النّار وعمر آخذ بحجزته من ورائه يمنعه أن يقع في النار ، ففزع معاذ فقال : هذا ما أمرني به عمر. فقدم معاذ ، فذكرهم لأبي بكر ، فسوّغه أبوبكر ذلك وقضى بقيّة غرمائه وقال : إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : لعلّ الله يجبرك » (١).

أقول : وهذه القصّة فيها دلالة واضحة على جهل معاذ بالحلال والحرام ، وعدم تورّعه في جمع الأموال ، وحينئذ لا يعقل أن يصدق في حقه كونه أعلم الأصحاب والأمّة بالحلال والحرام.

حديث موضوع في الذّب عن معاذ

وممّا يضحك الثكلى وضع بعض أسلاف القوم حديثا في حماية معاذ وذبّ هذه المنقصة المذكورة عنه ... وذلك ما جاء في ( الاصابة ) بترجمة معاذ وهذا

__________________

(١) الطبقات ٣ / ٥٨٧.

٣٠٥

نصّه : « وذكر سيف في الفتوح بسند له عن عبيد بن صخر قال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ ـ حين بعثه إلى اليمن ـ : إني قد عرفت بلاءك في الدين ، وقد طيّبت لك الهدية ، فإن أهدي لك شيء فاقبل. قال : فرجع حين رجع بثلاثين رأسا أهديت له » (١).

الوجوه الدالة على وضعه

أقول : وهذا حديث موضوع مختلق لوجوه :

الأول : إنّه من حديث « سيف بن عمر الكوفي » صاحب كتاب الفتوح وهو ضعيف جدا ، بل إنه متهم بالزندقة ... قال الذهبي : « قال عباس عن يحيى : ضعيف. وروى مطين عن يحيى : فليس خير منه. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال أبو حاتم متروك. وقال ابن حبان : اتّهم بالزندقة. وقال ابن عدي : عامّة حديثه منكر ».

قال : « وكان سيف يضع الحديث وقد اتّهم بالزندقة » (٢).

وقد أورد ابن حجر هذه الكلمات وغيرها بترجمته من ( تهذيب التهذيب ) (٣).

الثاني : لقد أغفل ابن حجر في ( الاصابة ) ذكر سند رواية سيف ، فلم نعلم حاله ، لكن غالب من يروي عنه سيف من المجهولين كما نصّ عليه الذهبي ، ويؤيد ذلك انّ في ( الاصابة ) بترجمة عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري ـ بعد ذكر أخبار رواها سيف عن سهل بن يوسف بن سهل ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ـ : « وبهذا الاسناد : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى معاذ أنّي عرفت بلاءك في الدين ، والذي ذهب من مالك حتى ركبك الدين ، وقد طيّبت لك الهدية ،

__________________

(١) الاصابة ٣ / ٤٢٧.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ٢٥٥.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ / ٢٥٩.

٣٠٦

فإن أهدي إليك شيء فاقبل » (١) وهذا نفس حديث سيف الذي أسقط ابن حجر سنده ، و « سهل بن يوسف » ، و « يوسف بن سهل » كلاهما مجهولان.

ولعلّه من هنا أفتى الامام أبو جعفر الطبري بضعف هذا الحديث ، ففي ( كنز العمال ) ما نصه : « عن معاذ بن جبل : لمّا بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن ، قال : إني قد علمت ما لقيت في الله ورسوله وما ذهب من مالك ، وقد طيّبت لك الهديّة ، فما أهدي لك من شيء فهو لك. ابن جرير وضعّفه » (٢).

الثالث : لقد ورد في الأحاديث الكثيرة تحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدايا العمّال وجعلها « غلولا » ونهى عن قبولها قولا وفعلا ، وقد أخرج تلك الأحاديث البخاري في صحيحه في « باب من لم يقبل الهدية لعلّة » و « باب كيف كانت يمين النبي » و « باب احتيال العامل ليهدى له » و « باب هدايا العمال » و « باب محاسبة الامام عماله ».

ومسلم في « باب تحريم هدايا العمال ».

وأحمد بن حنبل في مسنده.

ومن الأحاديث التي اتفقوا عليها ما أخرجه أحمد قائلا : « ثنا سفيان ، عن الزهري سمع عروة يقول : أنا أبو حميد الساعدي. قال : استعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على صدقة فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي!! أفلا جلس في بيت أمّه وأبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده ، لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلاّ جاء به يوم القيامة على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تبعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة يديه ثم قال : اللهم هل بلّغت ـ ثلاثا ـ.

__________________

(١) الاصابة ٢ / ٤٤٤.

(٢) كنز العمال ١٣ / ٥٨٦.

٣٠٧

وزاد هشام بن عروة : قال أبو حميد : سمع أذني وأبصر عيني ، وسلوا زيد بن ثابت » (١).

وفي ( المسند ) أيضا : « حدثنا إسحاق بن عيسى ، ثنا إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : هدايا العمال غلول » (٢).

الرابع : انه لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طيّب الهدية لمعاذ بن جبل لاعتذر بذلك معاذ امام عمر بن الخطاب ، عند ما أمره بإرسال الغلمان إلى أبي بكر حتى يطيّبهم له ، فإنّه لو صحّ تطييب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ذلك لم يكن مورد لتطييب أبي بكر أو عدم تطييبه ، لا أن يعتذر بقوله : « ما كنت لأطيعك في هذا ، شيء أهدي لي ، أرسل بهم إلى أبي بكر!! ».

الخامس : إنه لو كان لهذا الحديث الموضوع أصل لما رأى معاذ في المنام « كأنّه على شفير النار وعمر آخذ بحجزته من ورائه يمنعه أن يقع في النّار ... » لأنّ ما طيّبه له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يوجب تملّكه دخول النار البتّة ، فرؤيته ذلك في المنام وفزعه منه ثم مجيؤه بهم إلى أبي بكر ـ كما أمره عمر بن الخطّاب ـ يدلّ بوضوح على ارتكابه الذّنب العظيم الموجب لدخول النّار ، ويدل أيضا على أنّ حديث سيف موضوع باطل لا أصل له.

وممّا يؤكّد ما ذكرنا ويقطع الألسنة ويحسم النّزاع في المقام : ما أخرجه الترمذي في صحيحه من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذ نهيا قاطعا عن إصابة شيء من الأموال بغير اذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليك نصّ الحديث :

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٤٢٣.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٤٢٤.

٣٠٨

« باب ما جاء في هدايا الأمراء. حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو أسامة ، عن داود بن يزيد الأودي ، عن المغيرة بن شبيل ، عن قيس بن أبي حازم ، عن معاذ ابن جبل قال : بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن ، فلمّا سرت أرسل في أثري فرددت فقال : أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبنّ شيئا بغير إذني ، فإنّه غلول ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة. لهذا دعوتك. فامض لعملك.

قال : وفي الباب عن عدي بن عميرة ، وبريدة ، والمستورد بن شداد ، وأبي حميد ، وابن عمر » (١).

فإن هذا الحديث نهى قاطع مع التحذير والتّخويف الشديدين ، وينبغي أن يعدّ هذا الحديث من معاجز النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن آيات نبوّته ، حيث يظهر منه علمه بما سيرتكبه معاذ في مسيره هذا ، فمنعه عن ذلك من ذي قبل ، وذكّره بحرمة إصابة شيء من تلك الأموال ، ولكنّ ذلك كلّه لم ينفع معاذا ولم يردعه عن التّصرف في الأموال.

اتّجار معاذ في مال الله

وممّا ارتكبه معاذ جهلا بالأحكام اتّجاره في مال الله الذي كان بيده « وكان أوّل من اتّجر في مال الله » حتى ذكّره عمر فأبى ، إلى أن رأى في منامه ما رأى ، وإليك نصّ الخبر الوارد بترجمته حيث قال ابن عبد البر :

« حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا ابن المفسّر ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : كان معاذ بن جبل شابا جميلا أفضل من شباب قومه سمحا لا يمسك ، فلم يزل يدّان حتى أغلق ماله من الدين ،

__________________

(١) صحيح الترمذي ٣ / ٦٢١.

٣٠٩

فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فطلب إليه أن يسأل غرمائه أن يضعوا له فأبوا ، ولو تركوا لأحد من أجل أحد لتركوا معاذ من أجل رسول الله.

فباع النبي صلّى الله عليه وسلّم ماله كلّه في دينه ، حتى قام معاذ بغير شيء ، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي إلى طائفة من اليمن ليجبره ، فمكث معاذ باليمن أميرا ـ وكان أوّل من اتّجر في مال الله هو ـ فمكث حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فلمّا قدم قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيّشه وخذ سائره منه ، فقال أبوبكر : إنما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليجبره ، ولست بآخذ منه شيئا إلاّ أن يعطيني. فانطلق عمر إليه إذ لم يطعه أبوبكر فذكر ذلك لمعاذ. فقال معاذ : إنما أرسلني النبي صلّى الله عليه وسلّم ليجبرني ولست بفاعل. ثم لقي معاذ عمر فقال : قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به ، إني رأيت في المنام أني في حومة ماء قد خشيت الغرق فخلّصتني منه يا عمر ، فأتى معاذ أبابكر فذكر ذلك له وحلف أن لا يكتمه شيئا ، فقال أبوبكر رضي‌الله‌عنه : لا آخذ منك شيئا قد وهبته. فقال : هذا حين حل وطاب ، وخرج معاذ عند ذلك إلى الشام » (١).

٩ ـ بطلان دعوى كون زيد من أبواب مدينة العلم

ثم قال العاصمي : « وباب منها : زيد بن ثابت لما فضّله النبي صلّى الله عليه بعلم الفرائض خاصة دون غيره. قوله عليه‌السلام : وافرض أمتي زيد بن ثابت ».

أقول : وهذا باطل لوجوه :

الأول : إنّه لم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو مدينة العلم ـ ما يفيد كون زيد بابا لهذه المدينة.

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ١٤٠٤.

٣١٠

الثاني : استدلاله بجملة « وأفرض أمتي زيد بن ثابت » واضح البطلان ، لأنّ هذه الجملة من أجزاء الحديث الطويل الذي بيّنا كونه موضوعا بالتفصيل سابقا.

الثالث : مقتضى هذه الجملة الموضوعة اختصاص علم الفرائض بزيد بن ثابت أو كونه الأفضل فيه من بين جميع الأصحاب ، أمّا اختصاصه به بحيث لم يكن لغيره حظ من هذا العلم فواضح البطلان. وأمّا كونه الأفضل فيه فلا سبيل إلى إثباته ، بل لقد صرّح المحققون من أهل السّنة بأن معناه صيرورة زيد أفرض الأمّة بعد انقراض عظماء الصحابة ، بل يتضّح بطلان هذا الكلام بما نقل المناوي عن ابن عبد الهادي من أنه لم يكن زيد في عهد المصطفى مشهورا بالفرائض أكثر من غيره ، ولا اعلم انه تكلّم فيها على عهده ولا على عهد أبي بكر ... قال المناوي : « وأعلمهم بالحلال والحرام. أي بمعرفة ما يحل ويحرم من الأحكام معاذ بن جبل الأنصاري ، يعني أنه يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم ، وإلاّ فأبوبكر وعمر وعلي أعلم منه بالحلال والحرام ، وأعلم من زيد بن ثابت بالفرائض. ذكره ابن عبد الهادي ، قال : ولم يكن زيد في عهد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم مشهورا بالفرائض أكثر من غيره ، ولا أعلم أنه تكلّم فيها على عهده ولا على عهد أبي بكر رضي‌الله‌عنه » (١).

وفي ( التيسير ) : « أي : إنه سيصير كذلك بعد انقراض أكابر الصحابة. والاّ فعلي وأبوبكر وعمر أفرض منه »

فظهر بطلان دعوى العاصمي وقوله : « لما فضّله النبي ... ».

١٠ ـ بطلان دعوى كون أبي عبيدة من أبواب مدينة العلم

ثم قال العاصمي : « وباب منها أبو عبيدة بن الجراح في الأمانة في

__________________

(١) فيض القدير ١ / ٤٦٠.

٣١١

الإسلام ، حيث خصّه النبي عليه‌السلام بالأمانة في الإسلام ، والأمانة لا تؤدّى إلاّ بالعلم. قوله عليه‌السلام : ولكلّ أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ».

أقول : وهذا باطل كذلك ، ونحن نوضح ذلك في وجوه :

وجوه بطلان هذه الدعوى

الوجه الأول : لقد ذكرنا غير مرّة عدم جواز جعل أحد بابا لمدينة العلم إلاّ مع وصول نصّ صحيح صريح في ذلك عن مدينة العلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه.

الوجه الثاني : إنّ ما ذكره من « قوله عليه‌السلام : ولكلّ أمّة أمين ... » تقوّل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو كلام مختلق موضوع لا أصل له.

ولقد ذكروا هذا الكلام ضمن حديث « أرحم أمتي بأمّتي ... » وقد سبق أنّ هذا الحديث طويل موضوع بطوله.

ورووه أيضا حديثا مستقلا برأسه ، لكنّ جميع طرقه في الصحيحين مقدوحة وموهونة سندا ، فإنّ عامّة طرقه مطعونة ولم يسلم منها شيء ، فإذا لم يصح هذا الحديث بطرق الكتابين فكيف بأسانيده الأخرى؟

ولنذكر طرقه في البخاري أوّلا ، ثم نتبعها بطرقه عند مسلم فنتكلّم عليها بالتفصيل :

طرق الحديث في صحيح البخاري

قال البخاري في كتاب المناقب : « مناقب أبي عبيدة بن الجراح ـ حدثنا

٣١٢

عمرو بن علي ، ثنا عبد الأعلى ، ثنا خالد ، عن أبي قلابة قال : حدّثني أنس بن مالك : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : لكلّ أمّة أمين وإنّ أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح.

حدثنا مسلم بن إبراهيم ، ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة ، عن حذيفة قال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأهل نجران : لأبعثنّ ـ يعني عليكم ـ أمينا حق أمين ، فأشرف أصحابه ، فبعث أبا عبيدة ».

وفي كتاب المغازي : « باب قصة أهل نجران ـ حدثني عباس بن الحسين ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة قال : جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدان أن يلاعناه قال فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فو الله لئن كان نبيّا فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنّا نعطيك ما سألتنا فابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعثه معنا إلاّ أمينا. فقال : لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حق أمين ، فاستشرف له أصحاب رسول الله فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : هذا أمين هذه الأمة.

حدثني محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال سمعت أبا إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال : جاء أهل نجران إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا : ابعث لنا رجلا أمينا ، فقال : لأبعثنّ إليكم رجلا أمينا حق أمين ، فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة.

حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن خالد عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكلّ أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ».

وفي كتاب أخبار الآحاد : « حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة عن حذيفة : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأهل نجران : لأبعثنّ إليكم رجلا أمينا حق أمين ، فاستشرف لها أصحاب النبي ، فبعث أبا عبيدة.

٣١٣

حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : لكلّ أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة » (١).

طرق الحديث في صحيح مسلم

وقال مسلم : « حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ، نا إسماعيل بن علية ، عن خالد. ح وحدثني زهير بن حرب ، نا إسماعيل بن علية ، أنا خالد عن أبي قلابة قال قال أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إن لكلّ أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح.

حدثني عمرو الناقد قال : نا عفّان ، نا حماد ، عن ثابت عن أنس : إنّ أهل اليمن قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا : ابعث معنا رجلا يعلّمنا السنة والإسلام. قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال : هذا أمين هذه الأمة.

حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار ـ واللفظ لابن المثنى ـ قالا : ثنا محمد بن جعفر قال : سمعت أبا إسحاق يحدّث عن صلة بن زفر ، عن حذيفة قال : جاء أهل نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا : يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا. فقال : لأبعثنّ إليكم رجلا أمينا حق أمين ، قال : فاستشرف لها الناس. قال : فبعث أبا عبيدة بن الجراح.

حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أنا أبو داود الحفري قال : نا سفيان عن أبي إسحاق بهذا الاسناد نحوه » (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٧٤٠.

(٢) صحيح مسلم ٧ / ١٢٩.

٣١٤

وجوه الوهن في هذه الطرق

وغير خاف على ذوي العلم والتحقيق أن عامة هذه الطرق مطعون ، وإليك البيان :

أمّا الطّريق الأول عند البخاري فمداره على « أنس بن مالك » ومن أعظم قوادح أنس عداؤه لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وقد فصّلنا الكلام في ذلك في مجلّد حديث الغدير ، ومجلّد حديث الطائر.

* وفيه « أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي » وهو أيضا من المشهورين بالنصب والتحامل على سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا من أعظم الجرائم وأقبح الآثام المسقطة عن العدالة والوثاقة ، بل الموجبة للكفر والخلود في العذاب الأليم ـ لكنّ القوم يوثّقونه مع اعترافهم بذلك!! ـ قال ابن حجر : « وقال العجلي : بصري تابعي ثقة ، وكان يحمل على علي ولم يرو عنه شيئا » (١).

ومن قوادحه إنه كان يدلّس ... قال الذهبي « إمام شهير من علماء التابعين ، ثقة في نفسه ، إلاّ أنه يدلّس عمن لحقهم وعمّن لم يلحقهم ، وكان له صحف يحدّث منها ويدلّس » (٢).

ومن هنا فقد أورده البرهان سبط ابن العجمي في ( التّبيين لأسماء المدلّسين ).

ومن الواضح أنّ ارتكاب التدليس خيانة واضحة على الشرع ، وقد ذهب فريق من المحدثين والفقهاء إلى أنّ من عرف بارتكاب التدليس ولو مرة صار مجروحا مردودا ...

هذا كلّه بالاضافة إلى تصريح جماعة من الحفّاظ وأعيان العلماء بأنّ أبا قلابة

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٩٧.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ٤٢٥.

٣١٥

معدود عند الناس في البلّه ، وعلى هذا الأساس تعجّبوا من عمر بن عبد العزيز إبطال حكم القسامة الثابت بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمل الخلفاء الراشدين بقول أبي قلابة ، في قضية ذكرها البخاري في ( صحيحه ). فراجع كلماتهم في ( عمدة القاري ) و ( إرشاد الساري ) وكذا في ترجمة أبي قلابة من ( تهذيب التهذيب ).

فظهر أنّ الرجل مجروح مقدوح للغاية ، وانّ أعظم قوادحه وجرائمه انحرافه عن سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام كأنس بن مالك ، ولذا نراه قد ابتلاه الله تعالى ـ كما ابتلى أنسا ـ بالأسقام والأمراض ، قال الذهبي : « وأخبرني عبد المؤمن بن خالد الحافظ قال : وأبو قلابة ممن ابتلى في بدنه ودينه ، أريد على القضاء بالبصرة فهرب إلى الشام فمات بعريش مصر سنة أربع ، وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره ، وهو مع ذلك حامد شاكر » (١).

وفي ( حاشية ميزان الاعتدال ) : « أبو قلابة ابتلي في دينه فأريد للقضاء فهرب الى الشام ، وفي بدنه فأصابه الجذام ، فذهبت يداه ورجلاه وبصره وهو مع ذلك شاكر ، زاره عمر بن عبد العزيز فقال له : يا ابا قلابة تشدّد لا يشمت بنا المنافقون ».

* وفي هذا الطريق « خالد بن مهران الحذّاء » وهو أيضا مجروح جدّا ، قال أبو حاتم : لا يحتجّ به ، ووقع فيه شعبة ، وضعّفه ابن علّية ... كما في ترجمته من ( تهذيب التهذيب ).

وفي ( تقريب التهذيب ) : « قد أشار حمّاد بن زيد إلى أنّ حفظه تغيّر لمّا قدم من الشام ، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان ».

* وفي هذا الطريق « عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري » قال الذهبي : « قال محمد بن سعد : لم يكن بالقوي ، ومات سنة تسع وثمانين ومائة. وقال أحمد :

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٩٤.

٣١٦

كان يرى القدر ، وقال بندار : والله ما كان يدري أيّ رجليه أطول » (١) وكذا ذكره في ( المغني في الضعفاء ) وابن حجر في ( تهذيب التهذيب ).

وقد عدّه السيوطي في ( تدريب الراوي ) في « من رمي ببدعة ممّن أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما » (٢).

وأمّا الطريق الثاني عند البخاري الذي جاء في ـ كتاب المناقب ـ أيضا ففيه « أبو إسحاق السبيعي » وقد كان مختلطا قال الذهبي : « وروى جرير عن مغيرة قال : ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش. وقال الفسوي قال ابن عيينة : ثنا أبو إسحاق في المسجد ليس معنا ثالث. قال الفسوي : قال بعض أهل العلم : كان قد اختلط ، وانما تركوه مع ابن عيينة لاختلاطه » (٣).

وكان مدلّسا ... قال ابن حجر : « وقال ابن حبان في كتاب الثقات : كان مدلّسا : ولد سنة ٢٩ ويقال : ٣٢. وكذا ذكره في المدلّسين : حسين الكرابيسي وأبو جعفر الطبري. وقال ابن المديني في العلل قال شعبة : سمعت أبا إسحاق يحدّث عن الحرث بن الأرمع بحديث فقلت له : سمعت منه؟ فقال : حدثني به مجالد عن الشعبي عنه. قال شعبة : وكان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له : هذا أكبر منك؟ فإن قال : نعم علمت أنه لقي ، وإن قال : أنا أكبر منه تركته.

وقال أبو إسحاق الجوزجاني : كان قوم من أهل الكوفة لا تحمد مذاهبهم ـ يعني التشيّع ـ هم رؤس محدّثي الكوفة مثل : أبي إسحاق ، والأعمش ، ومنصور وزبيد ، وغيرهم من أقرانه ، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث ، ووقفوا عند ما أرسلوا ، لما خافوا أن لا يكون مخارجها صحيحة فأمّا أبو إسحاق يروى عن قوم لا يعرفون ، ولم ينشر عنهم عند أهل العلم إلاّ ما حكى أبو إسحاق

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ٥٣١.

(٢) تدريب الراوي ١ / ٢٧٩.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ / ٢٧٠.

٣١٧

عنهم ، فإذا روى تلك الأشياء عنهم كان التوقف في ذلك عندي الصّواب ، وقد حدّثنا أبو إسحاق ، ثنا جرير عن مغيرة قال : أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق ـ يعني للتدليس ـ. وقال يحيى بن معين : سمع منه ابن عيينة بعد ما تغيّر » (١).

وقد ذكره سبط ابن العجمي في ( التبيين لأسماء المدلّسين ) وفي ( الاغتباط بمن رمي بالاختلاط ).

ومن قوادحه العظيمة روايته عن عمر بن سعد ـ لعنه الله ـ قاتل سيّدنا الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ... قال الذهبي : « عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه. وعنه ابنه ابراهيم وأبو إسحاق. وأرسل عنه الزهري وقتادة. قال ابن معين : كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟! قتله المختار سنة ٦٥ أو سنة ٦٧ » (٢) وفي ( ميزان الاعتدال ) : « عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري ، هو في نفسه غير متهم ، لكنه باشر قتال الحسين عليه‌السلام وفعل الأفاعيل ، روى شعبة عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد فقام إليه رجل فقال : أما تخاف الله! تروي عن عمر بن سعد؟ فبكى وقال : لا أعود. وقال العجلي : روى عنه الناس ، تابعي ثقة. وقال أحمد بن زهير : سألت ابن معين : أعمر بن سعد ثقة؟ فقال : كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟! قال : خليفة : قتله المختار سنة خمس وستين » (٣).

والأفظع من ذلك روايته عن شمر بن ذي الجوشن قال الذهبي : « شمر بن ذي الجوشن أبو السابغة الضبابي. عن أبيه. وعنه أبو إسحاق السبيعي. ليس بأهل للرواية ، فإنه أحد قتلة الحسين رضي‌الله‌عنه ، وقد قتله أعوان المختار. روى أبوبكر ابن عياش عن أبي إسحاق قال : كان شمر يصلّي معنا ثم يقول :

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٨ / ٥٩.

(٢) الكاشف ٢ / ٣١١.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ / ١٩٨.

٣١٨

أللهم إنّك تعلم أني شريف فاغفر لي. قلت : كيف يغفر لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال : ويحك فكيف نصنع! إنّ أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم ، ولو خالفنا هم كنّا شرّا من هذه الحمير السقاة. قلت : إنّ هذا العذر قبيح ، فإنما الطاعة في المعروف » (١).

وأمّا الطريق الثالث عند البخاري في كتاب المغازي :

* ففيه « أبو إسحاق السبيعي ». وقد عرفته قريبا.

* وفيه : « إسرائيل بن يونس » وقد ضعّفه ابن المديني شيخ البخاري ، وكان يحيى القطّان لا يرضاه ولا يحدّث عنه ، وعن أحمد أنه قال « فيه لين » وقال عبد الرحمن بن مهدي : « لصّ يسرق الحديث » راجع : ( ميزان الاعتدال ) و ( تهذيب التهذيب ) وغيرهما.

* وفيه : « عباس بن الحسين القنطري » وهو مجهول ، قال ابن حجر ( تهذيب التهذيب ) : « وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : مجهول » (٢).

وأمّا الطريق الرابع عند البخاري في كتاب المغازي فمداره على « أبو إسحاق السبيعي ». وقد عرفته آنفا.

* وفيه « محمد بن جعفر غندر » وقد كان من المغفّلين قال الذهبي : « وقيل : كان مغفّلا » (٣) وفي ( تذكرة الحفاظ ) : « ومع إتقانه كان فيه تغفّل ». قال علي بن غنام : أتيت غندرا فذكر من فضله وعلمه بحديث شعبة ، فقال لي : هات كتابك ، فأبيت إلاّ أن يخرج كتابه وأخرجه وقال : يزعم الناس أني اشتريت سمكا فأكلوه وأنا نائم ولطّخوا به يدي ، ثم قالوا : أكلت فشمّ يدك ، أفما كان يدلّني بطني » (٤).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٢٧٠.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ١٠٢.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ / ٥٠٢.

(٤) تذكرة الحفاظ ١ / ٢٧٦.

٣١٩

وممّا يقتضي ضعفه ويقضي بسقوطه عن درجة الاعتبار ما حكاه الذهبي قائلا : « قال الدينوري في المجالسة : نا جعفر بن أبي عثمان سمعت يحيى بن معين يقول : دخلنا على غندر فقال : لا أحدّثكم بشيء حتى تمشوا خلفي إلى السوق فيراكم الناس فيكرموني ، فمشينا خلفه فجعل الناس يقولون : من هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فيقول : هؤلاء أصحاب الحديث جاءوني من بغداد يكتبون عنّي » (١).

ومن هنا كان يحيى بن سعيد إذا ذكر غندر عنده عوّج فمه كأنّه يستضعفه ، قال ابن حجر : « قال ابن المديني : كنت إذا ذكرت غندرا عند يحيى بن سعيد عوّج فمه كأنّه يستضعفه » (٢).

* وفيه : « محمد بن بشار بندار » وله قوادح كثيرة ، منها : انهماكه في المجون حتى كان يستهزئ عند التحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الذهبي : « قال إسحاق بن إبراهيم الفزاري : كنّا عند بندار فقال في حديث عن عائشة : قال قالت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال رجل : تمزح؟! أعيذك بالله فما أفضحك!! فقال : كنا إذا خرجنا من عند روح دخلنا على أبي عبيدة فقال : قد بان عليك ذاك » (٣) وقال ابن حجر : « قال إسحاق بن إبراهيم الفزاري : كنّا عند بندار فقال في حديث عن عائشة قال قالت رسول الله. فقال له رجل : تسخر منه أعيذك بالله ما أفضحك؟! فقال : كنّا إذا خرجنا من عند روح دخلنا إلى أبي عبيدة فقال : قد بان ذلك عليك » (٤).

ومنها : إن عمرو بن علي الفلاّس كان يحلف أن بندارا يكذب ، قال ابن حجر : « قال عبد الله بن محمد بن سيّار : سمعت عمرو بن علي يحلف أن بندارا يكذب فيما يروي ».

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢٧٧.

(٢) تهذيب التهذيب ٩ / ٨٤.

(٣) ميزان الاعتدال ٣ / ٤٩٠.

(٤) تهذيب التهذيب ٩ / ٦١.

٣٢٠